موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 4: 1-13)
1 ورَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّة 2 أَربَعينَ يوماً، وإِبليسُ يُجَرِّبُه، ولَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام. فلَمَّا انقَضَت أَحَسَّ بِالجوع. 3 فقالَ له إِبليس: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً)). 4 فأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان)). 5 فصَعِدَ بِهِ إِبليس، وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن، 6 وقالَ له: ((أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء. 7 فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه)). 8 فَأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد)). 9 فمَضى بِه إِلى أُورَشَليم، وأَقامَه على شُرفَةِ الـهَيكلِ وقالَ له: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل، 10 لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ))، 11 ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ)). 12 فأَجابَه يسوع: ((لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ)). 13 فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت.
مُقَدِّمَة
نَحْتَفِلُ اليَوْمَ بِالأَحَدِ الأَوَّلِ مِنَ الزَّمَنِ الأَرْبَعِينِيِّ الَّذِي يَقُودُنَا إِلَى الفِصْحِ. وَفِي هَذَا الأَحَدِ يُقَدِّمُ لَنَا لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ بَعد رِوايةِ نَسِبِ يسوع (لوقا 3: 23-38)، تَجَارِبَ يَسُوعَ الثَّلَاثَ حَوْلَ كُلِّ مَا تَطْلُبُهُ رِسَالَتُهُ فِي خَلاصِ الإِنْسَانِ، رَافِضًا المَسِيحَانِيَّةَ الأَرْضِيَّةَ السِّيَاسِيَّةَ. إِذْ وَاجَهَ يَسُوعُ هَذِهِ التَّجَارِبَ وَانْتَصَرَ عَلَيْهَا بِقُوَّةِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَوَهَبَ النَّصْرَةَ لِشَعْبِهِ، مُقَدِّمًا إِلَيْهِ قُوَّةً وَخَلاصًا. وَهَكَذَا انْتَصَرَتِ الطَّبِيعَةُ البَشَرِيَّةُ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ، وَنَالَتْ إِكْلِيلَ الظَّفَرِ وَالغَلَبَةِ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ البَحْثِ فِي وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 4: 1-13)
1 ورَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّة
تُشيرُ عبارةُ "رَجَعَ يَسوعُ مِنَ الأُرْدُنِّ" إلى التَّجارِبِ الَّتي وقَعَتْ إِثْرَ مَعمُودِيَّةِ يَسوعَ (مَتَّى 4: 1-11، مَرْقُسَ 1: 12-13). عندما عَزَمَ يَسوعُ عَلَى الدُّخُولِ عَلَانِيَةً فِي فِداءِ البَشَرِ مِنَ الخَطِيئَةِ، اقْتَضَى أَنْ يُجَرَّبَ لِتَظْهَرَ غَلَبَتُهُ عَلَيْهَا. أَمَّا عِبارَةُ "يَسوعُ" فَتُشِيرُ إِلَى اسْمِ المَسِيحِ الإِنْسَانِيِّ، فَهُوَ جُرِّبَ كَإِنْسَانٍ. لِذَلِكَ، يُوحَنَّا البَشِيرُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ لَاهُوتِ المَسِيحِ لَمْ يُسَجِّلْ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ يَسوعُ فِي التَّجْرِبَةِ بِلاهُوتِهِ، لَمَا كَانَ قَدْ جُرِّبَ مِثْلَنَا. وَلَفْظَةُ "يَسوعُ" هِيَ الصِّيغَةُ العَرَبِيَّةُ لِلاِسْمِ العِبْرِيِّ יֵשׁוּעַ (مَعْنَاهُ: اللهُ مُخَلِّصٌ). وَقَدْ سُمِّيَ "يَسوعُ" حَسَبَ قَوْلِ المَلَاكِ لِيُوسُفَ (مَتَّى 1: 21)، وَلِمَرْيَمَ (لُوقَا 1: 31). وَوَرَدَتْ لَفْظَةُ "يَسوعُ" وَحْدَهَا خَاصَّةً فِي الأَنَاجِيلِ. أمَّا عِبارَةُ "الأُرْدُنِّ" فَتُشِيرُ إِلَى ارْتِبَاطِ المَعمُودِيَّةِ بِالتَّجْرِبَةِ. فِي المَعمُودِيَّةِ أَكْمَلَ يَسوعُ البِرَّ، وَفِي التَّجْرِبَةِ كَانَ بِرُّهُ تَحْتَ الاِخْتِبَارِ. أَمَّا عِبارَةُ "وَهُوَ مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ" فَتُشِيرُ إِلَى حُلُولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَى المَسِيحِ وَقْتَ المَعمُودِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي القَولِ: “نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيْهِ (لُوقَا 3: 22). أَمَّا عِبارَةُ "الرُّوحِ" فَتُشِيرُ إِلَى الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِي نَالَهُ يَسوعُ فِي المَعمُودِيَّةِ، لِلْقِيَامِ بِرِسَالَتِهِ (لُوقَا 4: 14)، وَلِمُوَاجَهَةِ إِبْلِيسَ، حَيْثُ بَدَأَ أَوَّلَ عَمَلِهِ مُحَطِّمًا قُوَّةَ إِبْلِيسَ. فَيَسوعُ لَيْسَ وَحِيدًا، بَلْ يَتَوَجَّهُ بِاسْتِمْرَارٍ إِلَى الآبِ بِفَضْلِ الرُّوحِ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ التَّجْرِبَةَ تَدْخُلُ فِي مُخَطَّطِ اللهِ. أَمَّا عِبارَةُ "فَكَانَ يَقُودُهُ الرُّوحُ" فَتُشِيرُ إِلَى ذَهَابِ يَسوعَ إِلَى البَرِّيَّةِ بِفِعْلِ الرُّوحِ القُدُسِ، وَلَيْسَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِمُحَارَبَةِ الرُّوحِ الشِّرِّيرِ. أَمَّا عِبارَةُ "البَرِّيَّةِ" فَتُشِيرُ إِلَى بَرِّيَّةِ أَرِيحَا، وَالبَرِّيَّةُ رَمْزٌ لِمَكَانِ إِقَامَةِ الشَّرِّيرِ، فَهِيَ أَمَاكِنُ خَرِبَةٌ وَقُبُورٌ بِحَسَبِ المَفْهُومِ اليَهُودِيِّ. وَقَدْ أَضَافَ مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ أَنَّ يَسوعَ "كَانَ مَعَ الوُحُوشِ" (مَرْقُسَ 1: 13). وَالمَسِيحُ ذَهَبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي مَقَرِّهِ لِمُحَارَبَتِهِ. وَيَظْهَرُ يَسوعُ هُنَا بِمَظْهَرِ إِسْرَائِيلَ الجَدِيدِ الَّذِي جُرِّبَ فِي البَرِّيَّةِ. وَخِلَافًا لِمَا جَرَى لِإِسْرَائِيلَ، خَرَجَ يَسوعُ مِنَ المَعْرَكَةِ مُنْتَصِرًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَدَعْ إِبْلِيسَ يَفْصِلُهُ عَنِ اللهِ.
2 "أَربَعينَ يوماً، وإِبليس يُجَرِّبُه، ولَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام. فلَمَّا انقَضَت أَحَسَّ بِالجوع"
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَرْبَعِينَ يَوْمًا" إِلَى التَّجَارِبِ الَّتِي كَانَتْ تَتَوَالَى عَلَى المَسِيحِ كُلَّ تِلْكَ المُدَّةِ، كَمَا يَتَضِحُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ مَرْقُسَ الإِنْجِيلِيِّ: "أَقَامَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرِّبُهُ الشَّيْطَانُ" (مَرْقُسَ 1: 13). أَمَّا عِبَارَةُ "أَرْبَعِينَ" فَتَشِيرُ إِلَى فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَهِيَ عُمْرُ جِيلٍ بِكَامِلِهِ (التَّكْوِينُ 7: 4)، لِلدَّلَالَةِ عَلَى العُبُورِ، حَيْثُ إِنَّ الرَّقْمَ (40) هُوَ زَمَنُ مِحْنَةٍ يَنْتَهِي بِلِقَاءٍ مَعَ الرَّبِّ. وَيُرَجَّحُ أَنَّ هَذِهِ الفَتْرَةَ تُشِيرُ إِلَى الوَقْتِ الَّذِي قَضَاهُ مُوسَى النَّبِيُّ عَلَى الجَبَلِ (خُرُوجُ 34: 28)، أَوْ إِلَى الأَرْبَعِينَ سَنَةً الَّتِي قَضَاهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي بَرِّيَّةِ سِينَاءَ (عَدَدُ 14: 34)، وَالَّتِي تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَسِيرَةِ إِيلِيَّا النَّبِيِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (1 مُلُوكَ 19: 8). هُوَ رَقْمٌ مُـمَيَّزٌ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ:
- دُعِيَ مُوسَى وَهُوَ فِي سِنِّ الأَرْبَعِينَ، وَبَقِيَ 40 سَنَةً فِي سِينَاءَ.
- حَكَمَ شَاوُلُ وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ أَرْبَعِينَ عَامًا.
- وَعَظَ يُونَانُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ أَجْلِ اهْتِدَاءِ أَهْلِ نِينَوَى.
- صَامَ يَسُوعُ 40 يَوْمًا فِي البَرِّيَّةِ، وَجُرِّبَ كَذَلِكَ 40 يَوْمًا.
- وَعَظَ لِمُدَّةِ 40 شَهْرًا، وَبَقِيَ فِي القَبْرِ 40 سَاعَةً، وَظَهَرَ لِمُدَّةِ 40 يَوْمًا قَبْلَ صُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ.
أَمَّا عِبَارَةُ "يَوْمًا" فَتَشِيرُ إِلَى التَّجْرِبَةِ الَّتِي دَامَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْدَ إِقَامَتِهِ فِي البَرِّيَّةِ، فِي حِينِ أَنَّ إِنْجِيلَ مَرْقُسَ يُشِيرُ التَّجْرِبَةَ التي دَامَتْ طِوَالَ إِقَامَةِ يَسُوعَ فِي البَرِّيَّةِ. أَمَّا مَتَّى الإِنْجِيلِيُّ فَيَتَكَلَّمُ عَنْ ثَلَاثِ تَجَارِبَ فِي نِهَايَةِ الأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمِنْ هُنَا يَبْدُو أَنَّ لُوقَا جَمَعَ التَّقْلِيدَيْنِ مَعًا. أمَّا عِبَارَةُ "إِبْلِيس" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (διάβολος) تَعْنِي المُشْتَكِي أَوْ الفَاسِدَ، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى العَدُوِّ الَّذِي يُعَارِضُ اللَّهَ وَإِقَامَةَ مُلْكِهِ. يُسَمَّى أَيْضًا: الشَّيْطَانَ (مَرْقُسَ 1: 13) فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ (Σατανᾶς)، وَيَعْنِي العَدُوَّ. يُدْعَى أَيْضًا "المُجَرِّبَ" (مَتَّى 4: 3)، أَوْ "بَعْلَ زَبُولَ" (مَرْقُسَ 3: 22)، أَوْ "بَلِيَعَالَ" (2 قُورِنْتُسَ 6: 15). وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ المَسِيحُ فِي قَوْلِهِ: "النَّارُ الأَبَدِيَّةُ المُعَدَّةُ لإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ" (مَتَّى 25: 41). وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ رَمْزًا أَوْ فِكْرَةً مُجَرَّدَةً، بَلْ هُوَ كَائِنٌ حَقِيقِيٌّ يُعَارِضُ اللَّهَ وَيُقَاوِمُ كُلَّ مَنْ يَتَّبِعُهُ وَيُطِيعُهُ. عِبَارَةُ "يُجَرِّبُهُ" تَدُلُّ أَنَّ إِبْلِيسَ الذي يُجَرِّبُ يَسُوعَ، وَالتَّجْرِبَةُ إذَن مِنَ الشَّيْطَانِ بهدف الشَّرِّ، وبالتَّحديد فَهِيَ لِإِغْوَاءِ الإِنْسَانِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ اللَّهِ، وَإِيقَاعِهِ فِي الخَطِيئَةِ (التَّكْوِينُ 22: 1). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ: "يَسُوعُ قَائِدُنَا سَمَحَ لِنَفْسِهِ بِالتَّجْرِبَةِ حَتَّى يُعَلِّمَ أَوْلَادَهُ كَيْفَ يُحَارِبُونَ". إِنَّ إِبْلِيسَ يُجَرِّبُ المُؤْمِنِينَ، أَمَّا اللَّهُ فَلَا يُجَرِّبُ، بَلْ يَمْتَحِنُ شَعْبَهُ. وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ: "إِذَا جُرِّبَ أَحَدٌ فَلَا يَقُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُجَرِّبُنِي، إِنَّ اللَّهَ لا يُجَرَّبُ بِالشَّرِّ وَلا يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يَعْقُوبَ 1: 13). أمَّا عِبَارَةُ "لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ" فتُشِيرُ إِلَى صَوْمِ يَسُوعَ، كَمَا صَامَ مُوسَى أرْبعينَ يَوْمًا قَبْلَ تَسَلُّمِهِ شَرِيعَةَ العَهْدِ القَدِيمِ، كَذَلِكَ صَامَ المَسِيحُ قَبْلَ بَدْءِ خِدْمَتِهِ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ. ويقول القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ: "جَاعَ يَسُوعُ فِي البَرِّيَّةِ لِيُكَفِّرَ بِصَوْمِهِ عَنْ سُقُوطِ آدَمَ الأَوَّلِ، فَجَاعَ المَسِيحُ لِفَائِدَتِنَا". ولِمَواجَهة التَّحدِّيات الشَّيطانيّة". أمَّا عبارةُ "بِالجُوعِ" فتشيرُ إلى قِلَّةِ الطَّعَامِ، خاصَّةً الخُبزِ، وهو علامةٌ على الجُوعِ الأعمقِ، أي الجُوعِ إلى كلمةِ اللهِ. فإذا اكتَفَينا بتَلبيةِ الحاجةِ الأولى فقط، فلن تَنضُجَ حياتُنا. وهنا تلامسُ التَّجربةُ طبيعةَ يَسوعَ البشريَّةَ أمامَ غريزةِ الجوعِ.
