موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في بداية زمن الصوم الأربعيني يطرح المؤمنون أسئلة كثيرة على الكهنة: ما معنى الصوم؟ ولماذا نصوم؟ وفي أي وقت نصوم؟ وعلى ماذا نصوم وكيف نصوم؟ فرأينا من الجدير أن نجيب عن هذه الأسئلة الكثيرة من خلال تأملنا الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية.
1) ما معنى الصوم؟
لما كان الإنسان نفساً وجسداً، فهو بحاجة إلى أفعال الجسد. فالصوم أو الصيام كلاهما مصدر واحد صام يصوم صوما وصياما، وهو لغة الإمساك عن الطعام والشراب لفترة من الزمن، وكأن الحاجة الفيزيولوجية أصبحت في المكان الثاني. وأما الكلمة اليونانية νεστεια (نستيا) تعني الإمساك ويشير الإمساك هنا إلى ضبط الجسد والنفس فيصبح الإنسان سيدا على أهوائه وعلى رغباته. فضبط النفس والجسد بإذلالهما يؤدي إلى التواضع وهو شرط لدخول الملكوت. فالصائم كأنه يقول لله أنا تائب نادم، ولست متعالياً أو متكبراً، فلا حاجة بك لإذلالي أكثر من ذلك.
والصوم في الكتاب المقدس هو الامتناع أيضا عن العلاقات الزوجية (يوئيل 2: 16). ويتضمن أيضا استرحام الإله، فنجد هذا واضحاً في حالة داود عندما مرض ابنه الذي ولدته يتشبع عقب خطيئته معها. "قد يَرحَمُني الرَّبُّ ويَحْيا الصَّبيّ" (2 صموئيل 12: 16-23).
وقد يكون الصوم تعبيراً عن الاتضاع أمام الرب، كما يقول الرب لإيليا النبي عن أحآب الملك عندما جعل المسح على جسده وصام: "أرَأيتَ كَيفَ ذَلَّ أحآبُ أمامَي؟ فلأَنَّه قد ذَلَّ أمامَي، لا أَجلُبُ الشَّرَّ في أَيَّامِه" (1 ملوك 21: 27-29). وبعبارة أخرى، الصوم هو الاعتراف بان الله هو السيد المطلق ومصدر حياة الإنسان قبل الخبز الذي يجود به الله علينا: "ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله (منى 4:4).
وأما كيفية الصوم فهو التبرؤ من الرياء والنفاق إلى صدق الإخلاص وخالص الصفاء للبحث عن وجه الله تعالى الذي يرى في الخفاء، وقد وبخ الرب يسوع صوم الرياء والتظاهر قائلا: وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين” (متى 6/16-18).
وبكلمة الصوم فعل من أفعال الديانة الثلاثة (الصوم والصلاة والصدقة) الموجّهة نحو الآب السماوي الذي يرى في الخفية بخلاف الرغبة في أن يرانا الناس على ما جاء في كلام سيدنا يسوع المسيح: "أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6: 17-18).
2) لماذا نصوم؟
إن الصوم شريعة إلهية اذ هي كما يقول القديس باسيليوس الكبير الوصية الأولى في الكتاب المقدس: "وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا" (تكوين 2: 17). ثبّت سيدنا يسوع المسيح وصية الصوم بقوله: "سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريسُ مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون” (متى 9: 14). الصوم هو شكل من أشكال التوبة الذي يعبر عن الارتداد في علاقة الإنسان مع الذات والله والآخرين.
الصوم الكبير، في زمن الصوم الأربعينيّ، هو مسيرة روحانية تقودنا إلى السعادة الداخليّة في لقاء مع الذات والله والذات والآخر من خلال الصلاة والتقشف والصوم من ناحية. ومن ناحية أخرى، الصوم يكشف عن مدى اهتمامنا وتعلّقنا بـ"السعادة الخارجية"، سبب بؤسنا ومصدر قلقنا. وفي هذا الصدد كتب القدّيس بولس رسول: " أُحسِنُ العَيشَ في الحُرْمان كما أُحسِنُ العَيشَ في اليُسْر. ففي كُلِّ وقْتٍ وفي كُلِّ شَيءٍ تَعَلَّمتُ أَن أَشبَعَ وأَجوع، أَن أَكونَ في اليُسرِ والعُسْر، أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبّي 4: 12-13).
