موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 3: 10-18)
10 فسَأَله الـجُموع: ((فماذا نَعمَل؟)) 11 فأَجابَهم: ((مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك)). 12 وأَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: ((يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل؟)) 13 فقالَ لَهم: ((لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم)) 14 وسَأَله أَيضاً بَعضُ الـجُنود: ((ونَحنُ ماذا نَعمَل؟)) فقالَ لَهم: ((لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم)). 15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح. 16 فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 17 بِيَدهِ الـمِذْرى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفأ)) 18 وكانَ يَعِظُ الشَّعبَ بِأَقوالٍ كَثيرةٍ غَيرِها فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة.
مقدمة
يصِفُ لوقا الإنجيليُّ في الأحدِ الثّالثِ للمجيءِ ردودَ فعلِ الجموعِ أمامَ بِشارةِ يوحنا المعمدانِ للنّاسِ حولَ تَربيةِ الضّميرِ، بدعوتِهم إلى فَحصِ الضّميرِ، والتّوبةِ، والحياةِ المُستَقيمَةِ. إذ أخذوا يَسألونَهُ: "ماذا نَعمَل؟" ماذا نَعمَلُ كي نكونَ مُستعدّينَ للمسيحِ متى جاء؟ "ماذا نَعمَل؟" ماذا نَعمَلُ كي نعيشَ حياةً صالحةً ونَنالَ الخَلاصَ والحياةَ الأبديّةَ؟
فأعطاهم الإرشاداتِ العَمليّةَ في تَقويمِ الذّاتِ وِفقًا لوَضعِ كلِّ فئةٍ: الجُموعِ، والعشّارينَ، والجُنودِ (لوقا 3: 10-18)؛ وللجميعِ، ولا أحدَ مُستثنًى منَ الخَلاصِ، كما يقولُ يوحنا المعمدانُ: "كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6). ومِن هُنا تَكمُنُ أهميّةُ البَحثِ في وَقائعِ النّصِّ الإنجيليِّ وتَطبيقاتِهِ.
أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 3: 10-18)
10فسَأَل الـجُموع يوحَنَّا: ((فماذا نَعمَل ؟))
عبارة "يوحَنَّا" هي صيغةٌ عربية للاسم اليوناني Ἰωάννην المُشتقّ من اللغة العبرية יוֹחָנָן ويعني (الله حنون)؛ وتشير إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا وأَلِيصابات (لوقا 1: 5-8)، الذي وُلد في السنة السابعة ق.م، ولقبه معروف بـ "السّابق" لأنّه مهَّد لمجيء المسيح، أو "المعمدان" لكونه عمّد يسوع. وكان يوحَنَّا يُعمِّد في ضفّة نهر الأردن الشَّرقيّة، حوالي 30 كم شرقًا من أورشليم، حيث أُكْتُشِفَ مكانُ عمّاد يسوع من يوحَنَّا" (مرقس 1: 5). وهو يُعدّ آخِرَ أنبياء العهد القديم، وأوَّلَهم في العهد الجديد، قد أُرْسِل ليهيّئ الطريق ليسوع، ويشهد للنّور: " ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ اللهِ اِسْمُه يوحَنَّا جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّورِ فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحنا 1: 5-6). يوحنّا هو الرَّجل والـُمعد لمَجيء الرّبّ، هو الرجل هو بمثابة النقطة الفاصلة بين الترقُّب القديم الّذي تحققّ بمجيء المسيح يسوع. هو مَن افتتح العَهد الجديد. هو رجل المجيء أيضا في طريقنا نحو اللقاء النهائي بالرّبّ الّذي سيأتي. أمَّا عبارة "فماذا نَعمَل؟" فتشير إلى سُؤال تَكَرَّرُ ثَلاثَ مَرّاتٍ (لُوقا 3: 10، 12، 14) دَلالة على أهميته في النَّص كمحور رئيسي. وهذا السُّؤال يدلُّ على استيقاظ قلوبَ النّاس أمام إنذار يوحَنَّا بالدَّينونة (لوقا 3: 7-9)، فأخذوا يسألون: ماذا يجب أن نفعل للهروب من غضب الله الآتي؟ وبالمثل كان سؤال النّاس نتيجة لعظة بطرس الأولى: "فلمّا سَمِعوا ذلكَ الكَلام، تَفَطَّرَت قُلوبُهم، فقالوا لِبُطرُسَ ولِسائِرِ الرُّسُل: ماذا نَعمَل؟" (أعمال الرسل 2: 37). وكذلك كان ردّ فعل بولس الرّسول، وهو على طريق الشّام، يوم طرقت النِّعمة أبواب قلبه، في سؤاله العفوي: "ماذا أَعمَل، يا ربّ؟" (أعمال الرسل 22: 10). وكان أيضًا سؤال سجَّان بولس الرّسول: "يا سَيِّدَيَّ، ماذا يَجِبُ عليَّ أَن أَعمَلَ لأَنالَ الخَلاص؟" (أعمال الرسل 16: 30). إَنَّهُ سُؤالٌ عام يَخُصُّ الجَميعَ. غَالِبًا ما يَكونُ وَراءَ هذا السُّؤالِ شُعورٌ بِعَدَمِ الرِّضا. الكُلُّ يَبحَثُ عَن حَياةٍ أَفضَلَ.
11 فأَجابَهم: ((مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك)).
تشير عبارة "مَن كانَ عِندَهُ قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَهُ وبَينَ مَن لا قَميصَ لَهُ" إلى طَلَبِ يوحَنَّا المَعمدان إلى الجُموع أن يَسلُكوا سُلوكَ الإخاءِ والصَّدَقَةِ ومُشاركةِ ما لَدَيهِم مع المُحتاجين: "لِأَنَّ الجَسَدَ أَعظَمُ مِنَ اللِّباسِ" (لوقا 12: 23)، "ولأَنَّ المَحبَّةَ تَستُرُ كَثيرًا مِنَ الخَطايا" (1 بطرس 4: 8). وتَرَكَّزَت وَصِيَّةُ يوحَنَّا للجُموع على الرَّحمَةِ والمَحبَّةِ العَمَليَّة. أمَّا عبارة "قَميصان" في الأصل اليوناني χιτών (مَعناها ثَوب) فتَشير إلى الحاجة إلى ثَوبٍ واحِد، والثَّوب الآخَر يُعطى لِمَن يَحتاجُ إليه. أمَّا عبارة "ومَن كانَ عِندَهُ طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك" فتَشير إلى احتِياجاتِ الإنسان الجَسَدِيَّةِ (متى 5: 42). مطلوب من الإنسان في مقاسمة الآخرين في طعامه أيضًا. لم يَكتَفِ يوحَنَّا بِمُمارَسَةِ طَقسِ المَعمُودِيَّةِ واستِماعِ اعتِرافِ الشَّعبِ، إنَّما أَوصاهُم بِالأَعمالِ الضَّرورِيَّةِ لِلبُرهانِ على صِحَّةِ تَوبَتِهِم. وهُنا نَتَساءَل: أيُّ تَغييرٍ يُمكِنُ أن يَحدُثَ بِمُشارَكَتِنا الآخَرين فيما نَملِك؟ فالمُشاركة هي الخُطوة الأولى للتَّوبة.
12وأَتى إِلَيه أَيضاً بَعضُ الجُباةِ لِيَعتَمِدوا، فقالوا له: ((يا مُعَلِّم، ماذا نَعمَل ؟))
تشير عبارة "الجُبَاةِ" في الأصل اليوناني τελῶναι (مَعناها العَشَّارُون) إلى جُبَاةِ الضَّرائبِ الَّذين كانوا يَجمَعونَ العُشرَ ويُقَدِّمُونَهُ لِلرُّومان، ولِذلِكَ أَصبَحُوا عُرضَةً لِاحتِقارِ المُجتَمَعِ، لأَنَّهُم كانوا في خِدمَةِ الرُّومَانِيِّينَ الوَثَنِيِّينَ المُحتَلِّين، وكانوا يُمارِسُونَ غالِبًا مِهنَتَهُم بِاختِلاسِ الأَموالِ، إذ كانوا غَشَّاشِينَ، وغَيرَ أُمَنَاءَ، وجَشِعِينَ، وطَمَّاعِينَ، بَل مُستَعِدِّينَ لِخِيَانَةِ مُوَاطِنِيهِم مِن أَجلِ المَالِ (لوقا 9: 8). وقد نَبَذَهُم الفَرِيسِيُّونَ، وكانَ الرَّأيُ العَامُّ يَجعَلُهُم في عِدادِ "الخَاطِئِينَ" (لوقا 5: 30)، لِكَرَاهَةِ وَظيفَتِهِم وظُلمِ أَعمَالِهِم، لَكِنَّ اللهَ مُستَعِدٌّ أَن يَقبَلَ حَتَّى أُولئِكَ الجُبَاةِ لَو تَابُوا وتَغَيَّرَت طُرُقُهُم حَقِيقَةً كَمَا يُعلِنُ يُوحَنَّا المَعمدان.
13فقالَ لَهم: ((لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم)).
تشير عبارة "لا تَجْبُوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُم" إلى طَلَبِ يُوحَنَّا المَعمدان مِن الجُبَاةِ أَلَّا يَترُكُوا وَظيفَتَهُم، لأَنَّهُ حِينَما تَكونُ هُناكَ حُكُومَةٌ، لا بُدَّ مِن جُبَاةِ الجِزْيَةِ اللَّازِمَةِ لِنَفَقَاتِهَا. إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُم أَنْ يَسلُكُوا سُلُوكَ العَدَالَةِ وَالأَمَانَةِ، وَأَنْ يُتقِنُوا عَمَلَهُم وَيَكتَفُوا بِما هُوَ مَفْرُوضٌ لَهُم مِن جِبَايَةِ الأَموالِ، وَأَنْ لَا يَستَغِلُّوا مَراكِزَهُم، وَيَجمَعُوا ضَرَائِبَ أَكثَرَ مِمَّا يَجِبُ لِحِسَابِهِم الخَاصّ، تَحَاشِيًا لِلظُّلمِ وَالطُّغيَانِ في الخِدمَةِ وَالوَظيفَةِ. يَدعُو يُوحَنَّا المُوَظَّفَ الأَنَانِيَّ المُنهَمِكَ في مَصالِحِهِ الذَّاتِيَّةِ أَنْ يُغَيِّرَ سُبُلَهُ وَيَلتَفِتَ إِلَى خَيرِ المُوَاطِنِينَ. لم يطلب يوحنا منهم ترك مهنتهم، ولم يتطرق إلى نجاستهم، إنما يدعوهم إلى الصدق والاستقامة. الخطوة الثانيّة للتَّوبة هي الصّدق والاسْتقامة.