3 "فقالَ له إِبليس: إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً
تَشِيرُ عِبَارَةُ "إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللَّهِ" إِلَى تَجْرِبَةِ ٱلشَّيْطَانِ ٱلْأُولَى، ٱلَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ بُنُوَّة يسوعِ لِلْآبِ ٱلسَّمَاوِيِّ، فِي مُحَاوَلَةٍ لِنَزْعِ ٱلٱرْتِبَاطِ بِٱلْآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَه إِلَى ٱلْعَالَمِ لِخَلَاصِ ٱلْبَشَرِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ ٱسْتِخدام ٱلشَّيْطَانِ كَلَامَ ٱللَّهِ ٱلْوَارِدِ لَدَى عِمَادِ ٱبْنِهِ يَسُوعَ (مَتَّى 3: 17). يَسْتَغِلُّ إِبْلِيسُ هَذِهِ ٱلتَّجْرِبَةَ لِيُجَرِّدَ يَسُوعَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ بِٱللَّهِ أَبِيهِ، بَعْدَ مَا ٱكْتَشَفَ فِيهِ ذَاكَ ٱلَّذِي سَيُقَلِّصُ سُلْطَتَهُ عَلَى ٱلْعَالَمِ وَٱلْبَشَرِ. أَمَّا عِبَارَةُ "إِنْ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ Εἰ (بِمَعْنَى: إِذَا، أَوْ لَوْ، أَوْ بِمَا أَنَّكَ) فَتَشِيرُ إِلَى شَرْطٍ وَهْمِيٍّ فِي ٱلْحَيَاةِ وَٱلسَّعَادَةِ وَٱلْمُسْتَقْبَلِ. يُحَاوِلُ إِبْلِيسُ أَنْ يَبُثَّ ٱلشَّكَّ، مُبَيِّنًا كَيْفَ يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُ ٱلْوَاقِعِ، وَلَكِنْ فِي ٱلْحَقِيقَةِ، ٱلْوَاقِعُ لَا يَتَغَيَّرُ! يُحَاوِلُ إِبْلِيسُ أَنْ يُقَدِّمَ ٱلْمُسْتَقْبَلَ بِمَخَاوِفِهِ وَشُكُوكِهِ، لِيُوقِعَ ٱلْإِنْسَانَ فِي ٱلتَّخَبُّطِ وَٱلْهَمِّ وَٱلْغَمِّ، حَيْثُ إِنَّ ٱلْمُسْتَقْبَلَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بَعْدُ، بَلْ إِنَّهُ مَوْجُودٌ فَقَطْ فِي ٱلْحَاضِرِ. يُحَاوِلُ إِبْلِيسُ أَنْ يُرِيَ ٱلْإِنْسَانَ ٱلسَّرَابَ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَمُرْ هَذَا ٱلْحَجَرَ أَنْ يَصِيرَ رَغِيفًا" فَتَشِيرُ إِلَى إِغْرَاءِ ٱلْجَسَدِ، إِذْ يَكْتَشِفُ إِبْلِيسُ أَوَّلَ نُقْطَةِ ضَعْفٍ فِي إِرَادَةِ يَسُوعَ، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، مُحَاوِلًا أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى تَحْوِيلِ ٱلْحِجَارَةِ إِلَى خُبْزٍ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ شَأْنُهُ بَيْنَ ٱلْجَمَاهِيرِ ٱلْجَائِعَةِ ٱلْفَقِيرَةِ، كَمَا حَدَثَ بَعْدَ مُعْجِزَةِ تَكْثِيرِ ٱلْخُبْزِ، حَيْثُ نَادَوْا بِهِ مَلِكًا مُسْتَقِلًّا. إِنَّهَا تَجْرِبَةُ ٱبْتِعَادِ يَسُوعَ عَنْ آدَمَ ٱلْإِنْسَانِ، ٱلَّذِي يَأْكُلُ خُبْزَهُ بِعَرَقِ جَبِينِهِ كَمَا أَمَرَهُ ٱللَّهُ: "عَرَقِ جَبِينِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا" (ٱلتَّكْوِينُ 3: 19)، إِذَا مَا حَوَّلَ يَسُوعُ ٱلْحَجَرَ إِلَى خُبْزٍ. قَبِلَ يَسُوعُ عَلَى نَفْسِهِ، لِإِجْرَاءِ عَمَلِ ٱلْفِدَاءِ، أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا مُفْتَقِرًا إِلَى ٱللَّهِ كَسَائِرِ ٱلنَّاسِ. فَجَرَّبَهُ إِبْلِيسُ هُنَا لِكَيْ يَرْفُضَ ٱلٱتِّكَالَ عَلَى ٱللَّهِ وَٱلْخُضُوعَ لَهُ كَإِنْسَانٍ، وَيَسْتَقِلَّ بِأُلُوهِيَّتِهِ. لَكِنَّ يَسُوعَ، مِنْ خِلَالِ هَذِهِ ٱلتَّجْرِبَةِ، يُؤَكِّدُ أَنَّهُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُ، وَيُؤَكِّدُ أَمَانَتَهُ لِلَّهِ، وَيُظْهِرُ لِلْمَلَإِ بُنُوَّتَهُ ٱلْحَقِيقِيَّةَ، فَهُوَ ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْحَقِيقِيُّ! وَيُعْلِنُ فِي ٱلْوَقْتِ نَفْسِهِ عَنْ أُبُوَّةِ ٱلشَّيْطَانِ ٱلْمُخَادِعَةِ، ٱلَّذِي يُقَدِّمُ حَجَرًا عِوَضَ ٱلْخُبْزِ لِيَأْكُلَهُ ٱلْإِنْسَانُ، بِخِلَافِ ٱلْآبِ ٱلْحَقِيقِيِّ، ٱلَّذِي لَا يُقَدِّمُ حَجَرًا إِنْ طَلَبَ مِنْهُ ٱبْنُهُ خُبْزًا (لُوقَا 11: 11).
4 "أَجابَه يسوع: مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان
تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَكْتُوبٌ" إِلَى إِجَابَةِ يَسُوعَ لَيْسَ بِصِفَتِهِ ابْنَ اللهِ، بَلْ بِصِفَتِهِ إِنْسَانًا، وَهَكَذَا يُمْكِنُ لِأَيِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُجِيبَ مِثله. يَرُدُّ يَسُوعُ عَلَى الشَّيْطَانِ، لَيْسَ بِكَلِمَاتِهِ الخَاصَّةِ، وَلَكِنْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الكِتَابِ المُقَدَّسِ، كَلِمَةِ اللهِ الآبِ: " لَيَس بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 8: 3). هذه الإجابةُ تكشفُ عن مدى أمانةِ يَسوعَ لقولِ اللهِ في العهدِ الأوَّلِ معَ موسى. وهذا الأمرُ يُشيرُ إلى استمراريَّةِ إيمانِ اللهِ الآبِ من الماضي وحتَّى زمنِ يَسوعَ الابنِ، ويؤكِّدُ إيمانَنا بكلمتِه. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوسُ قَائِلًا: "لَمْ يَسْتَخْدِمِ الرَّبُّ سُلْطَانَهُ كَإِلَهٍ، وَإِلَّا فَإِنَّنَا لَمْ نَكُنْ لِنَجْنِيَ فَائِدَةً، إِنَّمَا اسْتَخْدَمَ الإِمْكَانِيَّةَ العَامَّةَ وَهِيَ اسْتِخْدَامُ كَلَامِ اللهِ". أَمَّا عِبَارَةُ "لَيْسَ بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ" فَتُشِيرُ إِلَى كَلِمَاتٍ مُقْتَبَسَةٍ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ: " فَذَلَّلَكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ المَنَّ الَّذِي لَمْ تَعْرِفْهُ أَنْتَ وَلَا عَرَفَهُ آبَاؤُكَ، لِكَيْ يُعْلِمَكَ أَنَّهُ لَا بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 8: 3). لَا يَرُدُّ يَسُوعُ بِكَلِمَاتِهِ، بَلْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الكِتَابِ المُقَدَّسِ، كَلِمَةِ اللهِ الآبِ. جَوَابُ يَسُوعَ يُبَرْهِنُ أَنَّ الجُوعَ الجَسَدِيَّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قُدَّامَ الجُوعِ الرُّوحِيِّ، إِذِ الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ تَحْتَاجُ أَكْثَرَ مِنَ الخُبْزِ. فَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يُمْنَحَ الإِنْسَانَ الحَيَاةَ وَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يُمْنِحَهُ أَنْ يَحْيَا بِدُونِ طَعَامٍ. رَفَضَ يَسُوعُ السَّمَاعَ لِلشَّيْطَانِ، رَغْمَ إِمْكَانِيَّتِهِ تَحْوِيلَ الحَجَرِ إِلَى خُبْزٍ، كَمَا حَوَّلَ المَاءَ إِلَى خَمْرٍ فِي عُرْسِ قَانَا الجَلِيلِ (يُوحَنَّا 2: 1-12). إِنَّمَا قَدَّمَ: "الخُبْزَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلَا يَمُوتُ " (يُوحَنَّا 6: 50). رَفَضَ يَسُوعُ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ اسْتِخْدَامَ قُوَى رُوحِيَّةٍ لِغَايَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بل َاسْتَخْدَمَ الكَلِمَةَ المُقَدَّسَةَ فِي مُوَاجَهَةِ هَجَمَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهَكَذَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَخْدِمَهَا بِكَفَاءَةٍ وَفَاعِلِيَّةٍ. عَلَّنَا نَتَمَثَّلُ بِيَسُوعَ وَنَرْفُضُ كُلَّ شَهْوَةٍ يُقَدِّمُهَا لَنَا إِبْلِيسُ.
5 "فصَعِدَ بِهِ إِبليس، وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن"
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَنِ" إِلَى تَجْرِبَةِ ٱلصَّلِيبِ مِنْ خِلَالِ ٱلتَّمَلُّكِ، لَا مِنْ خِلَالِ ٱلصَّلِبِ، وَمِنْ خِلَالِ ٱلْبَابِ ٱلرَّحْبِ ٱلْوَاسِعِ وَهُوَ "ٱلسُّجُودُ لِإِبْلِيسَ نَفْسِهِ"، لَا مِنْ خِلَالِ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، بَابِ ٱلتَّضْحِيَةِ وَٱلْآلَامِ وَٱلتَّخَلِّي. فِي حِينِ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَلَكَ مِنْ خِلَالِ آلامِهِ عَلَى ٱلصَّلِيبِ، لَا مِنْ خِلَالِ ٱلْبَابِ ٱلرَّحْبِ، وَجَعَلَنَا نَحْنُ أَيْضًا نَمْلِكُ مَعَهُ، كَمَا أوَصّانَا: "ٱدْخُلُوا مِنَ ٱلْبَابِ ٱلضَّيِّقِ، فَإِنَّ ٱلْبَابَ رَحْبٌ وَٱلطَّرِيقَ ٱلْمُؤَدِّيَ إِلَى ٱلْهَلَاكِ وَاسِعٌ، وَٱلَّذِينَ يَسْلُكُونَهُ كَثِيرُونَ" (مَتَّى 7: 13). أَرَادَ إِبْلِيسُ أَنْ يُبْعِدَ يَسُوعَ عَنْ مُخَطَّطِ ٱللَّهِ بِوَاسِطَةِ ٱلْغِنَى وَٱلنُّفُوذِ وَٱلسُّلْطَةِ. وَأَرَادَ أَنْ يُثْنِيَ يَسُوعَ عَنْ ٱلْمَلَكُوتِ ٱلرُّوحِيِّ إِلَى ٱلْمُلْكِ ٱلْعَالَمِيِّ، كَمَا ٱبْتَغَى ٱلشَّعْبُ ٱلْيَهُودِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَنْزِلَةِ ٱلْمَلِكِ دَاوُدَ قَدِيمًا، وَبِمَنْزِلَةِ قَيْصَرَ وَقْتَئِذٍ، خِلَافًا لِمَا قَصَدَهُ ٱللَّهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ" فَتَشِيرُ إِلَى جُزْءٍ مِنْ مَمْلَكَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَرَاهُ سَائِرَ ٱلْمَمَالِكِ تَصَوُّرًا وَتَخَيُّلًا، بِمُجَرَّدِ وَصْفِهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَنِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ إِنْجِيلُ مَتَّى. أَمَّا عِبَارَةُ "لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَنِ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἐν στιγμῇ χρόνου (مَعْنَاهَا: طَرْفَةُ عَيْنٍ)، فَتَشِيرُ إِلَى صُورَةٍ مِنَ ٱلْوَعْيِ لَا حَصْرَ لَهَا، وَهِيَ سِمَةُ ٱلرُّؤْيَا وَٱلنَّشْوَةِ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "إِنَّنَا لَا نَمُوتُ جَمِيعًا، بَلْ نَتَبَدَّلُ جَمِيعًا، فِي لَحْظَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلنَّفْخِ فِي ٱلْبُوقِ ٱلْأَخِيرِ" (1 قُورِنْتُس 15: 52). "لَحْظَةٍ مِنَ ٱلزَّمَنِ" تَدُلُّ عَلَى وَمِيضٍ مُفَاجِئٍ مِنْ رُؤْيَةٍ لِلَحْظَةٍ، وَقَالَ ٱلْبَعْضُ إِنَّ هَذِهِ ٱللَّحْظَةَ كَانَتْ كَٱلْخِدَاعِ ٱلْبَصَرِيِّ وَٱلْوَهْمِ، فَٱلشَّيْطَانُ يَسْتَعْرِضُ كَذِبَهُ وَٱلْوَهْمَ ٱلْخَادِعَ.
6 وقالَ له: ((أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أُولِيكَ هَذَا ٱلسُّلْطَانَ" إِلَى قَوْلِ ٱلشَّيْطَانِ، ٱلَّذِي يَفْتَخِرُ بِأَنَّ لَهُ "ٱلسُّلْطَةَ عَلَى ٱلْعَالَمِ" (٢ قُورِنْتُس 4: 4، أَفَسُس 4: 4)، مُعْرِضًا عَلَى يَسُوعَ أَنْ يَكُونَ ٱلْمَسِيحَ ٱلدُّنْيَوِيَّ ٱلَّذِي يَنْتَظِرُهُ مُعَاصِرُوهُ. وَلَكِنَّ هَذَا ٱلسُّلْطَانَ كَانَ مُهَدَّدًا، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: "كُنْتُ أَرَى ٱلشَّيْطَانَ يَسْقُطُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَٱلْبَرْقِ" (لُوقَا 10: 18)، وَمُدَّةُ سُلْطَانِهِ قَصِيرَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ (لُوقَا 22: 53). أَمَّا سُلْطَانُ يَسُوعَ، فَٱلَّذِي يَنَالُهُ مِنَ ٱلْآبِ، فَهُوَ يَدُومُ إِلَى ٱلْأَبَدِ (لُوقَا 10: 22)، وَيَسْتَمِدُّهُ مِنْ أَبِيهِ ٱلسَّمَاوِيِّ، كَمَا صَرَّحَ يَسُوعُ: "قَدْ سَلَّمَنِي أَبِي كُلَّ شَيْءٍ" (لُوقَا 10: 22). أَمَّا عِبَارَةُ "سُلِّمَ إِلَيَّ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يُنْكِرْ مَا ٱدَّعَاهُ ٱلشَّيْطَانُ، بَلْ أَقَرَّهُ. وَلَكِنَّ يَسُوعَ سَيَتَسَلَّطُ عَلَى ٱلْعَالَمِ بِطَرِيقَتِهِ، أَيْ بِٱنْتِصَارِهِ بِٱلصَّلِيبِ وَٱلْعَذَابِ وَٱلْمَوْتِ، فَيَرْفَعُهُ ٱلْآبُ إِلَى مَجْدِهِ ٱلْأَبَدِيِّ، كَمَا أَرَادَ ٱللَّهُ. فِي هَذَا ٱلصَّدَدِ، يُؤَكِّدُ يَسُوعُ ذَلِكَ قَائِلًا: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَشِيئَةِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ" (يُوحَنَّا 4: 34).
