موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٥ يوليو / تموز ٢٠٢٢
الحرب المقدسة والديانة المسيحية
في سلسلة المقالات التي يكتبها الأب منويل بدر بعنوان: "هل هناك حروب مقدّسة؟"، يتناول هذا المقال، وهو الثالث، حول العلاقة بين الحرب المقدّسة والديانة المسيحيّة عبر التاريخ.

الأب منويل بدر :

 

بمجيء يسوع، ملك السّلام، تحقّقت نبؤة دانيال 13:7 "كنت أرى في رؤى الليل فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على غمام السماء فبلغ إلى قديم الأيام وقُرِّب إلى أمامه، وأُتي سلطانا ومجدًا ومُلكًا، فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه وسلطانهخ سلطان أبدي لا يزول ومُلكه لا ينقرض (دانيال 7: 13-14). فبسلطانه هذا قد حلّ محلّ كل السّلاطين والقوّات قبله. وقد عيّن نقاط هذا السّلطان بحيث أنه لا يقوم على الحروب وإنّما على الخدمة "إبن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليَخدٌم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر 45:10).

 

والبرهان أنّه قد ضحّى بكل سلطة وسُلطان وقوّة عسكرية، ودخل دخولاً بسيطًا إلى عاصمة ملكوته الجديد، لا على عربة المنتصرين بل راكبًا جحشًا ابن أتان، مُتخلِّيًا عن كلِّ سلطة أو عظمة في هذا العالم. ووجّه كلَّ اهتمامه لإطعام الجياع والمساكين والإعتناء بهذه الطّبقات البسيطة، لا بإعلان حروب تحرم الكثيرين من لقمة العيش وتقوم بتدمير ما هو صالح وقائم ومصدر رزق. فالفرق كبير! "كبيركم ليكن خادمكم". "باركوا لاعنيكم. صلّوا لمضطهديكم. من لطمك على خدِّك الأيمن أدِر له الأيسر" (متى 44:5).

 

ثمّ جاء بولس برسائله الرّاعويّة مُوجّهًا سامعيه وقارئيه إلى السّلاح الذي يجب حمله: "تسلحوا بسلاح الله الكامل لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس. فليس صراعنا مع اللحم والدم، بل مع أصحاب الرئاسة والسلطان وولاة هذا العالم، عالم الظلمات والأرواح الخبيثة في السموات. فخذوا سلاح الله لتستطيعوا أن تقاوموا في يوم الشر وتظلّوا قائممين، وقد تغلّبتم على كلّ شيء" (أفسس 6: 10-21).

 

فاعتمادًا على هذا التعليم كان اللاهوتيّون حتى القرن الرابع يرفضون الخدمة العسكرية أو حتى  الإشتراك في الحروب لأنّها لا تتّفق مع مبدأ الكيان المسيحي. هذا ويُثبت التّاريخ أنه حتى عام 175 لم يكن بين الجيوش الرّومانية جنديٌّ مسيحيّ واحد، بناء على منع المسيح لأتباعه من حمل السّلاح أو استعماله. فهو حينما سألوه وهو مُحاط بالجنود الّذين جاؤا للقبض عليه "يا ربّ! أنضرب بالسّيف؟" (لو 49:22) أجاب: "أردد سيفك إلى غمده" (يو 11:18).

 

لكنّنا نستغرب أنّه بارتداد قسطنطين عام 313 تغيّر تفكير اللاهوتيّين عن الحرب بل صارت الوسيلة المُفضّلة في الكنيسة. فها البابا اوسابيوس المنتخب بابا عام 310 يشجّع قسطنطين على خوض الحرب، لأنّ هذا كان رأى إشارة الصّليب في السّماء وصوتًا يقول له: بهذه العلامة ستنتصر! فالإنتصار لا يتم إلاّ بالحرب!

