موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
المعاناة تجربة شخصية مريرة، لا يمكن إيقافها، يشعر فيها الإنسان بالخوف، أو تنتابه مشاعر القلق أو الحزن، أو ينظر إلى الحياة بمنظار التشاؤم الأسود، أو تتسلّط عليه الرغبة في الانطواء، أو يفكّر في الانتحار متمنّيًا عدم وجود هذه الحياة على الإطلاق، لأنّها مليئة بالمشقّات التي لا تُطاق. والحياة في رأيه تافهة ليست ذات قيمة أو أهمّيّة للاستمرار فيها، والتعلّق بالحياة هو خطأ شنيع غير عاقل.
تعود كلّ هذه الانفعالات المتنوّعة إمّا إلى مسبّب محسوس مادي كالألم الجسمي، أو إلى عوامل نفسيّة كالمشاكل العائلية أو الحياتية المختلفة، الإخفاق في تلبية الحاجات الشخصية، فقدان أحد الأفراد المقربين وغيرها كثير.
والمرء في شدّته، ينكشف معدنه الأصيل أو الهزيل، ويظهر على حقيقته، سواء كان إيمانه قويًا راسخًا كالصخر لا يتزعزع، أو ضعيفًا هشًا مبنيًا على الرمل يتأرجح في مهب الريح، يصعب التعايش بينه وبين العسر الشديد، ينسى فيه المرء أو يتناسى أن المعاناة فرصة لا تعوّض، ومحكّ لاختبار إيمانه بصبر طويل وأمل كبير. والألم فرصة للتقدّم الروحاني من خلال تحمّل المشاكل وصعوبات الحياة، وقبولها مع السعي إلى الحلّ إن أمكن أو التخفيف من شدّة الوجع بطريقة إيجابيّة وبأناة وحِلم وجَلَد ورويّة.
وتسعى القلوب الإنسانيّة النبيلة - بأعمالها الخيريّة وجهودها في ممارسة الرحمة، وإغاثة المنكوبين ومساعدة ذوي الحاجة، وصيانة كرامتهم - تسعى إلى تخفيف الألم عن أكبر عدد ممكن من بني البشر، وإلى إدخال الفرح إلى قلوبهم الجريحة قدر المستطاع.
إنها حقيقة لا يمكن إنكارها، أنّ أولئك الذين عانوا كثيرًا في حياتهم، هم الأفضل والأقدر على تشديد عزائم الذين يمرّون في اختبارات أليمة صعبة. إنّهم يعلمون تمامًا معنى العذاب ويُدركون، أكثر بكثير من غيرهم، ما يختبره الإنسان المتألّم جسديًا وعاطفيًا وروحانيًا. وبإمكانهم أن يتعاطفوا مع مصائب الآخرين فضلاً عن عطفهم وحنوّهم بسبب ما قد شهدوه في حياتهم الخاصة. وقد كتبت الرسالة إلى العبرانيين عن تفهم المسيح الكاهن الإنسان لآلام الناس. وأعطت كأوّل شرط للكهنوت بين البشر أن "يكون الكاهن الأعظم جديرًا بأن يُشفق على الذين يضعفون لكونه هو أيضًا لابسًا الوهن" (عبرانيين 5: 1).
ربّما تكون أوجاعنا مُرّة كالعلقم، ومن الصعب تحمّلها، إلاّ أنّها تعلّمنا دروسًا وتلقّننا عِبَرًا والتي بدورها تقوم بتحصيننا وتجهيزنا كي نتمكّن من مساعدة القريب. ينبغي أن لا يكون موقفنا تجاه العناء: "الشدّ على الأسنان والتحمَّل"، على أمل أن ينتهي الاختبار الصعب في أسرع ما يمكن. بل أن تكون أوجاعنا في الملمّات والظروف الشائكة "درسًا" لنا نتعلّم منه الكثير من الأمور الهامّة، حيث أنّنا –في مسيرتنا فيما بعد– نتمكّن من مشاركة الغير مشاعرهم و"نعزّيهم..." (1 تسالونقي 11:5). وعليه: "نتعلّم بما نتألّم" كما قال بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين 8: 5.
التجربة التي يقبلها المؤمن بإيجابية تُعطي حياته بعدًا أكبر ومعنىً أعمق. تمامًا مثل السيّد المسيح الذي حمل عبء الألم من أجل حياة أتباعه. وقد يكتشف الإنسان المؤمن فجأة قيمة الإيمان وجوهره في أثناء تعرّضه للنوائب، فيواجه التجربة ببطولة وهدوء ويتقرّب من الذات الإلهيّة، حينئذ لا تهمّه الرياح العاتية، وبقوّة الله ورحمة المولى "يا جبل ما يهزّك ريح!". وكتب صاحب المزامير عن المؤمن الصالح المتواضع: "مهما طغت المياه الكثيرة، ما استطاعت إليه وصولاً".
ومن أجل الدور الكبير الذي تلعبه المعاناة في حياة الإنسان، تدعو الكنيسة المؤمنين منذ ألفي سنة إلى ممارسة أعمال الرحمة الجسدية والروحية للتخفيف عن الآخرين ماديًا ومعنويًا. وإعلان رحمته تعالى الذي يدعونا جميعًا لكي نعود اليه تائبين، فاللقاء معه عزّوعلا يُلهم المؤمن مشاعر الرحمة لإخوته البشر، نوعًا ما وبشكل محدود، كما رحمه الله . وفي إطار التقارب المسيحي الإسلاميّ ممكن أن يستشهد المرء هنا بالمقولة الإسلامية المأثورة: "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء" (رواه التّرمذيّ).
الرحمة كما توصف في الكتاب المقدّس هي فضيلة تؤثر على إرادة الشخص، ليشعر بالتعاطف، فيخفّف إن أمكن عن الناس معاناتهم وشدائدهم. وحيث تغيب الرحمة يغيب العدل ...
خاتمة
الرحمة تجاه القريب هي أن نفعل له ما نريدهم أن يفعلوه من أجلنا، كما علّمنا السيّد المسيح، ونبّهنا أن من لا يقوم بأعمال الرحمة تجاه القريب، لن ينال ملكوت السماوات، إذ ليس من يقول "يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السماوات بل من يعمل مشيئة الرب".