موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٣
الراعي واللاهوت الإجتماعي
المطران حبيب هرمز، رئيس أساقفة البصرة والجنوب للكلدان

المطران حبيب هرمز، رئيس أساقفة البصرة والجنوب للكلدان

المطران حبيب هرمز :

 

مقدمة

 

تهتم هذه المقالة بأهمية دور الرعاة في تفعيل عمل اللاهوت الإجتماعي في حياتنا المسيحية. يعتبر الكتاب المقدس اغنى مصدر للاهوت الإجتماعي، تليه كتابات آباء الكنيسة خلال القرون السبعة الأولى للمسيحية، ثم ما أصدره البابوات والمجامع المسكونية وأخيراً خبرات القديسين وبعض كتابات اللاهوتيين والفلاسفة على مر العصور. في المقال استعراض لواقع حال المجتمعات والرؤية المسيحية. نقرأ أولاً عن ما هي اُسس وخصائص هذا اللاهوت. المقال هو ضمن جهد لإعداد كتيب موسع عن الموضوع من المؤمل ان يصدر قريبا.

 

 

اللاهوت الإجتماعي

 

اللاهوت الإجتماعي هو بحث تنظيري عملي شامل عن الله وتدبيره الخلاصي عبر دراسات منهجية وبلغة إنسانية مرتبطة بواقع المجتمع. هو يربط بين الإيمان والمجتمع، وله طابع نبوي يتمتع بروح النقد. انه يطرح الأسئلة ويحلل الوضع تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا بماضيه وحاضره، كما انه يقترح الحلول لواقع افضل. هو يتفاعل مع معطيات العلوم والفلسفة بهدف معرفة الذات وفق القيم الإلهية.

 

 

أهمية اللاهوت الاجتماعي

 

اليوم، بسبب ما يجري في العالم من تفاعل مع المتغيرات على كافة الأصعدة اصبح للاهوت الإجتماعي دورا مهما. في عالم اليوم حيث العولمة والتمايز الإجتماعي وتفشي الشر الذي يحبط التقوى الأخلاقية وحيث مجتمعاتنا تهتز تحت وطأة المتغيرات السريعة، فنجد العائلة في خطر. ومن التحديات الجديدة هو التقدم العلمي في مجال المعلومات والإتصالات. اما الأصولية لدى المتدينين فهذا اصبح عبئاً على كل مجتمع. ومن التهديدات الأخرى هو اهمال القيم وهذا شكل من أشكال الشوفينية بحجة حقوق الإنسان المنفلتة والحرية (السائبة) المشككة. كل هذه تكشف المسؤولية الكبيرة على عاتق الرعاة وهم يقودون رعاياهم.

 

 

مضامين اللاهوت الإجتماعي

 

تهتم الكنيسة بامور حياتية منها كرامة الإنسان والتضامن الإجتماعي فتظهر محبة الله للبشر. ويهتم اللاهوت الإجتماعي في مدى ارتباط أعمال الكنيسة بالدعوة. ولرعاة الكنائس دور كبير في أداء المهمة بسبب تماسهم المباشر مع الناس من مختلف الثقافات. لديهم مسؤولية إنشاء شكل من أشكال تنظير الرعاية الإجتماعية المنظمة ومعالجة الواقع. ويستطيع العمل الكنسي ان يحافظ على سلامة المعالجة من خلال رفض قبول النشاطات الإجتماعية السلبية، وبالمقابل تحفيز الجماعات على سن قوانين لتحسين حال المجتمع.

 

ان عمل الراعي في هذا المجال هو تحليل ونقد وإصلاح ما تفسده الخطيئة الإجتماعية. ومن الأمثلة على مواضيع اللاهوت هذا هو موضوع الفقر، الهجرة، العدالة الإجتماعية، القيم المجتمعية، وسائل التواصل وتعدد الثقافات وغيرها.

 

 

خصائص وخطوات اللاهوت الإجتماعي

 

يحدد اللاهوت عدة خطوات منهجية يهتم بها الراعي منها القيام بتجربة، تليها تحليلا اجتماعيا كي توضع في سياق أوسع. ثم نقد هذه التجارب (المشكلات والعلاقات). وبعد ذلك دعم التفكير اللاهوتي بالتحليل الإجتماعي. وأخيراً ادراك الإيمان من خلال مواجهة المشاكل الإجتماعية بالـتأمل في الإنجيل وتحليل الحقائق الإجتماعية في ضوء ذلك.

