موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع من الزمن الأربعينيّ (ج)
مُقدّمة
سنقرأ في سلسلتا الكتابيّة نصي من كلّا العهدين يساعدانا في التوصل إلى إجابة كتابيّة تنعش إيماننا اليّوم "أبوّة أم أخوّة؟". كخطوة رابعة بالزّمن الأربعينيّ، سنقرأ بالعهد الأوّل بعد إتمام الوعد الإلهي لإبراهيم (راج تك 12: 1- 3)، حيث يتمكن بني إسرائيل مع يشوع من التمتع بالراحة والحريّة (يش 5: 9. 10-12)، وهنا سنتعرف على وجه إلهيّ جديد وهو الّذي لا يبدأ في خطة ما إلّا وأنّ يُتممّها حتى النهايّة بدافع أبوّته. وعلى هذا المنوال يتوازي السرد اللُوقاوي، حيث سنتناول أحد أمثال الرحمة الشهيرة وهو الـمثل الشهير بالإبن الضال أو الآب الرحيم (لو 15: 1-3. 11-32)، حيث سنبحث عن هويتنا في أبّوة الله الآب وفي أخوّة إبنيّه. من خلال النصيّين سنتعرف على وجه أبوّي فريد من نوعه حيث يجعلنا نتسأل عن حقيقة بنوّتنا له من جانب وحقيقة إنعكاس هذه الأبوّة فيما بيننا كإخوة. فهل أبوّة الله تدفعنا لنصير أكثر بنوّة له وأكثر أخوّة لـمَن حولنا اليّوم أم هناك أفعال أخرى؟ هذا ما سنتعرف عليه بمقالنا هذا، هادفين للتميّيز بين فقداننا وحضورنا الحقيقيّ بالبيت الأبويّ من خلال العلاقة بالله الآب، بكلا النصيّن، وعلاقتنا ببعض.
1. أربعين عامًا من الـمَنّ! (يش 5: 9-12)
في أوّل الكتب التاريخيّة، وهو سفر يشوع، تأتينا كلمات كاتب السفر بالتأكيد على توقف نزول الـمّن من السماء. نعلم أنّ الـمّن كان عطيّة الله لشعبه في مسيرتهم بالصحراء إستجابة على تذمر بني إسرائيل ضد الرّبّ وضد موسى (راج خر 15: 22- 16: 5) بأحد كتب الشريعة. أي بعد إتمام حدث الخروج مباشرة وعند البدء في مسيرتهم التحريريّة بالصحراء نسمع تذمر الشعب الـمُوجه إلى موسى وهارون حيث قالوا: «لَيتَنا مُتْنا بِيَدِ الرَّبِّ في أَرضِ مِصرَ، حَيثُ كُنَّا نَجلِسُ عِندَ قِدْرِ اللَّحمِ ونأَكُلُ مِنَ الطَّعامِ شِبعَنا، في حينِ أَنَّكما أَخرَجُتمانا إِلى هذه البَرِّيَّةِ لِتُميتا هذا الجُمهورَ كُلَّه بِالجوع» (خر 16: 3). في هذا الوقت بالتحديد يكشف الرّبّ عن عطيته الّتي ظهرت في الـمَنّ، الّتي رافق بها شعبه، لـمدة أربعين سنة، من زمن موسى حتى زمن يشوع. من بعد الخروج من أرض العبوديّة وحتى دخول بني إسرائيل أرض الـميعاد الرّبّ يطعم شعبه كالطفل الصغير الّذي يحتاج لما هو أساسي حيث نقرأ: «فقالَ الرَّبُّ لِموسى: ((هاءَنذا مُمطِرٌ لَكم خُبزاً مِنَ السَّماء. فيَخرُجُ الشَّعبُ وَيلتَقِطُه طَعامَ كُلِّ يَومٍ في يَومِه، لِكَي أَمتَحِنَهم، أَيَسلُكونَ على شَريعَتي أَم لا. فإِذا كانَ اليَومُ السَّادِس وأُعَدُّوا ما يأتونَ به، يَكونُ ضِعفَ ما يَلتَقِطوَنه في كُلِّ يَوم))» (خر 16: 4- 5). لقد كان مجرد إمتحانًأ من الرّبّ ليعرف ما بباطن شعبه نحوه! يمكننا أن نتسأل اليّوم ماذا تحمل قلوبنا وقت التجربة؟
وها نحن اليّوم بعد مرور أربعين عامًا من بركة ورعاية الله لشعبه بإطعامه في الصحراء نجد أنّ الرّبّ قد تممّ وعده لإبراهيم ودخل نسله إلى أرض الـميعاد ونعيش مع الشعب حدث فريد حيث يأكل الشعب لأوّل مرة من غلة أرض الـموعد وهو يتمتع بحريّة كاملة، فيروي كاتب سفر يشوع قائلاً: «خيمَ بَنو إِسْرائيلَ بِالجِلْجال، وأقاموا الفِصْحَ في اليَومِ الرابِع عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ مَساءً في سَهْلَ أَريحا. وأَكَلوا مِن غَلَّةِ الأَرضِ في الغَدِ بَعدَ الفِصْح: فَطيرًا وفَريكًا، في ذلك اليَومِ عَينِه. فانقَطعَ الـمَنُّ مِنَ الغَد مُنذُ أَكَلوا مِن غَلَّةِ الأَرْض، فلَم يَكُنْ لِبَني إِسْرائيلَ مَنٌّ بَعدَ ذلك، وأَكَلوا مِن غَلَّةِ أَرضِ كَنْعانَ في تِلكَ السَّنَة» (يش 5: 10- 12). إنتظر الرّبّ تفاعل الشعب بجمع الغلة وطبخها والأكل منها ومن اليّوم الثاني توقف أمطار الـمنّ، هذا التدبير ما هو إلّا علامات تدل على سخاء الرّبّ. فحتى آخر لحظة هو يهتم بنا ويرعانا فنحن أبنائه. هذا هو الرّبّ إلهنا، بعنايته الأبويّة كما لم يترك شعبه بالـماضي، هكذا لم يتركنا نحن أبنائه بالحاضر بالرغم من قساوة قلوبنا وتذمرنا وإعلان الحروب فيما بين شعوبنا وتفكك أخويتنا. الأبوة الإلهيّ مصدر لأخويتنا البشريّة، حيث رواية فصح بني إسرائيل الأوّل الّذي تمّ الإحتفال به بعد دخوله أرض الموعد، وهي اللحظة الّتي أكمل فيها الشعب رحلته عبر الصحراء للإنتقال من أرض العبودية إلى أرض الحريّة وهي الّتي وعد بها الرّبّ الآباء. هذه لحظة ذات أهمية خاصة في حياة الشعب، فهو يعيش الآن على ثمار الأرض الّتي دخلوها، بقيادة يشوع، توقفت هطول الـمنّ كالـمطر! فقط الآن تبدأ أمانة بني إسرائيل دون أي إشارة ملموسة إلى أن الرّبّ هو الّذي يبقيهم على قيد الحياة .نعم، الله يعترف بنا كأبناء ونحن لازلنا نحتاج لنتعرف على هذه الأبوّة الفيّاضة لنعترف ببعض كإخوة! مدعوين لنعترف بالـمّن السّماويّ الّذي مازال يغمرنا الرّبّ به من أشخاص وعلامات تدل على حضوره الأبوّي الحيّ لنشارك فيما بعد بدورنا هذه النعم لإخوتنا من حولنا.
2. أخّوة يسوع (لو 15: 1-3)
لم يجد كاتب الإنجيل الثالث أفضل من هذا الوصف الّذي مَهد به لتقديم أمثال الرحمة الثلاث بحسب سرده في الإصحاح الخامس عشر قائلاً: «وكانَ الجُباةُ والخاطِئونَ يَدنونَ مِنه [يسوع] جَميعاً لِيَستَمِعوا إِلَيه. فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: ((هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!))» (لو 15: 1- 2). يسوع هو الأخ الأكبر الّذي جاء ليحمل الـملكوت لإخوته الّذين يصفهم لوقا في شكل فئات متحاربة فيما بينهم وهم الجباة والخطأة من جانب والفريسيون والكتبة من الجانب الآخر، كلا الفئتين يمثلاننا اليوم ككنيسة. وحين يصغي لإتهام فئة رجال الديّن في عصره حينما قبل الـمُهمشين منهم وهم الخطأة بل وكان يأكل معهم أيضًا كأخ أكبر! يلوح لوقا بموقف يسوع الجذري الّذي يبدأ بإعلان جديد للـملكوت الإلهي الّذي جاء داعيًا إليه الجميع سواء الـفئة الـمُتهمة أم الـمُهمشة من خلال مثل الآب الرحيم قائلاً: «فضرَبَ لَهم هذا الـمَثَلَ» (لو 15: 3). لكن يدرج لوقا أولاً مثليّن آخرين يقدمان بعض أوجه التشابه، وهما مثل الخروف الضال (راج لو 15: 4-7) ومثل الدرهم المفقود (راج لو 15: 8-10). تتميّز العلاقة بين الأمثال الثلاثة بهذا الإصحاح، في المقام الأول بالأفعال فقد ووجد، والّتي تظهر ثماني مرات على التوالي في الفصل بأكمله. تُزودنا المقدمة بمفتاح ثمين لقراءة الإصحاح حيث يقدم حالة ملموسة في حياة يسوع وخدمته، والّتي يمكننا أنّ نجد مواجهة يسوع لقساوة قلب الإخوة الدينيّن بأسلوب راقي فهو لا يرفضهم ولا يُعنتّهم بل بمثابة الأخ الأكبر، يفتح فاه مُعلمًا ومُبشراً بحقيقة الله الأبويّة منذ بدء هذا الـمثل قائلاً: «كانَ لِرَجُلٍ ابنان» (لو 15: 11). هذين الإبنيّن، تربطهما علاقة بنوّة مع أبيهم وعلاقة أخوّة فيما بينهم.
