موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد السابع (ج)
مُقدّمة
تقدم لنا القراءات الكتب المقدسة بالعهدّين موضوعًا، هو بلا شك، محوريّ في حياتنا المسيحية وهو ما أعطيناه العنوان بــ "العداوة أم الحّبّ؟" وهنا يتجلى عمل النعمة الإلهيّة فينا من خلال إنتصار أفعال وأقوال الحُب، بوجه خاص في علاقاتنا اليوميّة من خلال حُبّ أعدائنا أو مَن لا نتمكن من التواصل معهم بشكل بسيط وسهل. ومع ذلك، يصعب النقاش في هذا الموضوع بسبب أنّ تفسيرنا لبعض الأساليب الكتابيّة والّتي تتسم بالتبسيط الشديد قد تجعلنا نبتعد عن ما يرغب مُدونيّ الكتب المقدسة، سواء كاتب سفر صموئيل الأوّل أم كاتب الإنجيل الثالث، بأنّ يخبرانا به، مما يجعلنا ننتهي إلى ملاحظة عقيمة لطلب مستحيل أو تفسير كتابي مُبالغ فيه وغير واقعي. لذا سنحاول أنّ نناقش معنى وقيمة الحبّ الّذي ينتصر على العداوة، بشكل عمليّ كما يتحدثا عنه كِلّا النصييّن بالعهديّن. فسنحلل في المطقع الأوّل (1صم 26: 2- 23) ردّ فعل داود غنيّ بالحبّ والغير متوقع بشريًا على أفعال عداوة شاول له. وبالعهد الثاني سيهمس يسوع في آذاننا، نحن تلاميذه، بالقاعدة الذهبيّة الإنجيليّة الّتي نحفظها عن ظهر قلب وهو يدعونا بحبّ أعدائنا ليس ككلام بل بحياته وبأفعاله.
ولهذا السبب مدعويّن للتخلي عن قراءاتنا للنص المقدس، بنظرة عاطفيّة فقط، كما لو كان حُبّ عدونا مشكلة عاطفيّة بالنسبة لنا كقراء للنص الكتابي؛ وعلينا أنّ نفسح المجال للقراءة أخلاقيّة لنص مُقدس لأنّ الهدف الأساسي للكتاب المقدس هو دائمًا اللقاء بالرّبّ من خلال الأحداث الّتي يسردها الـمُدونيّين بالطتب المختلفة.
1. عداوة وحُبّ ملكيّن (1صم 26: 2. 7- 23)
بقرائتنا للمقطع الأوّل للنص الّذي يروي فيه كاتب سفر صموئيل الأوّل حدث رغبة بقاء داود على حياة شاول الملك بعد أنّ طارده كثيراً راغبًا في قتله إذ يشير النص إلى رغبته بهذه الكلمات: «فقامَ شاوُلُ ونَزَلَ إِلى بَريَّةِ زيف ومعَه ثَلاثَةُ آلافِ رَجُل مِن الـمُخْتارينَ في إِسْرائيل، لِيَطلُبَ داوُدَ في بَرِّيَّةِ زيف» (1صم 26: 2). بعد إختباء داود لفترة من نظر شاول ويؤكد هذه الكاتب مُطاردة شاول لداود قائلاً: «وكانَ داوُدُ مُقيمًا في البَرِّيَّة» (1صم 26: 3). وعندما «قامَ داوُدُ وأَتى إِلى المَكانِ الَّذي عَسكَرَ فيه شاوُل، ورأَى الـمَكانَ الَّذي كانَ نائِمًا فيه شاوُلُ [...] فأَتى داوُدُ وأَبيشايُ إِلى الشَّعبِ لَيلاً، فإِذا بِشاوُلَ مُضطَجعٌ في وَسَطِ الـمُعَسكَرِ وهو نائِم وُرمحُه مَغْروزٌ في الأَرضِ عِندَ رأسِه، وأَبْنيرُ والشَّعبُ راقِدونَ حَولَه» (1صم 26: 5-7). قد نعتقد كقراء للوهلة الأوّلى بأنّ الرّبّ سلّم ليّد داود عدوه شاول، ولكن داود لا زال ينظر إليه بعين الرّبّ كملك له إذ تمّ مسحه بأمر الله لذا لا يستجيب للإنتقام ولرّوح العداوة بل يتسامى متحليًا برّوح حبّ.