 

 

القيم الإجتماعية

 

القيم الإجتماعية الطبيعية يجب ان توضع نصب أعين الرعاة في التعليم والعمل، ويضاف اليها المحبة والرحمة لأن المسيحية هي الوحيدة التي رفعتهما الى مستوى اعظم. هذه القيم الطبيعية هي من نتاج الضمير (صوت الله)، ودور الفلاسفة والحكماء. تختصر القيم في: الصدق، الكرم، الإيثار، الحياء، البذل، التعاون والتكافل. اذا غابت هذه القيم تفشى الفساد.

 

نجد في العهد القديم مصدراً أولياً للموضوع حيث اهتمام الله بالإنسان وتدبيره الخلاصي. وفي العهد الجديد يتصدر يوحنا المعمدان وتعليمه الأخلاقي، كما كانت حياة يسوع معظمها مع الناس تعليما عمليا لينقذهم بفضل محبته ورحمته. إن القيم أعلاه تتوحد في قيمة واحدة وهي حب الله والقريب معا.

 

 

تفعيل اللاهوت في المجتمع

 

كان للرسل دور في تفعيل تعليم الرب كما نجد ذلك في سفر أعمال الرسل. إما مار بولس فقد احتك بمجتمعات مختلفة بكل تواضع ومحبة. وفي فترة آباء الكنيسة نجد الحديث المستمر عن أهمية جمع كل البشر تحت خيمة الكنيسة. ومن الآباء القديسين باسيليوس الكبير وامبروسيوس ويوحنا فم الذهب في القرن الرابع، واوغسطينوس في القرن الخامس. لقد اكدوا على دور القناعة وأدانوا البخل ونادوا بالصدقة ونددوا بالظلم والإستغلال.

 

ومن بين التحديات التي عالجها رعاة الكنيسة في القرن العشرين موضوع العمل وحقوق العمال، فاعترفوا بوجود فوارق، اي انقسام البشر الى طبقات لأسباب عديدة. ورفضوا مفهوم صراع الطبقات وطرحوا الحل الكاثوليكي. لقد دعوا الى الحفاظ على كرامة الشخص البشري، وأهمية العناية بالبيئة، والعائلة، وحسن الإستفادة من الإنترنت ووسائل التواصل وغيرها.

 

يمكن اختصار القواعد الكاثوليكية الإجتماعية في التصدي للإنحلال الأخلاقي، العمل لإحترام كرامة العمال والتضامن معهم وتطويرهم، أهمية النقابات والجمعيات وحقوق ذوي الأصول العرقية، مسؤولية المسيحيين السياسية من اجل مجتمع افضل، الإهتمام بتثقيف المصابين بالتخلف الثقافي، التصدي لإغتراب الإنسان بسبب الهجرة المزمنة، واخيراً مساواة المرأة بالرجل في تفعيل القيم المجتمعية السامية.

 

 

أبعاد أساسية في اللاهوت الإجتماعي

 

التوبة، وهي مهمة لبناء مجتمع جيد وللدخول في عمق المشكلة ولتفعيل الفداء. وهذا كان يسوع يقوله دائما "إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم" كما في لوقا 13/ 3. هذا يعني مناقشة حقيقة الخطيئة في بعديها الشخصي والإجتماعي. وقد عدد احد اللاهوتيين ستة خطايا ذات طبيعة عامة وهي "التعصب الديني، والجمع بين الكسب غير المشروع والسياسة. السلطة، وفساد العدالة، وروح الغوغاء وأعمال الغوغاء والنزعة العسكرية، والازدراء الطبقي". اليوم توجد مؤسسات كاملة في المجتمع ترتكب الشر مثل من له: النزعة العسكرية، والفردية، والرأسمالية المتطرفة، والقومية. هذا إضافة الى التخلف الفكري من خلال العادات والتقاليد البالية والأفكار القبلية وتأثير العادات.

 

الحوار باحترام الآخر، مثلما ان الله حاورنا كأولاده كذلك لدينا دعوة لتبني الحوار في علاقاتنا. ويفترض بالمحاور ان يشترط للحوار حضور روح الله وتجنب الحوار العقيم بل يسعى نحو الحقيقة والجمال، نحو نصرة حقوق الإنسان، السلام، العدالة الإجتماعية. ولتعزيز دور الحوار انشىء المجلس البابوي للحوار بين الأديان سنة 1964. والبابا يوحنا بولس الثاني دعا الى حوار الحياة وحوار الحضارات، ونادى بحضارة المحبة لوجود قواسم مشتركة بين المجتمعات.

