موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٨ مارس / آذار ٢٠٢١
تأملات البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: أحد الشعانين، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

خطّت لنا كلمة الربّ، في هذا الزمن الأربعيني، مسيرة محدّدة. إنها مسيرة “قلبت” الصورة الّتي لدينا عن الرب (يوحنّا ٢، ١٣–٢٥)، ممّا أدّى بنا، لاحقاً، إلى رفع أنظارنا كي نتمكّن من أن نُشفى من مرضنا القاتل (يوحنّا ٣، ١٤–٢١)؛ ويوم الأحد الماضي، أيقظت الكلمة فينا الانجذاب نحو الربّ يسوع، نحو سرّ إذلاله ورفعه (يوحنّا ١٢، ٢٠–٣٣). 

 

نحن الآن في ختام الزمن الأربعيني، ونرى يسوع اليوم يدخل أورشليم، حيث سوف يتمّ كل شيء.

 

احتفالنا اليوم هو الوحيد الّذي يتمّ فيه قراءة مقطعين من الإنجيل. في المقطع الأوّل نسمع رواية دخول يسوع إلى أورشليم، ويتمّ، لاحقاً، قراءة رواية الآلام.

 

ومثل اليونانيّين، يوم الأحد الماضي، نحن نصعد إلى أورشليم للعيد ونطلب أن نرى يسوع. تُقدّم لنا الليتورجيّا هذين المقطعين الإنجيليّين اللذين يتحدثان عن سرّ آلام الرب ومجده، تماماً كما فعل يسوع مع اليونانيّين.

 

لا يمكننا قراءة دخول يسوع إلى المدينة المقدّسة دون أن نمتلئ ونستنير من رواية الفصح، والعكس بالعكس. وهذا يشير إلى أنّ يسوع لا يدخل هناك كأيّ ملك منتصر؛ فمجده لا يشبه مجد أقوياء الأرض. إن مجده هو مجد ملك يمنح الحياة، ويُحبّ خاصّته حتّى النهاية، ولا يدّخر نفسه في أيّ شيء. إنّه الملك الّذي يقبل الموت المهين من أجل خاصّته، وهو مقتنع بأنّ تلك هي العظمة الحقّيقيّة، وهي القوّة الحقيقيّة الّتي تُغيّر الحياة، وتجلب السلام.

 

يدخل يسوع أورشليم على أنه المسيح الذي ينتظره إسرائيل. يدخلها راكبًا على جحش، ويذهب الكثير من الناس لمقابلته ويُقرّون بأنه الشخص المنتظر: "وبسط كثير من الناس أرديتهم على الطريق، وفرش آخرون أغصانا قطعوها من الحقول. وكان الذين يتقدمونه والذين يتبعونه يهتفون: “هوشعنا ! تبارك الآتي باسم الرب؛ تباركت المملكة الآتية، مملكة أبينا داود! هوشعنا في العلى!" (مرقس ١١، ٨–١٠).

 

ولكن من هو المسيح المنتظر طويلا من قِبَل شعب العهد؟

 

كانت إسرائيل قد تلقّت دعوة لعيش علاقة خاصّة مع الربّ. وبشكل خاص، وعلى امتداد التاريخ التوراتي، ظهرت ثلاثة نماذج من الأشخاص الّذين جسّدوا هذه الدعوة، والّذين كانوا يُساعدون إسرائيل على عيشها بطريقة أكثر حميمية وأكثر عمقاً باستمرار. والمقصودون هنا هم الملوك والكهنة والأنبياء.

 

كان يُقام الملك كي يضمن الأمن والسلام والازدهار والعدل للشعب: وكان هذا “قويما في عيني الرب” (راجع ١ ملوك ١٥، ٥)، وكان يتوجّب على الملك، بموجبه، أن يتّصف بمخافة الربّ قبل كلّ شيء، وألا يضع نفسه مكان الربّ: لأن الربّ هو دائما الملك الحقيقي.

 

كان الكهنة مسؤولين عن “إدارة” العلاقة بين الربّ والشعب، من خلال العبادات: من خلال تقديم الكاهن ذبائح مثالية وكاملة، وكان الكاهن يعترف بحضور الربّ، وكان ينال للشعب بركته وغفرانه، وتجديد العهد.

 

وأخيراً، كان الأنبياء مُفسّرين لإرادة الربّ في الحاضر، وشهوداً لحكمة مختلفة، وكانوا أشخاصاً في قبضة الله التامة: كانوا، في العادة، أشخاصاً يساء فهمهم، وصاروا، في كثير من الأحيان، شهداء. 

 

ليس من قبيل المصادفة أنّ تفشل هذه الشخصيّات وقت الأزمات، وأن تفقد قدرتها على العمل لصالح الشعب. لدينا مثال من نبوءة دانيال النبي، الّذي يعترف بخطيئته الشخصيّة من أعماق أتون النار، ويضيف لاحقاً: ” وليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور ولا موضع لتقريب البواكير امامك ولنيل رحمتك” (دانيال ٣، ٣٨–٣٩): لقد اختفت الشخصيّات الّتي هي أساس هويّة الشعب الإسرائيلي، وهذه هي الكارثة الكبرى.

 

حسناً، في زمن يسوع، كان واضحاً للشعب أنّ المسيح وحده هو الّذي سوف يتمّم هذه الدعوة بالكامل، الدعوة الّتي كان جميع الملوك والأنبياء والكهنة روّاداً وصورة لها: سوف يُدشّن المسيح زمناً جديداً، سوف يسود عدل الربّ في الأرض كلّها، وسوف يكون عهد الربّ فيه كاملاً ومثاليّاً ودون تشقّقات، وسيكون الجميع فيه قدّيسين.

 

بهذه المفاهيم يدخل يسوع إلى أورشليم.

 

إنه على مثال الملك الحقيقي، الّذي يأتي وديعا لتحقيق السلام، ويمنح ذاته لشعبه. إنّه ليس ملكاً متعجرفاً، بل ملك وديع ومتواضع، يأتي فقط كي يُخلّص شعبه.

 

وعلى مثال الكاهن الحقيقي، الّذي يُدشّن العبادة الجديدة، عبادة العهد الجديد الأبدي، لا يُقدّم ذبائح حيوانيّة، بل ذاته على مذبح الصليب.

 

ويأتي، أخيراً، كالنبيّ الحقيقي، الّذي يكون دائماً في وضع الإصغاء، ويعرف مشيئة الآب؛ نبيّ يُعلن منطقاً مختلفاً، حماقة لأولئك الّذين لا يؤمنون، ولكنّه حياة لجميع الّذين يُطيعونه. هو أيضا نبيٌّ يُساء فهمه. وهو شهيد بريء وتتمّ التضحية به.

 

تتحقق النبوّة ويتحقّق ترقّب الشعب في يسوع، وفي يسوع يصبحان وعداً للجميع: لأن الدعوة إلى أن نكون ملوكاً وأنبياء وكهنة هي دعوة إلى حياة مليئة بالمحبّة، وهي دعوة للجميع.

 

إنها دعوة الشعب الجديد الذي يولد عند قدم الصليب، حيث يجذب المسيح المرفوع الجميع إليه (يوحنّا ١٢، ٣٢).