موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الخامس (ج)
مُقدّمة
في مقالنا الإسبوعي هذا من الزمن العادي، تقدم لنا الليتورجيّة نصيّن متوازيّين بين العهد الأوّل من خلال القراءة الأوّلى والمأخوذة من نبؤة ارميا (17: 5-8) والّتي تهدف إلى المقارنة التي أجراها الشاب ارميا بين طريقيّن، حيث يشير في الطريق الأوّل إلى الإنسان الّذي يثق في إخيه الإنسان ويثق أيضًا في الرّبّ كمرحلة أوّلى.
أما كمرحلة ثانيّة سيساعدنا هذا المقطع في إرشادنا لتفسير النص الإنجيليّ بالعهد الثاني، حيث نستمر في قراءة الإنجيل بحسب لوقا وسيسمح لنا بقراءة التطويبات والويلات الّتي نجدها في بداية سفر ارميا من منظور الطريقين الّذي سيعرضه بشكل آخر لوقا في خطاب يسوع التعليميّ كمرحلة هامة من لّاهوته بعمله الأوّل وهو الإنجيل، بخلاف ما يستمر فيه بسفر الأعمال لاحقًا.
الجزء الأول من الخطاب حول الخطّة اللّاهوتية بحسب فكر لوقا الإنجيليّ، والتي تتألف من التطويبات والويلات (لو 6: 17. 20-26). سواء رسالة النبي ارميا أو كلمات يسوع بحسب لوقا تكشف عن الجديد بالمقارنة بين مَن يثق بالرّبّ أو يقتصر على ثقته بالإنسان، وهو ذات المصير بحسب مَن سيُطوب أو ينال الويلات.
1. النمو في منطق الله (ار 17: 5-8)
في المقطع الّذي نقرأه من نبؤة ارميا، وهو أحد الأنبياء الكبار، والّذي تنبأ بمملكة الجنوب أي مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم. كشف النبي الشاب عن التباين بين الإنسان الّذي يثق في إنسان آخر وبين الإنسان الّذي يثق في الرّبّ. من وجهة نظر النبي الشاب هناك طريقتان لتحديد حياة الإنسان حيث أن الطّريقة الأوّلى تؤدي إلى العقم، والثانية إلى الخصوبة والحياة.
عن طريقة الحياة الأوّلى يأتينا قول النبي عن الإنسان الّذي يثق في شخص آخر فيقول: «هكذا قالَ الرَّبّ: مَلْعونٌ الإنسان الَّذي يَتَّكِلُ على البَشَر ويَجعَلُ مِنَ اللَّحمِ ذراعاً لَه وقَلبُه يَنصَرِفُ عنِ الرَّبّ فيَكونُ كالعَرعَرِ في البادِيَة فلا يَرى الخَيرَ إِذا أَقبَل بل يَسكُنُ الرَّمْضاءَ في البَرِّيَّة الأَرضَ المَالِحَةَ الَّتي لا ساكِنَ فيها» (ار 17: 5- 6). يُلقب الإنسان، بحسب ارميا، الّذي يثق في الإنسان "ملعونًا"، أي إنّه يتسم بالموت والعقم. في النص العبريّ يستخدم النبي مصطلحين مختلفين للإشارة إلى هذا إنسان الأوّل هي haggeber مما تعني الإنسان القوي والشجاع والمحارب. وللإشارة إلى الإنسان الّذي يثق في إنسان آخر. والثاني يستخدم فيه مصطلح "آدم" وهو مصطلح يشير إلى البُعد الأرضي والهش للإنسان. ولذلك يمكننا أنّ نترجم هذه العبارة باسلوب بسيط كالتالي: "الإنسان سيء الحظ هو القوي الّذي يثق في الإنسان الضعيف". ويمكننا أنّ نترجم ايضًا بمعنى آخر: "ملعون أو تعيس هو الإنسان الّذي يعتمد فقط على نفسه، على حدود حالته، على الأفق الضيق لحدوده". مُقدر لهذا الإنسان حياة عقيمة. لكن هذا التعبير قد يعني أيضًا أنّ الإنسان التعيس هو الّذي يتوقع خلاصه من أُناس الضعفاء الـمخلوقيّن من تراب الأرض. الإنسان القوي في نفسه هو الجبار إذ يصبح ضعيفًا عندما يعتبر نفسه مكتفيًا بذاته، عندما يركز كليًا على نفسه، عندما يظن إنّه يستطيع خلاص نفسه بمفرده أو يعتمد على أُناس آخرين.
ثم يصف النبي، هذا الواقع نفسه أيضًا بالتعبير "صنع الجسد قوة ذراع". يشير مصطلح "الجسد" في الكتاب المقدس إلى الإنسان من وجهة نظر زواله ومحدوديته. هذا الإنسان، كما يقول ارميا، عندما يأتي الخير أي "توف" من العبري، لا يراه ولا يلاحظه. ونستطيع أنّ نصفه أيضًا بقول: "لا يلاحظ عندما يبني الله الخير حوله مجانًا". إنّه منشغل جدًا بالسعي إلى تحقيق الخير لنفسه بقوته الخاصة فقط، لدرجة إنّه عندما يُعطى له الخير، فإنه لا يراه. مما يعني بإنّ عدم القدرة على رؤية الخير هو لعنة. مدعوين أنّ نفتح عيوننا وقلوبنا على الخير الّذي حولنا دون أن نتعامى عنه أو نجهله.
