موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٢ أغسطس / آب ٢٠٢٥
الطيبة… الدرس الفلسطيني في مخاطبة الغرب وتحديات التفاعل المحلي

بقلم: سند ساحلية :

 

منذ عدة أشهر، تتعرض بلدة الطيبة، الواقعة شرق رام الله، لسلسلة من الاعتداءات الممنهجة من قبل مستوطنين إسرائيليين، استهدفت أراضيها وممتلكاتها، بل ووصلت إلى رموزها الدينية والتاريخية. وتأتي هذه الاعتداءات في ظل استمرارها للسنة الثالثة على التوالي، خاصة من قبل المستوطنين الذين أقاموا بؤرًا رعوية استيطانية غير قانونية على أراضي الطيبة وفي محيطها، حيث شهدت الأشهر الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة هذه الاعتداءات.

 

تندرج هذه الاعتداءات ضمن التصعيد الاستيطاني غير القانوني المتواصل في الضفة الغربية، إلا أن ما حدث في الطيبة اتخذ بعدًا مميزًا، نظرًا للحضور المسيحي العربي في فلسطين الأرض المقدسة، وللصوت الفلسطيني المسيحي الذي يتضافر مع الصوت المسلم المتضامن من القرى المجاورة، حيث يشتركان في مواجهة الظلم ذاته من المستوطنين، ما جعل لهذا التحالف صدىً قويًا وفاعلًا على الصعيدين المحلي والدولي.

 

الطيبة، البلدة ذات الغالبية المسيحية الوحيدة في الضفة الغربية، وجدت نفسها فجأة في قلب مشهد سياسي وإنساني متداخل، لا بفعل بيانات رسمية أو حملات مؤسساتية تقليدية، بل بفعل خطاب مسيحي فلسطيني نابع من الأرض، صادق، وواعٍ لدوره التاريخي والإنساني، خطاب عرف كيف يتحدث إلى الغرب المساند لظلم المستوطنين، فيبدل موقفهم ويجعلهم يعيدون نظرهم في معطيات القضية كلها.

 

لقد أثبت المسيحيون في هذه اللحظة أنهم ليسوا مجرد شهود على الألم، بل فاعلون قادرون على تحويل المأساة إلى قضية رأي عام عالمي، حين يمتلكون الإرادة واللغة والأدوات. وإلى جانب هذا الحراك الشعبي والإعلامي المؤثر، انخرطت الكنيسة الرسمية، في مستوياتها المختلفة، محليًا ودوليًا، في هذه التحركات بكل ما تملكه من حضور رمزي وثقل روحي. لم تكتفِ بالتنديد أو إصدار البيانات، بل حضرت ميدانيًا، ووقفت إلى جانب الناس، وشهدت على الحق، لتؤكد أن الكنيسة حين تنطق بصوت شعبها، تظلّ واحدة من أصدق أدوات العدالة في وجه الظلم، وأقوى ما يمكن أن يُستخدم في الدفاع عن الكرامة والوجود.

 

نتيجة هذا الخطاب وتفاعله الدولي، شهدت الطيبة زيارات غير مسبوقة، على رأسها زيارة تضامنية مشتركة لبطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، رافقهم خلالها أكثر من عشرين بعثة دبلوماسية. كما توالت زيارات فردية لمسؤولين ودبلوماسيين، أبدوا اهتمامهم لما حدث في الطيبة وفتحوا عيونهم لما يحدث في كل القرى حول الطيبة من عبث المستوطنين. من تلك الزيارات زيارة السفير الأميركي في إسرائيل، مايك هاكابي، في خطوة نادرة هي الأولى له إلى مناطق الضفة الغربية، تبعتها زيارة ثانية التقى فيها بمسؤولين فلسطينيين، ما يكشف تأثير زيارة الطيبة على مواقفه وتحركاته. ولم تتأخر الخارجية الألمانية بدورها، إذ قام وزير الخارجية الألماني بزيارة البلدة، برفقة وفد رسمي، مستمعًا لشهادات الأهالي ومطلعًا على آثار الاعتداءات.