7 فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه
تَشِيرُ عِبَارَةُ "سَجَدْتَ لِي" إِلَى ٱلشَّرْطِ ٱلْوَحِيدِ ٱلَّذِي يَضَعُهُ إِبْلِيسُ أَمَامَ يَسُوعَ. وَٱلسُّجُودُ مَعْنَاهُ ٱلْخُضُوعُ ٱلتَّامُّ ٱلَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِٱللَّهِ (مَتَّى 2: 2). فَٱلسُّجُودُ لِغَيْرِ ٱللَّهِ هُوَ عِبَادَةُ ٱلْأَصْنَامِ، كَمَا صَنَعَ شَعْبُ ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ فِي ٱلصَّحْرَاءِ، فَسَجَدُوا لِلْعِجْلِ ٱلذَّهَبِيِّ (خُرُوج 32: 1-8). وَإِنَّ عِبَادَةَ ٱلْأَصْنَامِ هِيَ فِي ٱلنِّهَايَةِ سُجُودٌ لِلشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ ٱلْأُمَمُ، إِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ وَلَيْسَ لِلَّهِ... لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ ٱلرَّبِّ وَكَأْسَ ٱلشَّيَاطِينِ" (1 قُورِنْتُس 10: 20-22). هَذِهِ التَّجْرِبَةُ تُوحِي بِأَنَّ السُّلْطَةَ أَهَمُّ مِنَ الحُرِّيَّةِ. أَمَّا يَسُوعُ، فَلَا يُسَاوِمُ عَلَى مَجْدِ اللهِ، الَّذِي يَكْمُنُ فِي حُرِّيَّةِ الإِنْسَانِ وَحَيَاتِهِ. لَا يُحَقِّقُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ إِذَا تَصَرَّفَ كَاللهِ، إِذَا تَحَدَّى حُدُودَهُ وَإِمْكَانِيَّاتِهِ الخَاصَّةِ".
8 فَأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد)).
تَشِيرُ عِبَارَةُ "لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ" إِلَى ٱقْتِبَاسِ يَسُوعَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ ٱلِٱشْتِرَاعِ: "ٱلرَّبَّ إِلَهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ" (تَثْنِيَةُ ٱلِٱشْتِرَاعِ 6: 13). يَكشِفُ يَسوعُ إيمانَهُ باللهِ الآبِ، مُعلنًا ان إتمامُ السُّجودِ والعبادةِ يكونُ فقط للهِ الحقيقيِّ، وليسَ للإلهِ الزائفِ. ويحمِلُ جَواب ُيسوع تحذيرًا قويًّا يُنَبِّهُنا لِئلَّا نَقَعَ في فِخاخِ العدوِّ الخبيثِ. وَبِهَذَا رَفَضَ يَسُوعُ ٱلسُّجُودَ لِلشَّيْطَانِ لإَجْلِ سِيَادَةِ ٱلْعَالَمِ ٱلسِّيَاسِيَّةِ. إِذَا سَعَى إِلَى المَجْدِ وَالكَرَامَةِ عَبْرَ الخُضُوعِ لِلسُّلْطَةِ الزَّائِلَةِ، فَإِنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ يُصْبِحُ الإنْسان عَبْدًا وَيَخْسَرُ نَفْسَهُ". "وَبِالعَكْسِ، يُصْبِحُ الإِنْسَانُ سَيِّدَ نَفْسِهِ عِنْدَمَا لَا يَسْجُدُ لِأَحَدٍ سِوَى لِلرَّبِّ إِلَهِهِ". وَيُعَلِّقُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوسُ قَائِلًا: "لِنَفْرَحْ وَلْنَبْتَهِجْ نَحْنُ إِذْ نُقَدِّمُ لِلَّهِ ٱلسُّجُودَ وَٱلْعِبَادَةَ وَٱلْإِكْرَامَ، وَلْنُصَلِّ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَ ٱلْخَطِيئَةَ ٱلَّتِي مَلَكَتْ فِي أَجْسَادِنَا" (رُومَةُ 6: 6) "فَيَمْلِكُ وَحْدَهُ عَلَيْنَا". رَفَضَ يَسُوعُ مُلْكًا أَرْضِيًّا، وَٱلْمُلْكُ ٱلرُّوحِيُّ لَا يُوجَدُ دُونَ حَمْلِ ٱلصَّلِيبِ. فَلَيْتَنَا نَتَعَلَّمُ أَنْ نَجِدَ حَلَاوَةَ ٱلتَّنَازُلِ عَنْ بَعْضِ ضَرُورِيَّاتِنَا وَٱحْتِيَاجَاتِنَا مِنْ مَالٍ وَجُهْدٍ وَوَقْتٍ وَصَدَاقَاتٍ، مِنْ أَجْلِ ٱلْأَمَانَةِ لِلرَّبِّ.
9 فمَضى بِه إلى أُورَشَليم، وأَقامَه على شُرفَةِ الـهَيكلِ وقالَ له: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل
تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَمَضَى بِهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ" إِلَى مَسِيرَةِ يَسُوعَ بِكَامِلِهَا فِي بَشَارَةِ لُوقَا تِجَاهَ أُورَشَلِيمَ، حَيْثُ يَعْلَمُ يَسُوعُ أَنَّ أَمَامَهُ مَوْعِدًا مَعَ ٱلْأَلَمِ وَٱلْمَوْتِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُورَشَلِيمَ" فَتَشِيرُ إِلَى مَدِينَةِ ٱلْقُدْسِ أَوِ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ (أَشَعْيَا 48: 2، وَمَتَّى 4: 5)، أَوْ ٱلْقُدْسِ ٱلشَّرِيفِ حَالِيًّا. وَقَدِ ٱكْتُشِفَ فِي ٱلْقُدْسِ نَقْشَانِ مِنْ هَيْكَلِ هِيرُودُسَ فِيهِمَا تَحْذِيرٌ لِلْأُمَمِ بِٱلِٱبْتِعَادِ عَنْ سَاحَةِ ٱلْعِبْرَانِيِّينَ (أَفَسُس 2: 14)، وَهِيَ مَكَانُ ٱلتَّجْرِبَةِ ٱلثَّالِثَةِ. وَحَسَبَ لُوقَا، فَإِنَّ ٱلتَّجَارِبَ فِي إِنْجِيلِهِ تَنْتَهِي فِي أُورَشَلِيمَ، حَيْثُ تَكُونُ ٱلْآلَامُ آخِرَ تَجْرِبَةٍ لِلشَّيْطَانِ، وَهِيَ ٱلْمَعْرَكَةُ ٱلْأَخِيرَةُ وَٱنْتِصَارُ يَسُوعَ ٱلنِّهَائِيُّ. إِنَّ مَسِيرَةَ يَسُوعَ بِكَامِلِهَا، كَمَا وَرَدَتْ فِي بَشَارَةِ لُوقَا، مَا هِيَ إِلَّا ٱلسَّيْرُ تِجَاهَ أُورَشَلِيمَ، حَيْثُ يَعْلَمُ يَسُوعُ أَنَّ أَمَامَهُ مَوْعِدًا مَعَ ٱلْأَلَمِ وَٱلْمَوْتِ. لِذَلِكَ وَضَعَ لُوقَا ٱلتَّجْرِبَةَ ٱلْأَخِيرَةَ فِي أُورَشَلِيمَ، لِأَنَّ هَذِهِ ٱلْمَدِينَةَ هِيَ ٱلْبِدَايَةُ وَٱلنِّهَايَةُ فِي إِنْجِيلِهِ. أَمَّا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى، فَقَدْ وَضَعَ تَجْرِبَةَ أُورَشَلِيمَ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ ٱلثَّانِيَةِ (مَتَّى 4: 5)، لِأَنَّ ٱلْجَبَلَ هُوَ ٱلْأَهَمُّ فِي إِنْجِيلِهِ، خَاصَّةً وَأَنَّ مُوسَى كَانَ عَلَى ٱلْجَبَلِ، حَيْثُ رَأَى أَرْضَ ٱلْمِيعَادِ وَلَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "شُرْفَةِ ٱلْهَيْكَلِ" فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ πτερύγιον (مَعْنَاهَا: جَنَاحُ ٱلْهَيْكَلِ)، فَتَشِيرُ إِلَى ٱلْبِنَاءِ ٱلْمُرْتَفِعِ ٱلَّذِي أُقِيمَ بِجِوَارِ ٱلْهَيْكَلِ، وَأَعْلَى نُقْطَةٍ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ سُورِ ٱلزَّاوِيَةِ ٱلنَّاتِئِ مِنْ سَفْحِ ٱلتَّلِّ، مُشْرِفًا عَلَى أَسْفَلِ وَادِي قَدْرُونَ. وَمِنْ هَذِهِ ٱلنُّقْطَةِ كَانَ مُمْكِنًا لِيَسُوعَ أَنْ يَرَى كُلَّ أُورَشَلِيمَ. وَقَدْ طَلَبَ ٱلشَّيْطَانُ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ مِنْهَا، لِيُظْهِرَ "مَسِيحِيَّتَهُ" لِلْجُمُوعِ ٱلَّتِي تَحْتَشِدُ عَادَةً فِي ذَلِكَ ٱلْمَكَانِ. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْهَيْكَلِ" فَتَشِيرُ إِلَى ٱلْمَرْكَزِ ٱلدِّينِيِّ لِكُلِّ ٱلْأُمَّةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ ٱلْيَهُودُ يَنْتَظِرُونَ مَجِيءَ ٱلْمَسِيحِ إِلَيْهِ (مَلَاخِي 3: 1). وَإِنَّ ٱلْهَيْكَلَ مَعَ أَرُوقَتِهِ أُعِيدَ بِنَاؤُهُ فِي عَهْدِ هِيرُودُسَ ٱلْكَبِيرِ، وَٱمْتَدَّ ٱلرِّوَاقُ حَوَالَيْ ٢٠٠ مِتْرٍ مَعَ أَعْمِدَةٍ ضَخْمَةٍ، وَكَانَ ٱلنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِنْ هُنَا إِلَى ٱلْأَسْفَلِ" فَتَشِيرُ إِلَى كَلِمَاتٍ مُقْتَبَسَةٍ مِنَ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ (مَزْمُورُ 91: 11-12)، لَكِنَّ ٱلشَّيْطَانَ شَوَّهَ فَهْمَ هَذِهِ ٱلْآيَاتِ، لِيُحَوِّلَ عِبَادَةَ ٱللَّهِ إِلَى شَكْلِيَّاتٍ وَٱسْتِعْرَاضَاتٍ وَرِيَاءٍ. يُعْلِنُ إِبْلِيسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّوْرَاةِ، وَيُوَرِدُهَا لِيَخْدَعَ يَسُوعَ، إِذْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى ٱلطَّمَعِ فِي عِنَايَةِ ٱللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، لِأَنَّهُ ٱبْنُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْخَطَرِ بِلَا دَاعٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوسُ قَائِلًا: "هَذِهِ هِيَ كَلِمَاتُ إِبْلِيسَ دَائِمًا، إِذْ يَتَمَنَّى ٱلسُّقُوطَ لِلْجَمِيعِ". فَكَانَ هَذَا ٱلْعَرْضُ تَحْتَ سِتَارِ أَنَّهُ يَتِمُّ لِمَجْدِ ٱللَّهِ. لَكِنَّ مَحْوَرَ ٱلتَّجْرِبَةِ هُوَ ٱلزَّهْوُ، حَتَّى يُثْبِتَ يَسُوعُ أَمَامَ ٱلْمِلَإِ لَاهُوتَهُ. وَفِي ٱلْوَاقِعِ، إِنَّ هَذِهِ ٱلْقَفْزَةَ مِنْ جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ إِلَى ٱلْأَسْفَلِ لَيْسَتْ فِي بَرْنَامَجِ ٱلْخَلَاصِ، بَلِ ٱلْقَفْزَةُ ٱلَّتِي قَرَّرَهَا لَهُ ٱلْآبُ، هِيَ مِنَ ٱلْأَسْفَلِ إِلَى ٱلْأَعْلَى، أَيْ إِلَى ٱلصَّلِيبِ. كَمَا قَالَ يَسُوعُ: " ٱلْيَوْمَ دَيْنُونَةُ هَذَا ٱلْعَالَمِ. ٱلْيَوْمَ يُطْرَدُ سَيِّدُ هَذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلْخَارِجِ. وَأَنَا إِذَا رُفِعْتُ مِنَ ٱلْأَرْضِ جَذَبْتُ إِلَيَّ ٱلنَّاسَ أَجْمَعِينَ" (يُوحَنَّا 12: 32). لَا يُصْبِحُ الإِنْسَانُ أَفْضَلَ إِذَا قَامَ بِأَفْعَالٍ اِسْتِثْنَائِيَّةٍ، سَاعِيًا وَرَاءَ الِاسْتِعْرَاضِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الآخَرِينَ، وَلَا يَجِدُ اللهَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بَلْ يَجِدُهُ فِي الطَّاعَةِ اليَوْمِيَّةِ المُتَوَاضِعَةِ لِشَرِيعَةٍ تَحْمِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَجْعَلُهُ قَادِرًا عَلَى إِقَامَةِ عَلَاقَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَتَحْقِيقِ نَفْسِهِ فِي العَالَمِ."