أما عن طريقة الحياة الثانية يأتينا قول النبي بإنّ هذه الطريقة الّتي يصفها ارميا تختلف تمامًا عن الأوّلى، حيث يقول النبي: «مبارَكٌ الإنسان الَّذي يَتَّكِلُ على الرَّبّ ويَكونُ الرَّبّ مُعتَمَدَه. فيَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغْروسَةِ على المِياه تُرسِلُ أُصولَها إِلى مَجْرى النَّهْر فلا تَخافُ الحرَ إِذا أَقبَل بل يَبْقى وَرَقُها أَخضَر وفي سَنَةِ الجَفافِ لا خَوفَ علَيها ولا تَكُفُّ عن إِعْطاءِ الثَّمَر» (ار 17: 7- 8). "مبارك - طوبى" للإنسان الّذي "يثق" بالرّبّ، ويضع ثقته فيه. فبهذا المشهد يدخل الرّبّ إلى باطن الإنسان، ويكسر الدائرة المفرغة الّتي تنشأ عندما يتم لعب كل شيء في الأفق البشري، فالإنسان هو الّذي يأخذ في الإعتبار الإنسان الآخر في حياته. في حين أنّ الإنسان المنغلق على نفسه لا يلاحظ الخير، فإنّ الإنسان الّذي يثق في الرّبّ لا يلاحظ الشر الّذي يمكن أنّ يهدد وجوده، فهو مثل شجرة مزروعة على ضفاف مجاري المياه، لها جذورها دائمًا في مصدر الماء. الحياة لا تلاحظ الحرارة والجفاف. كل ما عليك فعله هو الذهاب إلى عمق الصحراء قليلاً لترى قوة هذه الصورة. تتعرض النباتات البعيدة عن مجاري المياه في الصحراء للإحتراق بسرعة عندما ينتهي موسم الأمطار؛ من ناحية أخرى، فإنّ الشجرة المزروعة على ضفاف مجاري المياه، سواء على السطح أو تحت الأرض، لا تفقد أوراقها أبدًا، ولا تتوقف أبدًا عن حمل ثمار وفيرة. حياة لا تنغلق على ذاتها، بل تعرف كيف تثق، وتثمر ولا تخاف الشر، تلاحظ الخير وليس الشر. إنّ البركة والطوبى تتمثل في معرفة كيفية ملاحظة الخير. لا يمس حياة الّذين يثقون في الرّبّ إلا الخير، أما الشرّ فيمر ولا حول له ولا قوة. المزمور الأول، وهو المزمور الإستجابي، يقول الشيء نفسه عن مَن يسير في شريعة الرّبّ. إنّ طريقه وحده هو المعروف عند الرّبّ، وليس طريق الأشرار.
2. إظهار خطة الله (لو 6: 17)
على هذا المنوال يروي كاتب الإنجيل الثالث واضعًا أمامنا، في المشهد الأوّل، جمعًا كثيرًا يذهب إلى يسوع للإستماع إليه لينال الشفاء. هذان هما السببان اللذان من أجلهما يذهب الناس إلى يسوع. تتركز رسالة يسوع والّتي تتم من خلال الإيماءات والكلمات. وهكذا يتجلى الرّبّ في العهد القديم عندما يقترب من شعبه ليعطيهم الخلاص والشريعة. ولكن ربما يكون هذان الواقعان في النهاية واحداً: فالكلمات والإيماءات، بهذا الحدث الإنجيلي، تتحدث عن واقع واحد يعلنه يسوع، وجه واحد لله. ففي يسوع يكمل الله خطته بالتحدث وتسليم ذاته بالكامل للبشرية. يعطي الله ذاته، في يسوع، بقوله نفسه وبإعطائه ذاته هذا سيكون معنى كلمة يسوع العليا والنهائية، القيامة. وعلى خلفية هذا الجمع الّذي ذهب إلى يسوع ليستمع إلى كلمته ويشفى من أمراضه، بدأ الإنجيلي الإفتتاح لخطته المذكورة في الإنجيل بحسب لوقا قائلا: «ثُمَّ نَزَلَ [يسوع] معَهم [الجموع] فوَقَفَ في مَكانٍ مُنْبَسِط، وهُناكَ جَمعٌ كَثيرٌ مِن تَلاميذهِ، وحَشْدٌ كَبيرٌ مِنَ الشَّعْب مِن جَميعِ اليَهودَّية وأُورَشَليم، وساحِلِ صورَ وصَيْدا، ولَقَد جاؤوا لِيَسمَعوهُ ويُبرَأُوا مِن أمراضِهِم. وكانَ الّذينَ تَخبِطُهُمُ الأَرواحُ الَّنجِسَةُ يُشفَون، وكانَ الجَمعُ كُلُّه يُحاوِلُ أَن يَلمِسَه، لأَنَّ قُوَّةً كَاَنت تَخرُجُ مِنهُ فتُبرِئُهُم جَميعاً» (لو 6: 17- 19). في المرحلة الأوّلى، قد تناول يسوع هذا الخطاب عند سفح الجبل، الجميع موجودون، لا أحد مستثنى من لقاء الرّبّ الاثنى عشر والتلاميذ بشكل عام، والحشود الّتي ذهبت إلى يسوع لكي يلمسوه.
