موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أربعاءُ الرمّاد الـمُقدّس (ج)
مُقدّمة
نبدأ ككنيسة في الإستعداد للإحتفال بعيد قيامة الرّبّ، جوهر إيماننا المسيحيّ. هذا العام، الّذي يكلل اليوبيل الكنسيّ بمرور 2025 سنة على سرّ تجسد يسوع، له مذاق خاص في حياتنا الإيمانيّة، التي يكون جوهرها قيامة الرّبّ. لذا فنحن مدعوون من خلال أربعيّن يومًا للسير بخطوات تدريجيّة للنمو في مسيرتنا الروحيّة، ولقبول بدء مسيرة تتسمّ بالتوبة حتى نؤهل للقاء القائم في مجده.
غالبًا ما نُبالغ كمؤمنيّن بالتفكير في إماتات الزّمن الأربعينيّ وبممارسة الأعمال التقويّة بإعتبارها وسائل نقدمها لإرضاء الله، وبطريقة ما لتقديم ثمار تضحياتنا وتوبتنا له. ومع ذلك، فإنّ أعمال التوبة التقليديّة في هذا الزّمن لابد وأنّ تُرافق بالصّلاة، وبأعمال الـمحبة فتصير إفساح المجال للعمل الإلهي بحياتنا، حتى يتمكن من أنّ يُثمر عمله فينا بقوة رّوحه القدّوس. نهدف في مسيرة مقالاتنا، بهذا الوقت الـمُقدّس، إلى السعي بجديّة لتوبتنا الباطنيّة أي السعي بتغيير قلوبنا ليس فقط أعمالنا، لأنّ الله هو الّذي يعمل فينا. مدعويّن بأنّ نجعل له مكانًا حتى يتمكن من العمل في حياتنا فيقوم هو من خلال حضورنا بالعالم.
لذلك في هذا اليّوم الـمُقدس تدعونا القراءات الطقسيّة للتعمق في سفر النبي يوئيل (2: 12-18) والبحث عن إجابة عن التساؤل القائل: "أين إلههم؟". إنّ النص الـمُكثف للنبي يوئيل بالعهد الأوّل من أربعاء الرّماد يحمل دعوة مُلحّة للتوبة والإهتداء. تركز دعوته على التشديّد برحمة الله، مما يكشف عن الصفات الأساسيّة لإلهنا وهو أيضًا إله بني إسرائيل (راج خر 34: 6-7). جوهر الدعوة النبويّة ليوئيل هو العودة إلى الله من كلّ القلّب وبالأعمال الخارجية الّتي تتمثل في الزّمن الأربعينيّ والبكاء وهي الّتي تُعبّر عن تصرف الأمانة الداخلي، ولا يرتكز على خطيئنا كمؤمنين بل بالأحرى ترتكز على وجه الله الّذي هو محبة وأمانة لعهده مع الأباء. يشدد النبي يوئيل على توضيح أنّ الغيّرة الإلهيّة تجاهنا كشعب ينتمي للرّبّ هي الّتي تكشف عن حبه الشديد.
نود أنّ نضع هذا العنصر في بداية مسيرتنا بالتركيز على أنّ الزّمن الأربعينيّ ما هو إلّا دعوة إلى عدم إبقاء نظرتنا منغلقة على أنفسنا وعلى خطيئتنا، بل على الله وعلى رحمته. بناء على هذا نقرأ الإنجيل الّذي أشارت إليه في عدة محاضرات ومؤتمرات باللغة العربيّة بإنجيل الثلاثة "ص": الصوم والصّلاة والصدقة. يقدم الإنجيلي في هذا الـمقطع (6: 1- 18) في أوّل عظة ليسوع، بحسب منهجيّة بشارته، وسائل عمليّة وإيمانيّة للعودة للرّبّ لبدء مسيرة التوبة والإستعداد للقاء القائم.
1. العودة إلى الرّبّ (يؤ 2: 12- 18)
يروي مقطع العهد الأوّل بحسب سفر يوئيل (2: 12- 18)، وهو أحد الأنبياء الصغار، بسرد مؤثر بشكل خاص حيث يعلن النبي باسم الشّعب للرّبّ هذا التساؤل: «لِماذا يُقالُ في الشُّعوبِ: أَينَ إِلهُهم» (يؤ 2: 17). وكأنّ وجود الله وحضوره يعتمدان على ظهوره في حياتنا كمؤمنين به. يريد الـمُتسألين بطريقة ما ابتزاز الله وكأننا نقول إذا لم تُغير وجودنا بغفرانك يا الله، فإن الناس سيتحدثون عنك بشكل سيء، وسيقولون أنك غير موجود.
