موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٦ مارس / آذار ٢٠٢٥

"إيماننا بالرّبّ أم إيمانُ الرّبّ بنا؟" بين كاتبي سفر التثنيّة والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 26: 4- 10؛ لو 4: 1- 13)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 26: 4- 10؛ لو 4: 1- 13)

 

الأحدُ الأوّل من الزّمن الأربعينيّ (ج)

 

مُقدّمة 

 

يأتي لفظ "الإيمان"، من جذور اللغة العبريّة، من خلال معنيّين من أصل الكلمة وهما "الأمان" و"الأمن". إنّ مسيرتنا الروحيّة في الزّمن الأربعينيّ الّتي تتمحور حول الإصغاء للكلمة والتركيز على أفعال الله الـملموسة بحياتنا العمليّة. يدعونا هذا التركيز إلى الإصغاء فهو الّذي يساعدنا على إيجاد مكان لله بحياتنا بل يُنعش إيماننا به ويجعلنا نستعيد إعلان إيماننا ويعطي معنى جديد لحياتنا الّتي يمنحنا إياها دائمًا والّتي سيعلنها الله بشكل أبديّ في ليلة قيامة ابنه الـمجيدة.

 

نجد منذ بداية مسيرتنا الزمن الأربعينيّ هذا العام 2025، الّذي نحياه ككنيسة، يوبيل الرجاء، رسالة جوهريّة وهي إعلان عن الإيمان الّذي يكشفه الله لنا بالأحرى يفاجئنا الرّبّ بالكشف عن إيمانه بيّ وبك من خلال كلماته الّتي يضعها الله على شفاه شعبه بالماضي ويختارنا نحن الضعفاء ليضعها على شفاهنا اليّوم لنتقوى به. فيكون هدف مقالنا هو أنّ ندرك أنّ مصدر إيماننا بالله ينبع من إيمانه بنا، حتى نتمكن من التعبير عن إيماننا به وعلاقتنا بإلهنا.

 

سنُناقش في هذا المقال، بالعهدّ الأوّل، نص سفر التثنيّة بالعهد الأوّل (26: 4-10) الّذي نسمع فيه كلمات الله كبرنامج روحيّ يساعدنا على توطيد ثقتنا بالله في أوقات الهشاشة الإيمانيّة. ومن العهدّ الثاني سنتعمق بالتوازي في النص اللُوقاوي (4: 1- 13)، ولكن ليس ككلّ عام لن نقرأه كنص تجارب الإبن بقدر ما يعلمنا الابن كيف لنا نصرخ بكلمة الله في التجربة فتهرب، لأنّ الإيمان والإصغاء ليس بالأحداث الّتي نحياها بل بإيماننا بالرّبّ الّذي يسود بكلمته على كلّ حياتنا بما فيها التحديات اليوميّة. يسوع الابن، هو النموذج الّذي يجعل من حياته مثل لنا في إيمانه بالله الآب الّذي يكشف لنا عنه، فيقوي إيماننا بالآب.

 

 

1.   قانون الإيمان الصغير (تث 26: 4-10) 

 

النص بالعهد الأوّل وهو من سفر التثنية والّذي نطلق عليه في لّاهوت الكتاب المقدس اسم قانون الإيمان الصغير. قد نعتقد إنه مختلف جدًا عن فكرنا الإيماني اليّوم، ولكن من خلال هذا النص الكتابيّ يمكننا أيضًا أنّ نعطي معنى أعمق لإعترافنا بإيماننا بالرّبّ ونتأمل عظمة إيمان الرّبّ بنا الغافر هشاشة إيماننا. يعلن الكتاب المقدّس عن هبة الإيمان من خلال الأحداث الـمُعاشة، إنّ إله الكتاب المقدس هو إلهنا الّذي يكشف عن ذاته في التاريخ. بهذا النص والّذي ينقسم إلى أربع مراحل لّاهوتيّة يمكننا أنّ ندرك في كلّ مرحلة تجربة إيمانية حقيقية تتم بقيادة الرّبّ:

 

1.1 النمو: الـمرحلة الأولى (تث 26: 5- 6)

 