14وسَأَله أَيضاً بَعضُ الـجُنود: ((ونَحنُ ماذا نَعمَل ؟)) فقالَ لَهم: ((لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم)).
لا تُشيرُ عبارة "بَعضُ الـجُنودِ" إلى نَواةِ القُوَّاتِ المُسلَّحَةِ الَّذينَ يَعمَلُونَ ضِمنَ فِرَقِ الجَيشِ الرُّومَانِيِّ الَّتي كانَت تُرسَلُ إلى الأَقالِيمِ البَعِيدَةِ لِحِفظِ السَّلامِ، إِنَّما إلى جُنودِ هِيرُودُسَ أَنتِيبَاسَ، أَمِيرِ الرُّبعِ في الجَلِيلِ، أَو جُنودٍ مِنَ اليَهُودِ يُحافِظُونَ على المَنطِقَةِ، حَيثُ كانُوا يَظلِمُونَ النَّاسَ مُستَغِلِّينَ سُلطَتَهُم، وقَد دَعَاهُم يُوحَنَّا المَعمدان إِلَى تَغْيِيرِ طُرُقِهِم مِن خِلالِ إِعلَانِ إِيمَانِهِم أَمَامَ الجَمِيعِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لا تَتَحَامَلُوا على أَحَدٍ ولا تَظلِمُوا أَحَداً، واقنَعُوا بِرَوَاتِبِكُم" فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ يُوحَنَّا المَعمدان مِنَ الجُنُودِ أَنْ يَسلُكُوا سُلُوكَ العَدلِ وَأَنْ يُتقِنُوا عَمَلَهُم ويُظهِرُوا أَمَانَتَهُم في مُمارَسَةِ مِهنَتِهِم، لأَنَّ الجُنُودَ قَدِ اشتَهَرُوا بِقَسَاوَتِهِم وَمُمَارَسَتِهِم غَيرَ الأَخلاَقِيَّةِ مِثلَ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا. أَمَّا عِبَارَةُ "لا تَتَحَامَلُوا على أَحَدٍ" فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ يُوحَنَّا مِنَ الجُنُودِ أَنْ لا يَتَّخِذُوا مِن عَمَلِهِم فُرصَةً لِلتَّسَلُّطِ على النَّاسِ، وَالوِشَايَةِ عَلَيهِم أَمَامَ الحَاكِمِ بَغيَةَ أَنْ يَأخُذُوا مِنَ المُتَّهَمِينَ رَشوَةً لِإِطلَاقِهِم أَو ثَوَابًا مِنَ الحَاكِمِ كَأَنَّهُم جَوَاسِيسُ لَهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "ولا تَظلِمُوا أَحَداً" فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ يُوحَنَّا مِنَ الجُنُودِ أَنْ لا يَتَّخِذُوا مِن عَمَلِهِم فُرصَةً لِلتَّسَلُّطِ على النَّاسِ فَيَظلِمُوهُم وَيَأخُذُوا مِنَ الشَّعبِ أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ عَلَيهِم أَو أَنْ يَسلُبُوا شَيئًا مِن أَموَالِهِم. أَمَّا عِبَارَةُ "واقنَعُوا بِرَوَاتِبِكُم" فَتُشِيرُ إِلَى طَلَبِ يُوحَنَّا مِنَ الجُنُودِ أَنْ يَلتَزِمُوا القَنَاعَةَ بِأَرزَاقِهِم وَرَوَاتِبِهِم وَعَدَمِ التَّحَايُلِ على النَّاسِ وَابتِزَازِهِم، إِذ كَانَت أُجرَةُ الجُندِيِّ وَقتَئِذٍ نَحوَ دِينَارٍ في اليَومِ وَكَانَ عَلَيهِم أَنْ يُنفِقُوا مِنها على طَعَامِهِم. وهُنَا نَتَسَاءَلُ: أَيُّ تَغْيِيرٍ يُمكِنُ أَنْ يَحدُثَ عِندَمَا نَقُومُ بِعَمَلِنَا بِإِتقَانٍ وَأَمَانَةٍ؟ جَوابُ يُوحَنَّا لا يَطلُبُ مِن الجنودَ تَركَ وَظائفهم، ولكن عدم إساءة استخدام سُلطتهم، والعيش برّوح خدمة للآخرين، وليس استغلالهم. يطلب يُوحَنَّا أَن تنفتِحَ حياتهم على جَديدِ الإِنجيلِ. الخطوة الثَّالثة للتَّوبة هي استخدام الإنسان سُلطته لأجل الآخرين.
15وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح.
تَشيرُ عبارةُ "وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر" إلى انتظارِ الشَّعبِ اليهوديِّ للمسيحِ المُخلِّصِ، لأنَّهُ لم يَكُنْ هناكَ نبيٌّ في إسرائيلَ لِفَترةٍ تَزيدُ على أربَعِمائةِ عامٍ. واعتقدَ كثيرونَ أنَّ النُّبوءَةَ سَتَعودُ إلى الظُّهورِ مع مَجيءِ المسيحِ (يوئيل 2: 27)؛ فكانت جُرأةُ يوحَنَّا وتبشيرُهُ بحَماسٍ، وجَواباتُهُ المُقنِعَةُ، وسُلطانُهُ على قُلوبِ النّاسِ، حَمَلتْهُم أن يَتَساءَلوا: أَلَيسَ هوَ المَسيحَ المُنتَظَر؟ أمَّا عبارةُ "كُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا" فتُشيرُ إلى تَساؤُلِ أفرادِ الشَّعبِ عن هُويَّةِ يوحنّا المَعمَدانِ، ما إذا كانَ هوَ المسيحَ المُنتَظَرَ، كما جاءَ في النَّصِّ القائل: "إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: مَن أَنتَ؟" (يوحنا 1: 19). أمَّا عبارةُ "هل هوَ المَسيح" فتُشيرُ إلى تلاميذِ يوحنّا الَّذينَ ظلُّوا زَمَنًا طَويلاً يَتساءَلونَ هل مُعلِّمُهم هوَ المسيحُ المُنتَظَرُ الَّذي تَتَكَلَّمُ عنهُ النُّبُوءَاتُ؟ لَعَلَّ السَّببَ في ذلكَ ما رَأَوهُ فيهِ مِن تَقَشُّفٍ شَديدٍ في أَكلِهِ وشُربِهِ ومَلبَسِهِ، وقُوَّةِ كَلِماتِهِ وحَزمِهِ في تَبكيتِ الخُطاةِ (متى 3: 4-7)، فَظَنُّوهُ أنَّهُ قادِرٌ على أن يُخلِّصَهُم مِنَ الرُّومانِ. ويُعلِّقُ العَلاّمةُ أوريجانوسُ: "مِنَ المُؤَكَّدِ أنَّ يوحنَّا كانَ إِنسانًا غريبًا يَستَحِقُّ إِعجابًا شَديدًا مِن كُلِّ النّاسِ، فقد كانت حياتُهُ مُختَلِفَةً تَمامًا عن بَقيَّةِ النّاسِ." ومِنَ الواضِحِ أنَّ يوحنّا المَعمَدانَ كانَ نَبيًّا عَظيمًا، وكانَ الشَّعبُ واثِقًا أنَّ المسيحَ الَّذي طالَما انتَظَروهُ قد جاء. لكنَّ يوحنّا المَعمَدانَ أوضَحَ قائلاً: "لَستُ المَسيحَ، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 29)، وأكَّدَ مَرَّةً أُخرَى قائلاً: "لَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (أعمال الرسل 13: 25). يا حَبَّذا لو تَحلَّينا بروحِ يوحنَّا المَعمَدانِ، لِنُبَشِّرَ الأَجيالَ النّاشِئةَ بحَياتِنا وأَمثالِنا وأَقوالِنا، مَن هوَ يسوعُ. أمَّا عبارةُ "الـمَسيح" في الأصلِ اليونانيِّ Χριστός (مَعناها المَمسوحُ بالزَّيتِ مِن أجلِ خِدمةٍ مُعيَّنةٍ: المَلِكُ (1صموئيل 16: 10)، والكاهِنُ (خُروج 40: 13-15)) فتُشيرُ إلى "المَشيح" المُنتَظَرِ المُخلِّصِ، وليسَ مَسيحًا مثلَ سائرِ المَسحاءِ، بل "المَسيح". وفي المسيحيَّةِ، المسيحُ هو الكَلِمَةُ المُتَجسِّدُ وابنُ اللهِ. لكنَّ اليهودَ كانوا يَنتَظِرونَ مَسيحًا آخرَ يُطغى عليه الوَجهُ الوطنيُّ والعَسكريُّ والسِّياسيُّ والقوميُّ، كما يَبدو ذلك واضِحًا لدى اتِّهاماتِ اليهودِ ليسوعَ المسيحِ أمامَ بيلاطسَ: "وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ إلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المَسيحُ المَلِك" (لوقا 23: 2).
16فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار.