3. الإبن والأخ الأصغر (لو 15: 11- 16)
يأتينا يسوع وهو أخونا الأكبر، بتقديم مثل ثالث في أمثلة الرحمة، مُبتدأً بطلب الأخ الأصغر من خلال هذا الـمثل حيث قال لأبيه: «يا أَبَتِ أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَعودُ علَيَّ مِنَ المال» (لو 15: 3). بطاعة الآب لإبنه حيث يُقسيم الـمال ويعطيه نصيبه، يتخذ هذا الابن الأصغر قراره بالبعد والخروج عن بيت أبيه وإنفصاله عن البيت الأبوي والبُعد عن أخيه، مُبذراً ومُسرفًا حتى توصل لحالة العوز والجوع الشديديّن (راج 15: 13- 16). أمام البطالة لم يجد سوى إتخاذه قراراً كراعي للخنازير بل كان يأكل من أكلهم حيث كانت حياته تشبه حياتهم. صارت حياته مع الخنازير بدلاً من الحياة ببيت الآب والتمتع بالبنوّة والأخوّة! يصف لوقا مرارة هذا الابن بهذه الأفعال: «فَبدَّدَ مالَه [...]، أَنفَقَ كُلَّ شَيء [...] أَخَذَ يَشْكو العَوَز، وكانَ يَشتَهي أَن يَملأَ بَطنَه مِنَ الخُرنوبِ الَّذي كانتِ الخَنازيرُ تَأكُلُه، فلا يُعطيهِ أَحَد» (لو 15: 13- 16). فهذا هو نتيجة قراره الّذي لم يدرسه بدقة حينما طالب أبيه بالأموال تاركًا إياه ومنفصلاً عن أخيه. هكذا نحن حينما نقرر أنّ نبتعد وننفصل تاركين الدفء العائلي، باحثين عن تحقيق رغبة أم حلم ما دون صلاة وإستشارة الله أبونا فيما ننوي عمله، ننفصل بل نقوم بتقطيع علاقتنا الأخويّة من جانب ونهمل بنوتنا من الجانب الآخر. ودون أنّ ندري، سواء بجهل أو بمعرفة نُدمر العلاقات الجوهريّة الّتي تمنحنا حياة حقيقيّة. وهنا يسوع يضعنا أمام حقيقتيّن الأخوّة والبنوّة!
4. البنوّة الـمستعادة (لو 15: 16- 24)
يستمر لوقا في وصف حال الابن الأصغر الّذي لم يجد مخرج لقراره الخاطئ بترك البيت الأبوي سوى لقائه الجرئ بذاته، حيث نجح في الإصغاء لقلبه، بالرغم من الحال السيء الّذي يعيشه، متحاوراً في شكل مونولج شخصي حيث قال: «كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعاً! أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي [..] يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً» (لو 15: 17- 18). ما يُحي الابن هو علاقته بأبيه إذ تستعيد ذاكرته ما عاشه في حضن البيت الأبويّ مُتمتعًا ببنوة لا مثيل لها. إذ لمّ يختبر الابن الأصغر هذه التجربة، لم يتمكن من تقدير الدور الأبّوي الثمين بحياته. مثلنا فنحن كثيراً ما لا ندرك قيمة النعم الّتي يغمرنا الرّبّ بها، مثل بني إسرائيل بالماضي والإبن الأصغر بهذا المثل، وأهمها هي أبّوة الله لنا كأبناء، فهو الّذي تبنانا بنعمته. البنوّة هي نعمة مجانيّة لم نطلبها ودون إستحقاق منا، فهل ندرك قيمتها؟ هل ندرك هذه النعمة كأبناء الله وليس كأي إله بل أبناء الله الحيّ الّذي يهتم بنا ويمنحنا من فيضّه دون أن نطلب!