نص سفر التثنيّة يحمل رواية خاصة وأبطالها هم الأنا أو الأنت على الصعيد الفرديّ، من جانب؛ والنحن على الصعيد الجماعيّ، لأنّ الإيمان لا يمكن أنّ يكون فرديًا. يروي النص رواية إنسانية تُشبه رواياتنا التاريخيّة بكل العصور. فهناك بني إسرائيل وهم يمثلون جماعة صغيرة من الناس الّذين يذهبون كـلاجئين إلى بلد أجنبي وهو مصر. وهناك يكتسبون السلطة والثروة والأهميّة مما نكتشف نمو تعدادهم السكانيّ. يتمحور السبب في النمو العدديّ لهذا الشعب مما يجعلهم عُرضة للإضطهاد والقمع. من خلال الشرّ الـمُتجسد في العنف الّذي مارسه فرعون مصر، في هذا الوقت، إذا نظرنا إلى تاريخ البشرية، نجد الرواية تعيد ذاتها وهي تروي حياة بعض الشعوب الـمُهجرة اليّوم. وهنا تكمن الـمرحلة الأولى في سرد الروايّة والحالة الإنسانية كما نقدم رواية بني إسرائيل بغناها وبدرامتها: «إِنَّ أَبي كانَ آراميُّا تائِهًا، فنَزَلَ إلى مِصرَ وأَقامَ هُناكَ مع رِجالٍ قَلائِل، فصارَ هُناكَ أُمَّةً عَظيمة قَوِّيةً كَثيرة. فأَساءَ إِلَينا الـمِصرِيونَ وأَذلُونا وفَرَضوا عَلَينا عَمَلاً شاقًّا» (تث 26: 5- 6).

 

2.1 صرخة الصّلاة: المرحلة الثانية (تث 26: 7)

 

يعلن الرّبّ في كلماته لموسى: «فصَرَخْنا إِلى الرَّبِّ إِلهِ آبائِنا، فسَمِعَ الرَّبُّ صَوتَنا ورأَى ذُلَّنا وعَناءَنا وظُلْمَنا» (تث 26: 7).إنّها تكشف صراخ الـمُتألم الّذي ترتفع إلى السماء وتنادي بالخلاص والنجدة. نحن عادة ما ندرج فقط الحقائق لنؤمن بها في إعلان إيماننا، في حين أنّ الكتب المقدّسة تتضمن كلمات وتعبيرات وأفعال تشير للصّلاة. صّلاتنا، بهذا الزّمن الأربعينيّ، هي جزء حيّ من إعلان إيماننا بالله. بالنسبة للإنسان الكتابي فإن إعلان إيمانه بالرّبّ يعني سرد ​​علاقته بإلهه. إنّ الصّلاة هي مركز حركة الإيمان. فالصّلاة هي تلك التجربة الّتي تجعلنا ننتقل من النظرة الإنسانية بالتاريخ إلى التاريخ ذاته الّذي نراه من خلال عيون الله. الصّلاة هي بمثابة نظرة سريعة على رواية تدخلات الله في روايتنا. هذا هو وميض الرجاء الّذي يُحول تاريخنا الـمُضطرب ليعلن رواية خلاص الرّبّ.

 

3.1 التدّخل الإلهي: المرحلة الثالثة (تث 26: 8- 9)

 

تشير المرحلة الثالثة إلى سرد عمل الله الخلاصيّ بإعترافه بنا كشعب له بتدخلاته القوية: «فأَخرَجَنا الرَّبُّ مِن مِصرَ بيَدٍ قَوِّيةٍ وذِراعٍ مَبْسوطةٍ وخَوفٍ عَظيم وآياتٍ وخَوارِق. وأَوصَلَنا إِلى هذا المكانِ وأَعْطانا هذه الأَرضَ، أَرضًا تَدُرُّ لَبَنًا حَليبًا وعَسَلاً» (تث 26: 8- 9). الرّبّ يسمع ويرى؛ يعمل ويحارب؛ يقود ويعطي؛ هذه كلها أفعال تميز عمل الله، فهو يعتني بنا ويهتم بأنّ يقودنا إلى أرض تفيض لبنًا وعسلاً. كما حدث بالماضي، يتمّ بحاضرنا، فهذه التدخلات الإلهيّة ما هي إلّا تعبير حيّ عن إيمان الله بنا فهو بسموه وإلوهيته يستمر في الإنتماء لنا كإلهنا بل يعمل بقوة ليحررنا من كلّ شرّ. يشير إيماننا إلى أنّ هذا التدخل الإلهي والخلاصي يستمر في حياتنا اليّوم.

