موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ أغسطس / آب ٢٠٢١

يسوع المسيح والتقاليد اليهودية

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحد الثاني والعشرون للسنة: يسوع المسيح والتقاليد اليهودية (مرقس 7: 1-23)

الأحد الثاني والعشرون للسنة: يسوع المسيح والتقاليد اليهودية (مرقس 7: 1-23)

 

النص الإنجيلي (مرقس 7: 1-23)

 

واجتَمَعَ لَدَيه الفِرِّيسِيُّونَ وبَعضُ الكَتَبَةِ الآتينَ مِن أُورَشَليم، 2 فرَأَوا بعضَ تَلاميذِهِ يَتناوَلونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة، أَيْ غَيرِ مَغْسولة 3 (لأَنَّ الفِرِّيسِيِّينَ واليهودَ عامَّةً لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغسِلوا أَيدِيَهُم حتَّى المِرفَق، تَمَسُّكاً بِسُنَّةِ الشُّيوخ. 4 وإذا رجَعوا مِنَ السُّوق، لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغتَسِلوا بِإِتْقان. وهُناكَ أَشياءُ أُخرى كَثيرةٌ مِنَ السُّنَّةِ يَتمسَّكونَ بها، كَغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس). 5 فسأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبة: ((لِمَ لا يَجري تَلاميذُكَ على سُنَّةِ الشُّيوخ، بل يَتَناولونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة؟)) 6 فقالَ لهم: ((أَيُّها المُراؤون، أحسَنَ أَشَعْيا في نُبُوءتِه عَنكم، كما وَرَدَ في الكِتاب: ((هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. 7 إِنَّهم بالباطلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعَلِّمونَ مِنَ المذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيُّة)). 8 إِنَّكم تُهمِلونَ وصِيَّةَ الله وتَتمَسَّكونَ بِسُنَّةِ البَشَر)). 9 وقالَ لَهم: ((إنَّكُم تُحسِنونَ نَقْضَ وَصِيَّةِ الله لِتُقيموا سُنَّتَكم! 10 فقد قالَ موسى: ((أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ))، و((مَن لعَنَ أَباه أَو أُمَّه، فلْيَمُتْ مَوتاً)). 11 وأَمَّا أَنتُم فتَقولون: إِذا قالَ أَحَدٌ لِأَبيه أَو أُمِّه: كُلُّ شيءٍ قد أُساعِدُكَ به جَعَلتُه قُرباناً، 12 فإِنَّكم لا تَدَعونَه يُساعِدُ أَباه أَو أُمَّه أَيَّ مُساعَدة 13 فَتنقُضونَ كلامَ الله بِسُنَّتِكمُ الَّتي تَتَناقلونَها. وهُناكَ أَشياءُ كثيرةٌ مِثلُ ذلكَ تَفعَلون)).  14 ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: ((أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: 15 ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. 16 ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان)). 17 ولمَّا دخَلَ البَيتَ مُبتَعِداً عنِ الجَمْع، سأَلَهُ تَلاميذُه عَنِ المَثَل، 18 فقالَ لَهم: ((أَهكَذا أَنتم أَيضاً لا فَهمَ لكم؟ أَلاَ تُدرِكونَ أَنَّ ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه، 19 لأَنَّهُ لا يَدخُلُ إِلى القَلْب، بل إِلى الجَوْف، ثُمَّ يَذهَبُ في الخَلاء)). وفي قَولِه ذلك جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة. 20 وقال: ((ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، 21 لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ 22 والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. 23 جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه)).

 

 

مقدمة

 

قبل انصراف يسوع من الجليل إلى الأرض الوثنية (مرقس 7: 24) حدث نقاشٌ طويلٌ بين يسوع والفِرِّيسِيِّينَ حول التقاليد اليهودية وبالتحديد حول سُنَّة الشيوخ والطاهر والنجس (مرقس7: 1-23). وخلاصة النقاش هي أنَّ مشيئة الله في نظر يسوع تتخطى السُنن اليهودية (مرقس7: 6-13) والطهارة الطقسية (مرقس 7: 14-23) مما يجعل وحدة اليهود والوثنيين في الكنيسة أمر ممكناً. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

 

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 7: 1-23)

 

1 واجتَمَعَ لَدَيه الفِرِّيسِيُّونَ وبَعضُ الكَتَبَةِ الآتينَ مِن أُورَشَليم

 

