موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثامن (ج)
مُقدّمة
معيار قلب وفكر الإنسان؟ هو العنوان الّذي أعطيناه لـمقالنا لهذا الأ سبوع الثامن. حيث سنتعمق في قراءتنا الأولى، بالعهد الأوّل، من الكتب الحكميّة بسفر سيراخ (27: 5-8) إذ يتناول الكاتب إستعارتين وهما آنية الخزاف والحقل الـمزروعة ليعلن جوهر سرّ الله فيما يفيضا بباطنهما، إشارة لكنز قلب الإنسان النابع في فكره. بناء على كلمات الحكيم سنتمكن أيضًا من قراءة النص الإنجيليّ من هذا المنظور، حيث ستقودنا رسالته لفهم آيات العهد الثاني، حيث إننا لانزال في سيّاق حديثنا عن الخطة الإلهيّة بحسب إنجيل لوقا (6: 39-45)، مما يُساعدنا في تفسير كلمات الإنسان الخارجيّة وتعتمد على باطنه. نهدف من خلال مقالنا هذا إلى التعمق في كنزنا الباطني لأنّه يكشف عن ثمرة حياتنا الحقيقيّة، والّتي تظهر ليس فقط كنتيجة إلتزامنا وجهودنا. فنحن مدعويّن للحفاظ عليها لئلا تتعرض للفساد. وهذا ما يشير إليه لوقا من خلال كشف تدريجي للـمُخطط الله في شخص يسوع المسيح الّذي نستقبله في حياتنا يوميًا.
1. الإختبار (سي 27: 5- 8)
من خلال دعوة الحكيم بسفر سيراخ (27: 5- 8) والّذي يستعين بتشبيهيّن عمليّين، من أعمالنا بحياتنا اليوميّة كبشر، مما يوجه إلينا هذه الكلمات قائلاً: «آنيَةُ الخزَافِ تُختَبَرُ بِالأَتّون والإِنسانُ يختَبَرُ بِحَديثه. الحَقلُ الـمَزْروعَة فيه الشَّجَرَةُ يَظهَرُ مِن ثَمَرِها كذلك مَشاعِرُ قَلبِ الإِنسانِ تَظهَرُ مِن كَلامِه» (سي 27: 5- 6). من خلال آنية الخزاف وحقل الـمزارع الّذين يحتويّين جوهر السرّ الإلهي ويكشفا كمثلييّن عملييّن عن رسالة الله. من الجهة الأولى، يشير إلى باطن أتّون الخزاف، وهي النّار القويّة تكشف عن صلابة أو هشاشة الآنية الخزفيّة. ومن جهة آخرى يشير إلى نضارة أو فساد ثمرة الشجرة الـمزروعة بالحقل مما يشير كلّا من هذين الـمثلين إلى ما يكشفه الإنسان سواء من أفكار أم من مشاعر يحملها بباطنه. تركيز الحكيم، بشكل خاص، على موضوع الثمرة الخارجية الّتي تكشف عن حقيقة ما يحمله قلب الإنسان، ستكون هي الـمعيار الّذي يكشف عن هويّة الإنسان خاتمًا الحكيم هذا النص بترك الـمجال أمام الإنسان ولا يتمّ إعطاء صورة عنه إلا بعد عبوه هذه الإختبار الّذي هو بمثابة إمتحان له: «لا تَمدَحْ رَجُلاً قَبلَ أَن يَتَكلَم فإِنَّه بِهذا يُمتَحَنُ النَّاس. إِذا سَعَيتَ وَراءَ العَدْلِ فإِنَّكَ تُدرِكُه، تَلبَسُه حُلَّةَ مَجْد» (سي 27: 7- 8). من إعلان الإنسان فكره ومشاعره يتم عبوره هذا الإختبار. يدعونا الحكيم إلى التركيز في حياتنا الـمكشوفة من خلال كلماتنا وأفعالنا اليوميّة فهي تصير الـمعيّار الّذي يكشف عما نحمله بقلوبنا خاصة وقت الإمتحان أي وقت عبورنا بتجربة أو بألم بشري.
2. معايير القلب (لو 6: 39- 45)
نستمر في حوارنا الإنجيلي بحسب لوقا (6: 39- 45) والّذي بدأناه بالمقال السابق، حيث يختتم يسوع حديث بحسب منهجيّة لُوقا عن الخطة الإلهيّة. نجد سلسلة من أقوال يسوع الّتي قد تبدو للوهلّة الأولى غير مرتبطة ببعضها البعض، وكأن الإنجيلي أراد أنّ يجمع هنا موضوعات مختلفة، إستعان بها إلى حد كبير من مصدر مشترك مع بشارة بحسب متى الإنجيلي. من خلال بعض العناصر اللّاهوتيّة، بحسب وجهة نظرنا، نجد أنّ هناك موضوع يُوحد بين هذه الأقوال مع رسالة لوقا الرئيسية الّتي دفعته لـجمع كلّ هذه الأقوال الّتي يختم بها يسوع خطابه.