يفاجئنا الإنجيلي بهول الأفعال الأبويّة، فقط أمام فعل واحد من الابن جعلت الآب يقوم بأضعاف من الأفعال: «فقامَ ومَضى [الابن الأصغر] إِلى أَبيه. وكانَ لم يَزَلْ بَعيداً إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلاً» (لو 15: 20). هذه هي قُبلة الأبّوة هي قبلة الـمُصالحة الأبويّة والغفران الـمجاني! الله الآب، اليّوم، هو الّذي يسرع ويحتضن، كلّاً منا، من جديد أمام إتخاذ قرارنا كأبناء بالعودة إلى أبينا لننسج من جديد خيوط البنوّة الحقّة الـمستعادة.
في كلّ مرة نقرر العودة الحقيقة إلى الله أبينا برّوح التوبة الحقيقيّة، الّتي تُميّز هذا الزمن الأربعيني، نجد أحشاء الآب هي الّتي تستقبلنا وتغمرنا بأحضان وقبلات لا مثيل لها. فلا نشكو بعد الحبّ البنوي، بالرغم من أخطائنا، فهو يتجسد في الحبّ الأسريّ متى عشنا حقًا أبناء لله ولوالدينا. هذا هو الحضن الّذي إحتصنه الله الآب ليسوع أخينا البكر على الصّليب حيث صالحنا بالآب لنكون أبناء للآب وأخوة له. لازال الله الآب ينتظر توبتنا بصّبر،كما نوهنا بالـمقال السابق (3+ 1 من الأعوام)، لنستقر بالبيت الأبويّ لنحيا تحت رعايته. وهذا البيّت هو هنا والآن في الـمكان والزّمان الّذي نعيش فيه، يرافقنا الآب حيث نكون فهو أبينا حيث نسمعه يقول لي ولك: «أَنَّ ابنِي [ابنتي] هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد» (لو 15: 24). كلما عُدنا إلى الآب نحيا حقًا فنستعيد بنوتنا الـمفقودة.
5. الأخوّة الـمستعادة (لو 15: 25- 30)
يطرح الإنجيلي من جديد قضية الأخوة الـمفقودة، أمام أعيننا وأفكارنا، حيث في وضع الأخ الأكبر نجد خيوط قويّة مُتفككة على الصعيد الأسريّ. فهو يصف الابن الأكبر، بالبنوّة أيضًا حيث يعيش في بيت الآب الّذي يجهله حيث يحيا برّوح الأجير حيث: «فغَضِبَ وأَبى أَن يَدخُل» (لو 15: 28أ). لـماذا قسّاوة قلوبنا كأخ أو كأخت في عالـم متمزق يعاني الأخوة الحقّة؟ بينما يستمر الإبن في الغضب والإنغلاق على ذاته، صبر الآب الـمحبّ مع الابن الأصغر يشمل الابن الأكبر الّذي لا يعرف حقيقة حبّ الآب له إذ يروي الإنجيلي توسلّ الآب: «فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل» (لو 15: 28ب). يحاول الآب مجدداً الـمُصالحة بين أبنائه. يُدهشنا هذا الخروج الغير منتظر، خروج الآب متضرعًا لإبنه الأكبر ليتمتع برّوح البنوّة والأخوّة، الّذي هو حقيقة الوليّمة وفرحة الآب بتجمع الأبناء بوليمته الّتي هي البقاء معه. ومع ذلك نعاني الإصغاء لصوت الآب إذ نفاجأ بجهل الابن الأكبر لأبيه القائل: «ها إِنِّي أَخدُمُكَ مُنذُ سِنينَ طِوال، وما عَصَيتُ لَكَ أَمراً قَطّ، فما أَعطَيتَني جَدْياً واحِداً لأَتَنعَّمَ به مع أَصدِقائي. ولـمَّا قَدِمَ ابنُكَ هذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا ذَبَحتَ له العِجْلَ الـمُسَمَّن!» (لو 15: 29- 30). عبر الابن الأكبر عن اللّابنوّة للآب واللّا إخوة لأخيه. فهو يعيش برّوح الخادم ولمّ يعرف قيمة بنوته وأخوته. فكثيراً ما نجهل حبّ الأب والأخ والأخت مما يفقدنا مشاعر الدفء العائليّ وهذا للإنغلاق في الذّات فقط، والعمل، الصداقة، ... أيّ كلّ ما هو خارج البيت الأبّويّ والعلاقات الحقّة الّتي تُحيّ! نحن كثيراً ما ندمر علاقتنا البنويّة والأخويّة بسبب الأنا والإعتقاد الخاطىء بأننا سنحصل على رغباتنا بخارج الـمنزل.
