موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
من المؤكد أن للحياة أحزانها التي هي جزء من كل طريق للرجاء وكل طريق نحو الهداية. لكن من المهم تجنب الانغماس في الكآبة مهما كان الثمن، وعدم السماح لها بتكدير القلب.
وهذه تجاذبات لا ينجو منها حتى رجال الدين. وللأسف نظهر أحيانًا على شكل كهنة حزانى متسلطين أكثر من كوننا أصحاب سلطة، أشبه بعزاب كبار السن أكثر من كوننا مرتبطين الكنيسة، أشبه بمسؤولين أكثر من كوننا رعاة، بل متعجرفين أكثر من كوننا فرحين، وهذا في الحقيقة أمر غير طيب.
لكن بصورة عامة، نحن الكهنة نميل للاستمتاع بالفكاهة ولدينا مخزون من النكات والقصص المسلية التي تبدو جيدة في العادة عندما نقوم بروايتها أو عندما نكون موضوعا لها.
كذلك أيضًا البابوات. يوحنا الثالث والعشرون مثلا الذي كان معروفًا بروح الفكاهة والدعابة وفي احدى جلسات النقاش قال "عادة ما يحدث لي أن أفكر في الليل ببعض المسائل الخطيرة ثم اتخذ قرارًا شجاعًا وحازمًا أن اذهب في الصباح لأناقشه مع البابا ثم استيقظ متعرقًا متذكرًا أن البابا هو أنا.
لقد كنت أفهمه تمامًا. كذلك البابا (القديس) يوحنا بولس الثاني كان كثير الشبه به. ففي إحدى الجلسات التمهيدية لمجمع الكرادلة المنوط به انتخاب البابا، وكان لا يزال كاردينالاً، قال له كاردينال كبير السن وبطريقة فيها بعض الملامة موبخًا له على أنه يذهب للتزلج وتسلق الجبال وركوب الدراجات الهوائية والسباحة قائلاً "لا أظن أن هذه نشاطات تليق بمكانتك ودورك". فكان رد البابا المستقبلي: "ولكن هل تعلم أيها الكاردينال أن هذه النشاطات يمارسها على الأقل خمسون في المئة من الكرادلة في بولندا؟". في ذلك الوقت لم يكن في بولندا سوى اثنين من الكرادلة.
إنّ السخرية علاج. ليس فقط من أجل التسرية عن الآخرين وإبهاجهم، ولكن أيضًا للتسرية عن أنفسنا لأن السخرية من الذات أداة قوية جدًا في التغلب على الإغراءات بالنرجسية. فالنرجسيون عادة ما ينظرون إلى أنفسهم في المرايا ويحدقون في أنفسهم ولكن أفضل نصيحة عندما نقف أمام المرآة هي أن نضحك على انفسنا. وهذا أمر مفيد لنا ويثبت المثل الذي يقول أن هناك نوعان من الشر الكاملين هم الموتى وأولئك الذين لم يولدوا بعد.
أما الطرائف والنكت الخاصة باليسوعيين (البابا من الرهبنة اليسوعية)، فهي حالة قائمة بذاتها لا تقارن إلا بتلك المتعلقة بالدرك الإيطالي (الكاربنييري) أو المتعلقة بالأمهات اليهوديات في الفكاهة العبرية.
أما بالنسبة للنرجسية التي يجب أن نتجنبها بجرعات من السخرية الذاتية فأتذكر واحدة عن راهب يسوعي معجب بنفسه كان لديه مشكلة في القلب وكان يجب أن يتلقى علاجًا في المستشفى. وقبل الدخول إلى غرفة العمليات طلب من الله: "ربي هل حانت ساعتي"؟ جاءه الجواب: "لا بل ستعيش أربعين سنة إضافية".