 

هذا الزخم لم يقتصر على الحضور الميداني فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تفاعل رسمي على أعلى المستويات. فقد أبدى عدد من رؤساء الدول والملوك وكبار المسؤولين اهتمامًا مباشرًا بما جرى، وعبّروا من خلال بيانات وتصريحات واتصالات دبلوماسية عن قلقهم من تصاعد وتيرة العنف ضد المجتمعات الفلسطينية المسيحية. وهو ما شكّل ضغطًا دوليًا إضافيًا، وأسهم في إبقاء قضية فلسطين عامة، وقضية الطيبة والقرى من حولها خاصة، حية على جدول الاهتمام السياسي والإنساني، في مشهد نادر أن تحظى به بلدة فلسطينية بهذه الرمزية.

 

هذه التحركات الدولية لم تكن لتحدث لولا أن الطيبة، باسم هويتها المسيحية الفلسطينية، استطاعت أن تكسر حاجز الصمت، وتفرض وجودها أمام العالم، لا كضحية منسية، بل كصوت حيّ يجمع بين أصالة المشرق وقدرته على مخاطبة الضمير الغربي من موقع الواجب الإنساني لكل مظلوم لا من باب الاستجداء.

 

ومع ذلك، لم يخلُ المشهد من مفارقات مؤلمة تكشف خللًا محليًا أعمق من مجرد غياب مؤقت. فبعض الجهات التي يُفترض أن تكون في مقدمة الصفوف عند استهداف الكنائس والمجتمعات المسيحية، غابت في اللحظة الحرجة أو حضرت متأخرة، دون أن تترك أثرًا حقيقيًا. بعض المؤسسات والجهات التي ترفع شعار الدفاع عن الوجود المسيحي حضرت بروتوكوليًا، لا وجدانيًا، واكتفت بمواقف شكلية تفتقر إلى التفاعل الفعلي مع الحدث، ولا تعكس مستوى التهديد الذي يواجهه هذا الوجود. الأخطر أن هذا الغياب ترافق مع انكفاء على الذات، وغياب مبادرات محلية وفاعلة توازي حجم الخطر أو تستثمر اللحظة لمخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي بلغة مسؤولة وبحس تاريخي يليق بثقل القضية.

ما كشفته تجربة الطيبة أن الحضور المسيحي في فلسطين ليس ملفًا هامشيًا أو مسألة بروتوكولية تُستدعى عند الحاجة. هو عنصر مكوّن للهوية الوطنية، وحماية هذا الحضور ليست شأنًا كنسيًا محضًا، بل مسؤولية وطنية فلسطينية، وعربية وإسلامية أيضًا. لأن الدفاع عن هذا الوجود هو دفاع عن التعددية، عن الشراكة، عن نموذج حضاري يُهدد بفعل سياسات الإقصاء والعنف والتطرف.

 

في زمن يتصاعد فيه خطاب الكراهية ضد الإسلام (الإسلاموفوبيا) في الغرب، وتتسع فيه فجوة الفهم بين الشرق والغرب، يصبح الحفاظ على الحضور والوجود المسيحي في أرضه التاريخية ضرورة إسلامية لا مسيحية فقط، وضرورة حضارية، لا دينية فقط. والمسيحيون العرب، الذين لعبوا أدوارًا حاسمة في نهضة هذه المنطقة على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، لا يزالون قادرين على المساهمة في صياغة خطاب جامع، وفي فتح نوافذ جديدة للحوار والتضامن والتأثير.

 

ما تحتاجه الطيبة ليس تضامنًا موسميًا، بل التزامًا طويل النفس، يعيد الاعتبار إلى البلدة كرمز، لا فقط كمكان. وما يحتاجه المسيحيون في فلسطين ليس حماية رمزية، بل مواطنة وشراكة حقيقية تعترف بدورهم، وتضمن استمرارهم، وتمنحهم المساحة ليكونوا، كما كانوا دومًا، جسرًا حيًّا بين الشرق والغرب، بين الأرض والسماء، بين الألم والرجاء.