العنصر الأوّل: رّوح التميّيز
يمكننا أنّ نؤكد بأنّ كلّ أقوال يسوع تتميز بتقديم إطاريّين بين قطبين متناقضيّن يلعبن دوراً في كلّ من الأمثال الّتي يقدمها يسوع. يتحدث يسوع عن أعميين، وعن علاقة مُعلّم بتلاميذه، وعن القذى والخشبة، وعن شجرة جيدة وشجرة رديئة، وعن إنسان صالح وإنسان رديء، وعن الشّرّ والخير. هذا هو العنصر الأوّل الّذي يساعدنا على فهم الرسالة الأساسية الّتي تحملها أقوال يسوع هذه، فهي دعوة إلى التحلى التميّيز. ينبغي علينا كتلاميذ ليسوع أنّ نتيقظ في حياتنا ونعيش في تاريخنا البشري برّوح التمييز الـمُستمر حتى نتمكن من التجاوب مع رّوح الخير ورفض الشّرّ. في الواقع، هناك دائما خطر الشعور بأنك دائما على جانب الخير والحقّ، إلى درجة أنّ نُصاب بالعمى. وبهذا المعنى فإن ختام خطاب يسوع يعود بنا إلى نقطة البداية الّتي ناقشناها في الـمقال السابق، التطويبات والويلات، وما يتعلق بتقديم طريقيّن.
العنصر الثاني: علاقة الـمُعلّم بالتلميذ
إذا كانت حاجتنا إلى رّوح التميّيز كأسلوب لتلاميذ يسوع تحوي النص بأكمله كعنصر أوّل، فهناك أيضًا عنصر ثانٍ يبدو أنه ينتمي إلى كل هذه الأقوال. يتعلق هذا الأمر بعلاقة الـمُعلّم والتلميذ. حيث ينتهي خطاب يسوع بحسب إنجيل لوقا بتناول موضوع أساسي داخل الجماعة وهو موضوع الـمُرشدين، أي أولئك الّذين يعتقدون أنّهم أسياد. يتطور هذا المُوضوع من خلال أمثلة تحمل ثلاث صور مختلفة، تشير لقلب الإنسان، تتمثل في:
الصورة الأولى صورة الأعمى الّذي يحاول توجيه أعمى آخر «أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟ ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه» (لو 6: 39-40).
يحمل وصف الصورة الأولى بتذكيرنا القوي بالـمسئولية الّتي تقع على عاتق مّن لديهم دور قيادي في جماعة تلاميذ يسوع، ولكنها بشكل عام تتحدث عن حياتنا المسيحية حيث من الضروري أنّ نتعلم نعرف كيف نرى. إذا كان الـمُعلم أعمى، فلن يتمكن إلّا من وقوع تلاميذه في الحفرة، أي خارج الطّريق. نعلم أنّ الطّريق في الكتاب الـمُقدس هو صورة لطّريق الله. والـمُعلم في الجماعة تقع عليه مهمة توجيه الآخرين إلى السيّر على نفس الطّريق الّذي سلكه يسوع. فإذا كنا مُصابين بالعمى وغير قادرين على تبعيّة يسوع فكيف نستطيع أنّ نرشد آخرين؟ يقدم يسوع في خطابه حلاً لمواجهة هذا العمى الّذي قد يصيبنا كـمُؤمنين من خلال صور مُستخدمة بالنص. أوّل ما يتبادر إلى ذهني هو صورة العلاقة بين الـمُعلّم وبيني كتلميذ. يحمل نداء قوي للتبعيّة الشخصيّة للرّبّ. ففي الـمقام الأول والأخير نحن الّذين لا نتبع يسوع حقيقة لا نستطيع أنّ نرشد آخرين (راج لو 6: 40). فالعلاج هو التدريب بالتلمذة الحقّة بإكتمال تعليمنا كتلاميذ ليسوع. يقترح الإنجيليّ دعوة معاصرة جدًا قد تكون ضد التيّار، بالإجابة على هذا التساؤل "أليس يسوع هو الـمُعلّم الوحيد؟" إذن مهمتنا كتلاميذ تتأسس على التكوين والإعداد، والّتي لا تعني بالضرورة الدارسات اللّاهوتية، بقدر التوقف للقاء الرّبّ كتلاميذ مُؤمنيّن ليعلمنا وليشكلنا بكلمته.
