موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تسلّم البابا لاون الرابع عشر إرث سلفه البابا لاون الثالث عشر، يوم الخميس، خلال لقائه بالمشاركين في «اللقاء العالمي الخامس للحركات الشعبية». وفي كلمته بالمناسبة، توقّف قداسته مطولًا عند قضايا الظلم التي تثقل كاهل المجتمعات حول العالم، مستعيدًا قراءة جديدة لرسالة «الوقائع الجديدة - Rerum Novarum» التي كان قد تناولها سلفه في أوّل رسالة اجتماعية للكنيسة.
وعلى الرغم من أنّ أواخر القرن التاسع عشر قد شهدت فترة من التطوّر السريع بفضل مصادر الطاقة الجديدة والتقنيات الصناعية الناشئة، إلا أنّ البابا لاون الثالث عشر اختار آنذاك أن يوجّه أنظاره إلى «أوضاع الفقراء والمضطهدين في ذلك الوقت». وأشار البابا لاون الرابع عشر إلى إنّ سلفه وقف إلى جانب الفقراء وندّد بـ«خضوع الغالبية لسلطة قلةٍ قليلة» في نمط عملٍ كان «لا يقلّ سوءًا عن العبودية نفسها».
وأوضح أنّ الحركات الشعبية تنبع من هوامش المجتمع، وتسعى إلى تحقيق العدالة وإيجاد حلول للذين ترزح حياتهم تحت نظم غير عادلة. وقال قداسته: «ما أعتبره الأهم هو أن يكون عملكم منبعثًا من المحبة. فأنا أعرف تجارب مماثلة في بلدان أخرى، وهي فضاءات حقيقية للجماعة، مفعمة بالإيمان والرجاء، ولا سيما المحبة التي تبقى الفضيلة العظمى».
وأضاف أنّ «كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء» مدعوّة لأن تسير بشجاعة ونبوية وفرح إلى جانب الحركات الشعبية، إذ إنّ وجه المسيح يتجلى في وجه الفقراء. ولفت البابا لاون الرابع عشر إلى أنّ الفقراء ليسوا على الهامش، بل «هم في صميم رسالة الإنجيل»، مؤكدًا ضرورة أن ترفع الكنيسة الصوت ضد انعدام المساواة، باعتباره «جذر الآفات الاجتماعية».
وأشار إلى أنّ الإقصاء لا يزال، كما في زمن البابا لاون الثالث عشر، الوجه الجديد للظلم الاجتماعي، معربًا عن أسفه إزاء «التعسف المنهجي» الذي يجعل الذكاء الاصطناعي في متناول أيدينا، فيما يعيش الملايين محرومين من أبسط احتياجاتهم الإنسانية الأساسية. وقال: «ببساطة، إنّ سوء الإدارة يُنتج ويزيد من حالات عدم المساواة تحت ذريعة التقدّم. وعندما لا تكون كرامة الإنسان في صميم المنظومة، فإنّ هذه المنظومة تفشل أيضًا في تحقيق العدالة».
وتطرّق البابا إلى عدد من الآفات التي تصيب المجتمع المعاصر، وفي مقدّمتها الأزمة المناخية، معتبرًا إياها المثال الأوضح، إذ إنّ المتضرر الأكبر من الظواهر المناخية القاسية هم الفقراء والدول الأشد ضعفًا. كما أشار إلى وجه آخر من «الوقائع الجديدة» التي تسيء إلى المجتمع، وهو التوق الذي تخلقه شبكات التواصل الاجتماعي لدى الفقراء، الذين يشاهدون فيها تمجيدًا لأساليب حياة مبالغًا فيها وللاستهلاك غير المنضبط.
وفي السياق ذاته، انتقد البابا منصّات المقامرة الرقمية التي تقوم على آليات خفية تهدف إلى خلق تبعية قهرية وسلوكيات إدمانية تُبنى على أحداث خارجة عن إرادة الإنسان. كما ندّد البابا لاون الرابع عشر بما وصفه بـ«عبادة الرفاه الجسدي، أشبه بعبادة الأصنام»، التي تروّج لها بعض شركات الأدوية، حيث يُختزل معنى الألم في شيء «لا إنساني بالكامل». وأشار إلى أنّ هذا النهج يدفع إلى الاعتماد على مسكنات الألم والمخدرات القاتلة، مثل المواد الأفيونية والفنتانيل، ولا سيما في الولايات المتحدة.
ولفت إلى أنّ معدن الكولتان، الذي يُعدّ أساسًا في صناعة الأجهزة التكنولوجية الحديثة، كان سببًا في اندلاع عنف جماعات مسلّحة واستغلال الأطفال في الدول الفقيرة التي يُستخرج منها، ومنها جمهورية الكونغو الديموقراطية. وأضاف: «ويمثّل الليثيوم مثالًا آخر، إذ إنّ التنافس بين القوى الكبرى والشركات العملاقة على استخراجه يشكّل تهديدًا خطيرًا لسيادة الدول الفقيرة واستقرارها».
وفي ختام كلمته، جدّد البابا تأكيد حقّ الدول في حماية حدودها، غير أنّ هذا الحقّ يجب أن يتوازن مع «الواجب الأخلاقي في توفير الملجأ» للمضطهدين والباحثين عن الأمان. وأضاف: «تُعتمد اليوم، بل وتُحتفى سياسيًا، إجراءات تتّسم بقدر متزايد من اللاإنسانية تجاه من يُنظر إليهم كـ’غير مرغوب بهم‘ (أي المهاجرين)، وكأنهم نفايات لا بشر لهم كرامة». وتابع قائلًا: «في المقابل، يدعو الإيمان المسيحي إلى الإله الذي هو محبة، الذي يخلقنا ويدعونا لنحيا كإخوة وأخوات».
وختم البابا لاون الرابع عشر بتقديم الشكر للحركات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني على جهودهم في مواجهة هذه المظاهر اللاإنسانية، واصفًا إيّاهم بأنهم «روّاد الإنسانية، وشهود العدالة، وشعراء التضامن». وقال: «إنّ الكنيسة تدعم نضالاتكم العادلة من أجل الأرض والمنزل والعمل. ومثل سلفي البابا فرنسيس، أعتقد أن السبل الصحيحة تبدأ من الأسفل ومن الضواحي نحو المركز. وبالتالي يمكن أن تتحوّل مبادراتكم العديدة والإبداعية إلى سياسات عامة وحقوق اجتماعية جديدة».