نُفاجأ كقراء بسرد الكاتب إذ يصف رد فعل داود الغريب، إذ لا يصغي إلى أبيشاي، معاونه، الّذي رغب بشده في قتل لشاول إنتقامًا له ولأفعاله ضد داود من خلال هذا الحوار: «فقالَ أَبيشايَ لِداوُد: "قد أَسلَمَ اللهُ اليَومَ عَدُوَّكَ إِلى يَدِكَ، فدَعْني أَطعَنُه بِهذا الرُّمْحِ إِلى الأَرضِ طَعنَةً واحِدَةً ولا أُثنِّي علَيه". فقالَ داوُدُ لأَبيشاي: "لا تَقتُلْه، فمَنِ الَّذي يَمُدُّ يَدَه إِلى مَسيحِ الرَّبِّ ويَكونُ بَريئًا؟" وأَضافَ داوُد: "حَيٌّ الرَّبّ! إِنَّ الرَّبَّ هو الَّذي يَضرِبُه، إِمَّا بِأَن يَأتيَ يَومُه فيَموت، أَو بأن يَنزِلَ إِلى حَربٍ فيَهلِك. حاشَ لي بِالرَّبًّ أَن أَمُدَّ يَدي إِلى مَسيحِ الرَّبّ! والآنَ فخُذِ الرُّمحَ الَّذي عِندَ رَأسِه وجَرَّةَ الماءِ، ولْنَنصَرِفْ"» (1صم 26: 8- 11). لا للإنتقام برّوح العداوة بل يدعونا داود بتصرفه هذا بأنّ العداوة تزيد ولكن هناك رّوح الحبّ الّذي يتسم بها قلب الله وهي ذاتها الرّوح الّتي تّوقف وتُنهي تدمير الآخر وتحمل بداية لزرع رّوح الحبّ فهو الّذي يثمر. ويستمر داود في حراسة حياة شاول إذ: «اجْتازَ داوُدُ إِلى الحِبْرِ ووَقَفَ على قِمَّةِ الجَبَلِ مِن بُعدٍ، والمَسافَةُ بَينَهم بَعيدة [...] فقالَ داوُدُ لأَبْنير: "لـمِاذا لم تَحرُسْ سَيِّدَكَ المَلِك؟ فقَد جاءَ واحِدٌ مِنَ الشَّعبِ لِيُهلِكَ سَيِّدَكَ المَلِك. إِنَّكَ لم تُحسِنْ فيما صَنَعتَ. حَيٌّ الرَّبّ! فإِنَّكم قدِ اَستَوجبتُمُ المَوتَ، لأَنَّكم لم تَحرُسوا سَيِّدكم مَسيحَ الرَّبّ [...] فعَرَفَ شاوُلُ صَوتَ داوُد، فقالَ: "أَصَوتُكَ هذا، يِا ابْني داوُد؟" فقالَ داوُد: "هو صَوتي يا سَيدي المَلِك» (1صم 26: 13- 22).
تنتهي عداوة شاول أمام حب داود، ويبدع الكاتب في وصف تدمير رّوح عداوة شاول تجاه داود الّذي يعترف بخطأه قائلاً: «"قد خَطِئتُ، فارجِعْ يا ابْني داُود، فإِنِّي لا أَعودُ أُوذيكَ، لأَنَّ نَفْسي كانت كَريمةً في عَينَيكَ اليَوم، وأَنا قد فَعَلتُ بِحَماقةٍ وضَلَلتُ ضَلالاً بَعيدًا جِدًّا". فأَجابَ داوُدُ قائِلاً: "هذا رُمحُ المَلِك، فلْيَعبُرْ أَحَدُ الخُدَّام ويَأخُذْه. سيُكافِئُ الرَّبُّ كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبَ بِرَه وأَمانَتِه، فقَد أسلَمَكَ الرَّبُّ اليَومَ إِلى يَدي، ولم أَشأ أَن أَمُدَّ يَدي إِلى مَسيحِ الرَّبّ» (1صم 26: 21- 23). يدعونا داود من خلال هذا الحدث الـمعاش والأليم بأنّ الحبّ هو قرار شخصي في وقت المشاعر المتناقضة والصراع الباطني، مدعويّن لئلا نصغي لرّوح الشرّ الّتي يلوح بها عدو الخير بل الإصغاء للرّبّ. هذا الحدث الّذي كشف عما يحمله قلب داود حقيقة، يكشف عن تاريخ عرفنا فيه علاقة الله بشعبه فكثيراً ما غضب الله على شعبه وهدده بل وعاقبه ولكن في النهاية كانت الكلمة الأخيرة دائمًا لرحمته كتعبير عن حبه. وهو ما يؤكده يسوع بكلماته بحسب الإنجيل الثالث.