3. لـمَن التطويبات والويلات؟ (لو 6: 20-26)
قبل أنّ نسأل أنفسنا عن معنى التطويبات والويلات بحسب لوقا يجب أنّ نسأل أنفسنا لـمَن هي؟ يحدد الإنجيلي لـمَن توجه كلمات يسوع على وجه الخصوص. ويتحدث عن نظرة ألقاها يسوع على تلاميذه قبل أنّ يبدأ حديثه قائلاً: «وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه» (لو 6: 20). وهذه الكلمات ليست موجهة في المقام الأوّل إلى الجموع، بل تدخل في منطق يسوع الموجهة نحو تلاميذه إذ قال: «طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله. طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون. طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان. اِفرَحوا في ذلك اليَومِ واهتُّزوا طَرَباً، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء» (لو 6: 20- 23). يمكننا أنّ نؤكد أنّ التطويّبات هي كلمات مُوجهة إلينا نحن الّذين نتبع يسوع كتلاميذه بالفعل، والّذين يجب علينا أنّ ننظر إلى الأشياء والعالم بعيون الله، وأنّ ندخل في نفس فكر ومنطق يسوع. النظر بعيون الله إلى الفقراء والجياع والمضطهدين والمتألمين منا، يساعد بتغيّير نظرنا الداخلي من خلال الكشف الّذي يقدمه يسوع من خلال إعلانه التطويبات. نعم إنّ التطويبات هي إعلان عن نعمة الإنسان الّذي يكون في وضع يسمح له بــ "ملاحظة" الخير الّذي يُعرض عليه مجانًا على الفقراء، والجوعى، والمضطهدين، هؤلاء الفئات، الّذين يبدو إنّهم ضعفاء، ظاهريًا، وفقًا للمنطق البشري، إلّا إنهم أقوياء بحسب منطق يسوع بحسب إنجيل لوقا. هذه الفئات المختلفة بسبب حالتهم يختبرون أنّ الإنسان لا يُخلص نفسه وحده، بل يجب أنّ ينتظر بحرية الخلاص الّذي يُعطى له. وهذه سيفتحنا على طّريق الثقة بالله الّذي نسمع صوت الرّبّ بالتطويبات الإلهية..
4. طّريق الثقة (لو 6: 24- 26)
التطويبات هي بخلاف الويلات الّتي تعلن العكس تمامًا على لسان يسوع القائل: «لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ اباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين» (لو 6: 24- 26). خلّاصة الويلّات تكشف عن أنّ مَن يسعد بحياته بعيداً عن الرّبّ فقد يختار لنفسه نهايّة بعيدة عنه وهي أنّ يعيش بعيداً دون أنّ يتمتع بحضوره الساميّ بحياته.
الخلّاصة
في ختام مقالنا هذا ومن خلال الطريقان الّذي قد يتبعهما الإنسان الّذي قدمهما لنا ارميا (17: 5- 8) في قراءتنا لنص العهد الأوّل، الّذين يثق أحداهما في الإنسان الآخر والإنسان الّذي يثق في الرّبّ. والّتي بحثنا في قرائتها بتوازي مع النص بحسب إنجيل لوقا. كما نوهنا بأنّ نص لوقا، الّذي بني على لفظين متناقضين وهما الـ "طوبى" والـ "ويل"، يحدثنا أيضًا عن نفس الحقيقة، منطقان متعارضان للحياة، أحدهما هو الحياة، والآخر هو الموت. وحتى "المشاكل" الّتي ننظر إليها من هذا المنظور ليست تهديدات، بل ملاحظات. إنها الملاحظة الّتي مفادها إنّ الإنسان الـمُنغلق على نفسه مُقدر له ألّا يلاحظ الخير ويسير نحو الموت. ولهذا السبب فإن التطويبات ليست وصايا، وليست قائمة من الأشياء الّتي يجب على الإنسان أنّ يتممها لينال الخلاص. التطويبات هي إعلان وإنجيل للنساء وللرجال بكل!ّ العصور الّذين يُدعون "مباركين-مُطوبين" ليس غدًا، بل اليّوم وهنا. وبطبيعة الحال، فإن المكافأة مبينة في المستقبل وهي أنّ يرث الأرض، أنّ يرضى، أنّ يضحك؛ لكن حالة النعيم هي لليّوم، لأنّهم مثل الأشجار الّتي تُدفن جذورها على مجاري المياه، لا يلاحظون متى يأتي الشر وطريقهم معروف من الله. دُمتم في نمو في طريق الثقة بالله والتخلي عن الثقة فقط بالإنسان.