موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
الأب بشير بدر يتحدث عن الإيمان والحياة الأبدية في يوبيل الزواج برعية تلاع العلي

أبونا :

 

احتفلت رعيّة قلب يسوع الأقدس في تلاع العلي، يوم أمس السبت، بيوبيل عدد من العائلات بمناسبة مرور (40، 35، 30، 25، 20، 15، 10، و5 سنوات) على نيلهم سرّ الزواج المقدّس. جاء ذلك خلال القداس الإلهي الذي ترأسه مدير مكتب الزواج وراعوية العائلة الأب بشير بدر، بمشاركة كاهن الرعية الأب رفعت بدر، وبحضور الراهبات وأفراد العائلات المحتفى بها وجموع المؤمنين.

 

وشهدت الذبيحة الإلهية أجواءً روحية مفعمة بالشكر والامتنان لنعمة الزواج والعائلة، حيث تجمّعت العائلات المحتفى بها حول المذبح ورفعت الصلوات من أجل استمرار نعمة السلام والوئام في بيوتها، وأن تبقى شاهدة لحضور الله ومحبّته في وسط العالم.

 

 

عظة القداس

 

وتعليقًا على القراءات المقدسة لهذا الأحد التي تتحدث عن الإيمان بالحياة بعد الموت، ربط الأب بشير بين الإيمان بالقيامة ومناسبة يوبيل الأزواج وحياتهم في الله، مؤكدًا أن هذا الإيمان جزءٌ من هويتنا كبشر، وهو مؤشر على أن الإنسان يحمل في داخله رغبةً في حياةٍ لا تنتهي وجوع للحياة زرعه الله الخالق فينا منذ لحظة الخلق، كوسيلةٍ لتوجيهنا إلى أن نكون يومًا ما واحدًا معه إلى الأبد.

 

وأوضح أنّ السيد المسيح يستجيب اليوم لهذا الجوع، ويعطينا ثلاث رسائل توضح هذا الإيمان أو الجوع إلى الحياة الأبدية:

 

الرسالة الأولى: إنها حياة مختلفة

 

يكشف يسوع للصدوقيين أن الحياة خارج هذه الأرض ستكون حياة مختلفةً. فالخبرات الأرضية لا يمكن ببساطة إسقاطها على السماء. لا يمكن استخدام سيناريوهات الزواج، المُدركة بطرق أرضية، لفهم الحقائق السماوية. يعيش القديسون في السماء فوق التصنيفات الأرضية. وامتنع يسوع عن أن يصوّر بالتفاصيل كيفية الحياة في الآخرة، وعرض تعليمًا مركّزًا على الحياة في الله. وميّز بين ما يعود لهذا العالم وبين ما يعود للعالم الآخر.

 

وبالتالي، النعيم الأبدي ليس مجرد زيادة وإطالة للأفراح الأرضية، أو تعظيم ملذات الجسد والمائدة. الحياة الأخرى هي في الحقيقة حياة أخرى، حياة ذات نوعية مختلفة. صحيح أنها تُشبع أجمل رغبات الإنسان في السعادة والخلود، لكنها أعظم بكثير، وعلى مستوى مختلف. "إن الذين وُجِدوا أهلاً للآخرة والقيامة من بين الأموات، فلا الرجال منهم يتزوجون، ولا النساء يُزوّجنَ... لأنهم أمثال الملائكة" (والملائكة لا جنس لها)". ويجدرُ هنا تفسير كلمات الرب تلك ونقول بأن الزواج حاجة زمنية دنيوية رفعها الدين المسيحي إلى مستوى سرّ مقدس، أي علامة محسوسة لنيل النعمة وأداء الواجب، وذلك في سبيل التحاب والتوافق وإنجاب النسل الصالح. وأما في الآخرة فلن يكون هنالك وجود لحاجات جسدية أو لنشاط جنسي أو لإنجاب، فلا داعي للزواج إذن. ولا يتوهمّن أحدٌ أن الحياة في الآخرة شقية بسبب نهاية الوظائف والحاجات الجسدية الحسيّة. فالإنسان في أسمى عناصره هو وجدان وروح. وها هو الروح يأتي "ليُبشّر الجسد" على رأي بول كلوديل.

الرسالة الثانية: حياة مختلفة ولكن العلاقة مستمرة

 

رسالة يسوع هي أن الحياة بعد الموت مبنية على طبيعة الله، المحبة النقية. والحياة التي منحنا الله إياها ليست نفخة فقاعات في الهواء تختفي بعد حين. لا، فحياة الله فينا ستستمر حتى بعد انتهاء هذا الوجود البشري المؤقت والمحدود. ومحبة الله لنا مطلقة وكاملة، وبفضل هذه المحبة، وبفضل من هو الله، نحن على يقين بأن علاقتنا به وببعضنا ستستمر بعد الموت.

 

يُعلّمنا إيماننا بأن الإنسان سيقوم بكل كيانه. لذلك هنالك استمرارية لحقيقة الرابط الروحي المقدس يستحيل نكرانها بين الرجل والمرأة التاريخيين اللذين عاشا واشتغلا وتعبا وأحبا وأنجبا وربيا وعلّما و.. و.. وماتا وهما يقبلان الصليب أو يتلوان السبحة الوردية. ولكن في نفس الوقت، يقول إيماننا بأن تلك الاستمرارية في سر الحياة للإنسان، لا تعني التساوي في شكل الحياة. ويؤكّد ذلك ما وجِد مكتوبًا في قبور المسيحيين الأوائل: "الحياة لا تُنتزَع، الحياة تتغيّر".