تَشيرُ عبارةُ "فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين" إلى أنَّ يوحنّا انتهَزَ الفُرصَةَ لِيُوضِحَ الفَرقَ بينَهُ وبينَ المسيحِ. أمَّا عبارةُ "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماءِ" فتُشيرُ إلى مَعمُوديَّةِ يوحنَّا المُرتبِطَةِ بالتَّوبَةِ، والتِّي تُمهِّدُ لمَعمُوديَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّتي أتى بها يَسوعُ المَسيحُ (متى 3: 11)؛ فَمَعمُوديَّةُ يوحنَّا تُعرَضُ على الجَميعِ، ولا تُمنَحُ إلّا مَرَّةً واحِدَةً، كاستِعدادٍ أخيرٍ لِلدِّينونَةِ ومَعمُوديَّةِ آخِرِ الأزمنَةِ (مرقس 1: 8)، حيثُ إنَّها تَحتوي على شَرطٍ جَوهرِيٍّ، وهوَ التَّحوُّلُ البَاطنِيُّ (متى 3: 2)، وتَهدِفُ إلى "مَغفِرَةِ الخَطايا" الَّتي كانَ الشَّعبُ يَنتَظِرُها. وتَختَلِفُ مَعمُوديَّةُ يوحنَّا عن الاغتِسالِ (التَّطهِير) الَّذي كانَ يُمارَسُ يوميًّا في الدِّينِ اليهودِيِّ للتَّطهِيرِ الطَّقسِيِّ من النَّجاساتِ، كما كانَ الحالُ في جَماعَةِ الأسِّينيّينَ في قُمرانَ، وكذلكَ تَختَلِفُ عن مَعمُوديَّةِ الدُّخلاءِ الَّتي كانت تُطَهِّرُهم لِتُمكِّنَهم مِن الاتِّصالِ باليَهودِ (مرقس 1: 4). أمَّا عبارةُ "مَن هُو أَقوى مِنِّي" فتُشيرُ إلى صِفَةِ القُوَّةِ الَّتي كانت تُطلَقُ على اللهِ في العَهدِ القَديمِ كما وَرَدَ في نُبُوءَةِ دانيالَ: "أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيبُ" (دانيال 9: 4). وكانت تُطَبَّقُ هذه الصِّفةُ على المَسيحِ المُنتَظَرِ، فقد وُصِفَ يَسوعُ "بِالقَويِّ"، وتَظهَرُ قُوَّتُهُ في صِراعِهِ معَ الشَّيطانِ أثناءَ التَّجارِبِ (مرقس 3: 27). أمَّا عبارةُ "مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" فتُشيرُ إلى عَمَلٍ من أَعمالِ العَبيدِ (يوحنّا 13: 4-17). فالتِّلميذُ يُعفى من هذا العَمَلِ تجاهَ مُعَلِّمِه. وهذا يَعني أنَّ يوحنَّا المَعمَدانَ كانَ يَعدُّ نَفسَهُ أَقلَّ مِن تِلميذِ المَسيحِ، مِمَّا يَدُلُّ على وِداعَتِه المَشهُورةِ:" لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنَّا 3: 30). وهكذا أَعلَنَ يوحنَّا هنا أنَّهُ خادِمٌ لِسَيِّدِه، وأنَّ المَجدَ والكَرامَةَ والسُّجودَ والعَظمَةَ لا تَليقُ إلّا بالمَسيحِ الَّذي اسمُهُ يَفُوقُ كُلَّ اسمٍ. ويُعلِّقُ القدِّيسُ يوحنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "هذا هوَ دَورُ الخادِمِ الأَمِينِ، ليسَ فقط لأنَّهُ لا يَنسبُ لنَفسِه كَرامَةَ سَيِّدِهِ، بل لأنَّهُ يَمتَقِتُ ذَلِكَ أيضًا عندما يُقَدِّمُها له كَثيرُونَ." أمَّا عبارةُ "النَّار" فتُشيرُ إلى عَمَلِ اللهِ الَّذي يُطهِّرُ (ملاخي 3: 2) ويَمتَحِنُ (1 بطرس 1: 7). وقد تَتَّخِذُ النَّارُ مَعنى الغَضَبِ (متى 3: 12)، والغَضَبُ يَدُلُّ على مَوقِفِ اللهِ مِنَ الخَطيئَةِ وتَعامُلِهِ مَعَها وعِقابِه لها (أشعيا 30: 27-33). لكنَّ يَسوعَ يَظهَرُ بمَظهَرِ العَبدِ الوَدِيعِ المُتَواضِعِ (متى 12: 18-21)، الَّذي يَقولُ بولُسُ الرَّسُولُ إنَّهُ يُنَجِّي مِنَ الغَضَبِ (1 تَسالونيقي 1: 10). أمَّا عبارةُ "إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" فتُشيرُ إلى الفَرقِ بينَ عَمَلِ يوحنَّا الَّذي يَمتازُ بمَعمُوديَّةِ الماءِ، وعَمَلِ المَسيحِ الَّذي يَمتازُ بمَعمُوديَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ. ولَيسَ المَقصُودُ هنا العَنصَرَةُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 1: 5) أو المَعمُوديَّةُ المَسيحيَّةُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 11: 16)، بقدْرِ ما هوَ عَمَلُ الخَلاصِ الَّذي افتَتَحَهُ يَسوعُ، والتَّطهِيرُ والتَّقدِيسُ بالرُّوحِ القُدُسِ. وتَرمُزُ المَعمُوديَّةُ بالنَّارِ إلى عَمَلِ الرُّوحِ القُدُسِ في جَلبِ دَينُونَةِ اللهِ على مَن يَرفُضُ التَّوبَةَ كما جاءَ في تَعليمِ بولُسَ الرَّسُولِ: "وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد " (1 قورنتس 3: 13). إِنَّهَا نَارٌ تُضِيءُ الطَّرِيقَ لِكُلِّ قَلْبٍ يَسْأَلُ بِإِخْلَاصٍ، وَلِكُلِّ مَنْ يَحْمِلُ فِي دَاخِلِهِ شَوْقًا لِلْحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ. وهكذا تَحَقَّقَت كَلِمَةُ المَسيحِ: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت" (لوقا 12: 49). والرُّوحُ هُوَ نارُ اللهِ الَّتي تُحرِقُ الحُثالَةَ في حَياةِ المُؤمِنِ وتُلهِبُهُ مِن أَجلِ اللهِ. إِنَّها دَعْوَةٌ لِنَفْتَحَ قُلُوبَنَا لِنَارٍ تُحْرِقُ فِينَا مَا هُوَ زَائِلٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ جُذُورٌ، وَمَا لَا يَتَوَافَقُ مَعَ حَقِيقَتِنَا العَمِيقَةِ. وقد حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ في يَومِ الخَمسينِ، وفي هذا اليَومِ يُرجَّحُ أَنَّهُ تَحَقَّقَت المَعمُوديَّةُ الَّتي تَنَبَّأَ بها المَعمَدانُ (أَعمالُ الرُّسُلِ 2: 33).
17بِيَدهِ الـمِذْرى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفأ.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "المِذْرَى" إِلَى خَشَبَةٍ ذَاتِ أَطْرَافٍ كَالأَصَابِعِ (الرَّفْشِ)، تُسْتَعْمَلُ لِلتَّذْرِيَةِ لِتُنَقِّي بِهَا الحِنْطَةَ مِنَ التِّبْنِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "تَكْشِفُ الإِشَارَةُ إِلَى المِذْرَى عَنْ سُلْطَانِ المَسِيحِ فِي تَمْيِيزِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ". أَمَّا عِبَارَةُ "يُنَقِّي بَيدَرَهُ" فَتَشِيرُ إِلَى عَمَلِيَّةِ الدَّيْنُونَةِ المُسْتَمِرَّةِ خِلالَ عَصْرِ الإِنْجِيلِ، إِذْ يُفْصَلُ القَمْحُ عَنِ التِّبْنِ بِوَاسِطَةِ قَبُولِ الإِنْجِيلِ أَوْ رَفْضِهِ، وَيَبْلُغُ ذَلِكَ حَدَّ الكَمَالِ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ. وَالرُّوحُ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي تَذْرِي القَمْحَ (أشعيا 41: 15-16). أَمَّا عِبَارَةُ "فَيَجْمَعُ القَمْحَ فِي أَهْرَائِهِ" فَتَشِيرُ إِلَى الحَصَادِ، وَالحَصَادُ هُوَ صُورَةُ الدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ الَّتِي سَتَجْرِي فِي آخِرِ الأَزْمِنَةِ، لأَنَّهَا سَاعَةُ فَصْلِ القَمْحِ عَنِ الزُّؤَانِ (يُوئِيل 4: 12-13). أَمَّا عِبَارَةُ "القَمْحَ" فَتَشِيرُ إِلَى الحَبِّ الَّذِي يَنْمُو فِي سَنَابِلَ وَيُتَّخَذُ مِنْ دَقِيقِهِ الخُبْزُ، وَيُسَمَّى البُرَّ وَالحِنْطَةَ. وَالقَمْحُ يَدُلُّ هُنَا عَلَى الَّذِينَ تَابُوا وَقَوَّمُوا حَيَاتَهُمْ وَأَصْلَحُوهَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس: "القَمْحُ هُوَ رَمْزٌ لِلأَخْيَارِ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي إِيمَانِهِم وَرَسَخُوا فِي عَقِيدَتِهِم". أَمَّا عِبَارَةُ "التِّبْنُ" فَتَشِيرُ إِلَى القِشْرَةِ الخَارِجِيَّةِ لِحُبُوبِ القَمْحِ وَإِلَى مَا تَهَشَّمَ مِنْ سِيقَانِ القَمْحِ وَالشَّعِيرِ بَعْدَ دَرْسِهِ، وَتُعْلَفُهُ المَاشِيَةُ، وَهُوَ يَدُلُّ هُنَا عَلَى الأَفْرَادِ الَّذِينَ رَفَضُوا التَّوْبَةَ لِلْعَيْشِ مَعَ اللهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس: " التِّبْنُ هُوَ رَمْزٌ إِلَى أُولَئِكَ النَّاسِ الَّذِينَ ضَعُفَتْ عُقُولُهُم وَسَقُمَتْ قُلُوبُهُم، فَأَصْبَحُوا قَلِقِينَ، تَهُبُّ عَلَيْهِمُ الرِّيَاحُ فَتُفَرِّقُهُمْ". أَمَّا عِبَارَةُ "فَيُحْرِقُهُ" فَتَشِيرُ إِلَى الرُّوحِ القُدُسِ، فَهُوَ كَالرِّيحِ الَّتِي تُذْكِي النَّارَ الَّتِي لا تُطْفَأُ (أشعيا 66: 24). أَمَّا عِبَارَةُ "أَهْرَائِهِ" فَتَشِيرُ إِلَى البَيْتِ الكَبِيرِ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ القَمْحُ. أَمَّا عِبَارَةُ "بِنَارٍ لا تُطْفَأُ" فَتَشِيرُ إِلَى نَارِ النِّعْمَةِ المُطَهِّرَةِ الَّتِي لَنْ تُخْمَدَ أَبَدًا حَتَّى يَتِمَّ غَرَضُهَا، كَمَا جَاءَ فِي نُبُوءَةِ أشعيا: "لا تَنطَفِئُ لَيْلًا وَلا نَهَارًا وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ مَدَى الدَّهْرِ وَمِنْ جِيلٍ إِلَى جِيلٍ تَخْرَبُ وَإِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ لا يَجْتَازُ فِيهَا أَحَدٌ" (أشعيا 34: 10). وَيُعْلِنُ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ هُنَا أَنَّ المَسِيحَ آتٍ بَعْدَهُ لِيُجْرِي القَضَاءَ وَالتَّطْهِيرَ، وَسَيَكُونُ هَذَا التَّطْهِيرُ النَّاتِجُ عَنْ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ أَعْمَقَ بِكَثِيرٍ مِنَ التَّطْهِيرِ النَّاتِجِ عَنْ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا بِالمَاءِ.