 

تبعها أنَّ أسقف ميلانو، القديس أمبروزيوس، الشهير، فرفع الحرم عن التّجنيد للمسيحيين وسمح باستعمال السّلاح ضدَّ من يرفض القبول بالمسيحيّة دينًا، وهذا كردّة فعل على اضطهادات نيرون المعاكسة، الّذي كان أمر بذبح كلِّ من يؤمن بالمسيحية في روما. أما القديس الأفريقي الشّهير أغسطينوس فيبرّر اللّجوء إلى الحرب من قبل الكنيسة ببراهين، مرتكزًا فيها لا على تعاليم العهد الجديد لكن العهد القديم، حيث أنّ يهوه هو إله الحرب وسمح بها لتعظيم اسمه أمام الشّعوب. نعم هو يُحلِّل اللّجوء إليها إن كانت ستؤدّي إلى الإعتراف به وبدينه الجديد على الأرض. كذلك حلّل الّلجوء إليها كقصاص للجُناة والمُجرمين، وخاصّة ضدّ من تركوا الدّين أو لم يقبلوا به، مبرهنًا ذلك بمقارنتهم بالمدعوّين إلى العرس الّذين رفضوا دعوة الملك إلى الوليمة، كما قال لهم يسوع: "الحقّ أقول لكم إنه لا أحد من أؤلئك المدعوّين يذوق عشائي" (لو 14: 22-24).

 

وهنا السّؤال لأغسطينوس: هل لديك من جواب على ما قاله البابا بندكتس السادس عشر أثناء حبريّته في القرن الحادي والعشرين: هل الدّيانات مسؤولة عن العنف والحرب في العالم؟ لنسمع ما قال البابا: "لا يمكن للعنف أن يبني مملكة الله، أي مملكة الإنسانيّة. العنف هو الوسيلة المفضلة لدى أعداء المسيح. حتى لو وُضع العنف في إطار الدّفاع عن الدّين فهو لا يخدم الإنسانية بل اللّاإنسانية أو الوحشية" (البابا بندكتس السادس عشر).

 

 

الحروب الصليبية

 

ما أنّ حلّل البابوات الإنتساب إلى الجيوش والإشتراك (الإجباري) في القتال من أجل تبشير الأوثان ونشر الدّيانة المسيحيّة حتّى نشأت فكرة المكافأة السّماويّة واعتبار الموت شهادة مقبولة لدى الله. هذا ما عبّر عنه البابا أُوربان الثّاني حينما نادى وحلّل الحروب الصّليبيّة لتخليص الأرض المقدّسة من مُدنّسيها، الّذين بدأوا بتدميرها وقتل وذبح كلّ من لا يقبل بالإسلام دينًا.

 

"الإيمان، نعم الإيمان المسيحيّ وحده والغيرة على سلامة الحجّاج القاطعين برًّا كانت الدّافع الوحيد للبابا أوربانوس الثّاني في الاستغاثة أوّلاً بالشّعب المسيحيّ، وثانيًا بالملوك والأمراء للتّوجّه إلى الأرض المقدّسة فلسطين (الأب د. بيتر مدروس في أبونا 17/06/2017)

 

فلكي يٌشجّع الإنضمام إلى صفوف الجيوش المسيحيّة، أعزى البابا أُوربان أنّ ذلك هو إرادة الله. "إن أتّضح أنّ أُولئك الّذين ينضمّون إلى الجيوش المسيحية وفقدوا حياتهم في القتال سواء في البحر أو البرّ أو على يد الأوثان، فهم شهداء دمٍ، تُغفر لهم ذنوبهم، أؤكِّد ذلك بسلطة الله المعطاة لي" (ذكره المؤرّخ Walter Zöllner في كتابه قصة الحروب الصليبية ص 50)، وبناءً على هذه المقولة تمّ تأسيس جمعيّة "فرسان القبر المقدّس" المعروفة حتّى اليوم، والّتي من واجبها الأوّل حماية الأماكن المقدّسة وأهلها والدّفاع عنها بكل الوسائل، مما يسند ظهر المسيحيين للبقاء في الأرض المقدسة.