10 لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ
تَشِيرُ عِبَارَةُ "مَكْتُوبٌ" إِلَى مَا وَرَدَ فِي ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ. وَهُنَا يَلْجَأُ إِبْلِيسُ إِلَى ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ لِمُحَارَبَةِ يَسُوعَ بِسِلَاحِهِ. لَمْ يُخْطِئِ ٱلشَّيْطَانُ فِي ٱقْتِبَاسِ ٱلنَّصِّ ٱلْكِتَابِيِّ، لَكِنَّهُ أَسَاءَ تَطْبِيقَهُ وَتَفْسِيرَهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِيَحْفَظُوكَ" فَتَشِيرُ إِلَى ٱقْتِبَاسِ إِبْلِيسَ عِبَارَةً مِنَ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ لَا تُنَاسِبُ ٱلْمَسِيحَ وَلَا يُمْكِنُ تَطْبِيقُهَا عَلَيْهِ، إِنَّمَا تُنَاسِبُ ٱلْقِدِّيسِينَ بِوَجْهٍ عَامٍّ. ٱلْمَسِيحُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعُونَةِ ٱلْمَلَائِكَةِ، إِذْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ، وَيَرِثُ ٱسْمًا أَعْظَمَ وَأَسْمَى: "لِأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ ٱلْمَلَائِكَةِ قَالَ ٱللَّهُ يَوْمًا: أَنْتَ ٱبْنِي وَأَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟" (مَزَامِير 2: 7، عِبْرَانِيِّينَ 1: 5).
11 ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ))
مَكْتُوبٌ أَيْضًا: "عَلَى أَيْدِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِئَلَّا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ"، وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى ٱقْتِبَاسٍ مِنَ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ (مَزْمُورُ 91: 1)، ٱلَّذِي يَتْلُوهُ ٱلْمُؤْمِنُ حِينَ يَحْتَاجُ عَوْنَ ٱللَّهِ. وَهِيَ تَسْتَهْدِفُ ٱلْمَسِيحَ خَاصَّةً، وَكُلَّ إِسْرَائِيلِيٍّ عَامَّةً، ٱلَّذِي يَنْتَظِرُ ٱلْعَوْنَ مِنَ ٱللَّهِ. وَيَسْتَشْهِدُ ٱلشَّيْطَانُ بِٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ بِحَرْفِيَّتِهَا، وَيُشَوِّهُهَا، لِأَنَّهُ يَصْمُتُ عَنْ تَكْمِلَةِ ٱلْمَزْمُورِ، وَهِيَ: "تَطَأُ ٱلْأَسَدَ وَٱلْأَفْعَى، تَدُوسُ ٱلشِّبْلَ وَٱلتِّنِّينَ" (مَزْمُورُ 91: 13). وَٱلتَّكْمِلَةُ تُبَيِّنُ قُوَّةَ يَسُوعَ وَٱلْأَبْرَارِ عَلَى ٱلْقُوَّةِ ٱلْعُدْوَانِيَّةِ لِلشَّيْطَانِ، ٱلَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي ٱلْأَسَدِ، وَٱلْأَفْعَى، وَٱلشِّبْلِ، وَٱلتِّنِّينِ. أَلَمْ يَقُلِ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ: "وَهَا قَدْ أَوْلَيْتُكُمْ سُلْطَانًا تَدُوسُونَ بِهِ ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةٍ لِلْعَدُوِّ، وَلَنْ يَضُرَّكُمْ" (لُوقَا 10: 19)؟ وَهَكَذَا يُجِيبُ يَسُوعُ مُسْتَخْلِصًا مَعْنَى ٱلْآيَةِ ٱلْجَوْهَرِيَّ. وَمِنْ هَذَا ٱلْمُنْطَلَقِ، لَا يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنَ ٱللَّهِ أَبِيهِ ٱلسَّمَاوِيِّ أَنْ يُنْقِذَهُ بِطَرِيقَةٍ سِحْرِيَّةٍ عَنْ طَرِيقِ ٱلْمُعْجِزَةِ.
12 فأَجابَه يسوع: لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ
تُشِيرُ عِبَارَةُ "لَقَدْ قِيلَ: لَا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلٰهَكَ" إِلَى كَلِمَاتٍ مُقْتَبَسَةٍ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ ٱلِٱشْتِرَاعِ، إِذْ أَمَرَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ مُوسَىٰ أَنْ يُعَلِّمَ ٱلشَّعْبَ: "لَا تُجَرِّبُوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ" (تَثْنِيَةُ ٱلِٱشْتِرَاعِ 6: 16). رَفَضَ يَسوعُ قَطْعِيًّا أنْ يَضَعَ اللهَ الآبَ في مَوْضِعِ تَجْرِبَةٍ، لِئَلَّا يَكْشِفَ عنْ عَدَمِ ثِقَتِهِ بِهِ تَعَالَى. هُنَا يُفْهِمُنَا يَسُوعُ أَنَّ هَذِهِ ٱلْأَمَانَةَ هِيَ أَثْمَنُ مِنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلشَّخْصِيَّةِ. "رَفَضَ يَسُوعُ أَيَّ صُورَةٍ مُزَيَّفَةٍ عَنِ اللهِ قَدْ يَصْنَعُهَا الإِنْسَانُ؛ وَلِأَنَّهُ يُحِبُّ الآبَ، فَهُوَ يَثِقُ بِهِ دُونَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ بُرْهَانًا عَلَى صَلَاحِهِ، وَيَتْرُكُهُ حُرًّا فِي أَنْ يُحِبَّهُ بِطَرِيقَتِهِ الإِلَهِيَّةِ". أَمَّا عِبَارَةُ "لَا تُجَرِّبَنَّ" فَتُشِيرُ إِلَىٰ تَجْرِبَةِ ٱلشَّيْطَانِ أَوِ ٱلْإِنْسَانِ لِلَّهِ، إِمَّا بِعِصْيَانِهِ لِمَعْرِفَةِ مَدَىٰ صَبْرِهِ، كَمَا كَانَ ٱلْحَالُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلصَّحْرَاءِ، ٱلَّذِينَ جَرَّبُوا ٱللَّهَ مِنْ خِلَالِ مُخَاصَمَتِهِمْ مُوسَىٰ ٱلنَّبِيَّ: "لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي وَلِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱلرَّبَّ؟" قَائِلِينَ: "هَلِ ٱلرَّبُّ فِي وَسْطِنَا أَمْ لَا؟" (خُرُوجُ 17: 2-7)، وَإِمَّا بِٱسْتِغْلَالِ رَأْفَتِهِ تَعَالَىٰ لِمَنَافِعَ شَخْصِيَّةٍ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ ٱللَّهِ: "إِنَّ جَمِيعَ ٱلرِّجَالِ ٱلَّذِينَ رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي ٱلَّتِي صَنَعْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي" (عَدَدُ 14: 22). رَفَضَ ٱلْمَسِيحُ أَنْ يُجَرِّبَ أَبَاهُ ٱلسَّمَاوِيَّ كَمَا طَلَبَ مِنْهُ إِبْلِيسُ، ٱسْتِنَادًا إِلَىٰ وَصِيَّةِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ: "لَا تُجَرِّبُوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ، كَمَا جَرَّبْتُمُوهُ فِي مَسَّةَ" (تَثْنِيَةُ ٱلِٱشْتِرَاعِ 6: 16). إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُسَاعِدُ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَىٰ تَجْرِبَتِهِ. وَفِي ٱلْوَاقِعِ، لَمْ يُعْطِ ٱلْمَسِيحُ قَطُّ آيَةً لِمَنْ جَاءَهُ بِقَصْدِ تَجْرِبَتِهِ، إِذْ وَرَدَ: "فَأَجَابَهُمْ: جِيلٌ فَاسِدٌ فَاسِقٌ يُطَالِبُ بِآيَةٍ، وَلَنْ يُعْطَىٰ سِوَىٰ آيَةِ ٱلنَّبِيِّ يُونَانَ" (مَتَّىٰ 12: 39). وَأَظْهَرَ يَسُوعُ فَهْمًا صَحِيحًا لِوَصَايَا ٱللَّهِ، فَلَيْتَنَا نَجْتَهِدْ فِي ٱلِٱبْتِعَادِ عَنِ ٱلشَّكْلِيَّاتِ فِي ٱلْعِبَادَةِ، وَعَنْ كُلِّ رِيَاءٍ. وَخُلَاصَةَ ٱلْقَوْلِ، يَقُولُ ٱلْبَابَا فِرَنْسِيسُ: "تَجَارِبُ إِبْلِيسَ لِيَسُوعَ تُشِيرُ إِلَىٰ دُرُوبِ ٱلْعَالَمِ ٱلْخَادِعَةِ ٱلَّتِي عَلَيْنَا ٱلْإِجَابَةُ عَلَيْهَا بِٱلْإِيمَانِ بِٱللَّهِ وَٱلثِّقَةِ فِي مَحَبَّتِهِ.
13 فلَمَّا أَنْهى إِبليس جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إلى أَن يَحينَ الوَقْت
تُشِيرُ عِبَارَةُ "جَمِيعَ مَا عِندَهُ مِنْ تَجْرِبَةٍ" إِلَىٰ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ ٱلتَّجْرِبَةِ ٱلَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا طَبِيعَةُ يَسُوعَ ٱلْبَشَرِيَّةُ (عِبْرَانِيِّينَ 4: 15). رُبَّمَا كَانَتْ هُنَاكَ تَجَارِبُ أُخْرَىٰ لَمْ يَكْشِفْ عَنْهَا ٱلْمَسِيحُ، فَهِيَ فَوْقَ إِدْرَاكِنَا، بَلْ حَتَّى ٱلْقِدِّيسِينَ حَارَبَهُمْ إِبْلِيسُ بِحَرْبٍ فَوْقَ إِدْرَاكِنَا. وَنَشْكُرُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي لَا يَدَعُنَا نُجَرَّبُ مَا هُوَ فَوْقَ طَاقَتِنَا، كَمَا أَكَّدَ ذَلِكَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلَّا وَهِيَ عَلَىٰ مِقْدَارِ وُسْعِ ٱلْإِنْسَانِ. إِنَّ ٱللَّهَ أَمِينٌ فَلَنْ يَأْذَنَ أَنْ تُجَرَّبُوا بِمَا يُفِيقُ طَاقَتَكُمْ، بَلْ يُؤْتِيكُمْ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ وَسِيلَةَ ٱلْخُرُوجِ مِنْهَا بِٱلْقُدْرَةِ عَلَىٰ تَحَمُّلِهَا" (1 قُورِنْتُس 10: 13). أَمَّا عِبَارَةُ "فَٱنْصَرَفَ عَنْهُ إِلَىٰ أَنْ يَحِينَ ٱلْوَقْتُ" فَتُشِيرُ إِلَىٰ رُجُوعِ إِبْلِيسَ إِلَىٰ تَجْرِبَةِ يَسُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ حَيَاتِهِ ٱلْبَشَرِيَّةِ؛ دَامَتْ تَجْرِبَةُ يَسُوعَ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، مَا بَيْنَ المَعْمُودِيَّةِ (لُوقَا 4) وَحَتَّى الصَّلِيبِ (لُوقَا 23). فَٱلتَّجْرِبَةُ ٱلْكُبْرَىٰ كَانَتْ فِي بُسْتَانِ ٱلْجَسْمَانِيِّة (لُوقَا 22: 53)، وَعَلَىٰ ٱلْجُلْجُثَةِ (لُوقَا 23: 33)، وَعَلَىٰ ٱلصَّلِيبِ. يُشِيرُ يَسُوعُ إِلَىٰ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ نِزَاعِهِ فِي جَتْسَمَانِيَّةَ وَآلَامِهِ عَلَىٰ ٱلصَّلِيبِ: "إِنَّ سَيِّدَ هَذَا ٱلْعَالَمِ آتٍ، وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ عَلَيَّ" (يُوحَنَّا 14: 30). تَجَسَّدَ يَسوعُ لأَجْلِ هذِهِ التَّجْرِبَةِ، حَيْثُ سَيُثْبِتُ أَمَانَتَهُ للهِ وَلِلْبَشَرِيَّةِ، مُعْلِنًا خَلاصَهُ وَانْتِصَارَهُ الأَبَدِيَّ على الشَّرِّ وَالشِّرِّيرِ وَالمَرَضِ وَالمَوْتِ وَالخَطِيئَةِ بِقِيَامَتِهِ. وَيُرْوِي لُوقَا ٱلْإِنْجِيلِيُّ ٱنْتِصَارَاتٍ عَدِيدَةً لِيَسُوعَ عَلَىٰ ٱلشَّيَاطِينِ فِي مُعْجِزَاتِ ٱلشِّفَاءِ (4: 41 وَ6: 18 وَ7: 21)، أَوْ فِي حَوَادِثِ طَرْدِهِ لَهُمْ (لُوقَا 8: 2)، وَبِذَلِكَ يُشِيرُ إِلَىٰ ٱنْتِصَارِهِ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، وَٱنْتِصَارِهِ ٱلنِّهَائِيِّ فِي قِيَامَتِهِ ٱلْمَجِيدَةِ. وَرُبَّمَا أَنَّ ٱلْبَشِيرَ لُوقَا أَرَادَ أَنْ يُنَوِّهَ عَنْ هَذَا، إِذْ إِنَّهُ نَقَلَ ٱلتَّجْرِبَةَ ٱلثَّانِيَةَ، أَيْ تَجْرِبَةَ جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ بِحَسَبِ مَتَّىٰ، لِتُصْبِحَ فِي لُوقَا ٱلتَّجْرِبَةَ ٱلثَّالِثَةَ، لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَزِيمَةَ إِبْلِيسَ هُنَا ٱلْأَخِيرَةَ فِي أُورُشَلِيمَ كَانَتْ تَمْهِيدًا لِهَزِيمَتِهِ ٱلنِّهَائِيَّةِ عَلَىٰ ٱلصَّلِيبِ فِي أُورُشَلِيمَ أَيْضًا. فَٱلشَّيْطَانُ لَا يَكُفُّ عَنْ حَرْبِهِ ضِدَّنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْتَجِبْ لِإِغْرَاءَاتِهِ، أَشْهَرَ ضِدَّنَا ٱضْطِهَادًا، وَهَذَا مَا فَعَلَهُ بِٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَثَارَ ضِدَّهُ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ ٱنْتَهَىٰ بِمُؤَامَرَةِ ٱلصَّلِيبِ. لِذَلِكَ عَلَّمَنَا يَسُوعُ ضَرُورَةَ ٱلِٱسْتِمْرَارِ فِي ٱلْجِهَادِ، قَائِلًا: "فَمُنْذُ أَيَّامِ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ إِلَىٰ ٱلْيَوْمِ، مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ يُؤْخَذُ بِٱلْجِهَادِ، وَٱلْمُجَاهِدُونَ يَخْتَطِفُونَهُ" (مَتَّىٰ 11: 12).