 

فهل يُعقل أن لا يجمع بين زوج وزوجة، بعد حياة جمعتهما في علاقة مع الله من خلال معجزة الخلق، في الحياة الأبدية شيء آخر، وكأن الجميع قد نُسيوا وضاعوا؟ ألا يتعارض هذا مع قول يسوع إن ما جمعه الله لا يُفرّق؟ إذا كان الله قد جمعهما على الأرض، فكيف يفرّقهما أو يفصلهما في السماء؟ إن الكتاب المقدس نفسه، وليس فقط الرغبة الفطرية للزوجين، هو ما يدعم هذا الأمل وهذا الرجاء. يقول الكتاب المقدس إن الزواج "سر عظيم" لأنه يرمز إلى الاتحاد بين المسيح والكنيسة (أفسس ٥: ٣٢). هل من الممكن أن يُزال هذا في أورشليم السماوية، حيث يُحتفل بعرس المسيح الأبدي والكنيسة التي يُجسّد زواج الرجل والمرأة صورتها؟

 

ولكن ماذا عن أولئك الذين مرّوا بتجربة سلبية وصعبة وفاشلة في الزواج الأرضي، تجربة سوء فهم ومعاناة؟ نقول: في الانتقال من الزمن إلى الأبد، يبقى الخير ويزول الشر. الحب الذي جمعهم، ربما لفترة وجيزة فقط، يبقى؛ ستزول العيوب وسوء الفهم والمعاناة التي سببها كل منهما للآخر. لن يختبر الكثير من الأزواج الحب الحقيقي إلا عندما يجتمعون "في الله"، ومع هذا الحب سيغمرهم فرح واكتمال الاتحاد الذي لم يعرفوه على الأرض. وهذا ما كتبه الشاعر الألماني غوته عن الحب بين فاوست ومارغريت في روايته: "فقط في السماء، سيتحقق ما لا يُدرك - أي الاتحاد الكامل والسلمي بين مخلوقين يحبان بعضهما البعض". في الله، سيُفهَم الجميع، وسيُغفَر لهم.

الرسالة الثالثة: طاقة عيش الحاضر

 

السمة المميزة للإيمان المسيحي هي الإيمان بالقيامة: قيامة الرب وقيامتنا للحياة بعد الموت. ونعلن هذا الإيمان كل أحد. ونختم قانون الإيمان بإعلان الإيمان بقيامة الأموات وحياة العالم الآخر. ولكن وللأسف، يبدو وكأن إعصارًا ضرب الإيمان بالحياة بعد الموت لدى الإنسان المعاصر.

 

فهناك كثير من المؤمنين اليوم الذين يَعتقدون أنه لكي يَكُونوا مسيحيين "مودرن –Modern " عليهم أن يرموا إيمانهم بالحقائق والكائنات الروحية والقيامة بعد الموت. يكاد الناس والوعاظ يخشون أو يخجلون الحديث عنه متأثرين بأفكار بعض فلسفات الشك والإيدولوجيات العدمية الوجودية والأخلاقية من أسياد الشك: فيورباخ وماركس ونيتشه وفرويد وسارتر وغيرهم. وأعتقد بإنه إن كان هناك إيمان واحد يَحتاجُه رجال ونِساء عالمِنا اليوم، فهو الإيمان بالقيامة. لِماذا؟ لأنه الدواءُ الفعّالُ –الترياق- الأكثر فاعلية للهروب من القبضة الخانقة للروح المادية في حياتِنا وفي بيوتنا وعالمنا.

 

ربما حان الوقت لسحب الشعلة من تحت المكيال والإعلان بقوة عن حقيقة "الحياة الأبدية". على متن سفينة كولومبوس سانتا ماريا، وهي تبحر نحو العالم الجديد، عندما فُقد كل أمل في الوصول إلى أي وجهة وساد جو من التمرد في الهواء، سُمع فجأة في صباح أحد الأيام صرخة من برج المراقبة غيّرت كل شيء: "أرض، أرض!". فإذا أردنا ألا نغرق في استسلامٍ مُميت، فعلينا نحن أيضًا أن نُنصت إلى صرخة قرارات هذا الأحد؛ ليس "أرض، أرض!"، بل "سماء، سماء!".

 

دعونا نشكر الرب اليوم على رسالة الأمل والرجاء لأنه كَشف لنا سرّ القيامة والحياة. ولنجدّد إيماننا في حياةِ الدهر الآتي. فالكنز الأثمَن ليس الحياة التي نعيشها هنا، بل تلك التي ننتظرها. وإن كنا لا نعرف بالضبط كيف ستكون، فلا ننسى بأننا نتكلّم عن: "ما لم تره عين ولا سمعت به أُذن ولا خَطَر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يُحبونه" (1قور 2: 9). فيا لها من مفاجأة.

 

ويوبيلاً مباركًا