موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
Photo by Steven Stechschulte | Detroit Catholic
في اليوم الأول من زيارة راعوية تمتد أربعة أيام إلى ديترويت، ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، القداس الإلهي في كنيسة القديس توما الكلدانية في ويست بلومفيلد، بمشاركة رئيس أساقفة ديترويت إدوارد وايزنبورغر، وراعي الأبرشية الكلدانية في ميشيغان المطران فرنسيس قلابات، وحضور أبناء الرعيّة الكلدانية من منطقة مترو ديترويت إلى جنوب شرق الولاية الأميركية.
وفي عظته، استعاد الكاردينال بيتسابالا بين رؤية النبي أشعياء عن إعادة البناء وسط الخراب، رابطًا بين هذا المشهد الكتابي وما يشهده الشرق الأوسط اليوم من دمار وأزمة إنسانية، ومؤكدًا دور الكنيسة في تعزيز السلام وترسيخ الاستقرار في المنطقة.
وقال البطريرك: "الرجاء لا يستطع الوقوف وحده، فهو يحتاج إلى الإيمان. لقد ذهبتُ إلى غزّة مرات عدة خلال الحرب، وكل ما هناك أشبه بصحراء مترامية من الأنقاض. كل شيء مدمّر، ليس البنى التحتية فحسب، بل الدمار الإنساني هائل في كل مكان. من دون الإيمان يبدو كل شيء بلا رجاء، بلا مستقبل. لكن بالإيمان، تصبح لنا رؤية مغايرة".
وأشار إلى أنه كان في الأسبوع الذي سبق زيارته لديترويت في لبنان برفقة قداسة البابا لاون الرابع عشر والكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل للكلدان، وسائر بطاركة الشرق الأوسط. وقال: "كان بيننا تبادل جميل وصادق لتجاربنا وآلامنا وتطلعاتنا". وأضاف أنه يأمل أن يتمكّن البابا يومًا ما من زيارة الأرض المقدسة عندما تسمح الظروف.
وبعد القداس، اجتمع المئات في عشاء خيري لدعم المسيحيين في الشرق الأوسط، في مبادرة تربط كنيسة ميشيغان بالكنيسة في الأرض المقدسة من خلال الصلاة والعطاء وروح التضامن. وتجمّعت الجالية الكلدانية لتكريم الكاردينال بيتسابالا وتأكيد دعمها لكنيسة القدس، ولمساندة المؤمنين الذين يواصلون شهادة الإيمان في الأرض التي وُلد فيها المسيح وتألم ومات وقام.
وقبيل إلقائه كلمته، تسلّم الكاردينال من المطران فرنسيس قلابات ذخائر أربعة شهداء كلدان استُشهدوا عام 2007. وقال راعي أبرشية مار توما الكلدانية في ميشيغان: "نقدّم لك تضحيتنا متّحدة بتضحيتكم"، مضيفًا أن البابا لاون رفع صلواته من أجل هؤلاء الشهداء.
وخلال الأمسية، أعلن الأب ماركوس شمامي، عرّيف الحفل، جمع ما لا يقل عن 200 ألف دولار لدعم المسيحيين في الأرض المقدسة. وقال: "نحن هنا لدعم مسيحيي الأرض المقدسة، أولئك الذين هم بأمسّ الحاجة، حراس الأماكن التي سار فيها يسوع، وعلّم، وتألم، ومات، وقام".
وأضاف: إن "وجودهم ليس مجرد رابط حيّ مع بدايات إيماننا، بل علامة رجاء في منطقة عرفت قرونًا من الصراع والحروب والمشقة"، لافتًا إلى أنّ معاناة أبناء الجالية الكلدانية القادمين من العراق تجعلهم أقرب إلى آلام المسيحيين في فلسطين.
وقال الكاردينال بيتسابالا إنه، رغم الحروب التي شهدها منذ وصوله إلى القدس، فإنّ العامين الماضيين منذ أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 كانا "الأصعب على الإطلاق". وأضاف: "من خلال حديثي مع الناس، تبيّن أنها اللحظة الأكثر قسوة منذ عقود، وربما أجيال".