عبارة "الفِرِّيسِيُّونَ" في الأصل اليوناني Φαρισαῖοι وهي مشتقَّة من الآرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها المنعزل) تشير إلى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث التي كانت تناهض الفئتين: الصدوقيين والأسينيين، وكانت أضيقها رأياً وتعليماً (أعمال الرسل 26: 5). حصر الفريسيّون الصلاح في طاعة الناموس فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. وقالوا بوجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف عن السلف. وزعموا أنه معادل لشريعة موسى المكتوبة سلطة أو أهمّ منها. فجاء تصريح المسيح مُبيّنا أن الإنسان ليس ملزماً بهذا التقليد (متى 15: 2 و3 و6)، ودعاهم يوحنا المعمدان "أولاد الأفاعي " كما وبّخهم السيد المسيح بشِدة على ريائهم وادعائهم البرّ كذباً وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الناموس (متى 5: 20 و16: 6 و11 و12 و23: 1ـ 39). أمَّا عبارة " الكَتَبَةِ " في الأصل اليوناني γραμματέων مشتقة من العبرية הַסּוֹפְרִים (معناها السِّفْرُ الكتابُ أَو الكتاب الكبير) فتشير إلى الكاتب المُتعمّق في درس الشريعة، وأعاد الكتبة قراءة النصوص، ودوّنوا التقاليد التي عليها يؤسّسون هويّتهم. واعتاد الناس أن يدعوهم "رابي" أي معلّمي (مرقس 12 :38). وكان معظم الكتبة ينتمون إلى حزب الفِرِّيسِيِّينَ، ولا سيما بعد خراب الهيكل في سنة 70م.  أمَّا عبارة "الكتبة والفِرِّيسِيِّينَ " فتشير إلى علماء من هؤلاء وأولئك، الذين يتبعون أخلاقيّة الفِرِّيسِيِّينَ (مرقس 12 :38)، وهم حراس سنَّة الشيوخ والتقاليد اليهودية. وكثيرا ما يجمع متى الإنجيلي بين هاتين الفئتين من الشعب اليهودي في مقاومتهما ليسوع (متى 5: 20 و12: 38). أمَّا عبارة "الآتينَ مِن أُورَشَليم" فتشير إلى لجنة جديدة من الكتبة والفِرِّيسِيِّينَ أُرسلت إلى كفرناحوم من قبل مجلس السبعين ليقاوموا يسوع لَما سمعوه من أخبار معجزاته العظيمة ورغبة الناس فيه.  وأمَّا عبارة " أُورَشَليم " فتشير إلى مدينة القدس أو المدينة المقدسة (أشعيا 48: 2 ومتى 4: 5)، وهي مكان مقدس بامتياز وتدل اورشليم في إنجيل مرقس على قيمة رمزية وهي العاصمة الدينية التي تَصدر منها جميع الحملات العدوانية ضد يسوع، إذ أرسل رؤساء الشعب اليهودي فريقا منهم لمراقبة يسوع والتحرّي حول نشاطه واصطياد أخطائه. ومن اورشليم حكم رؤساء الشعب على يسوع بالموت، وسلَّموه إلى الرومان ليُصلب.

 

2 فرَأَوا بعضَ تَلاميذِهِ يَتناوَلونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة، أَيْ غَيرِ مَغْسولة

 