ثانيًا: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 7: 1-10)
بَعْدَ دِرَاسَةِ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ وَتَحْلِيلِهِ (لُوقَا 7: 1-10)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ التَّجَارِبِ الثَّلَاثِ وَمَوْقِفِ يَسُوعَ مِنْهَا. وَمِنْ هُنَا نَسْأَلُ: مَا مَعْنَى التَّجَارِبِ؟ وَمَا هُوَ مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنْهَا؟
1) مَا مَعْنَى التَّجْرِبَةِ؟
قَبْلَ البَحْثِ فِي مَوْقِفِ يَسُوعَ مِنَ التَّجْرِبَةِ، يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَتَنَاوَلَ مَعْنَى التَّجْرِبَةِ وَمَكَانَهَا وَسِلَاحَهَا وَهَدَفَهَا وَمَوْضُوعَهَا وَعَلَاقَتَهَا مَعَ مَعْمُودِيَّةِ يَسُوعَ.
مَفْهُومُ التَّجْرِبَةِ فِي اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ "πειρασμός" يَعْنِي الِامْتِحَانَ، وَيَعْنِي أَيْضًا التَّقْيِيمَ. أَيْ إِنَّ التَّجَارِبَ تَجْعَلُنَا نُجْرِي تَقْيِيمًا لِذَوَاتِنَا، لِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلِتَصَرُّفَاتِنَا وَحَيَاتِنَا كُلِّهَا، وَتَجْعَلُنَا نُدْرِكُ مَنْ نَحْنُ بِالحَقِيقَةِ.
التَّجْرِبَةُ فِي المَفْهُومِ اللَّاهُوتِيِّ هِيَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْطَانِ أَنْ يُحْبِطَ مَقَاصِدَ اللهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ دَعْوَةِ الإِنْسَانِ إِلَى الإِصْغَاءِ لِصَوْتٍ آخَرَ غَيْرِ صَوْتِ اللهِ. وَقَدْ دَخَلَتِ التَّجْرِبَةُ إِلَى العَالَمِ مُنْذُ بَدَايَةِ الخَلِيقَةِ، مَعَ الإِنْسَانِ الأَوَّلِ، آدَمَ وَحَوَّاءَ، كَإِمْكَانِيَّةِ اخْتِيَارٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ المُخَطَّطِ الأَصْلِيِّ لِلهِ (التَّكْوِينُ 3). وَنَجِدُ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ فِي إِنْجِيلِ اليَوْمِ، فِي حَيَاةِ يَسُوعَ وَفِي حَيَاتِنَا، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الإِغْرَاءِ مِنَ الخَارِجِ، وَالتَّأْثِيرِ عَلَى الإِرَادَةِ مِنَ الدَّاخِلِ لِاتِّخَاذِ القَرَارِ: قُبُولًا أَوْ رَفْضًا. فَهِيَ صِرَاعٌ عَاشَهُ يَسُوعُ خِلَالَ إِقَامَتِهِ فِي البَرِّيَّةِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنَ الخِبْرَةِ البَشَرِيَّةِ. وَلَا تُصْبِحُ التَّجْرِبَةُ خَطِيئَةً إِلَّا بِقَرَارِ القَبُولِ. فَإِذَا قَبِلَ الإِنْسَانُ التَّجْرِبَةَ، كَانَتْ لَهُ مَوْتًا وَهَلَاكًا، وَإِذَا رَفَضَهَا، كَانَتْ لَهُ سَبَبَ أَجْرٍ وَثَوَابٍ.
أَمَّا مَوْضُوعُ التَّجْرِبَةِ فَهُوَ الشُّكُوكُ وَالتَّسَاؤُلَاتُ الَّتِي يُثِيرُهَا الشَّيْطَانُ حَوْلَ أَقْوَالِ اللهِ. فَتَبْدَأُ التَّجْرِبَةُ بِالتَّشْكِيكِ فِي اللهِ، مِمَّا يُسَهِّلُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يُقْنِعَ الإِنْسَانَ بِفِعْلِ مَا يُرِيدُهُ. فَالشَّكُّ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ، قَدْ يُسَاعِدُ الإِنْسَانَ عَلَى تَرْكِ اعْتِقَادَاتِهِ، أَوْ عَلَى تَقْوِيَةِ إِيمَانِهِ.
أَمَّا مَكَانُ التَّجْرِبَةِ فَقَدْ جَرَّبَ الشَّيْطَانُ حَوَّاءَ فِي جَنَّةِ عَدْنَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَرَّبَهُ الشَّيْطَانُ فِي البَرِّيَّةِ. لَمْ يُجَرِّبِ الشَّيْطَانُ يَسُوعَ فِي الهَيْكَلِ أَوْ عِنْدَ المَعْمُودِيَّةِ، بَلْ فِي البَرِّيَّةِ، بَعْدَ أَنْ امْتَلَأَ يَسُوعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَقْتَ مَعْمُودِيَّتِهِ. فَكَانَتْ تَجَارِبُ الشَّيْطَانِ هُجُومًا عَلَى مَوْقِفِ التَّسْلِيمِ التَّامِّ لِلهِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ يَسُوعُ حِينَئِذٍ لِبَدْءِ رِسَالَتِهِ العَلَنِيَّةِ بَعْدَ المَعْمُودِيَّةِ.
أَمَّا ظُرُوفُ التَّجْرِبَةِ فَتَكْمُنُ فِي اخْتِيَارِ الشَّيْطَانِ أَحْرَجَ الظُّرُوفِ. يَخْتَارُ الشَّيْطَانُ الأَوْقَاتَ الَّتِي يُسَدِّدُ فِيهَا هُجُومَهُ، خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ النَّصْرِ (1 مُلُوكَ 18-19) أَوْ فِي أَوْقَاتِ الإِحْبَاطِ (مَتَّى 4: 1-10). جَرَّبَ يَسُوعَ وَهُوَ مُتْعَبٌ وَوَحِيدٌ وَجَائِعٌ. وَالشَّيْطَانُ كَثِيرًا مَا يُجَرِّبُنَا وَنَحْنُ أَضْعَفُ مَا نَكُونُ:
- عِنْدَمَا نَكُونُ مُتْعَبِينَ
- عِنْدَمَا نَشْعُرُ بِالوَحْدَةِ وَالعُزْلَةِ
- عِنْدَمَا نُوَاجِهُ قَرَارَاتٍ خَطِيرَةٍ
- عِنْدَمَا يُسَاوِرُنَا الشَّكُّ
أَمَّا سِلَاحُ التَّجْرِبَةِ فَقَدِ اسْتَخْدَمَ الشَّيْطَانُ اقْتِبَاسَاتٍ مِنَ الكِتَابِ المُقَدَّسِ وَاسْتَشْهَدَ بِهَا.إِنَّ التَّجْرِبَةَ تَدْعُو الإِنْسَانَ إِلَى الإِصْغَاءِ لِصَوْتٍ آخَرَ غَيْرِ صَوْتِ الآبِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّغَلُّبُ عَلَى هَذِهِ التَّجْرِبَةِ إِلَّا بِالإِصْغَاءِ لِصَوْتِ الآبِ وَالثِّقَةِ بِهِ. إِنَّهُ إِصْغَاءٌ يَتِمُّ بِتَوَاضُعٍ وَصَبْرٍ. لَمْ يُخْطِئِ الشَّيْطَانُ فِي اسْتِخْدَامِ آيَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا. لِذَا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَلِمَةِ اللهِ وَطَاعَتَهَا سِلَاحٌ فَعَّالٌ ضِدَّ التَّجْرِبَةِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "وَاتَّخِذُوا لَكُم خُوذَةَ الخَلاَصِ وَسَيْفَ الرُّوحِ، أَي كَلِمَةَ اللهِ" (أَفَسُسَ 6: 17). وَقَدِ اسْتَخْدَمَ يَسُوعُ الكَلِمَةَ المُقَدَّسَةَ فِي مُوَاجَهَةِ هَجَمَاتِ الشَّيْطَانِ.وَلِكَيْ نَسْتَخْدِمَهَا بِكَفَاءَةٍ وَفَاعِلِيَّةٍ، لَا بُدَّ لَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكَلَامِ اللهِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعْرِفُ الأَسْفَارَ المُقَدَّسَةَ وَهُوَ بَارِعٌ فِي اسْتِخْدَامِهَا بِصُورَةٍ خَادِعَةٍ لِتَتَنَاسَبَ مَعَ غَرَضِهِ. وَطَاعَةُ كَلِمَةِ اللهِ أَهَمُّ بِكَثِيرٍ مِنْ مُجَرَّدِ الاِسْتِشْهَادِ بِآيَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ الطَّاهِرِ.
أَمَّا هَدَفُ التَّجْرِبَةِ فَهُوَ اِلْتِقَاءُ يَسُوعَ مَعَ عَدُوِّهِ الشَّيْطَانِ وَهَزِيمَتُهُ عَلَى أَرْضِ المَعْرَكَةِ: "لِأَنَّهُ قَدِ ابْتُلِيَ هُوَ نَفْسُهُ بِالآلَامِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِغَاثَةِ المُبْتَلَيْنَ" (عِبْرَانِيِّينَ 2: 18). إِذْ إِنَّ غَرَضَ خِدْمَةِ يَسُوعَ هُوَ تَحَدِّي قُوَّةِ الشَّيْطَانِ فِي الآخَرِينَ وَكَسْرُ شَوْكَتِهَا فِي النِّهَايَةِ. وَبِانْتِصَارِهِ عَلَى إِبْلِيسَ، يُتَمِّمُ وَعْدَ اللهِ الَّذِي قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنَ بِقَوْلِهِ لِأَبَوَيْنَا الأَوَّلَيْنِ: “فَهُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تُصِيبِينَ عَقِبَهُ" (التَّكْوِينُ 3: 15). هَدَفُ التَّجْرِبَةِ إِذًا هُوَ اِنْتِصَارُ يَسُوعَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَتَقْدِيمُ الخَلاَصِ لِنَسْلِ آدَمَ بِصِفَتِهِ آدَمَ الجَدِيدَ. فَكَمَا أَنَّ آدَمَ سَقَطَ فِي التَّجْرِبَةِ وَنَقَلَ الخَطِيئَةَ إِلَى كُلِّ الجِنْسِ البَشَرِيِّ كَذَلِكَ عَلَى يَسُوعَ، آدَمَ الجَدِيدِ، أَنْ يُقَاوِمَ التَّجْرِبَةَ وَيَنْتَصِرَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَيُقَدِّمَ الخَلاَصَ لِكُلِّ نَسْلِ آدَمَ (رُومَةَ 5: 12-19). وَحَيْثُ خَانَ آدَمُ، كَانَ يَسُوعُ أَمِينًا، فَصَارَ مُخَلِّصَ جَمِيعِ الَّذِينَ يَقْبَلُونَهُ. جُرِّبَ فَعَرَفَ ضَعْفَنَا، وَصَارَ: "مُشَابِهًا لِإِخْوَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِيَكُونَ عَظِيمَ كَهَنَةٍ رَحِيمًا" (عِبْرَانِيِّينَ 2: 17). وَاسْتَطَاعَ أَنْ يُسَاعِدَ المُجَرَّبِينَ: "لِأَنَّهُ قَدِ ابْتُلِيَ هُوَ نَفْسُهُ بِالآلَامِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِغَاثَةِ المُبْتَلَيْنَ" (عِبْرَانِيِّينَ 2: 18). وَأَخِيرًا، بِثَبَاتِ يَسُوعَ عَلَى أَمَانَتِهِ تِجَاهَ التَّجْرِبَةِ، كَانَ مِثَالَ الثَّبَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
هَدَفُ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا هُوَ تَضَامُنُ يَسُوعَ مَعَ الإِنْسَانِ، الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِتَجَارِبِ الشَّيْطَانِ، كَوْنُهُ هُوَ نَفْسُهُ إِنْسَانٌ. وَحَيْثُ إِنَّهُ إِنْسَانٌ كَامِلٌ، فَقَدْ جُرِّبَ: "فَلَيْسَ لَنَا عَظِيمُ كَهَنَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْثِيَ لِضُعْفِنَا، لَقَدِ امتُحِنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَنَا مَا عَدَا الخَطِيئَةَ" (عِبْرَانِيِّينَ 4: 15). أَنَّهُ ابْنُ اللهِ، مَا أَخْطَأَ البَتَّةَ، وَفِي هَذَا الصَّدَدِ قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "ذَاكَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفِ الخَطِيئَةَ، جَعَلَهُ اللهُ خَطِيئَةً مِنْ أَجْلِنَا، كَيْمَا نَصِيرَ فِيهِ بِرَّ اللهِ" (٢ قُورِنْتُسَ 5: 21). إِنَّ يَسُوعَ تَجَرَّبَ مِثْلَنَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَسْلِمْ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُخْطِئْ أَبَدًا، فَقَدَّمَ لَنَا مِثَالًا نَحْتَذِي بِهِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّجْرِبَةِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهَا. فَهُوَ يَعْرِفُ، عَنْ طَرِيقِ اخْتِبَارِهِ، مَا نَتَعَرَّضُ نَحْنُ لَهُ، وَمَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِينَنَا فِي تَجَارِبِنَا. وَقَدِ اكْتَسَبَتِ التَّجْرِبَةُ أَهَمِّيَّةً بَالِغَةً، لِأَنَّهَا أَعْطَتْ يَسُوعَ الفُرْصَةَ لِيُثَبِّتَ خُطَّةَ اللهِ فِي خِدْمَتِهِ. إِنَّهَا أَثْبَتَتْ أَنَّهُ كَامِلٌ، قُدُّوسٌ، بِلَا خَطِيئَةٍ، فَهُوَ يُوَاجِهُ التَّجْرِبَةَ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَسْلِمُ لَهَا. وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ النَّبِيُّ مُوسَى لِلشَّعْبِ: "يَمْتَحِنَكَ فَيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ، هَلْ تَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لَا" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 8: 1-2). وَاجَهَ يَسُوعُ التَّجَارِبَ الثَّلَاثَ بِكَلِمَةِ اللهِ، رَافِضًا مَسِيحَانِيَّةً بَشَرِيَّةً دُنْيَوِيَّةً، وَانْتَهَتِ التَّجَارِبُ بِالمَوْتِ وَالقِيَامَةِ وَالِانْتِصَارِ.