18 وكانَ يَعِظُ الشَّعبَ بِأَقوالٍ كَثيرةٍ غَيرِها فيُبَلِّغُهُمُ البِشارة
تشير عبارة "فَيُبَلِّغُهُمُ البِشَارَةَ" في الأصل اليونانيεὐηγγελίζετο (مَعْنَاهَا: يُقَدِّمُ البِشَارَةَ)، ومنها اشتقت كلمةεὐαγγέλιον (مَعْنَاهَا: إِنْجِيل). تُشير هذه العبارة إلى بِشَارَةِ الخَلاصِ التي أَعلَنَهَا يَسُوعُ المَسِيحُ كَمَا وَرَدَ فِي أنجيل مَرْقُسَ "جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الجَلِيلِ يُبَشِّرُ بِإِنجِيلِ اللهِ. 1: 14: " (مرقس 1: 14). أمَّا عبارة "البِشَارَة " فتَدُلُّ البِشَارَةُ عَلَى الإِعْلَانِ الإِلَهِيِّ الَّذِي أَتَى بِهِ المَسِيحُ عَبْرَ حَيَاتِهِ، مَوْتِهِ، وَقِيَامَتِهِ، كَمَا أَكَّدَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "بُشْرَى اللهِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا عَنْ طَرِيقِ أَنْبِيَائِهِ فِي الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ" (رُومَة 1: 1). "لَا تَدُلُّ "البِشَارَةُ" عَلَى الكِتَابِ أَو السِّفْرِ، بَلْ عَلَى مَحْتَوَاهَا، أَيْ الخَبَرُ السَّارُّ عَنْ المَسِيحِ الَّذِي يُحَقِّقُ الخَلاصَ. وتُشِيرُ البِشَارَةُ فِي سِيَاقِ يَوحَنَّا المَعمَدَانِ إِلَى مَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ الَّتِي تُهَيِّئُ القَلْبَ لِقُبُولِ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ يَوحَنَّا (يوحنا 3: 7-14. قَدَّمَ يُوحَنَّا المَعمَدَانُ شَهَادَتَهُ عَنِ المَسِيحِ، مُبَشِّرًا بِرَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ. كَانَتْ شَهَادَتُهُ مُمْتَزِجَةً بِالتَّبْكِيتِ لِلتَّوْبَةِ مَعَ بَثِّ رُوحِ الرَّجَاءِ، مُؤَكِّدًا أَنَّ الخَلاصَ يَتَحَقَّقُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي يُعَمِّدُ بِهِ المَسِيحُ. وهذه البشارة هي دَعوة مُلحَّة للفرح الذي يتلكم عنها صفنا النبي قائلاً: " هَلِّلي يا بِنتَ صِهْيون، إِهتِفْ يا إِسْرائيل، افرَحي وتَهَلَّلي بِكُلِّ قَلبِكِ، يا بِنتَ أُورَشَليم" (صفنيا 3: 14). الفرح، التهليل والهتاف! كانت ضروريّة للتغنيّ بالخلاص. لكن إذا تسألنا عن سبب هذا الفرح؟ يعلن النبي سبب هذه الإعلان بالفرح وهو القرار الإلهي:" في وَسَطِكِ الرَّبُّ إِلٰهُكِ، الجَبَّارُ الَّذي يُخَلِّص، ويُسَرُّ بِكِ فَرَحًا، ويُجَدِّدُكِ بِمَحَبَّتِه، ويَبتَهِجُ بِكِ بِالتَّهْليلِ " (صفنا 3: 17). يمكننا القول بأنّنا في هذا الزّمن الّذي تفرح فيه الكنيسة، هو بمثابة زّمن الفرح لحضور متوقع ومؤثر، والّذي دائمًا ما يصبح قريبًا، إذ يمكننا أنّ نتلّمس رؤية ابن الله وتجليّه في الجسد. لا يوجد فرحٌ حقيقي دون توبة القلب الّذي يسمح لنا باستقبال المسيح في بيننا.
ثانياً: تطبيقات النَّص الإنجيلي (لوقا 3: 10-18)
بعد دراسة وقائع النَّصِّ الإنجيليِّ وتحليله (لوقا 3: 10-18)، نستنتج أنَّه يتمحور حول تربيةِ الضَّميرِ كي يعيشَ الإنسانُ حياةً صالحةً ويَنالَ الخلاصَ والحياةَ الأبديةَ. ومن هنا نتساءل: ما هو مفهومُ الضَّميرِ في الكتابِ المقدَّس؟ وكيف يتمُّ تربيته؟
الضَّميرُ في الكتابِ المقدَّسِ هو القُدرةُ الدَّاخليَّةُ التي تُمَكِّنُ الإنسانَ من تمييزِ الصَّوابِ من الخطأ وَفقًا لإرادةِ اللهِ. يُشارُ إليه أحيانًا بكلمةِ "القلب" أو "الرُّوح" التي تَحكُمُ على أفعالِ الإنسانِ وتوجِّهُ سُلوكَهُ.
1) مفهومُ الضَّميرِ في ضَوءِ الكِتابِ المُقدَّس
لا يَورِدُ الكِتابُ المُقدَّسُ لَفظًا مُحدَّدًا للضَّميرِ في العَهدِ القَديمِ، إلاَّ في سفر الجامعة بمعنى قرارة النفس (الجامعة 20: 20)، وفي سفر الحكمة بمعنى شهادة النفس داخليًا بالشر (الحكمة 17: 10)، لكن الحقيقة الفعلية المقصودة بلفظ ضمير فوردت على مدى الكتاب المقدس كله. أمَّا في العَهدِ الجَديدِ، فاستُخدِمَ اللفظُ اليونانيُّ συνειδήσεώς الَّذي اقتَبَسَهُ بولُسُ الرَّسولُ لِيُعبِّرَ عنِ الضَّميرِ كَحُكمٍ داخليٍّ يَصدُرُ عنِ القَلبِ بِحُرِّيَّةٍ.
الضَّميرُ في الكِتابِ المُقدَّسِ هو القُدرةُ الدَّاخِلِيَّةُ الَّتي تُـمَكِّنُ الإِنسانَ مِن تَمييزِ الصَّوابِ مِنَ الخَطَإِ وَفقًا لإِرادةِ اللهِ. يُشارُ إِلَيهِ أحيانًا بِكَلِمَتَي "القَلبِ" أو "الرُّوحِ"، إِذْ يُوَجِّهُ الضَّميرُ أفعالَ الإِنسانِ وَيَحكُمُ على سُلوكِهِ، فيَكونُ إِرشادًا إِلَهِيًّا مُرتَبِطًا بِمَشيئةِ اللهِ.
يَرى الكِتابُ المُقدَّسُ أنَّ الضَّميرَ هُوَ صَوتٌ داخِلِيٌّ يُوَجِّهُ الإِنسانَ نَحوَ الخَيرِ وَيَجعَلُهُ يَتَجَنَّبُ الشَّرَّ. يَقولُ بولُسُ الرَّسولُ: "فيَدُلُّون على أَنَّ ما تَأمُرُ بِه الشَّريعةُ مِنَ الأَعمالِ مَكتوبٌ في قُلوبِهم، وتَشهَدُ لَهم ضَمائِرُهم وأَفكارُهم، فهي تارةً تَشكوهُم وتارةً تُدافِعُ عنهُم" (رومه 2: 15). الضَّميرُ أَداةٌ وَضَعَها اللهُ في الإِنسانِ لِقِيادَتِهِ نَحوَ القَداسَةِ وَالسُّلوكِ المُستَقيمِ. الضَّميرُ الصَّالِحُ هوَ الَّذي يَتبَعُ مَشيئَةَ اللهِ وَيَظلُّ نَقِيًّا، كَما يَقولُ بولُسُ الرَّسولُ: "غَايَةُ الوَصِيَّةِ هِيَ المَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ" (1 طيموتاوسَ 1: 5). أمَّا الضَّميرُ المُتَلبِّدُ أو المَيِّتُ، فَهُوَ الَّذي يَتَجاهَلُ صَوتَ اللهِ وَيَقَعُ في الخَطايا، كَما أشارَ بولُسُ الرَّسول:"كُوِيَتْ ضَمَائِرُهُمْ "(1 طيموتاوسَ 4: 2).