تشير عبارة "فرَأَوا بعضَ تَلاميذِهِ يَتناوَلونَ الطَّعامَ" إلى عدم رضى الفِرِّيسِيِّينَ والكتبة عمَّا لاقوه من تلاميذ يسوع. وهذا يدل على شدّة مراقبة الفِرِّيسِيِّينَ لتلاميذ المسيح، أنهم راقبوهم وهم يأكلون ولم يكتفوا بالسماع إليهم. أمَّا عبارة "يَتناوَلونَ الطَّعامَ" في الأصل اليوناني ἐσθίουσιν τοὺς ἄρτους فتشير إلى التلاميذ الذين يأكلون الخبز أو الأرغفة. أمَّا عبارة "نَجِسَة" في الأصل اليوناني  κοιναῖςفتشير إلى ما هو نجس طقسيا بالنسبة لليهود نتيجة المخالطة مع الأمم. ومن هذا المنطلق، الطاهر هو من يلتزم التزاما دقيقا بسُنّة الشيوخ. لهذا المقياس ميّزة حتماً؛ لقد كان مقياساً خارجياً وواضحاً يُسهل التأكد منه. أمَّا عبارة "بِأَيدٍ نَجِسَة" فتشير إلى فريضة طقسية، أكثر منها إلى العمل صحي والتنظيف الجسدي.  فأيدي التلاميذ كانت نظيفة إلاَّ انَّهم لم يغسلوها قبل الأكل حسب تقليد الفِرِّيسِيِّينَ. فالنجاسة لا تدلّ في ذاتها على صفة خلقيّة، بل على جدارة أو عدم جدارة بالنسبة إلى شعائر العبادة وحياة الجماعة العباديّة. وهذه العادة مستلهمة من سفر الأحبار التي تفرض على الإنسان أن يغتسل قبل أن يلمس ما هو مقدس كما جاء في سفر الأحبار " يَغسِلُ بَدَنَه بِماءٍ" (الأحبار 16 :4، 24).  ومن هذا المنطلق، كان غسل اليدين قبل الطعام وبعده في الدين اليهودي مأخوذ من شعائر العبادة (خروج 30: 18-21)، ولقد انحصر غسل اليدين أولا في الذين يقومون بشعائر العبادة في الهيكل، ثم عمَّمته التقوى الفرِّيسية على الشعب المؤمن قُبيل زمن المسيح.  أما عبارة "، أَيْ غَيرِ مَغْسولة" فتشير إلى تفسير مرقس كلمة نجسة بغير مغسولة لأنه كتب إنجيله للرومان.

 

3 لأَنَّ الفِرِّيسِيِّينَ واليهودَ عامَّةً لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغسِلوا أَيدِيَهُم حتَّى المِرفَق، تَمَسُّكاً بِسُنَّةِ الشُّيوخ

 

