موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ مايو / أيار ٢٠٢٣

﴿لِتَصيروا مَسكِنًا للهِ في الرّوح﴾ (أفسس 22:2)

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عظة عيد العَنصرة

عظة عيد العَنصرة

 

جَاءَ في سِفرِ يُوئيلَ النّبيّ: ﴿في تِلكَ الأيّامِ أُفيضُ رُوحي﴾ (يو 2:3). والفَيضُ يَعني الكَثرَةَ والوفرَةَ، والامتِلاءَ حَتّى الطَّفَحَان! هَذا الفَيضُ لِروحِ اللهِ القُدس، حَدَثَ أَوّلًا مَع أُمِّنَا مَريمَ العَذرَاء، الَّتي نَزَل عَلَيهَا الرّوحُ القُدسُ سَاعَةَ البِشَارَة، وامْتَلَأتْ مِنَ النِّعمَة، عِندَمَا حَوَت النّعمَةَ الْمُطلَقَةَ، كَلِمَةَ اللهِ يَسوعَ الْمَسيح (راجِع حَدَث البِشَارة، لوقا 26:1-38).

 

ثُمَّ أنَّ العَذراءَ مَريم ظَلَّلَتها قُدْرَةُ العَليّ، فَصَارَتْ مَسكِنًا مُقدَّسًا، بِالقُدّوسِ الّذي حَلَّ فِيها. وَهذا يجعَلُنا نَعودُ إلى سِفرِ الخروج، عِندمَا حَلَّ مَجدُ الرّبِّ وَمَلَأَ خَيمةَ الْمَوعِد، فَغَدَت مَكانَ الّلقَاءِ بَينَ اللهِ وَشَعبِه (راجع خروج 34:40). وَهَكَذا مَريمُ، عِندَمَا غَطَّاهَا رُوحُ الله، أَضحَتْ مَسكِنَ اللهِ بَينَ البَشر، وَمِن خِلالِها الْتَقَى اللهُ، الّذي صَارَ بَشرًا، بالبَشَر.

 

وَلعلَّ هَذا الأمر، يَظلُّ أَحدَ أهمِ الْمَعاني الّتي يحمِلُها عيدُ العَنصرة! فَفي عِيدِ حُلولِ الرّوحِ القُدس، الّذي أُفيضَ عَلَى الرُّسلِ الْمُجتَمِعين في بَيتٍ واحِدٍ، حَتَّى امْتَلأوا مِنهُ (راجِع أعمال 1:2-4)، صَاروا هُمْ خيمةَ مَوعِدٍ وبُيوتًا يَسكُنُها رُوحُ الله. والرّوحُ القدسُ الّذي مَلَأَ جَوانِبَ البَيت، مَلَأَهمُ مِنَ الْمَواهِبِ والنِّعَم، فَطَفَقُوا يُبَشِّرونَ وَيَشهَدون. فَتمَّ قولُ الْمسيحِ: ﴿لَستُم أَنتُمُ الْمُتَكلّمين، بَل روحُ أبيكُم يَتكلَّمُ بِلِسانِكم﴾ (متّى 20:10).

 

وَنحنُ بِدَورِنا أَيُّها الأحبّة، قَبِلنَا الرّوحَ القُدسَ الّذي هَبطَ عَلينا، يومَ اعْتمَدَ كُلٌّ مِنَّا في الْمَسيح، فَغَدونَا هَياكِلَ اللهِ وَمَقَرَّ سُكنَاه. وَكمَا يَقولُ بولسُ الرّسول في رسالتِه الأولى إلى أهلِ قورنتوس: ﴿أَوَمَا تَعلَمونَ أَنَّ أَجسَادَكُم هيَ هَيكَلُ الرّوحِ القُدس، وَهوَ فيكُم قَدْ نِلتُموهُ مِن الله؟! فَمَجِّدوا اللهَ إذًا بِأجسادِكُم﴾ (1قور 19:6-20).

 

فَبالرّوحِ القُدس، لم يَعُدْ الله يَسكُنُ في بُيوتٍ صَنَعَتها الأيدي، بَل صَارَ يَسكُنُ في بَواطِنِ النَّاسِ وَدَواخِلِهم. وَلذلِك دَعوتُنا كَمَسيحيّين، أَنْ نُمجِّدَ اللهَ السَّاكِنَ فِينَا، والْمُتَكَلِّمَ فِينا، وَالعَامِلَ فينَا، لأنَّنا: ﴿هَيكلُ الله، وروحُ اللهِ حَالٌّ فيكم، وهيكلُ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهيكَلُ هوَ أَنتم﴾ (1قور 16:3-17).