يَربِطُ الكِتابُ المُقدَّسُ أَحيانًا الضَّميرَ بِالقَلبِ وَالكِلْيَتَيْنِ. على سَبيلِ المِثالِ ما جاء في قول داوُدُ المَلِكُ عِندَما أَجرى إِحصاءً لِلشَّعبِ، خَفَقَ قَلبُهُ وَاعتَرَفَ بِخَطيئتِهِ أَمامَ اللهِ: "قَدْ خَطِئْتُ خَطِيئَةً كَبِيرَةً فِي مَا صَنَعْتُ" (2 صَموئيلَ 24: 10). وكانَ داوُدُ قَلِقًا بِشَأنِ سَفكِ الدَّمِ دونَ مُبَرِّرٍ (1 صَموئيلَ 25: 31).
باختصار، الضَّميرُ في الكِتابِ المُقدَّسِ هُوَ النُّورُ الدَّاخِلِيُّ الَّذي وَهَبَهُ اللهُ لِلإِنسانِ لِيَقُودَهُ نَحوَ الحَقِّ وَالصَّلاحِ. يَكونُ الضَّميرُ سَليمًا عِندَما يَتَناغَمُ مَعَ إِرادةِ اللهِ، وَمَيِّتًا عِندَما يَبتَعِدُ عَنها، فيَظلُّ الإِنسانُ مَسؤولًا أَمامَ اللهِ عَن أَفعالِهِ وَأَفكارِهِ.
2) الضَّميرُ الأَخْلاقِيُّ
يُعرِّفُ التَّعليمُ المَسيحيُّ الضَّميرَ الأَخْلاقيَّ بِقولِهِ: "يَكتَشِفُ الإِنسانُ في ذاتِ ضَميرِهِ نامُوسًا لَم يَصدُرْ عَنهُ، وَلَكِنَّهُ مُلزَمٌ بِطاعَتِهِ، وَصَوتُهُ يَدعُو ذَلِكَ الإِنسانَ إِلى حُبِّ الخَيرِ وَعَمَلِهِ وَإِلى تَجَنُّبِ الشَّرِّ. إِنَّهُ نامُوسٌ حَفَرَهُ اللهُ في قَلبِ الإِنسانِ. وَالضَّميرُ هُوَ المَركَزُ الَّذي يُسمَعُ فِيهِ صَوتُ اللهِ" (التَّعليمُ المَسيحيُّ الكاثوليكيُّ، 1776). يُعرِّفُ التَّعليمُ المَسيحيُّ الضَّميرَ الأَخْلاقيَّ أَيضًا: "هُوَ حُكمٌ صادِرٌ عَنِ العَقلِ يَعرِفُ بِهِ الشَّخصُ البَشَريُّ الصِّفَةَ الأَخْلاقِيَّةَ لِلفِعلِ الوَاقِعِيِّ" (البَندُ 1796).
عَرَّفَ الكاردينالُ اللاهوتيُّ جون هنري نيومان الضَّميرَ قائِلًا: "شَريعَةٌ مِن رُوحِنا وَلَكِنَّهُ يَتَجاوَزُ رُوحَنا، وَيُصدِرُ إِلَينا أَوامِرَ، وَيُشعِرُنا بِالمَسؤُولِيَّةِ وَالواجِبِ، وَالخَوفِ وَالرَّجاءِ (...) إِنَّهُ رَسولُ ذاكَ الَّذي يُكَلِّمُنا مِن وَراءِ السِّتارِ، في عالَمِ الطَّبيعَةِ كَما في عالَمِ النِّعمَةِ، وَيُعلِّمُنا وَيَحكُمُنا. لأَنَّ الضَّميرَ هُوَ النَّائِبُ الأَوَّلُ بَينَ جَميعِ نُوَّابِ المَسيحِ" (نيومان، رِسالَةٌ إِلى دُوقِ نورفُلك، 5). الضَّميرُ الأَخْلاقيُّ هُوَ القُدرَةُ الدَّاخِلِيَّةُ الَّتي يُمَيِّزُ بِها الإِنسانُ الصَّوابَ مِنَ الخَطَإِ وَيَلتَزِمُ بِفِعلِ الخَيرِ وَتَجَنُّبِ الشَّرِّ، إِذ يَستَمِعُ في أَعمَاقِ نَفسِهِ إِلى صَوتِ اللهِ الَّذي يُرشِدُهُ نَحوَ الحَياةِ المُستَقيمَةِ وَالأَبدِيَّةِ.
غايةُ تَربيةِ الضَّميرِ هِيَ البُلوغُ إِلى النُّضجِ الأَخْلاقيِّ، الَّذي يَقُومُ على تَقَبُّلِ المَسؤُولِ لِلقِيَمِ، وَعَلَى السَّيطَرَةِ عَلَى الصِّراعاتِ بِما يُلائِمُ كُلَّ الظُّروفِ وَالأَوضاعِ. وَالإِنسانُ في هَذِهِ الحَالَةِ هُوَ في مَسيرَةٍ دائِمَةٍ. وهكذا النُّضجُ الأَخْلاقيُّ هُوَ حُكمٌ صادِرٌ عَنِ العَقلِ، يَعرِفُ بِهِ الشَّخصُ البَشَريُّ الصِّفَةَ الأَخْلاقِيَّةَ لِلفِعلِ الوَاقِعِيِّ الَّذي سَيَفعَلُهُ، أَو يَفعَلُهُ الآنَ، أَو قَد فَعَلَهُ. وَعَلَى الإِنسانِ، في كُلِّ مَا يَقولُ أَو يَفعَلُ، أَن يَتبَعَ بِأَمانَةٍ مَا يَعلَمُ أَنَّهُ قَوِيمٌ وَحَقٌّ. والإِنسانُ يُدرِكُ وَيَعرِفُ رُسومَ الشَّريعةِ الإِلَهِيَّةِ بِحُكمِ ضَميرِهِ.
3) كَيْفَ تَتِمُّ تَربيةُ الضَّميرِ الأَخْلاقِيِّ؟
تَتِمُّ تَربيةُ الضَّميرِ الأَخْلاقِيِّ بِقِيادَةٍ دَاخِلِيَّةٍ وَخَارِجِيَّةٍ مَعًا. فَإِنَّ الضَّميرَ لا يَنمُو بِمُفْرَدِهِ، وَلَا يَتَكَوَّنُ بِفَضلِ التَّأثِيرَاتِ الخَارِجِيَّةِ فَقط، بَل يَحتاجُ إِلَى كِلَيهِمَا. يَجِبُ أَن تَشمَلَ تَربيةُ الضَّميرِ تَعلِيمًا فِي القِيَمِ وَالقَواعِدِ وَالوَصَايَا. إِلَّا أَنَّهَا لا تَنبَغِي أَن تَقتَصِرَ عَلَى تَلقِينِ المَعرِفَةِ، بَل يَجِبُ أَن تَتَضَمَّنَ نِداءَاتٍ وَحَوافِزَ تُؤَثِّرُ فِي الإِرَادَةِ وَالمَشَاعِرِ، لِيُدرِكَ الإِنسَانُ دَورَ الضَّميرِ فِي حَياتِهِ.
تَبدَأُ تَربيةُ الضَّميرِ مُنذُ الطُّفُولَةِ، حَيثُ يُمكِنُ لِلطِّفلِ أَن يُطَوِّرَ إِحسَاسَهُ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، وَبِالحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَيَتَعَلَّمَ الشَّرِيعَةَ الدَّاخِلِيَّةَ الَّتِي يَعرِفُهَا الضَّميرُ الأَخْلاقِيُّ. ويَلعَبُ الوَالِدَانِ دَورًا حَاسِمًا فِي تَربيةِ الضَّميرِ مِن خِلَالِ: طَرِيقَةِ تَصرُّفِهِمَا، الصَّلَاةِ المُشتَرَكَةِ، فَحصِ الضَّمِيرِ المُنتَظِمِ. يُؤَكِّدُ التَّعلِيمُ المَسيحِيُّ أَنَّ"يَكونُ الضَّمِيرُ الَّذي أُحسِنَت تَنشِئَتُهُ قَوِيمًا وَصَادِقًا، فَيُصدِرُ أَحكَامَهُ مُتَطَابِقَةً مَعَ العَقلِ وَمُتَوَافِقَةً مَعَ الخَيرِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي أَرَادَتهُ حِكمَةُ اللهِ. وَعَلَى كُلِّ إِنسَانٍ أَن يَتَّخِذَ الوَسَائِلَ لِتَنشِئَةِ ضَمِيرِهِ" (التَّعلِيمُ المَسيحِيُّ الكَاثُوليكِيُّ، 1798).
فِي سِنِّ الشَّبَابِ، تُصبِحُ تَربيةُ الضَّمِيرِ مَسؤُولِيَّةَ الذَّاتِ. يَجبُ تَجنُّبُ التَّضييقِ عَلَى الشَّابِّ، وَلَا يُترَكُ لِيَتَصَرَّفَ خَطَأً دونَ إِرشَادٍ. يَجبُ أَن تُقَدَّمَ إِلَيهِ مَتَطَلَّبَاتٌ تَحفِزُهُ عَلَى الاقتِنَاعِ بِهَا وَالعَيشِ بِمُقتَضَاهَا. يَقولُ التَّعلِيمُ المَسيحِيُّ: "فِي تَنشِئَةِ الضَّمِيرِ، يَكونُ كَلامُ اللهِ النُّورَ الَّذِي يُضِيءُ طَرِيقَنا. وَلَا بُدَّ لَنَا مِن تَقَبُّلِهِ فِي الإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ، وَمُمَارَسَتِهِ عَمَلِيًّا" (التَّعلِيمُ المَسيحِيُّ الكَاثُوليكِيُّ، 1785). يَجِبُ أَن يَرتَبِطَ الضَّمِيرُ بِالوَعيِ نَحوَ الخَيرِ وَالشَّرِّ، وَبِشَرِيعَةِ اللهِ، وَبِالصَّلَاةِ، وَبِالفِطنَةِ، وَبِالإِيمَانِ.