 

السلام، برزت أهمية السلام نتيجة الإضطرابات التي خلقها المجرب (سفر التكوين). لقد نادى الأنبياء بأهمية السلام. ومدح المزمور بالسلام "العدل والسلام تعانقا" (مزمور 85/ 11). ويسوع طوّب فاعلوا السلام (متى 5: 9). أما مار بولس فقد اكد في عدة رسائل ان المسيح صالح اليهود والأمميين فاصبحا جسدا واحدا (طالع مثلا أفسس 2/ 14-16)5. وكذلك مار يعقوب في رسالته. وهكذا مع البابوات (لعل ابرز مساهماتهم رسائلهم مثل "السلام على الأرض" سنة 1963، "ترقي الشعوب" 1967، "فادي الإنسان" 1979، "الإهتمام بالشأن الاجتماعي" وغيرها).

 

السياسة، ان اهم مبدأ مسيحي في السياسة هو كونها خدمة وسعي الى الحقيقة والعدالة. ولأن الشعوب تتعرض الى المصائب بسبب الحروب والهجرة وغيرها. فلابد للكنيسة ورعاتها أن يكون لهم رأي، حيث من واجب الدولة صيانة حقوق الأفراد والجماعات.

 

العدالة، العدالة هي فضيلة احقاق الحق. وقد نادى بها الأنبياء خصوصا عاموس وميخا بقوله: “ما يطلب الله منا هو ان نقيم العدل” (ميخا 6/ 8). حسب يسوع، الشريعة لا فائدة منها ان لم تهتم بتحقيق العدالة والرحمة والأمانة لله. (متى 23/ 23) وهكذا في رسالة مار يعقوب العملية (5/ 1-4). لقد أكدت رسالة “الشؤون الحديثة” للبابا لاون 13 على بناء الملكية الخاصة طبقا لشروط عادلة. العدالة تتطلب “تحسين أوضاع الأقليات الأثنية في حياتها ولا سيما في ما له علاقة باللغة والثقافة والعادات والثروات والنشاطات الاقتصاديّة” (رسالة السلام على الأرض) 1963. ولقد جعل الدستور الراعوي “فرح ورجاء” من العدالة أولوية قبل المحبة.

 

العمل، يشترط الحرية والفرح لا الإستغلال والعبودية. خلال إعلانه البشرة السارة قال يسوع المسيح "أبي يعمل وانا أيضا اعمل". كما طوّب كل من يعلم ويعمل. أما مار بولس فقد اكد على العمل في رسالته الى تسالونيقي. وقد ذهب القديس يوحنا فم الذهب (†407) الى هذا الإتجاه في وصفه لفائدة العمل في كرازاته الذهبية. لقد أدى التعامل المادي مع العمال الى ثورات خصوصا بعد انتشار نظرية صراع الطبقات والدعوة الى الإشتراكية. فأكد المجمع الفاتيكاني الثاني ورسائل البابوات على احترام حياة العامل والعائلة. وفي 1981 اصدر البابا يوحنا بولس الثاني رسالة حول العمل "مزاولة العمل" ناقش فيه موضوع الرأسمال والعمل وضرورة الضمان الإجتماعي.

 

المواطنة، يشترط الإيمان بالمواطنة وجود الوطن والحق في امتلاك قطعة ارض كسكن أو للزراعة او لعمل مشروع ما، إضافة الى جماعة تحيا معا بروح محبة. ولكن السؤال: أين هو الوطن؟ إن معظم كتابات مار بولس والآباء ورسائل البابوات تتفق على حب الوطن وعدم التمييز بين مواطن وآخر.

 

 

الختام

 

تبين مما ورد أعلاه أصالة اللاهوت الإجتماعي وأهميته. لرعاة الكنائس دعوة مهمة في تفعيل مضامينه العديدة والعمل في الواقع المجتمعي ضمن محاور عمل مختلفة. كما لوحظ كيف إن ينابيع القيم الإجتماعية توّجها المسيح بقيمة المحبة والرحمة. ان لمحاربة الخطيئة بالتوبة دورا فعالا في رقي اي مجتمع. اللاهوت الإجتماعي له علاقة وثيقة بمواضيع الناس كموضوع السلام، والحوار، والسياسة، والعدالة، والعمل، والمواطنة كأبعاد واقعية لها غاية عليا في الوطن السماوي.

 

يمكن للاهوت الإجتماعي ان يتحول الى قوة لمستقبل الكنيسة والإنسانية حيث ان خدمة الملكوت تفشل شهوة السلطة لدى البشر وتعلي من قيمة المحبة المتبادلة. اللاهوت الإجتماعي قوة محفزة للمؤمنين في العالم كي ينخرطوا في الشؤون الإجتماعية ويقدموا التصورات كي تتحول العلاقات الى مستوى رؤية ملكوت الله.