موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
وجّه الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، رسالة رعوية إلى أبناء الأبرشية، عبّر فيها عن فرحه من أجل نهاية الأعمال العدائية في غزة، آملاً أن تكون هذه النهاية مستدامة وأن تجلب الراحة للسكان بعد عامين من الحرب والمعاناة، خاصة في غزة والضفة الغربية.
ومع ذلك، شدّد غبطته على أنّ المشاكل لا تزال كثيرة، وأن الصراع سيظل جزءًا من حياتنا الشخصية والجماعية في الأبرشية، لافتًا إلى أنّ غياب الوضوح بشأن المستقبل يزيد من الشعور بالضياع ويعزّز الإحساس بعدم الثقة، داعيًا الجميع إلى الثبات في الرجاء والإيمان رغم الصعوبات.
ودعا غبطته المؤمنين إلى التحلّي بالرجاء والصبر، وعدم الاستسلام لمنطق العنف أو الكراهية، بل الثبات في الإيمان والتمسّك بإنجيل المحبة والمغفرة، مؤكدًا أن نهاية الحرب لا تعني بالضرورة مجيء السلام، بل هي الخطوة الأولى نحو بناء الثقة والمصالحة.
وأشار البطريرك بيتسابالا إلى أن الكنيسة مدعوّة لتكون علامة للرجاء في وسط الألم، وأن حضورها وثباتها في الأرض المقدسة هو شهادة لمحبة المسيح وآلامه وقيامته. كما شدّد على أهمية الصلاة والعمل من أجل السلام، خاصة في يوم الصوم والصلاة الذي أعلنه البابا لاون الرابع عشر في 11 تشرين الأول، ودعا جميع الرعايا والجماعات إلى المشاركة فيه.
الإخوة والأخوات الأعزاء،
منحكم الرب سلامه!
منذ عامين والحرب تستنزف معظم انتباهنا وطاقتنا. والوضع المؤسف في غزة أصبح معروفًا للجميع: مجازر متكرّرة بحق المدنيين، مجاعة، نزوح متواصل، صعوبات في الوصول إلى المستشفيات والرعاية الطبية، وانعدام الظروف الصحية، دون أن ننسى الذين أُسِروا خارجًا عن إرادتهم.
نحن ننتظر اللحظة التي ستفرح فيها عائلات الرهائن، الذين سيتمكنون أخيرًا من احتضان أحبائهم. ونتمنى الشيء نفسه للأسرى الفلسطينيين المحررين الذين سيتمكنون من معانقة ذويهم. نفرح بشكل خاص من أجل نهاية الأعمال العدائية، التي نأمل ألا تكون مؤقتة، وأن تجلب الراحة لسكان غزة.
نفرح أيضًا من أجلنا جميعًا، لأن النهاية المحتملة لهذه الحرب الرهيبة، التي يبدو أنها باتت قريبة فعلاً، قد تمثل بداية جديدة للجميع، ليس فقط للإسرائيليين والفلسطينيين، بل أيضًا للعالم بأسره.
ومع ذلك، يجب أن نبقى واقعيين. لا يزال هناك الكثير مما يجب تحديده لضمان مستقبل آمن ومطمئن لغزة. إن وقف الأعمال العدائية هو فقط الخطوة الأولى -الضرورية والأساسية- في مسار مليء بالتحديات، في سياق لا يزال معقّدًا ومضطربًا.
ولا يجوز أن ننسى أيضًا أن الوضع في الضفة الغربية يستمر في التدهور. فالمشاكل اليومية التي يواجهها شعبنا أصبحت شأنا عاديّا، خاصة في القرى الصغيرة التي تزداد حصارًا واختناقا بسبب هجمات المستوطنين، من دون حماية كافية من السلطات الأمنية.
بعبارة أخرى، لا تزال المشاكل كثيرة. وسيبقى الصراع لفترة طويلة جزءًا لا يتجزأ من الحياة الشخصية والجماعية لكنيستنا. في كل قرار نتخذه بشأن حياتنا، حتى أبسطها، علينا دائمًا أن نأخذ في الاعتبار الديناميكيات المعقدة والمؤلمة التي يسببها هذا الصراع: هل الحواجز مفتوحة؟ هل لدينا التصاريح اللازمة؟ هل ستكون الطرق سالكة؟ هل سنكون في أمان؟
كما أن غياب الوضوح بشأن المستقبل يزيد من الشعور بالضياع ويعزّز الإحساس بعدم الثقة. ولكن، هنا بالضبط، نحن مدعوون ككنيسة إلى أن نقول كلمة رجاء، وأن نتحلّى بالشجاعة لرواية تفتح آفاقًا، وتبني بدلاً من أن تهدم، سواء في اللغة التي نستخدمها أو في الأفعال والأعمال التي نقوم بها.