خلال الزّمن الأربعينيّ، ليست فقط التوبة هي النقطة الجوهريّة، بل أيضًا رؤية الله في العالم. بالنسبة للكتب الـمُقدّسة فإن لفظ المجد يشير إلى ثقل الله في تاريخنا. إنّ عمل الله الرحيم في حياتنا ليس عملاً خاصًا فحسب، بل يشمل البشرية جمعاء، الّتي بحريتها تلتقي أو لا تلتقي بروعة مجد الله وحضوره في العالم. لذا فإن مسيرتنا في الزّمن الأربعينيّ، وإستعدادنا لإفساح المجال لله وكلمته، ليست مسألة شخصية تتعلق فقط بمساهمتنا لخدمة الله وليست مسألة كنسية، بل هي مسئولية تشملنا جميعًا كشعب ينتمي للرّبّ. إن مجد الله يشرق في عيون كل الشعوب من خلال توبة قلوبنا. والإجابة على سؤال "أين إلههم؟" بحسب النبي يوئيل، هو في حياتنا، في أيدينا، وعلى وجوهنا. فيصير زمن الزّمن الأربعينيّ أساسي بحسب قول الرّبّ الّذي يترجانا: «إِرجعوا إِلَيَّ بكُلِّ قُلوبِكم وبِالصَومَ والبُكَاءَ والاِنتِحاب. مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم وإرجِعوا إِلى الرَّبِّ إِلهكم فإِنَّه حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة [...] أُنفُخوا في البوقِ في صِهْيون وأَوصوا بصَومٍ مُقَدَّس» (يؤ 2: 12- 15). فيصير الزّمن الأربعينيّ هو الوقت المناسب الّذي أعطي لنا لنتصالح مع الله حتى يجعل من حياتنا شفافة مع حضوره في تاريخنا كنسار ورجال ننتمي له. لذلك يختتم النبي بإعلانه الغيرة الإلهيّة قائلاً: «لقَد غارَ الرَّبُّ على أَرضِه وأَشفَقَ على شَعبِه» (يؤ 2: 18). هذه الغيرّة الّتي تدعونا للتوبة لنتبادل مع الرّبّ عهدّ الحبّ الّذي بدأه معنا. من هنا نعلم أنّ الزّمن الأربعينيّ هو الفرصة الّتي يشفق فيها الرّبّ علينا ويدعونا ليجدد عهد حبه بشكل فردي وجماعي. يتوازي هذا النص مع الـ ثلاث "ص" الّذي يشير إليهم يسوع (الصدّقة والصّلاة والصوم) في خطابه الأوّل بحسب بشارة متّى.
2. الـــ "ص" الأولى: الصدّقة (مت 6: 1-4)
تكشف كلمات متّى الإنجيلي، الّذي يكتب لجماعة من أصل يهودي عن قيمة الصدّقة ليست الخارجيّة بل الصدقة النابعة من تركيز نظر الله على فعلك وعلى نيّة قلبك. لذا تأتي كلمات يسوع في بدء مسيرتنا الأربعينيّة مؤكداً بالتحذير من الحياة الـمُرائية الّتي تحمل قناع وتخفي حقيقتها ورائه، مُشيراً بالنكرة قائلاً: «إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، فلا يكونَ لكُم أَجرٌ عندَ أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات. فإِذا تَصدَّقْتَ فلا يُنْفَخْ أَمامَكَ في البوق، كما يَفعَلُ الـمُراؤونَ في المجَامِعِ والشَّوارِع لِيُعَظِّمَ النَّاسُ شَأنَهم. الحَقَّ أَقولُ لكُم إِنَّهم أَخذوا أَجرَهم» (مت 6: 1-2). يدعونا يسوع، من أوّل أيّام الزّمن الأربعينيّ إلى التنبه لئلا نقع في الحياة الزائفة الّتي تعتمد على المظاهر. مؤكداً ثانية بالإيجاب قائلاً: «أَمَّا أَنتَ، فإِذا تصَدَّقْتَ، فلا تَعلَمْ شِمالُكَ ما تَفعَلُ يَمينُكَ، لِتكونَ صَدَقَتُكَ في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك» (مت 6: 3- 4). مشاركة الآخرين الخيرات الّتي يمنحنا إياها الله، ما هي إلّا إعتراف منا بأفضاله ولذا كنوز النعمة الإلهيّة يستمر في إزدياد لأننا لا نستقل به.