أَخِيرًا، الصِّلَةُ بَيْنَ المَعْمُودِيَّةِ وَالتَّجْرِبَةِ: تَلَقَّى يَسُوعُ بِالمَعْمُودِيَّةِ قُوَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ وَكَرَّسَ نَفْسَهُ لِطَرِيقِ الصَّلِيبِ، كَيْ يَمُوتَ لِأَجْلِ خَطَايَانَا وَيَمْنَحَنَا فُرْصَةً لِنَيْلِ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. أَمَّا فِي التَّجْرِبَةِ، فَقَدْ عَرَّضَ الشَّيْطَانُ لِيَسُوعَ طُرُقًا لِإِنْجَازِ خِدْمَتِهِ دُونَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلصَّلِيبِ. فِي المَعْمُودِيَّةِ، أَكْمَلَ يَسُوعُ البِرَّ، وَفِي التَّجْرِبَةِ كَانَ بَرُّهُ تَحْتَ الِامْتِحَانِ. وَمُنْذُ بِدَايَةِ رِسَالَتِهِ العَلَنِيَّةِ، جُرِّبَ يَسُوعُ فِي البَرِّيَّةِ، لِيُظْهِرَ أَنَّهُ لَا يَحْيَا بِالخُبْزِ وَحْدَهُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ، وَلِيُؤَكِّدَ أَيْضًا أَنَّهُ "الكَلِمَةُ" (يُوحَنَّا 1: 1). وَهُنَا تَضَامَنَ يَسُوعُ تَمَامًا مَعَ الوَضْعِ البَشَرِيِّ، فَقَبِلَ أَنْ يُجَرِّبَهُ إِبْلِيسُ كَمَا يُجَرِّبُ كُلَّ إِنْسَانٍ. فَتَجَارِبُ يَسُوعَ تَجَارِبٌ حَقِيقِيَّةٌ، لَا رَمْزِيَّةٌ فَقَطْ. وَكَمَا جُرِّبَ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ فِي البَرِّيَّةِ (الخُرُوجُ 15-18)، وَاجَهَ يَسُوعُ المُجَرِّبَ كَمَا يُوَاجِهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَاسْتَعْمَلَ سِلَاحًا يَجِبُ أَنْ نَسْتَعْمِلَهُ نَحْنُ أَيْضًا: "سِلَاحُ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ" (أَفَسُسَ 6: 17). وَإِنَّ رَبْطَ رِوَايَةِ التَّجْرِبَةِ بِالمَعْمُودِيَّةِ يُذَكِّرُنَا بِمَعْنَى الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ: "مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ ابْنٍ لِلهِ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَى الشَّيْطَانِ".
2) مَا هُوَ مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنَ التَّجَارِبِ؟
يَصِفُ لنا إِنْجِيلُ لُوقَا ثَلَاثَ تَجَارِبَ تُغْوِي الإِنْسَانَ فِي التَّمَسُّكِ بِالدُّنْيَا، وَهِيَ شَهْوَةُ الجَسَدِ، وَشَهْوَةُ العَيْنِ، وَكِبْرِيَاءُ الغِنَى (1 يُوحَنَّا 2: 16)، وَتُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ وَسَعَادَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا يُوحَنَّا الإِنْجِيلِيُّ كَشَرْطٍ مَطْلُوبٍ لِصَرْفِ النَّفْسِ عَنْهَا كَيْ نَسِيرَ فِي نُورِ المَسِيحِ. قَبْلَ البَدْءِ بِرِسَالَتِهِ العَلَنِيَّةِ، تَعَرَّضَ يَسُوعُ لِهَذِهِ التَّجَارِبِ كَيْ يَخْتَارَ طَرِيقَهُ وَالتَّوَجُّهَ الأَسَاسِيَّ فِي خِدْمَتِهِ العَلَنِيَّةِ، وَيَكُونَ قُدْوَةً لَنَا وَقْتَ التَّجَارِبِ.
التَّجْرِبَةُ الأُولَى: تَجْرِبَةُ الخُبْزِ أَي شَهْوَةُ الجَسَدِ (لُوقَا 4: 3)
تَدُلُّ شَهْوَةُ الجَسَدِ عَلَى الأَهْوَاءِ المُنْحَرِفَةِ فِي الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ، وَهُنَا تَتَحَدَّدُ بِتَجْرِبَةِ الطَّمَعِ وَالجَشَعِ (تَحْوِيلُ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى خُبْزٍ أَي الرَّغْبَةُ فِي "أَكْلِ" الدُّنْيَا كُلِّهَا!). وَتَقُومُ التَّجْرِبَةُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ يَسُوعُ مِنَ الحِجَارَةِ خُبْزًا، "مُرْ هَذَا الحَجَرَ أَنْ يَصِيرَ رَغِيفًا" (لُوقَا 4: 3)، وَذَلِكَ تَلْبِيَةً لِحَاجَةٍ جَسَدِيَّةٍ وَهِيَ الجُوعُ.
يَنْطَلِقُ مَنْطِقُ إِبْلِيسَ الخَبِيثُ مِنَ الحَاجَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالمَشْرُوعَةِ إِلَى الغِذَاءِ وَالعَيْشِ، وَتَحْقِيقِ الذَّاتِ وَالسَّعَادَةِ، لِيَدْفَعَنَا إِلَى الإِيمَانِ بِأَنَّ كُلَّ هَذَا مُمْكِنٌ بِدُونِ اللَّهِ، بَلْ بِالسَّيْرِ ضِدَّهُ. بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ يَسُوعَ كَانَ جَائِعًا، مُتْعَبًا بَعْدَ صَوْمِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ قُوَّتَهُ الإلهيَّة لِإِشْبَاعِ حَاجَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ الخَاصَّةِ (الخُبْزِ). وَالطَّعَامُ أَمْرٌ طَيِّبٌ، وَلَكِنَّ التَّوْقِيتَ كَانَ خَاطِئًا. وَقَدْ جُرِّبَ لِإِشْبَاعِ رَغْبَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بِطَرِيقَةٍ خَاطِئَةٍ أَوْ فِي وَقْتٍ خَاطِئٍ، فِي حِينِ يَجِبُ إِشْبَاعُهَا بِطَرِيقَةٍ صَائِبَةٍ وَفِي الوَقْتِ المُنَاسِبِ. لَمْ يَسْتَخْدِمْ يَسُوعُ قُوًى رُوحِيَّةً لِغَايَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَلَا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُنْقِذَهُ بِطَرِيقَةٍ سِحْرِيَّةٍ عَنْ طَرِيقِ مُعْجِزَةٍ.
رَفَضَ يَسُوعُ مَسِيحَانِيَّةً أَرْضِيَّةً تُنْسِيهِ أَنَّهُ إِنْسَانٌ مِنَ النَّاسِ، يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدَيْهِ مِثْلَ آدَمَ (تَكْوِين 3: 19). اِسْتَغَلَّ الشَّيْطَانُ الجُوعَ وَالحَاجَةَ الجَسَدِيَّةَ لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ. وَاسْتَنَدَ الشَّيْطَانُ إِلَى بُنُوَّةِ يَسُوعَ الإلهيَّة، وَهِيَ الَّتِي أَعْلَنَهَا الآبُ عِنْدَ اِعْتِمَادِ يَسُوعَ: "أَنْتَ ابْنِيَ الحَبِيبُ، عَنْكَ رَضِيتُ" (لُوقَا 3: 22)؛ فَاقْتَرَحَ إِبْلِيسُ عَلَى يَسُوعَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ قُدْرَتَهُ العَجَائِبِيَّةَ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الجُوعِ. أَمَّا يَسُوعُ فَرَفَضَ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ وَقَاوَمَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُجْرِيَ مُعْجِزَةً لِمَنْفَعَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. وَقَدْ صَدَقَ فِيهِ قَوْلُ الرَّسُولِ بُولُسَ: "لِأَنَّ المَسِيحَ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ" (رُومِيَة 15: 3). وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنْ هِيرُودُسَ أَنْتِيبَاسَ الَّذِي كَانَ "يَرْجُو أَنْ يَشْهَدَ آيَةً يَأْتِي بِهَا يَسُوعُ، أَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ" (لُوقَا 23: 8-11).
صَنَعَ يَسُوعُ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً فِيمَا بَعْدُ، لَا لِأَجْلِ نَيْلِ إِعْجَابِ الجَمَاهِيرِ، وَلَا كَوَسِيلَةٍ لِجَذْبِ النَّاسِ إِلَى الإِيمَانِ بِهِ، بَلْ صَنَعَهَا تَثْبِيتًا لِلَّذِينَ قَدْ آمَنُوا. وَقَدِ اسْتَنَدَ يَسُوعُ فِي جَوَابِهِ لإِبْلِيسَ عَلَى كَلِمَةِ اللَّهِ: "لَا بِالخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 8: 3). مُؤَكِّدًا رَغْبَتَهُ فِي تَرْكِ نَفْسِهِ بِثِقَةٍ تَامَّةٍ لِعِنَايَةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ. لَيْسَتِ الخَطِيئَةُ فِي الفِعْلِ ذَاتِهِ، أَي تَحْوِيلِ الحِجَارَةِ إِلَى خُبْزٍ، بَلْ فِي سَبَبِ الفِعْلِ وَدَافِعِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ يَسُوعَ مِنْ مُخَطَّطِ اللَّهِ. اِسْتَطَاعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَدْفَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّذَمُّرِ عَلَى اللَّهِ وَالِاسْتِقْلَالِ عَنْهُ بِحُجَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (خُرُوج 16: 3).
لَكِنَّ المَسِيحَ أَظْهَرَ لِإِبْلِيسَ أَنَّهُ لَا يَتَذَمَّرُ عَلَى أَبِيهِ بِسَبَبِ جُوعِهِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ كَلَامَهُ، وَهَذَا أَهَمُّ مِنَ الطَّعَامِ الجَسَدِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ عَنْ مَشِيئَةِ الآبِ، وَلَا يَسْعَى لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الجُوعِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَشِيئَةِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأَنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ" (يُوحَنَّا 4: 34). وَبِهَذَا الأَمْرِ دَلَّ يَسُوعُ عَلَى أَنَّهُ يَحْيَا مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ، بَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ بِالذَّاتِ (يُوحَنَّا 1: 1).
كان مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنَ التَّجَارِبِ:
- الِانْتِصَارَ عَلَيْهَا بِكَلِمَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ التَّامَّةِ لِلآبِ.
- رَفَضَ كُلَّ إِغْرَاءٍ يُقَدِّمُهُ لَهُ الشَّيْطَانُ.
- لَمْ يَسْتَخْدِمْ قُوَّتَهُ الإِلَهِيَّةَ لِأَغْرَاضٍ شَخْصِيَّةٍ.
- اِعْتَمَدَ فِي كُلِّ مَوَاقِفِهِ عَلَى الطَّاعَةِ الكَامِلَةِ لِلآبِ.
- أَثْبَتَ أَنَّ الخَلَاصَ يَأْتِي بِطَرِيقِ الصَّلِيبِ، لَا بِالطُّرُقِ البَشَرِيَّةِ السَّهْلَةِ.
- كَانَ مِثَالًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مُوَاجَهَةِ التَّجْرِبَةِ بِالثَّبَاتِ وَالإِيمَانِ.
وَبِهَذَا، كَانَ يَسُوعُ "آدَمَ الجَدِيدَ"، الَّذِي اِنْتَصَرَ فِي المَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ فِيهِ آدَمُ الأَوَّلُ.
التَّجْرِبَةُ الثَّانِيَةُ: شَهْوَةُ العَيْنِ (لُوقَا 4: 6-7)
تَدُلُّ شَهْوَةُ العَيْنِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي تَمَلُّكِ كُلِّ مَا نَرَاهُ، خَاصَّةً جَشَعِ التَّمَلُّكِ وَالعَظَمَةِ وَالسَّيْطَرَةِ. وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، تَقُومُ التَّجْرِبَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى سُجُودِ يَسُوعَ لِلشَّيْطَانِ "رَئِيسِ هَذَا العَالَمِ" (يُوحَنَّا 16: 11)، "فَإِنْ سَجَدْتَ لِي، يَعُودُ إِلَيْكَ جَمِيعُ مَمَالِكِ الأَرْضِ" (لُوقَا 4: 6-7)، وَذَلِكَ تَلْبِيَةً لِحَاجَةٍ نَفْسِيَّةٍ وَهِيَ التَّمَلُّكُ وَالقُوَّةُ وَالنُّفُوذُ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْ مَمَالِكِ. وَيَبْدُو أَنَّ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَةً وَقْتِيَّةً عَلَى الأَرْضِ، فَعَرَضَ إِبْلِيسُ عَلَى يَسُوعَ الحُصُولَ دُونَ مَشَقَّةٍ عَلَى مُلْكِ هَذَا العَالَمِ، بِمُجَرَّدِ السُّجُودِ لَهُ، وَبِذَلِكَ يُغْنِيهِ عَنِ الأَتْعَابِ وَالإِهَانَاتِ وَالآلَامِ وَالصَّلْبِ. فَحَاوَلَ إِبْلِيسُ أَنْ يُحَوِّلَ يَسُوعَ عَنْ هَدَفِهِ وَيَجْعَلَهُ يُرَكِّزُ بَصَرَهُ عَلَى السُّلْطَةِ العَالَمِيَّةِ وَيُبْعِدَهُ بِذَلِكَ عَنْ مُخَطَّطِ اللَّهِ.
لَمْ يُسَاوِمْ يَسُوعُ الشَّيْطَانَ فِي اِقْتِسَامِ العَالَمِ لِيَحْكُمَهُ حُكْمًا سِيَاسِيًّا، لِأَنَّهُ رَفَضَ السُّجُودَ لِلشَّيْطَانِ وَقَاوَمَ التَّجْرِبَةَ مِنْ خِلَالِ جَوَابِهِ مُسْتَنِدًا عَلَى كَلِمَةِ اللَّهِ: "لِلرَّبِّ إِلٰهَكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (لُوقَا 4: 8)، مُسْتَشْهِدًا بِكَلِمَةِ اللَّهِ (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 6: 13). وَقَدْ رَفَضَ يَسُوعُ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَدِينًا لأَحَدٍ بِمُلْكِهِ إِلَّا لِأَبِيهِ، وَفْقًا لِلطَّرِيقِ الَّتِي اِخْتَارَهَا اللَّهُ لَهُ، وَهِيَ طَرِيقُ الصَّلِيبِ وَالفَقْرِ.
يَعْرِفُ يَسُوعَ المَسِيحَ أَنَّهُ فَادِي العَالَمِ، فَقَدَّمَ حَيَاتَهُ ذَبِيحَةً عَلَى الصَّلِيبِ بَعِيدًا عَنْ تَحَالُفِهِ مَعَ الشَّيْطَانِ. رَفَضَ مَسِيحَانِيَّةً أَرْضِيَّةً تُنْسِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَمُرَّ فِي الآلَامِ قَبْلَ أَنْ يَمُرَّ فِي المَجْدِ (مَتَّى 6: 21-22). لَكِنَّ الشَّيْطَانَ مَا زَالَ إِلَى اليَوْمِ يُقَدِّمُ لَنَا العَالَمَ بِمُحَاوَلَةِ إِغْرَائِنَا بِالمَادِّيَّاتِ وَالقُوَّةِ وَالسُّلْطَةِ. فَلَا نَنْسَى كَلِمَةَ اللَّهِ لِمُوَاجَهَتِهِ: "الرَّبَّ إِلٰهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 6: 13). لِأَنَّهُ يُمْكِنُنَا فُقْدَانُ الكَرَامَةِ الشَّخْصِيَّةِ إِنْ سَمَحْنَا لِأَصْنَامِ المَالِ وَالنَّجَاحِ وَالسُّلْطَةِ بِإِفْسَادِ عِبَادَتِنَا لِلَّهِ.