لسنا هنا لنقول كلمة سياسية، ولا لنقدّم قراءة استراتيجية للأحداث. العالم مليء بمثل هذه القراءات، التي نادرًا ما تغيّر الواقع. ما يهمّنا، بدلاً من ذلك، هو رؤية روحية تساعدنا على الثبات في الإنجيل. هذه الحرب، في الواقع، تستجوب ضمائرنا، وهي ليست مصدرا لتأملات سياسيّة فقط، بل وروحيّة أيضًا. إن العنف المفرط الذي نشهده لا يدمّر أرضنا فقط، بل ويدمّر أيضًا النفس البشرية لدى الكثيرين، في الأرض المقدسة وفي العالم أجمع. إن الغضب، والحقد، وانعدام الثقة، بل وحتى الكراهية والازدراء، تهيمن كثيرًا على أحاديثنا وتلوّث قلوبنا. الصور التي نراها يوميًا هي مدمّرة، وصادمة، وتضعنا أمام ما دعاه القديس بولس "سر الإثم والإلحاد" (2 تسالونيكي 2:7)، الذي يتجاوز فهم العقل البشري. نحن معرّضون لخطر التعوّد على الألم، لكن لا يجوز أن يبقى الأمر كذلك. إن كل حياة تُفقَد، وكل جرحٍ ينزف، وكل جوعٍ قاتل، تُعتبرُ عارا صارخا في عيني الله.
لقد أصبحت القوة والعنف المعيارَ الأساسي الذي تُبنى عليه النماذج السياسية والثقافية والاقتصادية، وربما حتى الدينية في زمننا. في الأشهر الأخيرة، سمعنا مرارًا وتكرارًا أن القوة وحدها هي التي يمكن أن تفرض الخيارات الصحيحة، وأن السلام لا يمكن فرضه إلا بالقوة. لكن يبدو أننا لم نتعلم كثيرا من التاريخ، للأسف. لقد رأينا في الماضي ما الذي خلّفته القوة والعنف. من ناحية أخرى، نشهد في الأرض المقدسة وفي العالم، ردّ فعل غاضب من المجتمع المدني تجاه هذا المنطق المتغطرس للقوة والهيمنة. لقد جرحت صور غزة بعمق الضمير الجماعي للحقوق والكرامة التي تسكن قلوبنا.
كما أن هذه الصور تختبر إيماننا. حتى بالنسبة للمؤمن، ليس من السهل أن يعيش هذه الأوقات الصعبة وفقا لإيمانه. أحيانًا نشعر في أعماقنا بالمسافة بين قسوة الأحداث الدرامية من جهة، والحياة الإيمانية والصلاة من جهة أخرى، وكأنهما عالمان منفصلان. كما أن استخدام الدين، الذي يُساء استخدامه في كثير من الأحيان لتبرير هذه المآسي، لا يساعدنا على الاقتراب من ألم ومعاناة الناس بقلب متصالح. الكراهية العميقة التي تغمرنا، وما تخلّفه من موت وألم، تشكل تحديًا كبيرًا لمن يرى في حياة العالم والبشر انعكاسًا لحضور الله.
لن نتمكن بمفردنا من فهم هذا السر. وبقوانا وحدها، لن نتمكن من الوقوف أمام سر الإثم ومقاومته. لذا السبب، أشعر شعورًا متزايدًا بنداء ملحّ كي نحدّق إلى يسوع (راجع عبرانيين 12:2). فقط بهذه الطريقة يمكننا أن نعيد النظام إلى داخلنا، وأن ننظر إلى الواقع بعيون مختلفة.
ومع يسوع، نرغب كجماعة مسيحيّة في أن نكفكف دموع العامين الماضيين: دموع من فقدوا أقاربهم وأصدقاءهم، القتلى أو المختطفين، ومن فقدوا منازلهم، وأعمالهم، وأوطانهم، وحياتهم، وهم ضحايا أبرياء بسبب تصفية حسابات لا نرى لها نهاية بعد.
لقد كانت المواجهة وتصفية الحسابات هي السردية السائدة في هذه السنوات، مع ما يترتب عليها من مواقف مؤلمة لا مفرّ منها. لكن تصفية الحسابات لا تنتمي إلينا، لا من حيث المنطق ولا من حيث اللغة. يسوع، معلمنا وربنا، جعل من المحبة التي تُترجم عطاء وغفرانا، خياره في الحياة. جراحه ليست دعوة للانتقام، بل قدرة على المعاناة من أجل المحبة.
في هذا الزمن المأساوي، كنيستنا مدعوة بقوة أكبر إلى الشهادة لإيمانها بآلام يسوع وقيامته. بقاؤنا على هذه الأرض، عندما يشدّنا كل شيء إلى الرحيل، ليس تحديًا بل ثباتًا في المحبة. وتنديدنا ليس إهانة لأي طرف، بل دعوة له كي يسلك طريقًا مختلفًا عن طريق تصفية الحسابات. موتنا تمّ تحت الصليب، لا في ساحة المعركة.
