موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يُثيرُ سفرُ الخروجِ سؤالًا رئيسيًّا للشَّعبِ المُختارِ طوالَ تاريخِ الوحيِ: مَن هو المَلِكُ الحقيقي؟ هل هو الذي يُطعِمُني، ولكنه يُضطهِدُني ويأخذُ حُرِّيَّتي، مثلَ فرعونَ في مِصرَ؟ أم هو الذي يُحرِّرُني ويُخلِّصُني، مثلَ الرَّبِّ الإله؟
هذا السُّؤالُ، حولَ مَن يكونُ مَلِكَ حياتِنا، وأيَّ مَلِكٍ نريدُ، هو في النِّهايةِ سؤالٌ يُطلَبُ مِنَّا جميعًا أن نطرَحَهُ على أنفُسِنا.
على الرَّغمِ من أنَّ الاحتفالاتِ اللِّيتورجيَّةَ تُركِّزُ في جَوهَرِها على التَّحرُّرِ مِن فرعونَ، فإنَّ الشَّعبَ سَيَنسى مِرارًا وتَكرارًا تحريرَهُ مِن مِصرَ خلالَ التَّاريخِ. سَيَنسى أنَّ اللهَ وحدَهُ هو المَلِكُ، وأنَّ اللهَ وحدَهُ هو المُحرِّرُ الحقيقي. ولهذا سَيُطالِبُ الشَّعبُ بمَلِكٍ خاصٍّ به، كسائرِ الشُّعوبِ الأُخرى.
لم يَستطِعِ الشَّعبُ مُقاومةَ إغراءِ أن يكونَ قائدُهُم رجلًا قويًّا وقادرًا، رجلًا شُجاعًا يَضمَنُ لهم الغِنى والأمان، رجلًا يُطعِمُهم كما كانَ يَفعَلُ فرعونُ.
لكنَّ التَّاريخَ سَيُظهِرُ أنَّ هذا الإغراءَ غالبًا ما يكونُ وَهمًا: باستثناءاتٍ نادِرةٍ، سيكونُ هؤلاءِ الملوكُ عاجِزينَ عن تقديمِ ما يَتوقَّعُهُ الشَّعبُ منهُم. بل سَيُظهِرُ التَّاريخُ عَكسَ ذلك: الملوكُ، الذين يُفتَرَضُ أن يَعتَنوا بشَعبِهِم كما يَفعَلُ الرُّعاةُ مع قُطعانِهِم، يَتحوَّلونَ غالبًا بمُجرَّدِ صُعودِهِم إلى السُّلطةِ إلى مُرتَزِقةٍ، يَسعونَ وراءَ مَصالِحِهِم الشَّخصيَّةِ، غيرَ قادرينَ على ضَمانِ السَّلامِ والأمنِ، وغيرَ قادرينَ على رعايةِ الفُقراءِ والمُحتاجينَ، وعاجزينَ عن حَلِّ الظُّلمِ المُنتَشِرِ بينَ شَعبِهِم.
ومِن هنا جاءتِ التَّطلُّعاتُ نحوَ مَلِكٍ مُختَلِف: هل سيأتي وقتٌ يُصبِحُ فيه المَلِكُ حقًّا راعيًا لشَعبِهِ؟
يَطرَحُ هذا السُّؤالَ إنجيلُ يوحنَّا، والمقطعُ الذي نَقرأُهُ اليومَ (يو 18: 33-37) يَنقُلُ هذا السُّؤالَ على لِسانِ بيلاطُسَ: "أَأَنتَ مَلِكَ اليَهود؟" (يو 18: 33).
السِّياقُ هو المُحاكَمةُ التي سَتَقودُ للحُكمِ على يسوعَ بالموتِ.
بيلاطُسُ يَعرِفُ نَموذَجًا واحدًا للمَملَكةِ، وهي المَملَكةُ القويَّةُ والمَهيبةُ للإمبراطُورِ الرُّوماني.
لا يُدرِكُ إمكانيَّةَ وُجودِ مَملَكةٍ مُختَلِفةٍ.