التَّجْرِبَةُ الثَّالِثَةُ: الكِبْرِيَاءُ (لُوقَا 4: 9)
تَقُومُ التَّجْرِبَةُ الثَّالِثَةُ عَلَى الكِبْرِيَاءِ، وَالكِبْرِيَاءُ يَقُومُ عَلَى اكْتِفَاءِ الإِنْسَانِ بِذَاتِهِ وَالأَمَانِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الِاتِّكَالِ عَلَى اللَّهِ، بَلْ اِسْتِغْلَالِ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ المَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ. فَجَاءَ قَوْلُ إِبْلِيسَ: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ، فَأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِنْ هَهُنَا إِلَى الأَسْفَلِ" (لُوقَا 4: 9)، اللَّهُ قَادِرٌ أَنْ يُنَجِّيكَ اِسْتِنَادًا عَلَى كَلِمَتِهِ: "لِأَنَّهُ أَوْصَى مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِيَحْفَظُوكَ فِي جَمِيعِ طُرُقِكَ. عَلَى أَيْدِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ، لِئَلَّا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ" (مَزَامِير 91: 11-12). فَالمَقْصُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ فِي سِفْرِ المَزَامِيرِ هُوَ إِظْهَارُ حِمَايَةِ اللَّهِ لِشَعْبِهِ، وَلَيْسَ تَحْرِيضَ النَّاسِ عَلَى اِسْتِخْدَامِ قُوَّةِ اللَّهِ فِي تَقْدِيمِ عُرُوضٍ جَسَدِيَّةٍ حَمْقَاءَ، كَمَا عَرَضَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى يَسُوعَ. وَهُنَا يَقْتَبِسُ إِبْلِيسُ نَصَّ الكِتَابِ المُقَدَّسِ خَارِجًا عَنِ السِّيَاقِ، لِأَنَّ المَعْنَى وَالتَّفْسِيرَ لَيْسَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَلَا النَّصُّ الَّذِي أَلْهَمَهُ اللَّهُ. صَحِيحٌ أَنَّ المَلَائِكَةَ يَحْمُونَ التَّقِيَّ عِنْدَمَا يَكُونُ فِي خَطَرٍ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي أَنْ يَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي الخَطَرِ.
يَدْعُو إِبْلِيسُ يَسُوعَ أَنْ يَنْتَظِرَ مِنَ اللَّهِ مُعْجِزَةً مُدْهِشَةً، مُسْتَغِلًّا حَاجَةً عَاطِفِيَّةً، وَهِيَ الأَمَانُ وَالكِبْرِيَاءُ، لِيُجَرِّبَهُ كَيْ يَفْتَخِرَ بِقُوَّتِهِ أَمَامَ الجُمْهُورِ. لَكِنَّ يَسُوعَ رَفَضَ مَطْلَبَ إِبْلِيسَ لِأَنَّهَا "تَجْرِبَةٌ ضِدُّ اللَّهِ"، حَيْثُ طَلَبَ الشَّيْطَانُ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يَتَدَخَّلَ اللَّهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْمُخَطَّطِ الإلهي، وَهِيَ نَجَاةُ يَسُوعَ مِنَ المَوْتِ لِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ. وَقَدْ جَدَّدَ يَسُوعُ بِإِصْرَارٍ قَاطِعٍ عَلَى البَقَاءِ مُتَوَاضِعًا وَوَاثِقًا أَمَامَ الآبِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا فَرَنْسِيسُ: "يَرْفُضُ يَسُوعُ هُنَا أَكْثَرَ التَّجَارِبِ خُبْثًا عَلَى الأَرْجَحِ، أَي اِسْتِغْلَالُ اللَّهِ، بِأَنْ نَطْلُبَ مِنْهُ نِعْمَةً تَهْدِفُ فِي الوَاقِعِ إِلَى إِرْضَاءِ غُرُورِنَا". لِذَلِكَ رَفَضَ يَسُوعُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ لَقَبِهِ كَابْنِ اللَّهِ تَأْمِينًا لَهُ ضِدَّ جَمِيعِ الأَخْطَارِ أَوْ إِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ احْتِرَامًا لِحُرِّيَّةِ أَبِيهِ السَّمَاوِيِّ. رَفَضَ هَذِهِ التَّجْرِبَةَ وَقَاوَمَهَا مِنْ خِلَالِ جَوَابِهِ، مُسْتَنِدًا عَلَى كَلِمَةِ اللَّهِ: "لَا تُجَرِّبُوا الرَّبَّ إِلٰهَكُمْ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 6: 16). رَفَضَ أَنْ يُجَرِّبَ اللَّهَ، بَلْ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِيَكُونَ بِكُلِّيَّتِهِ فِي خِدْمَتِهِ تَعَالَى وَخِدْمَةِ مَلَكُوتِهِ.
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يُتِمَّ خِدْمَتَهُ بِوَاسِطَةِ قُوَّةٍ سِحْرِيَّةٍ لِإِبْهَارِ الجُمُوعِ "َلْقِ بِنَفْسِكَ مِنْ هَهُنَا إِلَى الأَسْفَلِ" فَيُرَافِقُونَهُ لَحْظَةً يصَفِّقُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ ثُمَّ يَتْرُكُونَهُ فِي طَرِيقِ الصَّلِيبِ. لِذَا كَانَ رَدُّ يَسُوعَ عَلَى الشَّيْطَانِ هُوَ: "أَلَّا نُجَرِّبَ اللَّهَ" (تَثْنِيَةُ الِاشْتِرَاعِ 6: 16). وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ مَثَلُ الغَنِيِّ وَلِعَازَر، إِذْ طَلَبَ الرَّجُلُ الغَنِيُّ أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ آيَةً بِإِرْسَالِ أَحَدِ المَوْتَى إِلَى إِخْوَتِهِ لِيُؤْمِنُوا، لَكِنَّ يَسُوعَ قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالمَكْتُوبِ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ، لَنْ يُؤْمِنُوا أَيْضًا وَلَوْ قَامَ وَاحِدٌ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ" (لُوقَا 16: 31). فَطَلَبُ عَلاَمَاتٍ مِنَ اللَّهِ هُوَ مُحَاوَلَةٌ لِتَحْرِيكِ اللَّهِ كَمَا نَشَاءُ، أَمَّا اللَّهُ فَيُرِيدُنَا أَنْ نَحْيَا بِالإِيمَانِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا فَرَنْسِيسُ: "إِنَّ هَذِهِ الدُّرُوبَ الَّتِي تُطْرَحُ أَمَامَنَا لِإِيهَامِنَا بِإِمْكَانِيَّةِ بُلُوغِ النَّجَاحِ وَالسَّعَادَةِ مِنْ خِلَالِهَا غَرِيبَةٌ تَمَامًا عَنْ أُسْلُوبِ عَمَلِ اللَّهِ، بَلْ هِيَ تُفْصِلُنَا عَنِ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَعْمَالُ إِبْلِيسَ".
لَا يَكْفِي أَنْ نَعْرِفَ كَلِمَةَ اللَّهِ فَحَسْبُ، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَهَا أَيْضًا. إِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ سِلَاحٌ، مِثْلُ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الحَرْبِ الرُّوحِيَّةِ، حَيْثُ تُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ آيَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ خُطْوَةً هَامَّةً فِي مُسَاعَدَتِنَا عَلَى مُقَاوَمَةِ هَجَمَاتِ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ كَلِمَةَ اللَّهِ، فَالشَّيْطَانُ نَفْسُهُ يَحْفَظُ الكِتَابَ المُقَدَّسَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُطِيعُهُ. إِنَّ مَعْرِفَتَنَا بِالكِتَابِ المُقَدَّسِ وَطَاعَتَنَا لَهُ تُسَاعِدُنَا عَلَى أَنْ نَتَّبِعَ رَغَبَاتِ اللَّهِ لَا رَغَبَاتِ الشَّيْطَانِ. فَالشَّيْطَانُ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَقْتَطِعَ بَعْضَ آيَاتِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ وَيُلَوِّنَهَا لِتَأْيِيدِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "لَا نَسْلُكُ طُرُقَ المَكْرِ وَلَا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ اللَّهِ" (2 قُورِنْتُس 4: 4). بِكَلِمَةٍ مُوجَزَةٍ، يُبَيِّنُ لَنَا يَسُوعُ أَهَمِّيَّةَ وَفَعَالِيَّةَ مَعْرِفَتِنَا لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَتَطْبِيقِهَا لِمُوَاجَهَةِ التَّجْرِبَةِ.
التَّجْرِبَةُ الرَّابِعَةُ وَالنِّهَائِيَّةُ: تَجْرِبَةُ النِّزَاعِ الأَخِيرِ عَلَى الصَّلِيبِ (لُوقَا 4: 13)
"لَمَّا أَنْهَى إِبْلِيسُ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَجْرِبَةٍ، اِنْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَحِينَ الوَقْتُ" (لُوقَا 4: 13) , بَعْدَ أَنْ أَنْهَى إِبْلِيسُ جَمِيعَ تَجَارِبِهِ الثَّلَاثَةَ، هُزِمَ إِبْلِيسُ وَانْتَصَرَ يَسُوعُ، فَازَ زَعِيمُ البِرِّ عَلَى زَعِيمِ الإِثْمِ، وَانْتِصَارُهُ حَاسِمٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ نِهَائِيًّا، لِأَنَّ إِبْلِيسَ سَيَعُودُ عِنْدَ الآلَامِ، مِنْ خِلَالِ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ الَّذِي دَخَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ (لُوقَا 22: 3)، وَمِنْ خِلَالِ عُظَمَاءِ الكَهَنَةِ وَقَادَةِ حَرَسِ الهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ (لُوقَا 22: 53). لَمْ تَكُنْ آلَامُ يَسُوعَ إِلَّا اِمْتِدَادًا لِلتَّجْرِبَةِ وَهُجُومِ إِبْلِيسَ الأَخِيرِ عَلَى يَسُوعَ (1 قُورِنْتُس 2: 8). َبِلَ يَسُوعُ إِتْمَامَ المَرْحَلَةِ النِّهَائِيَّةِ مِنْ رِسَالَتِهِ، فَتَعَرَّضَ لِلتَّجْرِبَةِ الأَخِيرَةِ، وَهِيَ نِزَاعُهُ فِي بُسْتَانِ الزَّيْتُونِ (لُوقَا 22: 40)، ثُمَّ الصَّلْبُ. فَعَلَى الصَّلِيبِ، كَمَا كَانَ فِي البَرِّيَّةِ، سَيُطْلَبُ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يُفَضِّلَ طَرِيقَ السُّلْطَةِ وَالإِثَارَةِ وَالأُمُورِ الخَارِقَةِ. سَيُطْلَبُ مِنْهُ النُّزُولُ عَنِ الصَّلِيبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ:
- بَدَأَ الرُّؤَسَاءُ يَهْزَأُونَ فَيَقُولُونَ: "خَلَّصَ غَيْرَهُ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ، إِنْ كَانَ مَسِيحَ اللَّهِ المُخْتَارَ!" (لُوقَا 23: 35).
- ثُمَّ أَخَذَ جُنُودُ الرُّومَانِ يَقُولُونَ: "إِنْ كُنْتَ مَلِكَ اليَهُودِ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ" (لُوقَا 23: 36).
- وَأَخِيرًا، المَجْرِمُ المَصْلُوبُ مَعَ يَسُوعَ عَلَى الصَّلِيبِ أَخَذَ يَشْتُمُهُ فَيَقُولُ: "أَلَسْتَ المَسِيحَ؟ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَخَلِّصْنَا!" (لُوقَا 23: 39). تَمَامًا كَمَا جَرَّبَهُ إِبْلِيسُ فِي البَرِّيَّةِ. لَحَظَاتُ الصَّلِيبِ سَبَقَ وَأَنْبَأَ عَنْهَا لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ (لُوقَا 4: 13).
وَاجَهَ يَسُوعُ التَّجْرِبَةَ النِّهَائِيَّةَ فِي أُورُشَلِيمَ، وَأَكَّدَ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا يَخْتَارُهُ: لَيْسَ حَيَاةً مُتَمَحْوِرَةً عَلَى الذَّاتِ، بَلْ حَيَاةً تُصْغِي إِلَى صَوْتِ الآبِ، حَيَاةً بَدَأَتْ بِالآبِ السَّمَاوِيِّ وَتَنْتَهِي بِيَدِ الآبِ. هَكَذَا كَانَ سِلَاحُ يَسُوعَ الأَخِيرُ كَلِمَاتُهُ الأَخِيرَةُ عَلَى شَكْلِ صَلَاةٍ تُعَبِّرُ عَنِ الثِّقَةِ التَّامَّةِ فِي عِلَاقَتِهِ مَعَ الآبِ: "يَا أَبَتِ، فِي يَدَيْكَ أَجْعَلُ رُوحِي" (لُوقَا 23: 46)، وَهِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ سِفْرِ المَزَامِيرِ (مَزَامِير 31: 6).
إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ، فِي تَجَارِبِ اليَوْمِ، يَدْعُو يَسُوعَ إِلَى اِسْتِخْدَامِ السُّلْطَةِ، الَّتِي تَأْتِيهِ كَوْنَهِ ابْنَ اللَّهِ، لِخَلَاصِ نَفْسِهِ، وَلِتَفَادِي المَحْدُودِيَّةِ وَالتَّعَبِ وَالإِرْهَاقِ الآتِي مِنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، فَفِي أُورُشَلِيمَ سَوْفَ يَخْتَارُ يَسُوعُ طَرِيقَ المَحْدُودِيَّةِ وَالضَّعْفِ وَالمَوْتِ، لِلتَّعْبِيرِ الكَامِلِ عَنْ طَاعَتِهِ لِلآبِ، وَثِقَتِهِ غَيْرِ المَحْدُودَةِ بِهِ. وَهَكَذَا كَانَ ثَمَنُ الأَمَانَةِ لِلآبِ السَّمَاوِيِّ مَوْتُ يَسُوعَ عَلَى الصَّلِيبِ، وَهُنَاكَ يُفْهِمُنَا يَسُوعُ بِأَنَّ هَذِهِ الأَمَانَةَ هِيَ أَثْمَنُ مِنَ الحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ.