الصورة الثانيّة صورة الخشبة والقذى «لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الّذي في عَينِ أَخيكَ ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟ كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها الـمُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الّذي في عَينِ أَخيك» (لو 6: 41-42). الصورة الثانية مرتبطة بالأولى بالبصر، مما يؤكد علينا مرة أخرى مَن لا يستطيع أنّ يرى جيداً لا يستطيع أنّ يسير على طّريق يسوع، ولا يستطيع أنّ يتبعه. إن صورة القذى والخشبة هي تذكير للقادة بأنّ يروا ذواتهم أولاً قبل الحكم على الآخر، مدعويّن لـمواجهة مرض العمى بالتوافق بين ما نقول وما نفعل.
الصورة الثالثة الشجرة الطيبة والشجرة الرديئة «ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراً خَبيثاً، ولا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً. فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها، لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب» (لو 6: 43-44). هذه هي الصورة الأخيرة من مقطع الإنجيل والـمأخوذة من عالم النبات. حيث يقارن يسوع بين الشجرة الجيدة كالإنسان الصالح، وبين الشجرة السيئة كالإنسان الشرير. وكما أنّ الأشجار الجيدة تنتج ثمارًا جيدة، بينما الأشجار السيئة لا تستطيع إلا أن تنتج ثمارًا سيئة، هذا هو حالنا لعلاقتنا بين الـمُعلمين والتلاميذ في جماعاتنا المسيحية. وهذه دعوة قوية للإهتمام بجوانبنا الداخلية. من لا يهتم بذاته وعلاقته بالله لا يستطيع أنّ يرشد آخرين. كثيراً ما نتصور أنّ الاهتمام بأنفسنا يعني الابتعاد عن الآخرين، وهذا خطأ، حيث تكشف كلمات يسوع عن رسالتنا الأولى للآخرين هي رعايتهم باطنهم. إذا لم يكن كنز القلب صالحًا، فلن يأتي منه أي خير. إن الدعوة إلى التميّيز على أساس الثمار هي دعوة ذات مغزى، فالشجرة الجيدة لا يمكن أنّ تحمل إلا ثمارًا جيدة؛ نعم إن نوعية التلاميذ هي الّتي تكشف عن صلاح أو شرّ قلب الـمُعلّم. كل هذه الصور تشير إلى قلب الإنسان «الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه» (لو 6: 45). تعبيراتنا وكلماتنا وسلوكيتنا هي معايير لـما تحمله عقولنا من أفكار وقلوبنا من مشاعر قد يصبن بالعمى حينما نخدع ذاوتنا ولا نتوقف برّوح التلميذ لنتعلم من معلمنا يسوع.
الخُلّاصة
يحاورا هذين النصيّن، حياتنا الواقعيّة بما فيها من خارج وباطن، خيّر وشرير معًا. كما تأملنا في كلمات الحكيم (سي 27: 5-8) الّذي يدعونا إلى تقديم الوقت للإختبار وبمثلي آنيّة الخزاف والشجرة بالحقل أشار إلى إنّ الأتون والثمرة كقلب الإنسان، هو المعيار الأساسي لما يخرج منه في كلماته العلنيّة. كما حملت لنا كلمات يسوع بحسب لوقا (6: 39-45)، تأكيداً على هذا الفكر اللّاهوتي. حيث تعمقنا من خلال الصور الثلاث الّتي قدمها يسوع في خطابه، كدعوة عميقة وقاسية مُوجهة إلى كلاً منا كجماعات كنسيّة وكقادة أيضًا. إنّ منطق القذى والثمرة لا ينطبق فقط على القادة بل على كلّاً منا. إن الـمُوضوع الأساسي هو الحاجة إلى التميّيز في حياة الإيمان لدى الأفراد والجماعات الكنسيّة. هذه هي الإجابة التميّيز يجعلنا نعطي إجابة لتساؤل مقالنا اليّوم، فنجد أن معيار القلب والفكر هو الكلمات الّتي تنبع منا، والتعرف على مصدرها رّوح الخير أم الشرّ. مدعويّين للتمييّز قبل كل شيء معترفيّن بعمى بصيرتنا في توجهنا للطّريق الّذي يدعونا إليه يسوع. إنّه العمى الدائم الّذي يمكننا علاجه بالتلمذة على ضوء كلمات الـمُعلّم. هذا الموضوع حيويّ لأنه يوفر لكلّ مؤمن معايّير أساسيّة لإعادة قراءة حضورنا على ضوء كلمة الله. دُمتم في التحلي ببصر إلهيّ.