الصوم والذات
للصوم وجهان جسدي وروحي. فالوجه الجسدي للصوم هو يعرض الإنسان ذاته عن العواطف المنحرفة ويكبح الرذائل وسيما كبرياءه ويُمكّنه من التسلط على غرائزه من حرية القلب ومغريات العالم كي تجدد روحاً ونفساً ويتعلق قلبه بالله. لذا فالصوم لا يقوم على الفم فحسب، وإنما العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم، ولا يقوم على التبدل الذي طرأ على طعامنا فقط بل على قلبنا. فمن يستطيع أن يسيطر على الأشياء المسموحة يستطيع أن يسيطر على الأشياء الممنوعة. فالصوم يتطلب جهد يقوم بقهر الإنسان لذاته، بغية التقرب من الله ومن البشر، إذ أن "الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف" (متى 26: 41).
أما الوجه الروحي للصوم فهو الامتناع عن الخطيئة، هو موقف القلب، القلب المتواضع التائب، الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الله. كما يقول يوئيل النبي "مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم وأرجِعوا إِلى الرَّبِّ إِلهكم فإِنَّه حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناة كَثيرُ الرَّحمَة ونادِمٌ على الشَّرّ” (يوئيل 2/13). لا يقوم الصوم إذن على صوم الجسد بل أيضا صوم اللسان، وصوم الآذان، وصوم العقل، وصوم العينين من الأفكار الشريرة والنظرات الخبيثة. هذه تُعَد من مكمّلات صوم الطعام، وتساعد على هضم الإيمان في جسدنا وفكرنا وروحنا. ويقول القديس يوحنا السلمي في كتابه "السلم إلى السماء" الصوم هو كبح رغبات الجسد وابتعاد عن الأفكار الشريرة وتحرر من التخيلات المذنبة، هو طهارة الصلاة، نور للنفس ويقظة العقل والقلب معا. فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء يمكن أن يعرقل هبة فصح المسيح.
الصوم هو عدم تفكير الإنسان بالشر في قلبه. (زكريا 7: 1-14)، هذا القلب المجروح بالخطيئة الميّال إلى الشر والأنانية (مزمور 51: 7) ، فهو زمن التوبة والعودة إلى الذات بالتقشّف، وفقاً لأول كملة تفوّه بها يسوع بعد صومه الأربعيني:" فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مرقس 1 :15). والتوبة باللفظة اليونانية (متانويا) μετανοια تعني تغيير العقلية وباللفظة العبرية (شوف) שוב تعني الرجوع، إنها ترمي إلى مراجعة الذات، إلى التجديد والتغيير والتطوير في الشعور والحكم والحياة، إلى هجر الإنسان العتيق ولبس الجديد، إلى الانتقال من الحياة القديمة والعودة إلى الشباب المتجدد. ويُعلق اسحق النينوي قائلاً: "إن التوبة أم الحياة. وهي تفتح لنا بابَها، بالهرب من كلِّ شيء. وتُجدّد التوبة فينا النعمة التي فقدناها بعد العماد بالسيرة المتراخية. بالتوبة ندخل إلى نعيم الله بمعرفة تجلِّيات الروح القدس التي تظهر فينا. ومن حُرم من التوبة، حُرم من النعيم العتيد" (الطريقة، 347).
الصوم والله
الصوم ليس هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة للوصول إلى الهدف، إلى الله" خُبزُ الحَياة" (يوحنا 5: 48)، كَلِمَةَ اللهِ لسماعها والعمل بها " (لوقا 8: 21). يعلق البابا فرنسيس "الزّمن الصوم هو زمن نعمة بالمقياس الذي فيه نستمع إلى يسوع الذي يكلّمنا. وكيف يكلّمنا؟ أوّلًا في كلمة الله. بالإضافة إلى الكتاب المقدّس، يكلّمنا الرّبّ يسوع في الإخوة، لا سيّما في وجوه الذين يحتاجون إلى المساعدة. لكن، أودّ أن أُضيف أيضًا جانبًا آخر، استماعنا إلى المسيح الذي يمرّ أيضًا من خلال استماعنا إلى الإخوة والأخوات في الكنيسة "(رسالة البابا فرنسيس لمناسبة زمن الصوم 2023: "زهد الصوم، مسيرة سينودسية").
