موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
إنّ أواصر الصداقة الحقّة تزداد متانة وعمقًا مع مرور الأيام والسنين. وبينما تُشكّل الأسرة جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا، إلاّ أنّ للصداقة نظامًا معيّنًا في الدعم والمساندة يختلف عمّا هو متّبع في الأسرة. ويُقال: "لستَ حرًّا في اختيار أسرتك لكنك تتمتّع بالحرّيّة في اختيار أصدقائك". واختيارنا لأصدقائنا بحكمة يجعلنا أكثر استقرارًا وسعادة ... كما أنّه يُخبر عنّا وعنهم الكثير: "قُل لي مَن تعاشر أقُلْ لك مَن أنت". و"الطيور على أشكالها تقع". قد تختار الأصدقاء استنادًا إلى مصالح مماثلة. وقد تنتقي منهم مَن هو على طرفَي نقيض معك، وهذا الاختيار مثير للاهتمام. أو أنّ تشابُه الاتّجاهات والأمزجة يؤدّي إلى علاقة التفاعل أو التجاذب المتبادل. وفي بعض الأحيان الظروف ومحض الصدفة هي التي تجمع بين اثنين أو أكثر. ومن ثَمّ يتطوّر التعارف إلى صداقة.
هناك مقولة في أساطير العرب أنّ المستحيلات ثلاث: الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ. لكن في رأيي المتواضع الدنيا بخير والصديق وفيّ العهد موجود، وهو "أخٌ لك لم تلده أمّك" إنّما أضحى عملة نادرة لذلك يُعَدّ كنزًا نفيسًا غالي الثمن. فعلاً لقد أصبحنا نعيش في زمن تشحّ فيه الصداقة الحقيقيّة في زمن المصالح وانعدام الوفاء والودّ. وما أحوجنا للعودة إلى زمن الإخلاص من غير زيف في الصداقة وسائر العلاقات التي تربط الإنسان بكلّ مَن حوله من أهل وأقارب وأصدقاء وزملاء الخ ... ما أحلى الرجوع إلى الزمن الجميل الذي يُشارك فيه الصديق صديقه الأفراح والأتراح والمشاكل والهموم والآلام والآمال. "الصديق وقت الضيق" عندما تقع الواقعة الكبرى حينئذٍ بإمكاننا أن نميّز ما بين الصديق الصدوق وذاك المزيّف.
أيًّا كان الدافع إلى بناء الصداقة الجيّدة، التجربة بحدّ ذاتها مُجزية جداً. خاصةً عندما تتحوّل إلى صداقة وثيقة فريدة من نوعها مدى الحياة. رابطة الصداقة تربط الإنسان عادة بصديق حميم أو اثنين في حياته. أولئك هم الأفراد الذين يثق بهم ويبادلهم الأفكار العميقة والهموم والمخاوف والأحلام والطموحات، بصراحة ووضوح مثل كتاب مفتوح. وهذا لا يعني أنّ الفرد لا يُقيم صداقات عمل أو أنشطة مع غيرهما على أساس منتظم أو شبه منتظم. كلّ ما في الأمر أنّ مستوى الصداقة مع الآخرين ونوعيّتها يختلفان. فهم زملاءه في العمل أو من ذوي القربى، أو شركاؤه في الأنشطة الرياضيّة أو الثقافيّة أو معارفه في المجالات الدينيّة أو السياسيّة أو الفنّيّة، يستمتعون بصحبة بعضهم البعض. يدعمون بعضهم في الإنجازات ، فضلاً عن الدعم المعنوي في الهزائم. كلّ هؤلاء الأصدقاء يحتلّون مكانة خاصة في حياة الإنسان. ويكوّنون جوانب رئيسيّة في المجموعة التي تمنحه روح الأمل والانتماء. كما أنّ تخصيص الوقت للبقاء في صحبتهم يعني أنّهم يكوّنون جزءًا حيويًّا من حياته.
أصغيتُ إلى صديقتي الغالية بقلبي وعقلي وكياني. ها قد أصبحَت عرضة للقلق والعزلة الاجتماعيّة والاكتئاب وتفتقر إلى القوّة والثقة... غصتُ في بحر من الأفكار لدى استماعي إلى تجربتها في الحياة وهي على حق في كلّ استنتاجاتها. وراقني ما تتحلّى به من تناسق في الأفكار وترابط... ومن إيجابيّة والرغبة للتخلّص من كلّ ماهو مضرّ لصحّتها النفسيّة والجسديّة.
وحينما تبادلنا الحديث بخصوص وسائل التواصل الاجتماعي، والحديث ذو شجون، كان ردّي لها كالآتي: لم ولن يتمّ استبدال الصداقات أو العلاقات العائلية والاجتماعية بالروبوتات والذكاء الاصطناعيّ وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي الدارجة في أيامنا العصيبة. "الصداقة هي الأسمى في علاقات البشرمع بعضهم البعض" على رأي الاديب اللبنانيّ الكبير جبران خليل جبران بعبقريّته الفذّة، في معرض حديثة عن الصداقة في كتابه الشهير "النبي".
خاتمة
يُشير الكتاب المقدّس إلى الصداقة في كثير من الآيات: "المحبّة تتأنّى وترفق، المحبّة لا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ ولا تأتي قباحة ولا تلتمس ما هو لها ولا تحتدّ ولا تظنّ السّوء ولا تفرح بالظّلم بل تفرح بالحقّ" (قورنثوس الأولى 13: 4-6). أجمل الآيات وأعظمها: "ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه" (يوحنّا 15: 13)، لأنّها روحانيّة غير مبنيّة على المنفعة بل على أسس متينة من المحبّة والعطاء ونبل الأخلاق.