موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
المسيح يسير معنا في شوارعنا لا في عزلة الكنائس
هذا الطقس من ترابنا… لا تلغوه!

بقلم: سند ساحلية :

 

في خطوة مثيرة للجدل، انتشرت في الأوساط المسيحية في فلسطين (الضفة الغربية) دعوات لإلغاء تطواف "مسيرة" أحد الشعانين، وهو الطقس المسيحي القديم الذي تعود جذوره إلى القرون الأولى في فلسطين والقدس تحديدا. هذه الدعوات تأتي في سياق الحرب الإسرائيلية المستمرة في غزة والضفة الغربية، ويُحاط بها عدد من الاعتبارات الاجتماعية والسياسية التي تتعلق بالوجود المسيحي في فلسطين، مما يثير الكثير من الأسئلة والمخاوف في ظل التحديات التي يواجهها المسيحيون الفلسطينيون والمشرقيون.

 

تهديد للهوية

 

أحد الشعانين ليس مجرد احتفال فرح، بل هو طقس ديني عميق الجذور في ليتورجيا الكنيسة. يُحتفل به في الأحد الذي يسبق أسبوع الآلام، ويذكرنا بدخول المسيح إلى القدس في لحظة انتصار، والتي تمهد لمسيرته نحو الآلام والفداء. هذا الطقس لا يمثل فقط فرح المسيحيين، بل هو تذكار للمعاناة والتضحية في سبيل الفداء. لذلك، فإن الدعوات لإلغاء "المسيرة" قد تهدد ليس فقط الطقوس الدينية، بل الهوية المسيحية الفلسطينية نفسها. في ظل قلة عددهم وصعوبة وجودهم في المجتمع الفلسطيني، قد يراها البعض كإشارة استهداف في ظل الحرب والنزاع المستمر، إلا أن هذا المنظور يغفل عن التاريخ العميق للإرث المسيحي في هذه الأرض في فلسطين.

 

أحد الشعانين: ارتباط بالأرض المقدسة

 

من الناحية اللاهوتية، لا يمكن أن نناقش أحد الشعانين بمعزل عن تاريخ المسيحية في القدس. الطقس مرتبط ارتباطًا وثيقًا بفلسطين، حيث كانت القدس ولا تزال هي نقطة البداية لكل ما يتعلق بالمسيحية. دخول المسيح إلى المدينة المقدسة في مسيرة انتصار، كانت بداية لمأساته، واستمرت الكنائس في إحيائها على مر العصور من القرون الأولى حتى يومنا هذا. هذه "المسيرة" تمثل ارتباط المسيحيين بفلسطين كأرض مقدسة، وهي تعبير عن التضامن مع المسيح في آلامه، واحتفالًا بعيد الفصح.

 

إلغاء هذا الطقس لا يعني فقط الاستغناء عن حدث شعبي، بل هو محو جزء من الإرث الروحي الذي تشهد عليه هذه الأرض المقدسة. فمنذ القرون المسيحية الأولى، كان المؤمنون يحيون دخول المسيح إلى المدينة بتطواف شعبي من الكنيسة إلى مكان "الآلام". وهذا التقليد، الذي انتقل من القدس إلى جميع أنحاء العالم المسيحي، أصبح جزءًا من تقاليد أسبوع الآلام في كافة الكنائس.

 

آلام المسيح وآلام شعبنا

 

كما يؤكد مدير مكتب الليتورجية في البطريركية اللاتينية في القدس، الأب الدكتور عزيز حلاوة، فإن تطواف أحد الشعانين ليس مجرد فلكلور شعبي، بل هو جزء أساسي من الطقس العبادي لهذا اليوم. إلغاء هذا الطقس لا يعني فقط الاستغناء عن حدث شعبي، بل هو تنازل عن طقس عبادي وروحي عميق. وأن هذه "المسيرة" تمثل جزءًا لا يتجزأ من تقاليدنا الروحية، التي تتجاوز الفرح الشعبي لتجسد الإيمان العميق والارتباط الوثيق بالأرض المقدسة.

 

في سياق الاحتفال بأحد الشعانين، لا يمكن تجاهل الرابط العميق بين آلام المسيح وما يعانيه الفلسطينيون عبر العصور. كما تعرض المسيح للاضطهاد في سبيل الحق، يعاني الشعب الفلسطيني اليوم من نفس الظلم والاضطهاد. من خلال هذه المناسبة، نعيش تعاطفًا كاملًا مع آلام المسيح، الذي تعرض للظلم على يد الذين رفضوا رسالته، كما يتعرض الفلسطينيون اليوم للقتل والتدمير المنهجي لمحاولات محو إرثهم الثقافي والديني.

 

التضامن لا يعني إلغاء الهوية

 

بعض الأصوات تدعي أن إلغاء" مسيرة" أحد الشعانين قد يكون تعبيرًا عن التضامن مع الشهداء والجرحى في غزة والضفة الغربية. ولكن التضامن لا يعني المساس بالهوية الدينية والتقليدية. إلغاء هذا الطقس قد يبدو تضامنًا في الظاهر، لكنه في الحقيقة تنازل عن جزء أساسي من إرثنا. هذا التقليد الديني ليس مجرد احتفال بفرح، بل هو جزء من تاريخنا، يمثل مقاومة الظلم والانتصار على القهر والظلم والموت. إن التفريط فيه يعني التفريط في جزء من هويتنا المسيحية الفلسطينية.

 

تصاعد العنف ضد المسيحيين

 

في الوقت الذي يجاهد فيه المسيحيون في القدس لإحياء تطواف أحد الشعانين، تتزايد الهجمات على المسيحيين والكنائس والمقدسات المسيحية. الجناة في معظم الحالات هم من الشباب اليهود المتشددين المرتبطين بالتطرف الديني القومي. وفي هذا السياق، نجد أن الدعوات لإلغاء تطواف أحد الشعانين تتزامن -دون قصد- مع هذه الهجمات، مما يثير تساؤلات حول تأثير ذلك على الهوية المسيحية الفلسطينية وحمايتها من محاولات محو إرثها.

 

مسؤولية جماعية لحماية الإرث

 

إلغاء تطواف "مسيرة" أحد الشعانين في فلسطين ليس مجرد تغييب طقس ديني، بل هو محاولة للابتعاد عن الجذور التاريخية والثقافية للمسيحيين الفلسطينيين. انها تمثل رمزًا حيًا لوجودنا في هذه الأرض. إذا بدأنا في قبول فكرة إلغاء هذه الطقوس، فقد نكون قد بدأنا في قبول فكرة فصلنا عن هذا التراث. يجب أن نقف جميعًا في وجه هذه الدعوات، وأن نتمسك بتاريخنا، طقوسنا، وإرثنا الذي يربطنا بهذه الأرض المقدسة. فمسؤوليتنا الجماعية هي الحفاظ على هذا التقليد الديني والتأكد من أن المسيحيين في فلسطين يبقون جزءًا أساسيًا من تاريخ هذه الأرض ومجتمعها.