2. حبّ العدو (لو 6: 27-35)
بحسب اللّاهوت اللُوقاويّ، يمكننا القول أنّ المقطع الإنجيلي لـهذا الأسبوع لا يحدثنا كثيراً عن حبّ أعدائنا بقدر ما يحاورنا عن الحبّ المتجسد في كلمات وأفعال يسوع. إنّ النص الّذي يأتي مباشرة بعد سرد الإنجيليّ للتطويبات وللويلات، كما ناقشناهم بمقالنا الأخير، يحدثنا ببساطة عن الحبّ بحسب وجهة نظر الإنجيلي الكتابيّة. حيث يستخدم الإنجيلي تعبير فريد وهو "حُبّ الأعداء" كمثال وكحجة وأيضًا كـمقياس مما يساعدنا على فهم خصوصيّة الُحبّ الّتي كشف عنها يسوع علانيّة سواء بأقواله أم بأفعاله. هذه الخصوصيّة هي الّتي يجب أنّ تتجلى الآن في حياتنا كتلاميذ له، وهنا نكشف عن مدى إرتباطنا بالإلتزام بكلمته واللقاء به حقًا. رغبة يسوع من خلال أفعال الأمر بهذه الوصيّة، والّذي يوجه كلامه ليّ ولك، علانيّة قائلاً: «أَمَّا أَنتُم أَيُّها السَّامِعون، فأَقولُ لَكم: أَحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إِلى مُبغِضيكُم، وبارِكوا لاعِنيكُم، وصلُّوا مِن أَجْلِ الـمُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم» (لو 6: 27- 28). أراد يسوع أنّ يصف هدف حياتنا المسيحيّة المؤسسة على حبّه لنا على الصليب غافراً لصالبيّه والّذي سيكون أيضاً هدف حياته بحسب منهجيّة كاتب الإنجيل الثالث إذّ يحب حتى نهاية حياته الأرضية من خلال الغفران (راج لو 23: 34).
نقرأ بقلب النص بحسب لوقا 6: 32-34 نجد المقارنة بين تلاميذ يسوع والخطاة: «فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم» هذه المقارنة تتكرر ثلاث مرات، إذا أحب تلميذ يسوع أولئك الّذين يحبونه وأحسن إلى أولئك الّذين يحسنون إليه، وأقرض أولئك الّذين يستطيعون إقراضه، فإنّه لا يفعل شيئًا جديدًا. في ترجماتنا نجد السؤال "فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟" ثلاث مرات على فم يسوع، لكن تُترجم في اللغة اليونانيّة: "أية نعمة لك؟" حيث لدينا مصطلح charisالّذي يُترجم فضل ولكنه له معنى نعمة. ويحاورنا النص الإنجيلي قائلاً: "ما هي النعمة الّتي في تصرفاتك وأقوالك؟"
3. رحمة الآب (لو 6: 36- 38)
يتلقى هذا النص الضوء إذا ما وضعناه على خلفية التاريخ الطويل لعلاقة الله بالبشرية وبإسرائيل. تقودنا كلمات يسوع، إلى النظر إلى وجه الآب لفهم نوع الحبّ الّذي يطلبه يسوع منا كتلاميذه: «كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم» (لو 6: 36). ولكي نفهم الحُبّ الّذي يدُعونا إليه يسوع كتلاميذ له، علينا بقبول دعوة يسوع إلى النظر إلى سلوك الله الدائم تجاهنا كشعبه وخاصته. فنحن كشعب للرّبّ لم نتصرف في كثير من الأحيان، مع الأسف، كـأصدقاء لإلهنا، بل كأعداء. لذلك فإنّ إله إسرائيل، بالماضي، كان يحمل مشاعر كثيرة تجاهنا كشعب له، ولكن في النهاية نجد تصرفاته مدفوعة بالرحمة. ومن الـمُثير للإهتمام أنّ نؤكد بأنّه رحيم بشعب يمكننا أنّ نُطلق عليه أعداء. نعم عداواتنا يمكننا أنّ نلمسها في كلّ مرة تكون قلوبنا متحجرة أمام ندائته وإصابتنا بالصّم أمام كلمته وأخيراً من خلال خياناتنا لعهده.