ويقدّم الآباء السريان طريقة عملية لقراءة كلمة الله: "اجمع أولاً أفكارك، وطهّر قلبك من كل اعتبار غريب. وعندما تكون مستعداً تماماً، ادخل إلى أعماق قلبك، وأشعل بزيتِ الإيمان سراجَ عقلك، فيضيء في هيكل "إنسانك الباطن"، واُشْدِد حقوَي ضميرك بنار الحبّ. لا تقرأ لمجرد القراءة، إنما اقرأ حتى تفهم. لا تقرأ وفكرك قلق. لا تقرأ للمتعة. لا تقرأ من باب الفضول، بل اقرأ جملة بعد جملة، وحلّلها واكتشف معناها" (ساكو، آباؤنا السريان ص 253-254). "مَن كانَ مِنَ اللهِ استَمَعَ إِلى كَلامِ الله" (يوحنا 8: 47). لذلك لا يمكن أن ينفصل الصوم عن ذكر الرب المحرك الأساسي له. إننا بصومنا نتجه نحو الرب بانفتاح جذري الذي ننتظر منه كل شيء (دانيال 9: 3). يقول البابا الراحل بندكتس السادس عشر: "الإيمان ليس سوى أن نلمس يد الله في ظلمة العالم، فنسمع هكذا كلمة الله في الصمت، ونرى الحبّ" (رياضة الصوم الكبير في 23 شباط 2013).
مقومات الصوم الأربعيني إذن هي الرجوع إلى الله وطلب رحمته بكل لجاجة من خلال أعمال التوبة والصلاة والصدقة، وبالطبع هناك أعمال روحية ذات صلة بهذا المثلث وهي الاهتداء، المصالحة الغفران، محبة القريب، والابتعاد عن الكراهية والحقد والانتقام. فنحن بالصيام نعبر أن الله هو مصدر الحياة والعيش وليس الخبز واللحم. " مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان" (متى 4: 4). فالله هو مصدر وجودنا فعلينا أن نكون مستعدين أن نفرغ حياتنا لكي نمتلئ منه تعالى. لنصم جميعا متحدين بالرب ولنشبع أنفسنا منه وحده. إذ أن بالصوم ربنا يستجيب لنا " فصُمْنا وطَلَبنا مِن إِلهِنا لِأَجلِ ذلك فآستَجابَنا (عزرا 8:23). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "ليس هناك ما يُضاهي الصلاة. إنَّها تجعل مستطاعاً ما هو مستحيلٌ، وسهلاً ما هو عسيرٌ. يستحيل لمن يصلي أن يرتكب الخطيئة" (PG 54.666).
الصوم والآخرين
الصوم هو زمن العودة إلى بعضنا البعض بأفعال المحبة والصدقة والرحمة وبالمصالحة. فالصدقة هو موقف القلب، القلب الرحيم، الشفيق، الذي يسعى لتجديد علاقة مع الآخرين كما جاء توصيات أشعيا: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ (أشعيا 58: 6-7)؛ فلا حب بلا تضحية والتضحية بلا حب أمر خارجي. "الصيام وحده لا يوصلك إلى السماء بل يلزمك لتصعد إليها على أجنحة المحبة”. بالصوم يشعر الإنسان بالجوع وبالتالي مع الجائع. ما نصوم عنه ليس من حقنا، وإنما هو من حق الفقير. ومساعدته هي "واجب من باب العدالة" (رسالة العلمانيّين، 8). وفي هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيصي: "ما يفيض عنك ليس لك، فلا تستطيع أن تجعل نفسك مالكًا". لذلك الامتناع عن إشراك الفقير في خيراتنا الخاصّة إنّما هو، بتعبير القدّيس يوحنّا فم الذهب، سرقة حقوقه واستلاب حياته والخيرات التي هي له. لأنّ "خيرات الأرض معدّة من الله لجميع الناس" (الكنيسة في عالم اليوم، 69). ما تحرم نفسك منه بالصوم، قدّمه إلى شخص آخر.