يمكن القول أنَّ الضَّمِيرُ فِي الكِتَابِ المُقدَّسِ هُوَ البُوصَلَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي تُوَجِّهُ الإِنسَانَ نَحوَ الحَقِّ وَالقَدَاسَةِ. تَتَطَلَّبُ تَربِيَتُهُ: التَّوبَةَ، الصَّلَاةَ، دِرَاسَةَ الكِتَابِ المُقدَّسِ، والعَمَلَ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَالقَرِيبِ. مَن يَعيشُ وَفقًا لِضَمِيرٍ نَقِيٍّ، يَرتَبِطُ بِاللهِ وَيَنَالُ الخَلاصَ وَالحَياةَ الأَبَدِيَّةَ الَّتِي دَعَا إِلَيهَا المَسِيحُ.
أ) الضَّمِيرُ مُرتَبِطٌ بِالوَعيِ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ
يُبَيِّنُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ الوَثَنِيِّينَ، الَّذِينَ هُم بِلَا شَرِيعَةٍ مُوحًى بِهَا، إِذَا عَمِلُوا بِالفِطرَةِ مَا تَأمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّهُم يُكَوِّنُونَ شَرِيعَةً لأَنفُسِهِم، حَتَّى لَو لَم يَملِكُوا شَرِيعَةً مُوحًى بِهَا. يُشِيرُ إِلَى هَذَا قَولُهُ: "إِذَا عَمِلَ الأُمَمُ، الَّذِينَ لَيسَ لَهُمُ الشَّرِيعَةُ، مَا تَأمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّهُم شَرِيعَةٌ لأَنفُسِهِم مَع أَنَّهُم بِلا شَرِيعَةٍ، إِذْ يَدُلُّونَ عَلَى أَنَّ مَا تَأمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الأَعمَالِ مَكتُوبٌ فِي قُلُوبِهِم، وَتَشهَدُ لَهُم ضَمَائِرُهُم وَأَفكَارُهُم، فَهِيَ تَارَةً تَشْكُوهُم وَتَارَةً تُدَافِعُ عَنهُم"(رُومَة 2: 14-15).
إن دينونة اللهِ مرتبطة بَالوَعيُ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ. لا تَنطَبِقُ دِينُونَةُ اللهِ عَلَى مَعرِفَةِ الخَيرِ وَالشَّرِّ فَقط، بَل عَلَى تَطبِيقِ هَذِهِ المَعرِفَةِ بِشَكلٍ إِيجَابِيٍّ. إِرَادَةُ اللهِ تَظهَرُ فِي الوَعيِ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، حَتَّى فِي غِيَابِ الشَّرِيعَةِ المَكتُوبَةِ. عِنْدَمَا عَصَى آدَمُ اللهَ، شَعَرَ بِعُرْيِهِ وَهَرَبَ مِنْ وَجهِ اللهِ (تَكوِين 3: 1-8)، مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ الوَعيَ بِالخَطَإِ وَالتَّقصِيرِ مَوجودٌ فِي القَلبِ البَشَرِيِّ حَتَّى قَبلَ الإِعْلَانِ النِّهَائِيِّ لِلوَصَايَا الإِلَهِيَّةِ. يُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ الإِنسانَ يُوْلَدُ وَهُوَ فِي حِوَارٍ مَعَ اللهِ، حَتَّى إِن لَم يَعرِفُهُ أَو يَعتَرِفُ بِهِ كَخَالِقٍ (رُومَة 1: 19-21).
يَقُولُ التَّعلِيمُ المَسِيحِيُّ لِلكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ: "إِنَّ الَّذِينَ، عَلَى غَيرِ ذَنبٍ مِنهُم، يَجهَلُونَ إِنجِيلَ المَسِيحِ وَكَنِيسَتَهُ، وَيَطلُبُونَ مَعَ ذَلِكَ اللهَ بِقَلبٍ صَادِقٍ، وَيَجتَهِدُونَ، بِنِعمَتِهِ، أَن يُتَمِّمُوا فِي أَعمَالِهِم إِرَادَتَهُ كَمَا يُملِيهَا عَلَيهِم ضَمِيرُهُم، فَهَؤُلَاءِ يُمكِنُهُم أَن يَنَالُوا الخَلَاصَ الأَبَدِيَّ" (التَّعلِيمُ المَسِيحِيُّ الكَاثُولِيكِيُّ، 847). يَرتَبِطُ الضَّمِيرُ بِالوَعيِ بِالخَيرِ وَالشَّرِّ، بفَحصُ النَّفسِ وَتَربِيَةُ الضَّمِيرِ. يُوصِي الكِتَابُ المُقدَّسُ بِفَحصِ النَّفسِ بِانتِظَامٍ لِلكَشفِ عَن نِقَاطِ الضُّعفِ، وَالعَودَةِ إِلَى طَرِيقِ البِرِّ. يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "اِمتَحِنُوا أَنفُسَكُم، هَل أَنتُم فِي الإِيمَانِ؟" (2 قُورِنتُس 13: 5). كَذَلِكَ يَجِبُ تَوبَةُ الإِنسَانِ وَاعْتِرَافُهُ بِخَطَايَاهُ، طَالِبًا المَغفِرَةَ مِنَ اللهِ، لِتَطهِيرِ ضَمِيرِهِ. يَقُولُ يُوحَنَّا الرَّسُولُ: "إِنِ اعْتَرَفنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغفِرَ لَنَا خَطَايَانَا"(1 يُوحَنَّا 1: 9).
ب) الضَّمِيرُ مُرْتَبِطٌ بِشَرِيعَةِ اللهِ
لا بدَّ من فَحْصُ القُلُوبِ أَمَامَ اللهِ، لأنَّ اللهُ هُوَ الحَاكِمُ العَادِلُ الَّذِي يَسْبُرُ أَعْمَاقَ القُلُوبِ وَالكُلَى، كَمَا يَقُولُ إِرْمِيَا النَّبِي: "فَيا رَبَّ القُوَّاتِ الحَاكِمَ بِالبِرِّ، الفَاحِصَ الكُلَى وَالقُلُوبَ" (إرميا 11: 20). دَاوُدُ المَلِكُ يُؤَكِّدُ هَذَا الإِدْرَاكَ بِقَوْلِهِ: "يَا رَبِّ، قَدْ سَبَرْتَنِي فَعَرَفْتَنِي" (مزمور 139: 2). إِدْرَاكُ الإِنسَانِ لِوُجُودِ اللهِ يَضَعُ ضَمِيرَهُ تَحْتَ حُكْمٍ إِلَهِيٍّ مُطْلَقٍ، حَيْثُ يَرَى اللهُ أَعْمَالَ البَشَرِ وَيَعْرِفُ نَوَايَاهُمْ، فَهُوَ الدَّيَّانُ الأَسْمَى. بُولُسُ الرَّسُولُ يُوَضِّحُ هَذَا بِقَوْلِهِ: "لا أَدِينُ نَفْسِي، فَضَمِيرِي لا يُؤَنِّبُنِي بِشَيْءٍ، عَلَى أَنِّي َلَسْتُ مُبَرَّرًا لِذَلِكَ، فَدَيَّانِي هُوَ الرَّبُّ" (1قورنتس 4: 4). يشهد على الضَّمِير الرُّوحُ القُدُسِ. الضَّمِيرُ البَشَرِيُّ يَسْتَمِدُّ إِسْتِنَارَتَهُ مِنْ "نَامُوسِ اللهِ" المَكْتُوبِ فِي القُلُوبِ، كَمَا يُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "الحَقَّ أَقُولُ فِي المَسِيحِ وَلا أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي فِي الرُّوحِ القُدُسِ" (رومة 9: 1). يَتَغَذَّى الضَّمِيرُ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ الَّتِي تُعَلِّمُ الصَّوَابَ وَتُوَبِّخُ عَلَى الخَطَأِ، كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ النَّبِيُّ: "سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلِمَتُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي" (المزمور 119: 105).
اِنْتَقَدَ يُوحَنَّا المَعْمَدَانُ الفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ بِسَبَبِ رِيَائِهِمْ وَتَجَاهُلِهِمْ لِجَوْهَرِ الشَّرِيعَةِ، حَيْثُ اِلْتَزَمُوا بِالشَّكْلِ دُونَ المَضْمُونِ. قَالَ لَهُمْ بِحِدَّةٍ: "يَا أَوْلَادَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ سَبِيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتِي؟" (متى 3: 7). ولَمْ يَكْتَفِ يُوحَنَّا بِالوَعْظِ، بَلْ طَالَبَ النَّاسَ بِتَغْيِيرِ حَيَاتِهِمْ بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ، كَمَا قَالَ: "مَنْ كَانَ عِندَهُ قَمِيصَانِ، فَلْيَقْسِمْهُمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لا قَمِيصَ لَهُ. وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ، فَلْيَعْمَلْ كَذَلِكَ" (لوقا 3: 11). وَطَلَبَ مِنَ الجُبَاةِ: "لا تَجْبُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ" (لوقا 3: 13). أَمَّا الجُنُودُ، فَقَالَ لَهُمْ: "لا تَتَحَامَلُوا عَلَى أَحَدٍ، وَلا تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَاقْنَعُوا بِرَوَاتِبِكُمْ" (لوقا 3: 14).
اِنْتَقَدَ يَسُوعُ الفَرِّيسِيِّينَ بِشِدَّةٍ بِسَبَبِ اِلْتِزَامِهِمْ الحَرْفِيِّ بِالشَّرِيعَةِ مَعَ إِهْمَالِهِمْ لِلنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ. قَالَ لَهُمْ:"هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، أَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ عَنِّي" (متى 15: 8). أَوْضَحَ يَسُوعُ أَنَّ الطَّهَارَةَ الحَقِيقِيَّةَ تَأْتِي مِنَ الدَّاخِلِ، مِنَ القَلْبِ، وَلَيْسَ مِنَ الممارسات الخَارِجِيَّةِ فَقَطْ، "لأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ يَكُونُ رُوحُ الرَّبِّ، تَكُونُ الحُرِّيَّةُ" (2 قورنتس 3: 17).
بُولُسُ الرَّسُولُ أَكَّدَ أَنَّ الحُرِّيَّةَ المَسِيحِيَّةَ تَقُومُ عَلَى الضَّمِيرِ المُسْتَنِيرِ بِنَامُوسِ اللهِ وَلَيْسَ بِقَوَانِينِ بَشَرِيَّةٍ تُقَيِّدُ الحُرِّيَّةَ الرُّوحِيَّةَ، فَقَالَ: "فَلِمَاذَا يَحْكُمُ فِي حُرِّيَّتِي ضَمِيرٌ غَيْرُ ضَمِيرِي؟" (1 قورنتس 10: 29).
