موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
نشر الأب جبرائيل رومانيلي، كاهن كنيسة العائلة المقدّسة للاتين في غزة، مؤخرًا صورًا له مع مجموعة من كبار السن النازحين على شاطئ بحر غزة، وكتب: "مع مجموعة من نازحين في دير اللاتين... لنشوف بحر غزة. لنشكر الرب".
كلمات بسيطة تختصر لاهوتًا عميقًا: الشكر في وسط الألم، والنور في قلب الظلمة، والرجاء كقوة خلاص تتحدى العبث. في غزة، الإيمان يقاس بقدرته على تحويل الألم إلى حياة، والمحبة إلى شهادة. يعلّمنا الأب رومانيلي أن الشكر ليس إنكارًا للألم، بل تأكيدًا أن الله يشارك البشر حياتهم اليومية، خصوصًا في لحظات الألم والمعاناة، حاضرًا في صمودهم وخدمتهم، وفي الرجاء الذي يُزهر وسط الدمار، ليخلق من الجراح معنى، ومن الرماد قيامة.
تُجسّد تجربة الكنيسة وراعيها الأب رومانيلي، إلى جانبه الأب يوسف أسعد وراهبات الكلمة المتجسدة، لاهوت التجسد الحيّ في أبهى صوره: الله حاضر في كل ألم ومعاناة، يظهر في كل يد تمدّ بالمساعدة، وفي كل قلب يختار البقاء مع الملهوفين. إنها لاهوت الخدمة في المحنة، حيث يتحوّل الإيمان إلى فعل ملموس؛ إطعام الجائع، رعاية المرضى، وإيواء النازحين، حتى في ظل القصف والدمار. تُجسّد هذه التجربة لاهوت الرجاء والقيامة اليومية. الألم يولّد معنى، والحياة تنبت من تحت الركام. المحبة أقوى من النار، وأن الإيمان الحقيقي يُزهر في قلب الظلمة.
في هذه المدينة المثقلة بالموت والدمار والجوع، تظلّ الكنيسة علامة حضور إلهي لا تنطفئ بالنيران. بين جدرانها المتشققة، يسكن إيمان لا يُقهر، يشهد أن الله لا يغيب عن موضع الجراح، بل يتجلى فيه. هناك، حيث يختلط الرماد بالصلاة، يغدو المذبح ملاذًا، ليس لأنه يقي من الموت، بل لأنه يشهد لقيامة الرسالة وسط العدم.
في هذا الركن الجريح من الأرض المقدّسة، من فلسطين، يتجسّد الإنجيل من جديد: يُعرف الله في القرب، وفي المشاركة، وفي الرجاء، ويظل الصليب، مهما ثقل، طريق القيامة ووجه الله المتجلي في صبر الإنسان وإيمانه.
عندما اندلعت الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الأب جبرائيل رومانيلي خارج غزة، فمُنع من العودة بسبب الحصار. وبعد أسابيع، تمكن من الدخول برفقة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، في زيارة رعوية نادرة أعادت شيئًا من الأمان والرجاء إلى قلوب النازحين والجرحى. شكّلت الزيارة تجسيدًا لأبوّة الكنيسة وحضور الإيمان وسط الألم، فيما مثّلت عودة الأب رومانيلي رمزًا لوفائه لرعيته وتجسيدًا لرسالة الكنيسة الإنسانية والروحية في زمن المحنة.
منذ عودته، لم يغادر الكنيسة التي تحوّلت إلى ملجأ لمئات النازحين من المسيحيين والمسلمين، بينهم مرضى وعجزة وأطفال وذوو احتياجات خاصة، بل اختار البقاء بينهم، يشاركهم الخطر والجوع والصلاة وسط القصف ونقص الغذاء والدواء.
لم يسلم مجمّع الكنيسة من القصف الإسرائيلي، إذ تعرّض منذ أكتوبر 2023 لهجمات متكررة شملت قصفًا مباشرًا وعمليات قنص، سقط خلالها شهداء وجرحى في باحته، بينهم نساء مسنّات لجأن إليه طلبًا للأمان. وكان آخرها في 17 تموز 2025، حين أصابت قذيفة المجمّع أثناء وجود مئات النازحين داخله، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات، بينهم الأب رومانيلي الذي جُرح أثناء محاولته إنقاذ العالقين. ومع ذلك، واصل الكهنة والراهبات خدمتهم اليومية، يصلّون ويضمدون الجراح، حاملين شهادة حيّة بأن المحبة أقوى من الموت، وأن الإيمان يُزهر في قلب الألم.
من خلال هذه التجربة المأساوية، يتجلى العمق الحقيقي لسرّ التجسد في حياة الكنيسة: الله لا يبقى بعيدًا عن الألم، بل ينزل إلى واقع الحياة ليشاركه حتى النهاية. في غزة، يتجسد المسيح في كل يد تمدّ الماء والطعام والدواء والرعاية، في كل صلاة تُرفع على ضوء شمعة، وفي كل كاهن وراهبة يختارون البقاء مع من لا صوت لهم، حاملين رسالة الإنجيل في قلب المعاناة، ليصبح الإيمان فعل خدمة حيّ يُشرق بالرجاء وسط الظلام.
هنا تتجسد رسالة الكنيسة الروحية والليتورجية في حياة الناس، فتغدو جسد المسيح الحيّ وسط الواقع، شاهدةً أن الإيمان ليس هروبًا من الألم، بل حضورًا فاعلًا فيه، حيث يتحوّل الإنجيل إلى خدمة يومية ملموسة. فالكنيسة لا تكتفي بإعلان السلام، بل تزرعه بيدين مثخنتين بالجراح.
كما جاء في الإنجيل: "كنتُ جائعًا فأطعمتموني، عطشانًا فسقيتموني، غريبًا فآويتموني، مريضًا فزرتموني".
هكذا يعيش الأب جبرائيل رومانيلي ورفاقه جوهر رسالة الإنجيل في غزة: في قلب القصف والموت، يزرعون بذور الحياة، ويحوّلون الألم إلى فعل محبة وخدمة. في رعية العائلة المقدّسة تتجلّى القيامة كل يوم، لا كذكرى تُستعاد، بل كتجربة حيّة تولد من عمق الجراح، وتشهد على إيمان لا ينكسر. ومن هناك، يرتفع صدى الكلمة الإلهية: "السَّلامَ أَستَودِعُكُم، وسَلامي أُعْطيكم، لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم"، ليغدو السلام في غزة حقيقة تُصنع بالحب والصمود، لا شعارًا يُقال، بل حضورًا حيًّا في كل يد تخدم، وفي كل قلب يختار الرجاء.