وهنا من جديد نسمع صوت الآب ليّ ولك الّذي يدعونا من التحرر من الأنا والإنفتاح عليه وعلى الـمعيّة بالعودة إلى بيتنا في حضور الآب والأخوة، قائلاً: «يا بُنَيَّ [ابنتي]، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد» (لو 15: 31). لازال يهمس صوت الآب إلى يّومنا هذا ويدعونا للفرح الحقيقي وهو الـمعيّة والفرح ببقائنا معًا والفرح بعودة إخوتنا متى أخطأوا إلينا ومنح الغفران وإدراك حبّ الآب الحقيقي الّذي منحنا إخوة لنفرح ولنتألم معًا دون أنّ نفرح بما هو خارج البيّت الأبويّ. فكلّما هو خارج العلاقات الأسريّة مفقود وليس له قيمة، ولكن كلّ ما هو بداخل البيّت الأسريّ هو مضمون وباقٍ لأنّه يمنحنا الجوهري لحياتنا من مشاعر وحبّ حقيقييّن. قد نخطأ بجهل أو بمعرفة حينما نبحث عن هويتنا البنويّة أو الأخويّة بخارج بيوتنا. يصير حضور الآب هو السرّ الّذي يجمع الأبناء، فهو بمثابة الخيط الّذهبي الّذي يحيط الأخوة بحبّ بنويّ لا مثيل له. مدعويّن أنّ نفرح بأبينا وبأخوتنا، بل نتصالح في علاقاتنا الأخويّة الـمنقسمة. لأنّها سرّ حبّ الآب إذ لنا أخوّة وبيّت أبويّ يجمعنا في دفء لا مثيل له.
تبقى، مع الأسف، قضيّة الأخ الأكبر مفتوحة لا نعلم إذا قرر الدخول أم الخروج بلا عودة إلى البيّت الأبويّ. فهذه القضية هي ذاتها الّتي يعاني منها عالمنا الـمُنقسم اليّوم، في الحروب والـمجاعات، ... لقد جعلنا عالـمنا الّذي هو عطيّة الله، عالم منقسم يفتقد للأخوة الحقّة لأننا لم نتمكن في فِهم الأبوّة الحقّة. بذات الـمقياس الّذي نعيش بنويتنا لله الآب نعيش أخويتنا مع مَن حولنا، دون تمييز. فتصير بنوّة الله خصبة ومثمرة في أخويتنا بالرغم من الإختلافات العديدة فيما بيننا إلّا أنّ ابينا هو واحد وهو سرّ تجمعنا كما فعل يسوع أخينا الأكبر مشاركًا إيانا أبيه السّماويّ.
الخلّاصة
لقد إستوحينا الأفكار الكتابيّة، فيما بين العهدّين، بهذا الـمقال من خلال الصورة الّتي ترافق الـمقال حيث بين البنوّة والأخوّة علاقة حميميّة فكلّ منهن مرتبطة بالآخرى. فالإحتضّان الأبويّ سواء من الرّبّ لشعبه بالعهد الأوّل كما رأينا بسفر يشوع (5: 9- 12)، كما رأيناه قريبًا منا في شخص يسوع بالقول والفعل وبالأخص من خلال هذه الأحشاء الأبويّة الّتي تتهلل بعودة الأبناء في النص الّذي إنفرد به لوقا الإنجيليّ دون باقي الإزائييّن (15: 1- 3. 11- 32). هذا الفرح الأبوي الّذي لا يوصف لابد وأن يكتمل في الفرح الأخوي. ويحضر بذهني قول القديس فرنسيس الأسيزي، الّذي حينما إكتشف نعمة الأخوّة تهلل بقوله: "الرّبّ أعطاني إخوة". وهنا سمع فرنسيس حقيقة صوت الآب: «يا بُنَيَّ، أَنتَ مَعي دائماً أبداً، وجَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ. ولكِن قد وَجَبَ أَن نَتَنعَّمَ ونَفرَح، لِأَنَّ أَخاكَ هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالّاً فوُجِد» (لو 15: 31). مدعوين أيّها القراء الأفاضل في هذا الزّمن الأربعينيّ أنّ نواجه هذه الإنقسامات ونعود لله الآب بقلب الأبناء بالتوبة وطلب غفرانه، والبدء في التحرر من الإنقسامات الأخويّة والـتمتع بعودة إخوتنا العائدين إلى البيّت الأبويّ. لنتخلى عن الـمثاليّة ونكون صادقيّن في بنوتنا وأخويتنا لبعض. دُمنا أبناء وأخوة نفرح بأبينا السّماويّ ونستعيد رّوح الإحّوة بـمَن حولنا.