باختصار الضَّمِيرُ فِي المَفْهُومِ المَسِيحِيِّ مُرْتَبِطٌ بِشَرِيعَةِ اللهِ المَكْتُوبَةِ فِي القَلْبِ. إِنَّهُ مُرْشِدٌ دَاخِلِيٌّ يَحْكُمُ عَلَى الأَعْمَالِ حَسَبَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَمَدَى الِاتِّسَاقِ بَيْنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ. تُرْبِيَةُ الضَّمِيرِ تَتَطَلَّبُ اِرْتِدَادًا دَاخِلِيًّا حَقِيقِيًّا، حَيْثُ يُطَهِّرُ الإِنسَانُ قَلْبَهُ أَمَامَ اللهِ الَّذِي يَرَى فِي الخَفَاءِ، مِمَّا يُحَقِّقُ الحُرِّيَّةَ الرُّوحِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ.
ج) الضَّمِيرُ مُرْتَبِطٌ بِالصَّلَاةِ
الصَّلَاةُ هي َسَبِيلٍ لِنُضْجِ الضَّمِيرِ. يَحْكُمُ الإِنسَانُ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ فِي ضَوْءِ الإِنْجِيلِ، حَيْثُ يَرْبِطُ يَسُوعُ نُضْجَ الضَّمِيرِ بِالمُوَاظَبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَيَقُولُ:"فَاسهَرُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى الصَّلَاةِ" (لوقا 21: 36).
فِي المَسِيحِيَّةِ، نُضْجُ الضَّمِيرِ يَكُونُ أَوَّلاً فِي اِنْفِتَاحِ الأُذُنِ وَالقَلْبِ عَلَى كَلِمَةِ اللهِ. وَمِنْ خِلالِ الصَّلَاةِ، يَنْفَتِحُ الإِنسَانُ عَلَى إِرَادَةِ اللهِ وَيَسْتَعِدُّ لِتَقَبُّلِهَا، كَمَا يُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ فِي قَوْلِهِ: "أَشكُرُ اللهَ الَّذِي أَعبُدُ بَعدَ أَجْدَادِي بِضَمِيرٍ طَاهِرٍ، وَأَنَا لا أَنفَكُّ أَذْكُرُكَ لَيْلاً نَهَاراً فِي صَلَواتِي" (2 طيموتاوس 1: 3).
الصَّلَاةُ تَزْكِّيَ الضَّمِيرِ. يُرَبِطُ كَاتِبُ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَطَهَارَةِ الضَّمِيرِ، فَيَقُولُ: "صَلُّوا مِنْ أَجْلِنَا، فَإِنَّنَا وَاثِقُونَ أَنَّ ضَمِيرَنَا صَالِحٌ، وَأَنَّنَا نَرْغَبُ فِي أَنْ نُحْسِنَ السَّيْرَ فِي كُلِّ أَمْر" (عبرانيين 13: 18). والصَّلَاةُ تُسَاعِدُ الإِنسَانَ عَلَى تَصْحِيحِ مَسَارِ ضَمِيرِهِ وَتَوْجِيهِهِ نَحْوَ مَشِيئَةِ اللهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ المَسِيحُ طُولَ فَتْرَةِ حَيَاتِهِ الأَرْضِيَّةِ: "وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَنْفَرِدُ فِي البَرَارِي وَيُصَلِّي" (لوقا 5: 16).
ترتبط الصَّلَاةُ بمَحَبَّةُ اللهِ وَالقَرِيبِ. إنَّ العَيْشُ بِحَسَبِ مَحَبَّةِ اللهِ وَالقَرِيبِ يُحَقِّقُ نُضْجَ الضَّمِيرِ وَيُوَجِّهُهُ نَحْوَ الخَيْرِ، كَمَا قَالَ السَّيِّدُ المَسِيحُ: "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ... وَتُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (متى 22: 37-39).
الصَّلَاةُ فِي الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ لَيْسَتْ طَقْسًا فَقَطْ، بَلْ هِيَ لِقَاءٌ مَعَ اللهِ، تُطَهِّرُ القَلْبَ وَتُجَدِّدُ الضَّمِيرَ. إِنَّهَا وِسِيلَةٌ لِتَوْجِيهِ الحَيَاةِ نَحْوَ المَحَبَّةِ وَالْبِرِّ، تَحْتَ إِشْرَاقِ كَلِمَةِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ.
د) الضميرُ مرتبطٌ بالفِطنة:
الضميرُ ليسَ مرتبطًا بالصلاةِ فحسب، إنّما مرتبطٌ أيضًا بالفِطنة. والفِطنةُ هي العنصرُ العقليُّ في الضميرِ والحُكمِ على إمكانيةِ كيفيةِ التصرّفِ الأخلاقيِّ المسؤولِ فيها. والشَّرطُ الضُّروريُّ للوصولِ إلى الحُكمِ بفِطنةٍ في واقعِ كلِّ حالةٍ لا يَكمُنُ في معرفةِ التعاليمِ المُلزِمةِ وحسب، بل أيضًا في إدراكِ القِيَمِ التي تَنطوي عليها تلكَ التَّعاليم. الضميرُ الفطِنُ لا يَحكُمُ فقط بالعقلِ، بل أولًا بالقلبِ وبالشَّخصِ بمُجمَلِه.
تربيةُ الفِطنةِ ضروريةٌ في الضميرِ، لأنَّ "تربيةَ الفِطنةِ تُعلِّمُ الفضيلةَ، وهي تَصونُ وتُشفي ممّا يَنجمُ عن الضَّعفِ والذُّنوبِ البشريةِ، من الخوفِ والأنانيةِ والكبرياءِ، والتَّضايقِ الناتجِ من الذَّنبِ، ونزواتِ الرّضى عن الذَّاتِ. إنَّ تربيةَ الضميرِ تَكفُلُ الحُرّيةَ وتُولِّدُ سلامَ القلبِ" (التعليم المسيحيُّ للكنيسةِ الكاثوليكيةِ، رقم 1784). لذلك يَسعى الإنسانُ إلى تفهُّمِ مُعطياتِ الخبرةِ وعلاماتِ الأزمنةِ، مُستندًا إلى فضيلةِ الفِطنةِ، وإلى نصائحِ الأشخاصِ الحُكماءِ الفَطنين، وإلى مُؤازرةِ الروحِ القُدسِ ومواهبهِ" (التعليم المسيحيُّ للكنيسةِ الكاثوليكيةِ، رقم 1788).
هـ) الضميرُ مرتبطٌ بالإيمان:
الضميرُ ليسَ مرتبطًا بالصَّلاةِ والفِطنةِ فحسب، إنّما أيضًا بالإيمان. والإيمانُ والضَّميرُ متّصلانِ اتصالًا لا تَنفصِمُ عُراهُ، كما يُبيِّنُ بولسُ الرسولُ في نصائحهِ للشمامسةِ: "لْيُحافِظوا على سِرِّ الإِيمانِ في ضَميرٍ طاهِرٍ" (1 طيموتاوس 3: 9). فالضَّميرُ غيرُ مُستقِلٍّ بذاتِهِ، بل خاضعٌ لحُكمِ اللهِ دائمًا: "لا أُدينُ نفسي، فضَميري لا يُؤَنِّبُني بِشَيء، على أَنِّي َلستُ مُبَرَّرًا لِذلك، فدَيَّانِي هوَ الرَّبُّ" (1 قورنتس 4: 4).
الإيمانُ قد وهبَ "العِلمَ" (1 قورنتس 8: 1)، الذي يَكشِفُ عن طيبةِ كلِّ المخلوقاتِ (1 قورنتس 3: 21-23). وهكذا يُعدُّ الضميرُ واحدًا من "نواميسِ اللهِ"، وعندما يُوصَفُ "بالصالحِ" أو "بالطاهرِ"، فإنّ ذلك يعني أنّه يَستضيءُ أساسًا بنورِ الإيمانِ الحقيقيِّ، كما يُوضِّحُ بولسُ الرسولُ: "وما غايَةُ هذِه الوَصيَّةِ إِلاَّ المَحبَّةُ الصَّادِرةُ عن قَلْبٍ طاهِرٍ وضَميرٍ سليمٍ وإيمانٍ لا رِياءَ فيهِ" (1 طيموتاوس 1: 5).
يصيرُ اختبارُ الاطمئنانِ اطمئنانًا إلى اللهِ عبرَ الإيمانِ، واختبارُ المطلبِ الأخلاقيِّ ارتباطًا حُرًّا باللهِ، واختبارُ الوصايا نداءً إلى حريةِ الإنسان. الضميرُ المرتبطُ بالإيمانِ لا يقلقُ في أيِّ ظرفٍ كان، فهو يتحمّلُ المسؤوليةَ ويَثقُ بالربِّ الذي هو موجودٌ في حياتِه ويعملُ فيهِ حتى لو لم يَرَ ذلك بوضوحٍ. فإذا كانت النِّيَّةُ مستقيمةً، وإن كان الإيمانُ يُوفِّرُ اقتناعًا راسخًا، فعندئذٍ يكونُ الضميرُ مُرتاحًا. والمسيحيُّ هكذا يُطيعُ السُّلطةَ المدنيّةَ "ليسَ خوفًا من الغضبِ فحسب، بل مُراعاةً للضميرِ أيضًا"، لأنَّ إيمانهُ يُوضِّحُ لهُ كيفَ تكونُ هذه السُّلطةُ "في خدمةِ اللهِ" (رومة 13: 5-4).