3. الـــ "ص" الثانية: الصّلاة (مت 6: 4- 6)
كعادة الرّبّ في خطابه معنا، فهو لا يأمرنا بل يعرض علينا مبتدأ بشرط قائلاً: «وإِذا صَلَّيْتُم، فلا تَكونوا كالـمُرائين، فإِنَّهُم يُحِبُّونَ الصّلاة قائمينَ في الـمَجامِعِ ومُلْتَقى الشَّوارِع، لِيَراهُمُ النَّاس. الحَقَّ أَقولُ لكُم إِنَّهم أَخَذوا أَجْرَهم» (مت 6: 5). كثيراً ما أفكر بقول الرّبّ هذا حينما يحيط بنا الـمؤمنين ويعلنوا بسجودهم أو بأقوالهم علانيّة إني صائم أو سأذهب للصّلاة في حين تأتي مشورة يسوع الّذي كان يصلي، أي يلتقي بالله الآب، "في الخفاء" على الجبل خلال الليل دون أنّ يراه أحد قائلاً: «أَمَّا أَنْتَ، فإِذا صَلَّيْتَ فادخُلْ حُجْرَتَكَ وأَغْلِقْ علَيكَ بابَها وصَلِّ إِلى أَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك» (مت 6: 5- 6). ينتظرنا الله الآب لنلتقي به ونعبر عن عودتنا إليه كأبناء بكلّ قلوبنا معلنين فقط أمامه توبتنا والّـتي تبدأ بالحوار معه بعيداً عن عيون الآخرين، فنكون حاضرين أمام عيونه فقط.
4. الـــ "ص" الثالثة: الصَوُمْ (مت 6: 16-18)
وتأتي كلمات يسوع من جديد ليهمس بالـ "ص" الثالثة في أُذن كلّاً منا قائلاً: «وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالـمُرائين، فإِنَّهم يُكلِّحونَ وُجوهَهُم، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهم صائمون. الحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّهم أَخذوا أَجَرهم» (مت 6: 16). ليس علينا بلبس قناع التديّن الـمُزيف بل عيش صومك بتقشفاتك دون أنّ تلفظ ببنت شفة، بل على العكس، الصوم الحقيقي يرافقه فرح باطني، لذا يقول يسوع من جديد: «أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك» (مت 6: 17-18). الحياة الـمتقشفة والّتي تعلن التوبة هي الـمتجددة والّتي تحمل إبتسامة على وجه مَن يتوب حقًا. فأنا وأنت لسنا بمجبريّن ولكن بحريتنا نبدأ هذه المسيرة الّتي توجهنا لنعود للرّبّ كأبناء ونستعيد ما سلبته منا الخطيئة والإنشغالات اليوميّة وإلخ...
الخلّاصة
بين كلمات يؤئيل النبويّة (2: 12-18) الّتي حملت توجهات عمليّة لحياتنا الـُمعاصرة وبالأخص العودة للرّبّ بتمزيق القلب، فالقلب التائب هو الّذي يعلن حقيقة توبته. ونجد في كلمات يسوع بحسب متّى (6: 1-18) الثلاث "ص" كممارسات تعطي وجهًا لـتوبتنا الحقيقة الّتي تُمارس بالنمو في العلاقة مع الله من خلال الصّلاة، وبمشاركة خيراته لنا مع القريب من خلال الصدقة وبإعلان فرح التوبة الباطنية من خلال الصوم. سواء كلمات الرّبّ بحسب نبؤة يوئيل أم بحسب متّى الإنجيليّ يحملان كلّاً منا بالتشجيع لـبدء مسيرة روحيّة تتسم بالعودة الحقّة للرّبّ. دُمنا في مسيرتنا بالعودة نحو الله أبينا، كأبناء مُفضلين العلاقة معه والتوبة إليه بقلب مُرتدًا عن أفكار الشّرّير.