الصوم المقبول عند الرب يقول أشعيا النبي "أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ ” (اشعيا 58/6) الم يقل المسيح:” تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ … كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه “. (متى 25: 34-40). الصوم كالطير لا يطير إلا بجناحين الصلاة والصدقة. هذا هو الصوم الذي يفضّله الربّ: الصوم الذي يظهر له أيادٍ مليئة بالحسنات وقلبًا ممتلئًا بحبّ الآخرين؛ صوم مليء بالطيبة.
وفي ضوء روح السينودس، الصوم هو الشركة مع الله، مشاركة مع الإخوة في تقاسم الخيرات الماديّة والروحيّة. وأخيرًا الرسالة: الصوم هو رسالة المسيح الموجّهة لكلّ مسيحي ليتوجّه اللي الشعوب الجائعة، بسبب الأزمات السياسيّة والاقتصادية والمعيشيّة والماليّة، وبسبب الحروب والتهجير والتشريد وهدم البيوت، وبسبب عوامل الطبيعة كالزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا. ولذا، زمن الصوم الكبير هو زمن خدمة المحبّة بالشكل المكثّف ليكشف العالم أنَّ السعادة الحقيقية ليست التهافت على كسب المال والنفوذ من أجل الملذات، بل على المحبة الخدمة والتضامن وبذل الذات.
3) في أي وقت كان يصوم المؤمن؟
في العهد القديم نجد أن وقت الصيام كان في أيام مختلفة حسب الظروف منها:
أ) يوم الكفارة: هو اليوم الوحيد الذي أمرت الشريعة بالصوم فيه. وهو اليوم العاشر من الشهر السابع حسب التقويم العبري وكل ما هو مطلوب: تذليل النفوس، والامتناع عن كل عمل، وهو يوم عطلة مقدسة، يصومون فيه ويقدمون قربانا للرب. (لاوي 16: 29-34، عدد 29: 7).
ب) وقت الشدة: كان اليهود يصومون في أوقات أخرى لم تأمر الشريعة بها وهي:
وقت الاستعداد لملاقاة الله: كما حدث مع موسى (خروج 34/28) ومع دانيال 9/3). في زمن الحرب أو التهديد بالحرب: (قضاة 20: 26). وقت المرض: صام داود عندما مرض ابنه (2 صموئيل 12: 16).
وقت النوح: صام داود سبعة أيام من أجل مقتل شاول (1 صموئيل 31/13). وقت الندم والتوبة: كانت المصائب تعتبر دليلا على غضب الله، فكان الندم والتوبة وسيلة الخلاص منها. صام أخاب واتضع أمام الله عندما أنذره إيليا بالمصير الذي ينتظره لقتله نابوت اليزعيلي (1 ملوك 21/27). وقت الخطر الدائم: نادى عزرا بصوم ليطلب رعاية الرب له وللشعب الراجع من بابل إلى وطنه (عزرا 8/21). في ذكرى الكوارث: اليوم 10 من الشهر الخامس الذي فيه احرق الهيكل (ارميا 52/12). واليوم العاشر من الشهر العاشر الذي بدأ فيه البابليون حصار أورشليم (2ملوك25/1). زمن الأزمات: يحدث الصوم حالة دمار البلاد يوئيل 14:1).
في العهد الجديد نجد مناسبتين يطلب الله فيها الصيام:
أ) لطرد الشياطين: هناك شياطين لا تخرج إلا بالصلاة والصوم. ويشير الصوم هنا كمؤشر للإيمان (متى 17/21 ومرقس 9/29). وعلى هذا المبدأ سار المسيح الذي صام السيد أربعين يوما وحارب بعدها الشيطان وجابهه، وعلى خطاه سار الرسل وآباء الكنيسة فيقول على سبيل المثال القديس باسيليوس: “الصوم يهدئ النفس، ينقي الفكر، يبعد الشياطين ويطردهم بعيدا و"يقرّب الإنسان إلى الله"، كما اتبع هذه الطريق القديسون، ونذكر منهم القديس جان ماري فيانيه شفيع الكهنة، الذي اعتمد على الصوم والصلاة لطرد الشيطان:” سأقهرك، أيها الشيطان الخطّاف، بنعمته تعالى".