 

4.1 الشكر: المرحلة الرابعة (تث 26: 10)

 

وأخيراً المرحلة الرابعة، العرفان بالجميل، إذ إعترافنا الإيماني بالرّبّ بعد إعترافه بنا كأبناء بشكره: «والآن هاءَنَذا آتٍ بِبَواكيرِ ثَمَرِ الأَرضِ الَّتي أَعْطَيتَي إِيَّاها يا ربّ» (تث 26: 10). ننتقل من الماضي إلى الحاضر، وهو حاضر كلّ منا وكلّ الأجيال. إنطلاقا من رواية بني إسرائيل الّتي تكشف عن روايتنا، نكتشف إنّ مّن يعلن إيمانه يستطيع أنّ يقدم عطيته لله بل يكتشف إيمان الله به. لكن ندرك في نعمه الّتي نتلقاها يوميًا، أي ثمار الأرض، تاريخ إيمان وخلاص الله بنا ولنا الّذي يستمر ويمتد ليلمس كلّ إنسان. الشكر هو تذكر عطايا الله العظيمة الّتي منحها لآبائنا بالماضي والّتي تستمر بحاضرنا. الشكر هو إعتراف منا بالنِعَمْ العجائبية واليوميّة بحياتنا، فهي ليست أمراً مُسلمًا به. مدعويّن للإعتراف بالنعمة الإلهيّة الّتي أُعطيّت ولازال يعطي وثقتنا بأنّه ستعطينا يّد الله أبينا بشكل مجاني. هذا ما سنراه بشكل عمليّ في حياة يسوع الّذي عُرض للتجربة من قبل عدو الخير إلّأ إنّه صارعه بأسلحة أبديّة.

 

 

2. أمانة يسوع (لو 4: 1-13)

 

بناء على مسيرة الإيمان الروحيّة الّتي تلمسناها في حياة بني إسرائيل وحياتنا، نحن مدعوون لنكتشف إيمان يسوع الإبن الّذي حمل راية جديدة وهي "كلمة الله الآب" بحياته وبمحاربته تجارب العدو من خلال. يُشّدد لوقا على حزم يسوع الصائم في البرّيّة وقهره للعدو، فيقويّه الرّوح لمدة أربعين يومًا مؤكداً بأنّ يسوع: «لَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام» (لو 4: 2). الصوم، هو أحد الأسلحة الروحيّة بالزّمن الأربعينيّ، حيث يمنحنا حريّة باطنيّة كبرى ويجعل من إيماننا بالله مصدر للقائه وسبب حقيقي للتمتع بحياة القائم هنا ومستقبلاً.

 

1.2 إيمان يسوع الأوّل (لو 4: 4)

 

نجد وصف لوقا الدقيق لمواجهة يسوع التحديات الشيطانيّة حينما: «أَحَسَّ [يسوع] بِالجوع [...] فقالَ له إِبليس» (لو 4: 2- 3أ). تلمس التجرّبة طبيعة يسوع البشريّة أمام غريزة الجوع، إلّا أنّ إجابة يسوع القويّة تكشف عن  مدى أمانته لقول الله بالعهد الأوّل: «مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله» (لو 4: 4؛ راج تث 8: 3). وهذا السلاح الأوّل يشير لإستمراريّة إيمان الله الآب من الماضي وحتى زّمن يسوع الابن، ويؤكد إيماننا في كلمته وبإنّه بحاضرنا.

 

2.2 إيمان يسوع الثاني (لو 4: 8)

 

يأتي إعلان يسوع بإيمانه بالرّبّ من خلال تاكيده على قول: «مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد» (لو 4: 8؛ خر 20: 5 ؛ راج تث 6: 13). إتمام السجود والعبادة فقط لله الحقيقي وليس للإله الزائف الّذي يخدع العدو به إيماننا. يكشف يسوع إيمانه بالله الآب مُعلنًا أمانته في سجوده للرّبّ الإله فقط لا غير. يحمل ردّ فعل يسوع تحذير قوي يُنبهنا لئلا نقع في فخاخ العدو الخبيث.