والآن أمامَهُ رَجُلٌ يَدَّعي أنَّهُ مَلِكٌ، لكنَّهُ يَبدو عَكسَ ذلك تمامًا.
المُلوكُ يَقتُلونَ ويَغتصِبونَ السُّلطةَ، أمَّا يسوعُ فيُسمَحُ بأن يُقبَضَ عليهِ ويُصلَبَ.
المُلوكُ يَرتَدونَ مَلابِسَ فاخِرةً، أمَّا يسوعُ فسوفَ يُجرَّدُ مِن ثِيابِهِ.
المُلوكُ يَحكُمونَ، أمَّا يسوعُ فسَيُحاكَمُ.
مَلِكٌ لا يَحمِلُ رُموزَ السُّلطةِ أو الغِنى أو السَّيطَرةِ.
لكنَّ يسوعَ أيضًا لا يَبدو مُجرِمًا أو ثَورِيًّا أو شَخصًا يُثيرُ الخَوفَ.
مَن هو إذن هذا الرَّجُلُ الذي يُسلَّمُ ليُصلَبَ لأنَّهُ قالَ عن نفسِهِ إنَّهُ مَلِكٌ (يو 18: 35)؟
لا يُبدي يسوعُ اهتمامًا بالمَلَكيَّةِ. ويُجيبُ بيلاطُسَ بسُؤالٍ مُغايرٍ، يُوضِّحُ أنَّ اتِّهامَهُ بإعلانِ نَفسِهِ مَلِكًا لم يأتِ من نفسِهِ، بل مِن الكَهَنةِ ورُؤساءِ الشَّعبِ: "أَمِن عِندِكَ تقولُ هذا، أَم قالَهُ لكَ آخرون؟" (يو 18: 34).
حتى بيلاطُسَ مَدعوٌّ للتَّفكيرِ بالسُّؤالِ الجَوهريِّ: مَن هو مَلِكُ الحياة؟
يَهتَمُّ يسوعُ أكثرَ بموضوعِ الحقيقةِ، أي بِمغزى رِسالَتِهِ: لماذا أتى إلى العالَمِ؟ "أنتَ تقولُ إنِّي مَلِكٌ. لِهذا وُلِدتُ، ولِهذا جِئتُ إلى العالَمِ: لِأشهَدَ للحَقِّ" (يو 18: 37).
لا لِيُؤسِّسَ مَملَكةً أرضيَّةً: فمَملَكَتُهُ ليستْ مِن هذا العالَمِ ولا تَتبَعُ مَنطِقَ هذا العالَمِ: "لو كانتْ مَملكتي مِن هذا العالَمِ، لَدافَعَ عنِّي حَرَسي" (يو 18: 36).
لكنَّ مَلَكوتَ اللهِ مُختَلِفٌ، وأحدُ أبرزِ اختِلافاتِهِ أنَّهُ لا يَقتَصِرُ على شَعبٍ واحدٍ ولا يَملِكُ حُدودًا ليُدافِعَ عنها أو ليُوسِّعَها. ولهذا يَستطيعُ يسوعُ أن يقولَ إنَّ كُلَّ مَن يَعيشُ في الحَقِّ، أي مَن يَعيشُ كابنٍ للهِ، ويَتَّكِلُ على الآبِ ويَنتظِرُ منهُ الحياةَ، يَنتمي إلى هذا المَلَكوتِ: "كُلُّ مَن كان مِن الحَقِّ يَسمَعُ صوتي" (يو 18: 37).
جاءَ يسوعُ لِيُعلِنَ هذهِ الحقيقةَ، وكُلُّ مَن يَستَمِعُ إليهِ ويَثِقُ بهِ يَنتمي إلى هذا المَلَكوتِ.
مَلَكوتٌ يَشمَلُ الجَميعَ: فَكُلُّ فَردٍ يُمكِنُ أن يكونَ جُزءًا مِنهُ، بِشَرطِ أن يَظلَّ مُتَسائلًا في أَعماقِهِ: مَن هو المَلِكُ الذي يَتَّبِعُهُ، وما هي الحقيقةُ التي يَختارُها؟