ب) للقيام برسالة الدعوى: عندما قال الروح القدس للتلاميذ في أنطاكية:" أَفرِدوا بَرْنابا وشاوُلَ للعَمَلِ الَّذي دَعَوتُهما إِليه. فصاموا وصلَّوا "(أعمال الرسل 13: 1-3).
4) ما هي مدة الصوم حسب الكتاب المقدس؟
في العهد القديم كان الصوم عادة لمدة يوم واحد من شروق الشمس إلى مغربها (قضاة 20/26، إذ صموئيل 14/24) وربما كان لليلة واحدة (دانيال 6/18) واستمر صوم استير ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً (استير4: 16) وصام أهل يابش جلعاد سبعة أيام لموت شاول (1 صموئيل 13: 13) وصام داود سبعة أيام عند مرض ابنه (2 صموئيل 12: 16-18). وقد صام موسى أربعين يوماً (خروج 34: 28، تثنية الاشتراع 9: 9) وكذلك صام إيليا (1ملوك 19: 8). ويدل رقم “أربعين” وهو عمر جيل بكامله على فترة زمنية طويلة لا تعرف مدتها معرفة دقيقة. يرجح أن هذه المدة تشير إلى الوقت الذي قضاه موسى على الجبل أو إلى الأربعين سنة التي قضاها إسرائيل في البرية (عدد14/34) والتي تشير إلى مسيرة إيليا أربعين يوماً (1ملوك 19: 8) وأما في العهد الجديد فكان الفريسيون يصومون يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع بدافع من تقواهم الخاصة (لوقا 2/37، 18/9-12). الخميس هو يوم ذهاب موسى النبي للجبل لاستقبال الوحي الإلهي، والاثنين هو اليوم الذي عاد فيه من الجبل.
وأما قرنيليوس فكان صائماً لمدة أربعة أيام عندما ظهر له الملاك (أعمال الرسل 10: 1-3). وصام الرجال الذين مع بولس في السفينة مدة أربعة عشر يوماً (أعمال الرسل 27/33). وأما الأرملة حنّة فكانت تواظب ليل نهار على الصلاة والصوم “لا تُفارقُ الهيكلَ، مُتعبِّدةً بالصوم والصلاة ليلَ نهار" (لوقا 2:37). وصام يسوع أربعين يوماً ليفتتح رسالته بفعل تسليم لأبيه بثقة كاملة (متى 4: 1-4). إن هذه الأربعين يومأً هي أيام مسيرتنا الجماعية إلى ليلة الفصح المقدسة، إنها تمثل صعود يسوع إلى أورشليم. إنها تمثل طول الطريق التي تبعدنا عن الله، وسلوكنا لدرب العودة والرجوع وملاقاة الله ومصالحته في عيد الفصح. “فلا نترك الفصح يمرّ من غير أن ندخل في حقيقته وفي مطالبه” كما وصانا قداسة البابا بولس السادس (10 نيسان 1968)
5) ما هو دور الكنيسة في شريعة الصوم؟
رسم السيد المسيح لنا الخطوط الرئيسية للصوم، غير أن لم يحدد أياما للصيام، ولا ساعة لبداية الصوم كما لم يحدد لهذا الصيام التزامات أو ممنوعات أو مباحات، إنما أنهى عن الصوم الشكلي والظاهري، تاركا التفاصيل للكنيسة لتبتّ فيها، ولتفسر للمؤمنين كيفية الصوم بحسب البيئة والظروف، وبما تراه مناسبا لتحقيق مفهوم وهدف الصوم. فوضعت الكنيسة قوانين للصيام. وغايتها أن تكفل للمؤمنين الحد الأدنى الذي لا بد منه في روح الصلاة وفي الجهد الأخلاقي كي يتحد الجميع في ممارسة مشتركة لأعمال الصوم والانقطاع للكفر بذواتهم والنمو ونمو في محبة الله والقريب.
فهناك صيام واجب وصيام مستحب. الصيام الواجب هو ما جاء في الوصية الرابعة من وصايا الكنيسة: "انقطع عن أكل اللحم وصم الصوم في الأيام التي تقرّها الكنيسة” (التعليم المسيحي رقم 2043). ويقوم الصوم بالاقتصار على وجبة واحدة في النهار، مع تناول شيء من الطعام صباحاً ومساء، وفقاً للعادات المحلية الموافق عليها، من حيث النوع والكمية (منشور: توبوا، البابا بولس السادس القسم 3: 3: 2).