 

3.2 إيمان يسوع الثالث (لو 4: 11)

 

«مكتوبٌ أَيضًا: على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ [...] لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرّبّ إِلـهَكَ» (لو 4: 10- 11؛ راج تث 6: 16). رفض يسوع القاطع أنّ يضع الله الآب في موضع تجرّبة، ضعنا لله في موضع تجربة يكشف عن عدم إيماننا به بل تبادلنا الأدوار فهذا لا يفعله من يؤمن به، وإلّا يصير مُجربًا للرّبّ الإله. مدعويّن للتنبه وإعلان الرفض لعدو الله ورّوحه الشريرة عن أفكارنا فهي من التحديات القويّة الّتي تعوق حياتنا إذ يسيطر بفكرة أو بإحساس سلبي بمشاعر القلب فيسلب منا كلّ ما زرعه الرّبّ فينا من إمن وأمان وإيمان بنا كأبناء له.

 

 

3. إيماننا بالرّبّ أم إيمانُ الرّبّ بنا؟ (تث 26: 4- 10؛ لو 4: 1-13)

 

يختتم لوقا الإنجيلي هذا المقطع ليس فقط بتأكيده بإنتصار يسوع الحاسم والإبدي بل المؤقت قائلاً: «فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت» (لو 4: 13). سيعود إبليس ثانيّة في تجربته الصارمة، على الصليب (راج لو 23: 44-46)، فهي التجربة الّتي لأجلها تجسد يسوع وسيثبت أمانته لله وللبشريّة مُعلنًا خلاصه وإنتصاره الأبديّ على الشرّ والشرير والمرض والموت والخطيئة بقيامته.

 

يكشف لنا لوقا الإنجيلي، بنوع خاص بين الإزائيين وجه يسوع الّذي دامت تجربته في فترة حياته، ما بين المعموديّة (را. لو 4) وحتي الصّليب (را. لو 23). بخلاف مرقس الّذي رأي في يسوع صورة آدم الجديد ومتّى الّذي كشف عن يسوع كوجه لإسرائيل الجديد. إذن، حياة يسوع هي حياة مُعطاة بين هاتين التجربتيّن، إلّا أنّ يسوع الـمُنتصر سيرفعنا بقيامته.

 

 

الخلّاصة

 

في هذا الزّمن الأربعينيّ، وانطلاقًا من هذه المرحلة الأولى بمسيرة الرّوحيّة بهذا الزّمن، مدعوون لنعترف بإيماننا من خلال سرد رواية خلاصنا أمام الله، للتأكيد على علاقة لا تتزعزع لأنّها لا تقوم على موافقتنا العقلانية، بل على أمانة الله التي لا تفشل أبدًا. فقد تتبعنا سواء بالعهد الأوّل (تث 26: 4-10) الّذي رأينا خطوات تحمل لنا نّور الإيمان الجديدة الّتي تجلّت في إيمان الله بنا وأظهرت لنا كيف يمكننا إعلان إيماننا به. هكذا بالعهد الثاني، في رواية تجارب يسوع بحسب لوقا (4: 1- 13) تعمقنا في يسوع الإبن الّذي أكدّ بأمانته وبإيمانه وبأمانه في الله الآب فقط.

 

إنّنا مدعوون على مثال يسوع أنّ نطلب نعمة الله بأنّ يصير هو مصدر إيماننا وأماننا وأمننا. ففي هذا الزّمن الأربعينيّ، مدعوون أيضًا للعمل من خلال وميض الصّلاة، على إدخال رواية الله في تاريخنا وتاريخ بشريتنا. سيكون إيمانه بنا مُميّزًا بنهاية هذا الزّمن الأربعينيّ، خاصة لليلة القيامة العظيمة. حيث يستطيع كلّاً منا، أنّ يعلن إيمانه الخاص من خلال رواية أمانة الله وكيف تجلت رسالته الخلاصيّة في حياتنا ليقودنا إلى قيامة إبنه فينا وهي بمثابة الأرض الجديدة الّتي تفيض لبنًا وعسلاً في الأبديّة.

 

دُمنا في نمو إيماننا بالله وتلّمس إيمانه بنا.