تشير عبارة "اليهودَ عامَّةً" اسم عبري (معناه مدح) إلى العبرانيين الأصليين والدخلاء. وقد أطلقت هذه الكلمة في البداية على سبط أو مملكة يهوذا (2 ملوك 16: 6 و25: 25) تمييزاً لهم عن الأسباط العشرة الذين سُمُّوا إسرائيل، إلى أن تشتَّت الأسباط وأُخذ يهوذا إلى السبي ثم توسع معناها فصارت تشمل جميع من رجعوا من الأسر من النسل العبراني. ثم صارت تطلق على جميع اليهود المشتتين في العالم (متى 2: 2). وفي أيام المسيح والرسل كان العالم مكوناً من يهود وأمم. ولفظة يهود أعم من عبرانيين، لأنها تشمل العبرانيين الأصليين والدخلاء، وقد أنبئ اليهود بأنهم سيشتتون في كل أنحاء المعمورة إذا تركوا الله وعصوا شريعته (أشعيا 11: 11 -12) وتمت فيهم النبوة.  أمَّا عبارة " لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغسِلوا أَيدِيَهُم حتَّى المِرفَق " فتشير في تفسير مرقس الإنجيلي للطقوس اليهودية، لأنه كان يكتب للأمم غير اليهودية؛ إذ قبل كل وجبة طعام، كان اليهود الأتقياء يقومون ببعض الطقوس، فيغسلون أيديهم وأذرعهم بطريقة خاصة. وكان ذلك عندهم رمزا لتطهيرهم من شيء يعتبرونه نجساً يمكن أن يكونوا قد لمسوه. أمّأ عبارة "يَغسِلوا أَيدِيَهُم" تشير إلى الرُتبة الطقسية التي كان علماء الشريعة اليهود في ذلك الزمان يجعلون لها شانا عظيما. فغسل الأيدي ليس هدفه الناحية الصحِّية بل لإزالة النجاسة مراعاةً للتقاليد الطقسية اليهودية (مرقس 7: 3-4). وقد رفض يسوع هذه السُنّة لان الفِرِّيسِيِّينَ كانوا مخطئين في اعتقادهم، إذ أنهم يُقبَلون من الله لأنهم أتقياء من الخارج (متى 15: 20). وكذلك رفض هذه السُنَّة تلاميذ يسوع ولم يمارسوها (مرقس 7: 2-5). وفي نظر لوقا الإنجيلي يُميِّز يسوع بين ديانة الفِرِّيسِيِّينَ الظاهرية وديانة القلب الباطنية (لوقا 11: 37-54)، وديانة القلب هي في نظر يسوع أول ما يقتضيه الله (لوقا 16: 15)، ويقول أوريجانوس" محور الكتاب المقدّس، هو قلب الإنسان "، لأجل ذلك توعّد يسوع الفِرِّيسِيِّينَ على تمسكهم بالديانة الظاهرية والاكتفاء بها ووبَّخهم قائلا: "الويلُ لَكُم، فإِنَّكُم تَبْنونَ قُبورَ الأَنبِياء، وآباؤكُم هُمُ الَّذينَ قَتَلوهم. فأَنتُم تَشهَدونَ على أَنَّكم تُوافِقونَ على أَعمالِ آبائِكُم: هُم قَتَلوهُم وأَنتُم تَبْنونَ قُبورَهم" (لوقا 11: 47). إن البحوث الأثرية الحديثة قد أيدت موافقة هذا التوبيخ. فمنذ بدء عهد هيرودس الكبير وبعده شُيدت في فلسطين قبور الأنبياء الضخمة (لوقا 11: 44). وبَيّن لوقا الإنجيلي لماذا لا يكتفي الله بالديانة الظاهرية إذ قال "أَلَيسَ الَّذي صَنعَ الظَّاهِرَ قد صَنَعَ الباطِنَ أَيضاً؟" (لوقا 11: 40). والإنسان يدان على أعماله الخارجة من القلب كما جاء في قول المسيح "الإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه" (لوقا 6: 45). أمَّا عبارة "حتَّى المِرفَق" في الأصل اليوناني πυγμή فتشير إلى غسل أيديهم جيدا وباعتناء. أمَّا عبارة "بِسُنَّةِ الشُّيوخ" فتشير إلى تقاليد القدماء التي تضم مُجمل فرائض ومُمارسات توضح الشريعة التي تناقلتها مدارس الربَّانيين مشافهة والتي دُوِّنت فيما بعد في مقالات المشنأ والتلمود. وتُسمَّى "سُنّة البشر" أو "أَحكامٍ بَشَرِيُّة" (مرقس 7: 8) و"سُنَّتَكم" (مرقس 7: 9)، وسمّاها يوسيفوس فلافيوس "سُنَّة الآباء". أمَّا عبارة "الشُّيوخ" فتشير إلى شيوخ إسرائيل (خروج 3 :16) وهم شيوخ قبيلة من القبائل (قضاة 11 :5) يقودون رجالهم في زمن الحرب، وفي زمن السلم يقضون بالعدل (خروج 18 :13-26). ولكن بما أنه لم تكن لهم سلطة لأن يفرضوا أحكامهم بالقوّة، كانت سلطتهم معنويّة أكثر منها قانونيّة. وفي السنهدريم (محكمة اليهود العليا) جلس الشيوخ جنبًا إلى جنب مع رؤساء الكهنة وعلماء الشريعة (متى 27 :41)، ولهذا سُمّي محفلهم   πρεσβυτέριον"أي مشيخة (لوقا 22 :66) أو γερουσίαν أي مجلس (أعمال الرسل 5 :21).

 

4 وإذا رجَعوا مِنَ السُّوق، لا يَأكُلونَ إِلاَّ بَعدَ أَن يَغتَسِلوا بِإِتْقان. وهُناكَ أَشياءُ أُخرى كَثيرةٌ مِنَ السُّنَّةِ يَتمسَّكونَ بها، كَغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس

 