والانقطاع يعني الامتناع عن "الزفر". والزفر هو عندنا اللحوم ومشتقاتها (كتاب التعليمات، 23). ويحافظ على الصوم والانقطاع معاً يومي: أربعاء الرماد والجمعة العظيمة في ذكرى آلام ربنا يسوع المسيح وموته (منشور: توبوا البابا بولس السادس القسم 3:3:2).
وتلزم فريضة الانقطاع وحدها كل يوم جمعة مدة الصوم الأربعيني الذي يمتد من أربعاء الرماد إلى ما قبل عشاء الرب. وقد جرت العادة أن يوضع الرماد على الرؤوس في أربعاء الرماد وفقاً لما عهده العهد القديم (أيوب 42: 6، المراثي 2: 1) دلالة على التوبة والحداد، كما تدل هذه الإشارة على حالة الإنسان الخاطئ الذي يقرّ بذنبه بين يدي الله بطريقة ظاهرة وبها يعرب عن عزمه الباطن على الرجوع لله راجياً منه تعالى أن يكون به رؤوفا رحيماً.
يلزم بفريضة الانقطاع (عن اللحم، أو طعام آخر، وفقاً لما تقرره الهيئة الأسقفية،) من أتموا الرابعة عشرة من العمر.
أما قانون الصوم، فيُلزم جميع من بلغوا سن الرشد (21 من العمر) وحتى بداية الستين من عمرهم، غير انه، على رعاة النفوس والوالدين ان يسهروا، على تربية من هم غير ملزمين، لصغر سنهم، بالانقطاع والصوم على اكتساب معنى صادق للتوبة (الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، 1252).
وهناك الصوم قرباني الواجب ورد في قوانين الكنيسة "على المؤمنين أن يراعوا الصوم المفروض في كنيستهم ليحسنوا الاستعداد لقبول هذا القربان المقدس" (الحق القانوني رقم 1387) حيث يصبح فيها المسيح ضيفنا. في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية ينص قانون الصوم القرباني على ما يلي: "على المقبل على تناول الافخارستيا المقدسة أن ينقطع لمدة ساعة على الأقل قبل المناولة المقدسة عن كل طعام وشراب، عدا الماء والدواء" (الحق القانوني للكنيسة الكاثوليكية اللاتينية 919، البند1).
وأما الصيام المستحب فما يفرضه كل شخص من صيام على نفسه وعائلته حسب ظروفه الصحية وعمله. هناك من يصومون يومي الأربعاء والجمعة طوال السنة لأنَّ الأربعاء تمًّت فيه المؤامرة على السيد المسيح عندما وعد يهوذا رؤساء الكهنة أنْ يسلمه لهم مقابل ثلاثين من الفضة. أما الصوم يوم جمعة فهو تذكار لليوم الذي صُلب فيه السيِّد المسيح ومات على الصليب. فالكنيسة الكاثوليكية منفتحة في هذا الخصوص تحترم حريتنا وتعطينا المجال للاختيار فهي تعرض ولا تفرض، ولكي يتم تجنب الفوضى تحدد عمر الصائم وفترة الصوم وأنواع المأكولات وغايات الصوم وطرقها وتطلب من المؤمنين تطبيقها طواعية وليس بالإكراه من باب الروح يحيي والحرف يقتل.
قانون الصوم في كنيسة الروم الكاثوليك
ورد قانون الصوم في كنيسة الروم الكاثوليك في الكتب الطقسيّة وفي نشرات الأبرشيّات والرعايا فهي كما يلي:
الصوم الأربعيني الكبير: أيام الصوم هي أيام الأربعاء والجمعة من أسبوع مرفع الجبن. وأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من أسابيع الصوم والأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا اليوم الذي يقع فيه عيد البشارة 25 آذار.
سبت النور. هو السبت الوحيد الذي يجب الصوم فيه. بينما يمنع الصوم في السبوت الأخرى لارتباط السبت بأحد القيامة
أيام القطاعة تشمل الصوم الأربعيني بكامله بما فيها أيام الآحاد. بالإضافة إلى الأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا عيد البشارة وأحد الشعانين حيث يسمح بأكل السمك.