 

إنّ فكرة الحروب الصّليبية لم تكن ابنة ساعتها عام 1095 بل هي فكرة كانت سادت منذ القرن التّاسع حيث أصبحت الدّيانة المسيحيّة الوحيدة القويّة في العالم. وإذ لم يكن بعد من انفصال بين السّلطتين، الدينية والمدنية، فقد اعتبر القيصر نفسه الذّراع المُطوّل للبابا والمسؤول المباشر لقيادة الحروب لنشر وتوسيع هذه الدّيانة في العالم وذلك بمقاتلة البرابرة –أي غير المؤمنين- إن لم يقبلوا فيها دينًا.

 

وبالمقابل طالب اللاهوتيّون في تلك الحقبة من الجنود المسيحيّين أن يُحاربوا الأوثان بلا هوادة، فإمّا أنّهم يقبلون الدّين المعروض عليهم دينًا أو أن يُقتلوا، وذلك بمعرفة وموافقة الكنيسة. وبإيعاز من القديس المشهور برنارد دي كليرفو، دمجت الكنيسة السّلطتين، الدّينية والمدنيّة، ووضعتهما بيد البابا بونيفاس، الذي جعل من هاتين السلطتين عام 1302 عقيدتي إيمان مُلزِمَتَيْن.

 

هذا وبالتّزامن مع هذا الإعلان جاءت الأخبار المزعجة من سيطرة الأراضي المقدّسة من الإسلام الذي بدأ بتدميرها ومحو آثارها وباضطهاد المسيحيّين، كذلك حماية الحجاج القادمين من بعيد لزيارة الأماكن المقدسة. فهم كانوا يلقون الأمرين للوصول إليها.

 

فأصبح لزامًا على الكنيسة التّدخل لإنقاذ الطّرفين، أي الأشخاص والأماكن. وللظروف الملحّة تمّ القرار بإعلان الحروب الصّليبية (ذات الوجهين). ولتبريرها، فقد وضع لها البابا اوربان الثاني عام 1095 شروطًا وأهدافًا، صارت قاعدة مهمّة ومثالاً لخوض أي حرب للدّفاع عن الدّين والكنيسة، هذه مجملها:

 

- البابا يتحمّل مسؤوليّة إعلان حرب يعطيها التّسمية حربًا مقدّسة.

 

- بقوله "الله يريد ذلك" فهذا يعني أنّه حلّل الحرب وحلّل معها عواقبها.

 

- هدفت إلى استرداد وتحرير الأرض المقدّسة التي تعيش حواليها أقلّية مسيحية، بعد ما كانت أكثرية، رازحة منذ عام 637 تحت سيطرة الإسلام، الّذي ما توقّف لا عن إبادة المسيحييّن ولا عن تدنيس وتدمير الأماكن المهمّة للمسيحيّة إجمالاً. وبالتالي، تخليص وتحرير القدس باستعمال كلِّ أشكال القوّة الدّفاعيّة، وإذا ما لزم الأمر بقتل كلِّ من هو غير مؤمن فيها.

 

- في الوقت ذاته قد تمّت مطاردة وقتل أقلّية يهوديّة كانت رجعت من المنفى إلى هذه المدينة. علمًا بأنَّ اضطهاد اليهود تحت ضغط الحروب الصّليبية لا يُقارَن بما حصل لهم في الحرب العالميّة الثّانية.

 

- النّداء المُلزِم إلى توحيد صفوف المسيحيين في العالم، حتى المنشقّين عن الكنيسة، في سبيل القضاء على غير المؤمنين.

 

- من يشترك في هذه الحرب كحاجٍّ أو كجندي مُتطوِّع لتحرير الأرض المقدّسة ويموت شهيدًا، ينال غفران خطاياه ويُعدّ قديسًا شهيدًا.

 

- من هنا تسميتها حربًا مقدّسة لأنّها تُقدِّس كلَّ من يموت ضحية فيها.

 

 

للمقال تتمّة...