وأكد أنّ هجوم حماس كان "فظيعًا" و"علينا أن نقول هذا بوضوح تام: إنّه غير مقبول على الإطلاق". لكنه تابع: "الرد الانتقامي في غزة كان أصعب". وأضاف أن العامين الماضيين خلّفا أكثر من 70 ألف قتيل، ودُمّر أكثر من 80% من المنازل، واختفت المدارس والمستشفيات والمياه والكهرباء، ونزح قرابة مليوني شخص. وقال: "لا أحد، أكرّر، لا أحد في غزة اليوم يعيش في المكان الذي كان فيه قبل الحرب. لا أحد".
وأضاف: "الجميع نازحون، وكثير من العائلات مشتتة أو مفقودة أو مدمّرة". وأشار إلى أنه في حين قُتل عدد لا يُحصى بسبب القتال، فإن عددًا أكبر مات بسبب غياب المساعدة الطبية والإغاثة، وأن وقف إطلاق النار لم يغيّر شيئًا من واقع الدمار واليأس. وقال: "لا تزال هناك الكثير من الجثث تحت الأنقاض، ولا يستطيع أحد انتشالها لدفنها لعدم وجود المواد اللازمة".
وأوضح البطريرك أنّ الكنيسة ليست ضد إسرائيل، لكنها "ستستمرّ الكلام بوضوح ضد الفظائع المتواصلة في غزة". وقال: "علينا أن نكون واضحين جدًا بشأن ما تفعله الحكومة الإسرائيلية، فهو أمر غير مقبول، ولا يمكن تبريره، ويجب أن يتوقّف". وأضاف: "لن يتغيّر الوضع أبدًا طالما لم يُعترف بالفلسطينيين كشعب له كرامته وحقه في تقرير المصير".
وأشار إلى أن الجناح العسكري لحماس "شبه مفكك"، لكن غياب الهيكلية في غزة أدى إلى اشتباكات بين فصائل مختلفة، مما جعل الوضع "أكثر تعقيدًا". وأضاف أن حال المسيحيين في غزة أكثر قتامة؛ فقبل الحرب كان عددهم نحو ألف، أما اليوم فلا يتجاوز 541، بعدما تمكّن بعضهم من المغادرة إلى مصر، فيما "مات كثيرون" بسبب الحرب أو القصف أو نقص الغذاء والدواء.
وعلى الرغم من تقاعس المؤسسات السياسية والدولية، قال الكاردينال بيتسابالا إنّ مجموعات دينية ومجتمعية محلية، "مع الكثير من الصعوبات"، استطاعت إيصال الغذاء إلى نحو 10,000 عائلة. وأضاف: "المعلّمون يبحثون عن طلابهم حتى حدود اليأس، والأمهات ينظمن أنفسهن للعناية بالأطفال الباقين، وكثير منهم بلا عائلات، وهناك الآلاف منهم".
ورغم حجم الدمار، شدّد الكاردينال بيتسابالا على أنّ الرجاء لا يزال ممكنًا بالإيمان بالمسيح، وبفضل أولئك الذين ينهضون لخدمة الآخرين في غزة ومختلف أنحاء العالم. وقال: "الدمار الإنساني ما يزال موجودًا. ولن ينتهي قريبًا، لكن الرجاء ما يزال موجودًا".
وأضاف: "رجاؤنا أولاً وقبل كل شيء، هو الرب القائم من بين الأموات؛ ومنه نستمد قوتنا. ثم نبحث عن حضوره في المجتمع. هناك إسرائيليون وفلسطينيون، مسيحيون ومسلمون ويهود – مستعدون لبذل حياتهم من أجل الآخرين.. وحيث يوجد الإيمان، توجد أيضًا جذور الرجاء".
وبفضل دعم المسيحيين في أماكن مثل ديترويت وسواها حول العالم، تأمل البطريركية في إعادة بناء "مدرسة واحدة على الأقل"، كما قال الكاردينال بيتسابالا، إضافة إلى الاستمرار في تقديم الدعم في مجالات الغذاء والرعاية الصحية والاحتياجات الأساسية.
وأكد أن الكنيسة المتألّمة ليست وحدها عندما يقف الناس معها. وختم الكاردينال كلمته: "عاجلًا أم آجلًا، سينتهي هذا الوضع، وعندما ينتهي سنتذكّر من كان معنا ومن لم يكن. ونحن نريد أن نكون بين الذين وقفوا معهم – مع الفلسطينيين، ومع الإسرائيليين، ومع الجميع، بالمحبة، ولكن أيضًا بالحقيقة اللازمة. لأن حيثما تكون الحقيقة، هناك يكون يسوع حاضرًا".