أُدْخِلَتِ البَشَرِيَّةُ الجَدِيدَةُ فِي وَضْعِهَا الحَقِيقِيِّ وَفِي دَعْوَتِهَا إِلَى البُنُوَّةِ، مِنْ خِلَالِ اِنْتِصَارِ يَسُوعَ عَلَى المُجَرِّبِ الشَّيْطَانِ مُنْذُ البِدَايَةِ حَتَّى النِّهَايَةِ (لُوقَا 4: 13)، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ إِلَى العِبْرَانِيِّينَ: "فَلَمَّا كَانَ الأَبْنَاءُ شُرَكَاءَ فِي الدَّمِ وَاللَّحْمِ، شَارَكَهُمْ هُوَ أَيْضًا فِيهِمَا مُشَارَكَةً تَامَّةً، لِيَكْسِرَ بِمَوْتِهِ شَوْكَةَ ذَاكَ الَّذِي لَهُ القُدْرَةُ عَلَى المَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُحَرِّرَ الَّذِينَ ظَلُّوا طَوَالَ حَيَاتِهِمْ فِي العُبُودِيَّةِ مَخَافَةَ المَوْتِ" (عِبْرَانِيِّينَ 2: 14-15).
تُشِيرُ التَّجْرِبَةُ إِلَى طَبِيعَةِ يَسُوعَ البَشَرِيَّةِ، إِذْ جُرِّبَ مِثْلَنَا، وَتُشِيرُ أَيْضًا إِلَى اِنْتِصَارِهِ عَلَى الشَّرِّ، وَقَدْ رَفَضَ يَسُوعُ أَنْ يَسْتَغِلَّ اِمْتِيَازَاتِهِ كَابْنِ اللَّهِ لِيَنْجُوَ مِنَ الجُوعِ وَالمَوْتِ، وَالوُصُولِ إِلَى مُلْكِهِ دُونَ مَشَقَّةٍ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "هُوَ الَّذِي فِي صُورَةِ اللَّهِ، لَمْ يَعُدَّ مُسَاوَاتَهُ لِلَّهِ غَنِيمَةً، بَلْ تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ، مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْدِ، وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ، وَظَهَرَ فِي هَيْئَةِ إِنْسَانٍ، فَوَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتِ، مَوْتِ الصَّلِيبِ" (فِيلِبِّي 2: 6-8).
الصَّلِيبُ هُوَ الاِخْتِبَارُ الأَخِيرُ (يُوحَنَّا 12: 27-28) الَّذِي يُثْبِتُ بِهِ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ (يُوحَنَّا 3: 14-16). اِنْتَصَرَ يَسُوعُ عَلَى التَّجَارِبِ، حَتَّى نَنَالَ نَحْنُ الغَلَبَةَ عَلَى كُلِّ قُوَى الشِّرِّيرِ مِنْ خِلَالِهِ. لِذَلِكَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُجَاهِدَ بِكُلِّ مُقَاوَمَةٍ ضِدَّ إِبْلِيسَ، فَلَا يُكَلَّلُ أَحَدٌ مَا لَمْ يَغْلِبْ، وَلَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَغْلِبَ مَا لَمْ يُحَارِبْ، كَمَا جَاءَ فِي رِسَالَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ: "المُصَارِعُ أَيْضًا لَا يَنَالُ الإِكْلِيلَ إِنْ لَمْ يُصَارِعْ صِرَاعًا شَرْعِيًّا" (2 طِيمُوثَاوُس 2: 5). وَلَكِنَّ "لَيْسَ صِرَاعُنَا مَعَ اللَّحْمِ وَالدَّمِ، بَلْ مَعَ أَصْحَابِ الرِّئَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَوُلَاةِ هَذَا العَالَمِ، عَالَمِ الظُّلُمَاتِ، وَالأَرْوَاحِ الخَبِيثَةِ" (أَفَسُس 6: 12). "وَلَكِنَّنَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فُزْنَا فَوْزًا مُبِينًا، بِالَّذِي أَحَبَّنَا" (رُومِيَة 8: 37). "الشُّكْرُ لِلَّهِ، الَّذِي يَسْتَصْحِبُنَا دَائِمًا أَبَدًا فِي نَصْرِهِ بِالمَسِيحِ، وَيَنْشُرُ بِأَيْدِينَا فِي كُلِّ مَكَانٍ شَذَا مَعْرِفَتِهِ" (2 قُورِنْتُس 2: 14).
الخُلاصَةُ
بَعْدَ صَوْمِ يَسُوعَ مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَرَادَ إِبْلِيسُ تَجْرِبَتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَيْثُ دَعَاهُ أَوَّلًا إِلَى تحويل الحَجَرَ إِلَى خُبْزٍ، ثُمَّ أَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الأَرْضِ عَارِضًا عَلَيْهِ السُّلْطَةَ وَالمَجْدَ، وَأَخِيرًا مَضَى بِهِ إِلَى أَعْلَى الهَيْكَلِ فِي أُورُشَلِيمَ، سَائِلًا إِيَّاهُ أَنْ يُلْقِيَ بِنَفْسِهِ كَيْ يُظْهِرَ قُوَّتَهُ الإلهية.
- التَّجْرِبَةُ الأُولَى تَقُومُ عَلَى حَمْلِ يَسُوعَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ عَمَلِ الفِدَاءِ، بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ إِنْسَانًا خَاضِعًا كَمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَبُوهُ السَّمَاوِيُّ.
- التَّجْرِبَةُ الثَّانِيَةُ تَقُومُ عَلَى حَمْلِ يَسُوعَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا رُوحِيًّا عَلَى مَمْلَكَةٍ رُوحِيَّةٍ.
- التَّجْرِبَةُ الثَّالِثَةُ تَقُومُ عَلَى حَمْلِ يَسُوعَ -كَوْنُهُ ابْنَ اللَّهِ -أَنْ يَعْدِلَ عَنْ ثِقَتِهِ بِمَحَبَّةِ الآبِ لَهُ، وَأَنْ يُلْزِمَهُ لِيُصَرِّحَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ بِمُعْجِزَةٍ.
هَذِهِ التَّجَارِبُ الثَّلَاثُ تُشِيرُ إِلَى ثَلَاثِ دُرُوبٍ خَادِعَةٍ يَدْعُو إِلَيْهَا العَالَمُ:
1. جَشَعُ التَّمَلُّكِ.
2. المَجْدُ البَشَرِيُّ.
3. اِسْتِغْلَالُ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ المَصْلَحَةِ الشَّخْصِيَّةِ.
هَاجَمَ إِبْلِيسُ السَّيِّدَ المَسِيحَ فِي البَرِّيَّةِ بِأَنْوَاعِ التَّجْرِبَةِ الثَّلَاثَةِ: "شَهْوَةُ الجَسَدِ وَشَهْوَةُ العَيْنِ وَكِبْرِيَاءُ الغِنَى" (1 يُوحَنَّا 2: 16). وَلَقَدْ وَضَعَ الشَّيْطَانُ سَيِّدَنَا يَسُوعَ المَسِيحَ فِي المَوَاقِفِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا آدَمُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ. تَجَرَّبَ الرَّبُّ يَسُوعُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَكِنْ يَسُوعَ اِنْتَصَرَ عَلَى الشَّيْطَانِ فِي البَرِّيَّةِ. بِسُقُوطِ آدَمَ الأَوَّلِ، تَحَوَّلَتْ جَنَّةُ عَدْنٍ إِلَى بَرِّيَّةٍ، وَبِثَبَاتِ آدَمَ الثَّانِي، تَحَوَّلَتِ البَرِّيَّةُ إِلَى جَنَّةٍ. فَيَسُوعُ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي يَحْيَا بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ هُوَ الإلهُ المُخَلِّصُ، الَّذِي يَسْتَمِرُّ شَعْبُهُ فِي تَجْرِبَتِهِ عَلَى خُطَى الفَرِّيسِيِّينَ: "وَدَنَا الفِرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحْرِجُوهُ" (مَتَّى 16: 1).
التَّجْرِبَةُ فِي ذَاتِهَا لَيْسَتْ خَطِيئَةً وَلَكِنَّنَا نُخْطِئُ عِنْدَمَا نَسْتَسْلِمُ لِلتَّجْرِبَةِ وَنُخَالِفُ اللَّهَ. وَلَا تُصْبِحُ التَّجْرِبَةُ خَطِيئَةً إِلَّا بِقَرَارِ قُبُولِهَا. وَالشَّيْطَانُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ فِي حَرْبٍ مُسْتَمِرَّةٍ ضِدَّ مَنْ يَتْبَعُونَ اللَّهَ وَيُطِيعُونَهُ، وَهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يَجْعَلَنَا نَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ هَوَاهُ أَوْ هَوَانَا، وَلَيْسَ حَسَبَ طَرِيقِ اللَّهِ. يَسْبُرُ اللَّهُ غَوْرَ القُلُوبِ وَيَخْتَبِرُهَا (1 تسالونيقي 2: 4). وَيَسْمَحُ فَقَطْ بِالتَّجْرِبَةِ (1 قُورِنْتُس 10: 13)، الَّتِي يُثِيرُهَا المُجَرِّبُ (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 5: 3)، مِنْ خِلَالِ العَالَمِ (1 يُوحَنَّا 5: 19)، وَخُصُوصًا مِنْ خِلَالِ المَالِ (1 طِيمُوثَاوُس 6: 9). لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَطْلُبَ أَلَّا "نَدْخُلَ فِي تَجْرِبَةٍ"(مَتَّى 6: 13)، فَهِيَ تَقُودُ إِلَى المَوْتِ (يَعْقُوب 1: 14-15). وَإِنَّ التَّجْرِبَةَ الَّتِي لَا يَسْقُطُ فِيهَا المَرْءُ تُفْضِي بِهِ إِلَى الحَيَاةِ. فَإِنَّ حَقِيقَةَ الإِنْسَانِ لَا تَظْهَرُ إِلَّا مَتَى تَعَرَّضَ لِلامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ.
الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ أَقْوَى أَسْلِحَةٍ ضِدَّ تَجَارِبِ الشَّيْطَانِ كَمَا عَلَّمَنَا السَّيِّدُ المَسِيحُ: "هَذَا الجِنْسُ مِنَ الشَّيْطَانِ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ" (مَتَّى 17: 21). وَيُعَلِّقُ البَابَا فَرَنْسِيسُ: "يَسُوعُ فِي مُوَاجَهَتِهِ تَجَارِبَ إِبْلِيسَ لَمْ يَتَحَاوَرْ مَعَهُ، بَلْ لَجَأَ إِلَى كَلِمَةِ اللَّهِ فَقَطْ". لإدْرَاك مَعْنَى الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ، يَجِبُ أَنْ نَرْبِطَ التَّجْرِبَةَ بِالمَعْمُودِيَّةِ، فَكُلُّ ابْنٍ لِلَّهِ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَى الشَّيْطَانِ.
وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ: "إِنْ جُرِّبْنَا مَعَ المَسِيحِ، فَمَعَهُ نَحْنُ سَوْفَ نَنْتَصِرُ عَلَى إِبْلِيسَ. أَتَعْرِفُ أَنَّ يَسُوعَ جُرِّبَ، وَلَا تَعْرِفُ أَنَّهُ انْتَصَرَ؟ اِعْرِفْ أَنَّكَ أَنْتَ جُرِّبْتَ مَعَهُ، وَاعْرِفْ أَنَّكَ سَتَنْتَصِرُ مَعَهُ". لِذَلِكَ، لِنَتَهَلَّلْ مَعَ الرَّسُولِ مُرَنِّمِينَ: "الشُّكْرُ لِلَّهِ الَّذِي آتَانَا النَّصْرَ عَنْ يَدِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ!" (1 قُورِنْتُس 15: 57). مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، ندرك مَعْنَى التَّجْرِبَةِ فِي الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ. إِنَّ اللَّهَ يَسْمَحُ بِالتَّجَارِبِ لَيْسَ لِيُهْلِكَنَا وَيُدَمِّرَنَا، إِنَّمَا
- لِكَيْ نَعِيَ حَقِيقَةَ ذَوَاتِنَا!
- لِكَيْ نَرَى بِيَدِ مَنْ نَضَعُ حَيَاتَنَا.
- وَلِكَيْ نَكْتَشِفَ عَلَى مَنْ نَتَّكِلُ.
- وَلِكَيْ نُعَزِّزَ إِيمَانَنَا وَنُنَقِّيَ أَنْفُسَنَا.
- لكي نتخلص مِمَّا تَعَلَّقَ بِنَا مِنْ شَوَائِبَ بِفَضْلِ التَّجْرِبَةِ، فَنُصْبِحُ أَنْقَى وَأَنْصَعَ. إِنَّهَا فُرْصَةٌ لِنَنْفُضَ مَا عُلِّقَ بِنَا، وَنَكْتَشِفَ مَنْ نَحْنُ، فَنُجَدِّدَ نُفُوسَنَا. يُعلق القِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسَ: "لَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْلُوَ حَيَاتُنَا فِي غُرْبَتِنَا الأَرْضِيَّةِ مِنَ التَّجْرِبَةِ. لِأَنَّ تَقَدُّمَنَا يَتِمُّ عَنْ طَرِيقِ التَّجْرِبَةِ. وَلَا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ إِلَّا إِذَا مَرَّ بِالتَّجْرِبَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَلَّلَ بِالمَجْدِ إِلَّا إِذَا غَلَبَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَغْلِبَ إِلَّا إِذَا جَاهَدَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاهِدَ إِلَّا إِذَا عَرَضَ لَهُ أَعْدَاءٌ وَتَجَارِبُ". (Corpus Christianorum Latinorum, 39, 66)
دُعَاءُ
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَسْأَلُكَ بِاسْمِ ابْنِكَ يَسُوعَ، أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْنَا نِعْمَةَ الرُّوحِ القُدُسِ، لِكَيْ يُمْلِئَنَا بِقُوَّتِهِ وَإِلْهَامَاتِهِ فِي سَاعَةِ التَّجْرِبَةِ، فَنَسْتَطِيعَ أَنْ نُقَاوِمَ هَجَمَاتِ الشِّرِّيرِ كَمَا قَاوَمَهَا مُعَلِّمُنَا يَسُوعُ المَسِيحُ، فَنَخْرُجَ مِنْهَا مُنْتَصِرِينَ، ثَابِتِينَ عَلَى الإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ وَالمَحَبَّةِ، وَمُوَاظِبِينَ عَلَى الصَّلَاةِ، مُرَدِّدِينَ صَلَاةَ مُعَلِّمِنَا يَسُوعَ المَسِيحِ: "لَا تُدْخِلْنَا فِي التَّجْرِبَةِ، بَلْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ"! آمِين.