نستنتجُ مما سبقَ أنَّ القلبَ، والضميرَ، والإيمانَ يظهرونَ بصورٍ متنوّعةٍ، ويكونونَ مصدرًا لفعلِ المحبّةِ. فإذا كانت النِّيَّةُ مستقيمةً، وإن كان الإيمانُ يُوفِّرُ اقتناعًا راسخًا، فعندئذٍ يكونُ الضميرُ مُرتاحًا. "لْيُحافِظوا على سِرِّ الإِيمانِ في ضَميرٍ طاهِرٍ" (1 طيموتاوس 3: 9). الإيمانُ هبةٌ مجَّانيةٌ يَهبُها اللهُ للإنسانِ. باستطاعتِنا أن نفقِدَ هذه الموهبةَ التي لا تُقدَّرُ بثمنٍ؛ والقدّيسُ بولسُ يُحذِّرُ تلميذَهُ طيموتاوس من ذلك: "تجَنَّدِ التَّجنُّدَ الحَميدَ، مُتمسِّكًا بالإِيمانِ والضَّميرِ السَّليمِ الَّذي نَبَذَهُ بَعضُهم فانكَسَرَت بِهِم سَفينةُ الإِيمانِ" (1 طيموتاوس 1: 19).
و) الضميرُ مرتبطٌ بالحُرِّيّة:
الضميرُ ليسَ مرتبطًا بالصلاةِ والفِطنةِ والإيمانِ فحسب، إنّما أيضًا بالحُرِّيّة. يَصِلُ المؤمنُ إلى الحُرِّيّةِ الكاملةِ: "كُلُّ شَيءٍ طاهِرٌ" (رومة 14: 20)، "كُلُّ شَيءٍ يَحِلُّ لي" (1 قورنتس 6: 12). لكنَّ بولسَ الرسولَ يُضيفُ في الحالِ: "ولكِن لَيسَ كُلُّ شَيءٍ يَبْني" (1 قورنتس 10: 23). فقد يَنشأُ تنازُعٌ بينَ الضَّمائرِ التي لم تتطوّرْ كلُّها بنفسِ الكيفيّةِ، وعلى نفسِ المستوى.
المؤمنُ "القويُّ" (رومة 15: 1) ينبغي أن يعملَ ما في وسعِهِ حتى لا يُجرِحَ أخاهُ الذي لا يزالُ ضعيفًا: "فلا تُهلِكْ بِطَعامِكَ مَن ماتَ المسيحُ لأَجْلِه" (رومة 14: 15). "كُلُّ شَيءٍ طاهِرٌ، ولكِن مِنَ السُّوءِ أَن يَأكُلَ المَرْءُ فيكونَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِغَيرِه" (رومة 14: 20). ومع ذلك، يُضيفُ: "ولكِنِّي لن أَدَعَ شَيئًا يَتَسَلَّطُ عليَّ" (1 قورنتس 6: 12). ينبغي إذن أن يتخلّى العالمُ عن الأولويّةِ لتَتقدَّمَ المحبّةُ الأُخوِيّةُ. وعلى الضميرِ أيضًا أن يُقيِّدَ الحُرِّيّةَ، نظرًا لأنَّ الحضورَ الإلهيَّ يُضفي عليها معناها.
المحبّةُ تكونُ دائمًا في سياقِ احترامِ القريبِ وضَميرِهِ: "إِذا خَطِئتُم هكذا إلى إِخوَتِكُم وجَرَحتُم ضَمائِرَهُمُ الضَّعيفةَ، فإلى المسيحِ قد خَطِئتُم" (1 قورنتس 8: 12). وفي دفاعِ بولسَ الرسولِ عن نفسِهِ يقول: "أَنا أَيضًا أُجاهِدُ النَّفْسَ لِيَكونَ ضَميري لا لَومَ علَيه عِندَ اللهِ وعِندَ النَّاسِ" (أعمال الرسل 24: 16).
نستنتجُ مما سبقَ أيضًا أنَّهُ ينبغي لكلِّ واحدٍ أن يكونَ لهُ من الحضورِ في ذاتِهِ ما يَجعلهُ يَسمَعُ صوتَ ضَميرِهِ ويَتبَعُه. فالرجوعُ إلى الذاتِ أمرٌ ضروريٌّ، كما يقولُ القديسُ أوغسطينوس: "عُدْ إلى ضَميرِكَ وأسألهُ (...) عودوا، أيُّها الإخوةُ، إلى الداخلِ، وانظُروا، في كلِّ ما تفعلونَ، إلى الشاهدِ، إلى اللهِ" (في رسالةِ يوحنا إلى اليرتين 8، 9).
الخلاصة:
وَجَّهَ يُوحَنَّا المَعمدانُ الجَماهيرَ الذينَ جاءوا ليَعتَمِدوا أن يُصنِعوا أَثمَارًا تُليقُ بالتَّوبةِ. فكانَ يُوحَنَّا يَتكلَّمُ كأنبياءِ العَهدِ القديمِ معَ الشَّعبِ كَي يَبتَعِدوا عنِ الخَطيئةِ تَحاشيًا للعِقابِ، ويَرجِعوا إلى اللهِ لِنَيلِ البَرَكَةِ. لقد تَغلغَلَت رِسالةُ يُوحَنَّا بينَ الفُقَراءِ والمَساكينِ والعَشّارينَ والجُنودِ. فقَدَّمَ لَهُم إِرشاداتٍ عَمليّةً لكُلِّ فِئةٍ: الجُموعِ (لوقا 3: 10)، والعَشّارينَ (لوقا 3: 12)، والجُنودِ (لوقا 3: 14) وفقًا لوَضعِ كُلِّ فِئةٍ، لِيَنبُذوا الخَطايا المُحيطةَ بِهِم ويُؤَدُّوا الوَاجِبَ الخاصَّ المَطلوبَ مِنهُم (لوقا 3: 7-14). لا أَحَدَ مُستَثنًى، مِمَّا يُذكِّرُنا بِما قالهُ النبيُّ أشعيا: "يَتَجَلَّى مَجدُ الرَّبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَرٍ لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم" (أشعيا 40: 5).
تَرَكَّزَت إرشاداتُ يُوحَنَّا المَعمدان في تَربيةِ ضَميرِ المُستَمعينَ إِليه في نُقطَتَين:
1. مُشارَكةُ الآخَرينِ ومُقاسَمةُ الذينَ هُم أَقَلُّ حَظًّا: قالَ للجُموع": مَن كانَ عِندَه قَميصانٍ، فَليقسِمْهُما بَينَهُ وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه، ومَن كانَ عِندَه طَعامٌ، فَليَعمَلْ كَذلِك" (لوقا 3: 11). فالمُشاركة هي الخُطوة الأولى للتَّوبة.
2. احترامُ الغَيرِ وعدمُ استِغلالِه: قالَ للعَشّارين: "لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُم" (لوقا 3: 13). وقالَ للجُنودِ: "لا تَتَحامَلوا على أَحَدٍ، ولا تَظلِموا أَحَدًا، واقْنَعوا بِرَواتِبِكُم" (لوقا 3: 14).
تَوجِيهاتٌ روحِيّةٌ: أَرشَدَ يُوحَنَّا ضَميرَ الفِرِّيسيّينَ للعملِ لأجلِ اللهِ وليسَ لمَصلَحَةِ أَنفُسِهِم قائِلًا: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبِّ وٱجعَلوا سُبُلَهُ قَويمة" (متى 3: 3). هو واقعٌ لا يتعلَّق بالمَاضي فحسَب، بل يَمسّ تجربتنا كمؤمنين في زمننا المُعاصِر. ويُعلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا المَعمدانُ والقِدِّيسُ مكسيمُس الطورينيّ: "يَطلُبُ مِنّا أَن نُعِدَّ طَريقَ الرَّبِّ ليسَ بِشَقِّ طَريقٍ بَل مِن خِلالِ نَقَاوةِ إِيمانِنا. إِنَّ الرَّبَّ لا يَسلُكُ طُرُقَ الأَرضِ بَل يَدخُلُ أَسرارَ القَلبِ. إِنْ كانَت هذِهِ الطَّريقُ مَملوءةً بعَثَراتٍ ناتِجَةً عن آدابِنا، أو صُعوباتٍ ناتِجَةً عن قَسوَتِنا، أو أَوساخٍ ناتِجَةً عن تَصَرُّفاتِنا، فالمَطلوب مِنَّا أَن نُنَظِّفَها ونُمَهِّدَها ونُسَوِّيها. وَبِذلِكَ إِذ يَأتي الرَّبُّ إِلَينا فَلا يَتَعَثَّرَ بَل يَجِدَ طَريقًا مُمهَّدًا بِالعِفَّةِ ومُسهَّلًا بِالإِيمانِ ومُزَيَّنًا بِصَدَقاتِنا" (العِظة 88).
باختصار، أَخبَرَ يُوحَنَّا المُستَمِعينَ إِلَيهِ أَنَّ مَعموديّتَهُ بِالماءِ هي تَمهيدٌ لِعَملِ المَسيحِ الآتي، الذي سيُعمِّدُ بِالرُّوحِ القُدُسِ ويَجري القَضاءَ (لوقا 3: 15-17). كما أَكَّدَ أَنَّهُ لَيسَ المَسيحَ، بَل بَشَّرَ بِقُربِ ظُهورِهِ وَوَظِيفَتِهِ في فَصلِ الأبرارِ عن الأشرارِ، مُحيِيًا الأَمَلَ في نُفوسِ الجَماهيرِ الذينَ يَئنُّونَ تحتَ نِيرِ الظُّلمِ والعُبودِيَّةِ، وداعيًا إلى قَبولِ مَعموديّتِهِ المُقدَّسَةِ كطَريقٍ إلى الخَلاصِ.
الدعاء:
أيُّها الآبُ السَّماوي
نَسألكَ باسمِ يسوعَ المسيح،
الذي جاءَ يُوحَنَّا المَعمدانُ يُعِدُّ الطَّريقَ له،
دَعنا أن نَسيرَ حَسَبَ إِرشاداتهِ،
في ضَميرٍ حُرٍّ يَغمُرُهُ الإِيمانُ والصَّلاةُ والفِطنةُ.
فَنَعمَلَ إِرادتَكَ بِحُرِّيَّةٍ،
فَنَكونَ أَهْلًا لِمُلاقاةِ المسيحِ مُخَلِّصًا ودَيَّانًا.
آمين.