 

في العَنصَرةِ خرجَ الرّسلُ مِن البيتِ الّذي كَانوا يُقيمونَ فيه، لأنَّ اللهَ لا يُريدُ رُسُلًا وَمُؤمنينَ يُصَلّونَ وَيَتَعبَّدونَ دَاخِلَ البَيتِ الْمُغلَق، إنّما يُريدُ عِبَادًا وشهودًا، يعبُدونَهُ وَيَشهَدونَ لَهُ في كُلِّ مَكان، تمامًا كمَا قَالَ يسوعُ لِلسَّامِريّة: ﴿تَأتي سَاعَةٌ فِيهَا تَعبدونَ الآب، لا في هَذا الجبلِ ولا في أُورشليم... إنَّ اللهَ روحٌ، فَعَلى العِبادِ الصّادقين أنْ يَعبدوهُ بالرّوحِ والحَق﴾ (راجِع يوحنّا 21:4-24). وَعَليهِ تَبقَى الكَنَائِسُ أَمْكِنَةً فيها نَلتَقي بالله مِن خِلالِ الّليتورجيّا، وَنمتَلِأُ مِن روحِه القُدّوس، حَتّى نُصبِحَ نحنُ بُيوتًا حيّةً بالرّوح القُدس، يُقيمُ اللهُ فيهَا، وَفينَا يُعبَدُ بالرّوحِ والحق، أَنّا كُنَّا وَحَيثُمَا حَلَلنَا.

 

هذا الرّوحُ القُدسُ الّذي نِلنَاه، قَد حَبانَا مَواهِبَهُ أَيضًا، فَهوَ: ﴿روحُ الرّب، روحُ الحكمَةِ والفَهم، روحُ الْمَشورَةِ والقُوّة، روحُ الْمَعرِفَةِ وَتقوَى الرّب﴾ (أشعيا 2:11). وهوَ أَيضًا رُوحُ الْمَحبّةِ، لأنَّ محبّةَ الله، كَمَا يَقولُ بولسُ في الرّسالةِ إلى أَهلِ رومة: ﴿أُفيضَت عَلينا بالرّوحِ القُدُسِ الّذي وُهِبَ لَنا﴾ (رومة 5:5). وهوَ روحُ الحقِّ الّذي مَتَى جَاءَ: ﴿أَرشَدَنا إلى الحقِّ كُلّه﴾ (يوحنّا 13:16).

 

هذا الرّوحُ هوَ العُصارَةُ الْمُقدَّسَةُ الّتي تَسري فِينَا، مُغدِقًا عَلَينَا ثمارَهُ الْمُبارَكةَ الشّهيّة. فَإذا كَانَ ثَمَرُ شَجَرَةِ مَعرفَةِ الخيرِ والشَّر، الّتي أَكَلَ مِنهَا أَبَوانَا الأوّلانِ، قَدْ آَلَ بِهمَا إلى الخَطيئةِ والْمَعصيَةِ، لأنّهُمَا خَالَفا الوصيّةَ الإلهيّة (راجع تكوين 1:3-24)، فَإنَّ ثَمرَ الرّوحِ القُدسِ الطَّيبَ، شَجَرةِ الحياة، يَؤولُ بِنَا إلى النِّعمَةِ والقَدَاسَة. وَهَذهِ الثِّمَارُ كَمَا يُورِدُهَا بُولسُ في رِسَالتِهِ إلى أَهلِ غَلاطيَة، هيَ: ﴿الْمَحبّةُ وَالفَرحُ وَالسَّلام، والصّبرُ والُّلطفُ وكَرمُ الأخلاق، والإيمانُ والوَداعَةُ والعَفَاف﴾ (غلا 22:5-23).

 

جَاءَ في سفر حزقيالَ النّبي: ﴿وأُعطيكُم قَلبًا جَديدًا، وَأَجعَلُ في أَحشائِكُم رُوحًا جَديدًا، وَأَجْعَلُكم تَسيرونَ على فَرائِضي، وَتَحفظونَ أَحكامي، وَتعمَلونَ بِها﴾ (حز 26:36-27). روحُ اللهِ كَما نُعلِنُهُ في قانونِ الإيمان هوَ الرّبُّ الْمُحي، وإنْ كانَ سفرُ الجامِعة يقول: ﴿لَيسَ تحتَ الشّمسِ شيءٌ جَديد﴾ (جامعة 9:1)، فَهذَا صَحيح! فَنَحنُ مَن أَصَابَنَا الهَرَمُ وَالقِدَم. ولِذلِكَ نَحنُ بحاجةٍ إلى الرُّوحِ القُدسِ، لِكَي يُجدِّدَنا مِن الدَّاخِل، وَينزَعَ مِنّا كُلَّ مَا هوَ قَديم، وَيزرعَ في قُلوبِنَا شريعةَ العَهدِ الجَديد، شَريعةَ النّعمَةِ والحق، شريعةَ حُريّةِ أَبناءِ الله، وَيجعَلَ مِنَّا خَليقَةً جَديدَةً، كَمَا يقول بولس الرّسول في رسالتهِ الثانية إلى أهل قورنتوس: ﴿إذا كانَ أَحَدٌ في الْمسيح، فإنَّهُ خَلْقٌ جَديد﴾ (2قور 17:5).