4. الحبّ وجه للرحمة (1صم 26: 2- 23؛ لو 6: 27- 38)
من خلال كِلّا النصيّين بالعهدّين، نتلمس فعل داود تحاه شاول، كفعل حبّ فقد تذوق هذا الملك الشّاب رحمة الله بقلبه لذا شارك هذه الرحمة شاول الّذي عداه كثيراً. مما جعل التجاوب برّوح الرحمة وهي الأصعب، وهو يتناقض مع العداوة وهي الأسهل بشريًا، فجعل الحب ينتصر ليس بالقول ولكن بالفعل. يخطرني النص المؤثر، لارميا النبي الشّاب، والّذي أتلمس فيه وجه إلهيّ يكاد يكشف صراعًا بين مشاعر متناقضة. ولكن في نهاية هذا الصراع، تسود رحمة الله القائل: «أَيكونُ أَفْرائيمُ اِبْناً لي عَزيزاً وَلَداً أَتَنَعَّمُ بِه؟ فإِنِّي كُلَّما تَحَدَّثتُ عنه لا أَنفَكُّ أَذكره فلِذلك إهتَزَّت لَه أَحْشائي. سأَرحَمُه رَحمَةً، يَقولُ الرَّبّ» (ار 31: 20). مع هذا هذا بالتأكيد ليس المقطع الوحيد الّذي يتحدث فيه عن الرحمة كصفة إلهنا وأبونا الأساسيّة، ولكنها ليست الصفة الوحيدة، لعلاقة الله بنا نحن أبناءه. يُعرَّف الله بأنه رحيم، والرحمة تصير اِسمه الحقيقي. ونرى ذلك في كثير من المقاطع بالعهد الأوّل (راج خر 34: 6؛ تث 4: 31؛ مز 77: 38؛ 85:15؛ 102:8؛ 110:4؛ 145:8). وفي كل هذه المقاطع يظهر المصطلح العبري rahum، الّذي يشير إلى الأحشاء "رّحم" وهي ما تكشف عن أموّمة وأبوّة الرّبّ الإله.
الخلّاصة
من خلال نصي سفر صموئيل الأوّل (26: 2- 23)، حبّ ورحمة داود أمام قسّاوة وعداوة شاول الّذي تسامى بالرحمة والحبّ على عدوه مما جعله يعترف بخطأه ضده. وإستطعنا أنّ نلمح في خطاب يسوع بالإنجيل الثالث (6: 27- 38)، وجه الله الآب، الّذي يدعونا يسوع كتلاميذ اليّوم إلى الإلتزام به. يكشف هذا الوجه الرحيم وجه يسوع ذاته. بحسب قول بولس إلى أهل روما، في نص يصف بامتياز نموذج الحّب الأبويّ قائلاً: «فإِن صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون» (رو 5: 10). هنا يتجلى حبّ الله لنا، ويظهر نوع الحب الّذي يطلبه يسوع منا كتلاميذه، بالتأمل في حبّ الله في بذل حياته في يسوع من أجلنا نحن الأعداء حينما تكون لدينا عقلية تتعارض مع عقلية الله. كإستجابة منا كتلاميذ ليسوع لهذا الطلب من الحب غير المشروط علنا أنّ ندرك بأنّه بالرغم من إننا "أعداء" إلّا إننا "محبوبيّن". بوعينا هذا نستطيع كتلاميذ أنّ نحب كما يهمس يسوع مكرراً في قلوبنا وآذاننا: «لكِن أَحِبُّوا أَعداءَكم، وأَحِسِنوا وأَقرِضوا غَيرَ راجينَ عِوَضاً، فيَكونَ أَجرُكم عَظيماً وتكونوا أَبناءَ العَلِيّ» (لو 6: 35). الحبّ الّذي لا يشترط أي شرط، ولا يضع أي شروط؛ حبّ غير أناني، لا ينتظر شيئًا في المقابل. دُمتم في رفض رّوح العداوة وقبول رّوح الحبّ والرحمة بشكل دائم ومستنير.