لا نعرف ما إذا كانت هذه الحرب ستنتهي فعلاً، لكننا نعلم أن الصراع سيستمر، لأن الأسباب العميقة التي تغذّيه لا تزال بحاجة إلى المعالجة. حتى لو انتهت الحرب الآن، فإن كل هذا، وأكثر منه، سيظل يشكّل مأساة إنسانية تحتاج إلى وقت طويل وجهود كبيرة لاستعادة التوازن. إن نهاية الحرب لا تعني بالضرورة بداية السلام، لكنها الخطوة الأولى الضرورية لبدء عملية البناء. ينتظرنا طريق طويل لإعادة بناء الثقة بيننا، ولإعطاء الرجاء شكلاً ملموسًا، وللتعافي من سموم الكراهية التي تراكمت خلال هذه السنوات. لكننا سنبذل جهدنا في هذا الاتجاه، مع العديد من الرجال والنساء الذين لا يزالون يؤمنون هنا بإمكانية تخيّل مستقبل مختلف.
قبر المسيح الفارغ –الذي توقّفت عنده قلوبنا أكثر من أي وقت مضى في هذين العامين الأخيرين، مترقّبة القيامة– يؤكّد لنا أن الألم لن يدوم إلى الأبد، وأن الانتظار لن يذهب سُدى، وأن الدموع التي تروي الصحراء ستجعل جنّة القيامة تزهر.
وكما فعلت مريم المجدلية عند ذلك القبر، نريد نحن أيضًا أن نواصل البحث، حتى وإن كنّا نتعثّر. نريد أن نُصرّ على طلب دروب العدالة والحق والمصالحة والمغفرة؛ عاجلاً أم آجلاً، في نهاية هذه الدروب، سنلتقي سلام القائم من بين الأموات. ومثلها، نريد على هذه الدروب أن نحفّز الآخرين على الإسراع لمساعدتنا في مسعانا.
وحين يبدو أنّ كل شيء يفرّقنا، نعلن ثقتنا بالجماعة، والحوار، واللقاء، والتضامن الذي ينضج إلى المحبة. نريد أن نستمر في إعلان أن الحياة الأبدية أقوى من الموت، من خلال مبادرات جديدة من الانفتاح والثقة والرجاء. نعلم أن الشرّ والموت، مع كونهما قويَّين وحاضرين فينا وحولنا، لا يستطيعان أن يُلغيا ذاك الحسّ الإنساني الذي يبقى حيًّا في كل قلب.
هناك كثيرون في الأرض المقدّسة وفي أنحاء العالم يقدّمون أنفسهم ليُبقوا هذا التوق إلى الخير حيًّا، وهم ملتزمون بدعم كنيسة الأرض المقدّسة. ونحن نشكرهم، رافعين كلّ واحد منهم في صلواتنا. "لِذٰلِكَ فنَحنُ الَّذينَ يُحيطُ بِهِم هٰذا الجَمُّ الغَفيرُ مِنَ الشُّهود، فلْنُلْقِ عَنَّا كُلَّ عِبْءٍ وما يُساوِرُنا مِن خَطيئَة ولْنَخُضْ بِثَباتٍ ذٰلِك الصِّراعَ المَعْروضَ علَينا، مُحَدِّقينَ إِلى مُبدِئ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يسوع" (عبرانيين 12: 1-2).
في هذا الشهر المكرّس للعذراء مريم الكلية القداسة، نريد أن نصلّي من أجل هذه النية: كي تبقى بمنأى عن كلّ شرّ قلوبنا وقلوب الذين يتوقون إلى الخير والعدالة، وكي نتحلّى بالشجاعة لزرع بذور الحياة رغم الألم، فلا نستسلم أبدًا لمنطق الإقصاء ورفض الآخر.نصلّي من أجل رعايانا، لكي تبقى متحدة وثابتة، من أجل شبابنا، وعائلاتنا، وكهنتنا، ورهباننا وراهباتنا، ومن أجل كلّ من يلتزم بتقديم العون والعزاء لمن هم في حاجة. نصلّي من أجل إخوتنا وأخواتنا في غزة، الذين، رغم اشتداد الحرب عليهم، لا يزالون يشهدون بشجاعة لبهجة الحياة.
أخيرًا، ننضم إلى دعوة البابا لاون الرابع عشر، الذي أعلن أن يوم السبت الموافق 11 تشرين الأول هو يوم صوم وصلاة من أجل السلام. أدعو جميع الرعايا والجماعات الرهبانية إلى تنظيم لحظات صلاة في ذلك اليوم، مثل تلاوة المسبحة، والسجود للقربان الأقدس، وليتورجية الكلمة، وغيرها من لحظات مُشارَكة مماثلة.
نقترب من عيد شفيعة أبرشيتنا، سيدة فلسطين وسيدة الأرض المقدّسة كلّها. وعلى أمل أن نلتقي في ذلك اليوم، نجدّد أمام شفيعتنا صلاتنا من أجل السلام.
مع أطيب تمنيات الخير للجميع!