وبعد العملية أراد أن يستفيد من تلك السنوات فقام بزراعة الشعر وشد الوجه وشفط الدهون وعمل تاتو الحواجب وإصلاح الأسنان... باختصار خرج إنسانًا جديدًا مختلفًا. وعند خروجه من العيادة صدمته سيارة ومات. بمجرد وقوفه في حضرة الله أبدى احتجاجه، وقال: يا ربي ألم تعدني أني سأعيش أربعين سنة أخرى؟ فأجابه الله عفوًا فأنا لم أعرفك!
لقد أخبروني نكتة تتعلق بي شخصيًا، أي عن البابا فرنسيس في أميركا. وتقول النكتة: بمجرد وصوله إلى مطار نيويورك في زيارته الرسولية للولايات المتحدة وجد البابا فرنسيس أسطولاً من سيارات الليموزين الفارهة بانتظاره. فشعر بالحرج من هذا البذخ المهيب. ثم فكر أنه ومنذ زمن بعيد لم يقد أي سيارة فكيف بسيارة من هذا النوع. فقال في نفسه: متى ستكون فرصة ثانية لأكون أمام سيارات كهذه؟ نظر البابا إلى الليموزين وقال للسائق ألا يمكنك أن تدعني أقود السيارة بنفسي؟ أجاب "عفوًا صاحب القداسة أنا لا أستطيع، هناك نظام وقواعد". ولكن عندما يصمم البابا على شيء سيفعله، وبعناد وتصميم رضخ السائق. وجلس البابا وراء عجلة القيادة وقاد السيارة في الأوتوستراد وأخذ يستمتع بالقيادة ويزيد السرعة خمسين ميل ثم ثمانين ميل ثم مئة وعشرين ميل إلى أن أوقفته دورية شرطة. ووقف الشرطي بجانب نافذة السيارة المعتمة وبعصبية فتح البابا النافذة وعندما رأى الشرطي البابا وعرفه. قال أعذرني لحظات، وذهب إلى السيارة للاتصال مع قيادته. فسأله القائد ما المشكلة؟، فقال له: لقد أوقفت سيارة مسرعة لكن فيها شخصية مهمة جدًا. فسأله الضابط: ما أهميته هل هوة عمدة المدينة؟ فقال لا يا سيدي أكبر. فقال الضابط: أكبر من العمدة؟ هل هو الحاكم؟ أجاب: لا يا سيدي بل أكبر. قال الضابط: هل هو الرئيس؟ قال له: لا يا سيدي بل أكبر. لا ادري من هو بالضبط وكل ما أستطيع قوله هو أن سائقه هو البابا.
إن الإنجيل الذي يحثنا على أن نكون مثل الأطفال الصغار لأجل خلاصنا (متى 18:3) يذكّرنا بضرورة استعادة قدرتنا على الابتسام. واليوم لا شيء يثير سعادتي أكثر من لقاء الأطفال. عندما كنت طفلاً كان هناك من يعلمني الابتسام لكني الآن عجوز فإن الأطفال هم الذين يرشدونني في كثير من الأحيان. فاللقاءات بهم هي أكثر ما تسعدني وتجعلني أشعر بحال أفضل.
وكذلك فإن تلك اللقاءات مع كبار السن، أولئك المسنون الذين يباركون الحياة، الذين طرحوا جانبًا كل مشاعر الاستياء ويستمتعون بالنبيذ المعتق، تلك اللقاءات لا يمكن مقاومتها. انهم يتمتعون بملكة الابتسام والدموع، مثل الأطفال. عندما احتضن الأطفال بين ذراعي خلال اللقاءات في ساحة القديس بطرس فإن معظمهم يبتسمون لكن بعضهم يبكون إذ يرونني بثوبي الأبيض فيظنونني طبيبًا جاء ليعطيهم حقنة.
إنهم نماذج للعفوية والإنسانية ويذكروننا بأن الذين تخلوا عن إنسانيتهم تخلوا عن كل شيء وعند فقدان القدرة على البكاء بجدية أو الضحك بشغف فإننا نكون حقًا حالة انحدار وتدهور. نغدو مخدرين وعندما نتخدر لا نفعل خيرًا لا لأنفسنا ولا للمجتمع ولا للكنيسة.