القطاعة هي الامتناع عن اللحم ومرق اللحم، وعن البياض، أعني البيض والجبن والألبان والزبدة الخ. أما السمك فيسمح به في أيام معيّنة. وكذلك الزيت والخمر في أيام معيّنة. هذا مع العلم أن السينودس المقدّس قد ترك لكلّ مطران أن يعطي تعليمات وتوجيهات إضافيّة مناسبة لأبرشيّته
قانون الصوم في الكنيسة المارونية
الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب من نصف الليل إلى الظهر (مع إمكانية شرب الماء فقط). ويتم الصوم من الإثنين إلى الجمعة خلال زمن الصوم الأربعيني، وخلال أسبوع الآلام في سبت النور.
الانقطاع أو القطاعة هي الامتناع عن أكل اللحم والبياض (الحليب ومشتقاته والبيض). ويتم الانقطاع في أسبوع الأول من زمن الصوم الكبير، أسبوع الآلام وكل يوم جمعة على مدار السنة.
لا صوم ولا انقطاع السبت وألاحد من كل أسبوع ما عدا سبت النور، وفي الأعياد التالية أثناء زمن الصوم: مار يوحنا المعمدان (2 أذار) الأربعون شهيدا (9 أذار)، مار يوسف (19 أذار)، وبشارة العذراء (25 أذار) وعيد شفيع الرعية.
يُعفى من الصَّوم والقطاعة على وجهٍ عامّ المرضى والعجزة الذين يَفرِض عليهم واقعهم الصِّحيّ تناول الطَّعام ليتقوَّوا وخصوصًا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاعٍ صحِّيَّةٍ خاصَّةٍ ودقيقةٍ، بالإضافة إلى المرضى الذين يَخضَعُون للاستشفاء المؤقَّت أو الدَّوريّ.
يبدأ الأولاد الصَّوم في السَّنة التي تلي المناول الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في أيَّام الدِّراسة. هؤلاء المعفيُّون من شريعة الصَّوم والقطاعة مدعوُّون للاكتفاء بفطورٍ قليلٍ كافٍ لتناول الدَّواء، أو لمتابعة الدروس إذا كانوا تلامذةً وطلاباً. المعفيّون مدعوون للتعويض بأعمال خير ورحمة ومحبّة.
الصوم القربانيّ: هو الامتناع عن تناول الطعام ابتداءً من نصف الليل قبل المناولة أو على الأقلّ ساعة قبل بدء القدّاس، استعدادًا للاتحاد بالربّ بمناولة جسده ودمه. (الكردينال مار بشارة بطرس الراعي " رسالة الصوم الثالثة عشرة" 2023).
الخلاصة
بعد أن حاولنا أن نجيب على الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه نجد أن الأهم هو أن يصوم الإنسان ويختبر معنى الصوم وحينئذ يفهم ويكتشف فائدته، إن لم يصم لن يكتشف حقيقة الصوم ولو قرأ وسمع الكثير عن هذا الموضوع. لذا فخير ما نختتم هذا التأمل هو ما قاله القديس يوحنا فم الذهب في إحدى عظاته عن الصوم: "اشحذ منجلك التي أتلفتها الشراهة، اشحذها بالصوم"… فليكن طعامنا في زمن الصوم الأربعيني الكلمة التي تخرج من فم الله، لأنه "ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله" (متى 4:4)، والعمل بمشيئته وهو القائل "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34) وان نلبي دعوته ونقبل بتوبة وإيمان إلى تناول جسده وشرب دمه وهو القائل: "لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ" (يوحنا 6: 55).
دعاء
امنحنا، يا ربّ، أن تؤهلنا رحلة الصوم هذه للاحتفال بأسرار موتك وقيامتك المجيدة. وامنحنا يا ربّ، أن تكون كلّ أفكارنا، أقوالنا، وأفعالنا موافقة لإرادتك، لأنك إله حنون رحيم طويل الأناة كثير الرحمة لكلّ من يدعونك بقلب نادم متواضع. ارحم يا ربّ، ارحم شعبك ولا تغضب عليه إلى الأبد. آمين.