تشير عبارة "رجَعوا مِنَ السُّوق" إلى اليهود الذين يتنجَّسوا إن هم اتصلوا بالوثنيين أو باليهود الذين لا يمارسون قواعد الطهارة. لهذا، فهم يغتسلون حين يعودون من السوق أو أنهم يغسلون ما يشترونه من السوق. وجّه مرقس الإنجيلي كلامه هنا إلى بيئة لا تعرف هذه العادات فرأى من الضروري أن يفسّرها لسامعيه.  أمَّا عبارة "السُّنَّةِ" فتشير إلى سنّة الشيوخ وهي تتضمن وصايا وأحكام وممارسات وفرائض توضّح شريعة موسى وأحكامها. أمَّا عبارة "َغَسْلِ الكُؤُوسِ والجِرارِ وآنِيَةِ النُّحاس" فتشير إلى فكان غسل الكؤوس ... خوفا من أن يكون قد لمسها وثني أو شرب أو أكل منها. هذه الغسل يعود عادة للتقليد وليس للشريعة وقد وضعها الفِرِّيسِيُّونَ زيادة على أحكام الشريعة.  امر موسى بالغسل الطقسي (الأحبار 12-15) لكنه لم يقصد بها النظافة بل الرمز إلى تطهير القلب من دنس الخطيئة.  أما الغسل الذي يأمر به الفريسيون فيهتم بالخارج وليس بالأمور الروحية.  وقد ورد في كتاب إدرشيم أن الأوعية الخشبية أو الزجاجية تُغسل بالخمر في الماء، والآنية النحاسية تُطهَّر بماء مغلي ثم بالنار أو على الأقل بجلي الإناء. وهذا التقليد تمسك به اليهود جدًا. ومن هذا المنطلق، نفهم سر وجود ستة أجران بأحجام كبيرة في بيت يهودي في قانا الجليل (يوحنا 2: 6). لقد تركت الأمة اليهودية عبادة الله بالقلب والحق وأهملت الوصايا الأساسية واهتمت بالتقاليد البشرية التي تنص عليها الشيوخ كغسيل الأيدي والأباريق، من ناحية وتركت محبة الله ومحبة القريب واهتمت بنظافة الجسد من الخارج.

 

5 فسأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبة: لِمَ لا يَجري تَلاميذُكَ على سُنَّةِ الشُّيوخ، بل يَتَناولونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة؟

 

تشير عبارة "لِمَ لا يَجري تَلاميذُكَ على سُنَّةِ الشُّيوخ" إلى تعدّي تلاميذ يسوع على سُنّة الشيوخ (متى 15: 1). وسنة الشيوخ هي المعيار لمعرفة ما هو الصحيح وما وهو الخطأ في رؤية الكتبة والفِرِّيسِيِّينَ. وسُنة الشيوخ تنطلق من أَحكامٍ بَشَرِيُّة وتُشدِّد على الحفاظ على الطهارة الخارجية. أمَّا المعيار في رؤية يسوع فينطلق من وصايا الله ويُشدِّد على طاعة القلب أي الطهارة الداخلية. أمَّا عبارة "لِمَ يَتَناولونَ الطَّعامَ بِأَيدٍ نَجِسَة؟" فتشير إلى عدم قصد الفِرِّيسِيِّينَ بالسؤال إلى الناحية الصحِّية، بل إلى الممارسات الطقسية بخصوص الطاهر والنجس وقد سنَّتها شريعة موسى (الأحبار 11) علما أن النظافة الطبيعية كانت غير الطهارة الطقسية ولم تكونا مرادفتين مع أنهما كانتا تتطابقان أحياناً. وكان الفريسيون في ريائهم لا يطيقون التلاميذ المتحررين من تقليد الفِرِّيسِيِّينَ الخاطئ. فالإنسان الحرفي لا يطيق الفكر الروحي بل يقاومه، محولًا حياته إلى مناقشات غبية وعقيمة! أنّ مشكلة الفِرِّيسِيِّينَ والكتبة كانت أنّهم قد تغاضوا عن وصايا الربّ وعوضاً عنها كانوا يُركّزون على تقاليد البشر كتقليد التطهّير قبل تناول الطعام.  أمَّا كلمة "نَجِسَة" فتشير إلى ما هو نجس من الناحية الطقسية لليهود نتيجة المخالطة مع الأمم.  لكن يسوع تجاوز موضوع الطاهر والنجس التي يفرّق بين الناس وركّز على موضوع إرادة الله التي تجمع بين اليهود والوثنيين.

 

6 فقالَ لهم: أَيُّها المُراؤون، أحسَنَ أَشَعْيا في نُبُوءتِه عَنكم، كما وَرَدَ في الكِتاب: هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي

 

تشير عبارة "المُراؤون" إلى الإنسان الذي لا يطابق بين أعماله وأفكاره (متى 6: 2)، حيث انهم يقولون ولا يعملون، وبالتالي تدل على النفاق أو الرياء أي الادعاء بغير ما هم عليه. فالمرائي معرّض لان يكون منافقا (متى 24: 51) وقد يصبح أعمى البصيرة (متى 7: 5)، فيفسد حُكمه (لوقا 6: 42).  ويعلق البابا فرنسيس " إن الفريسي المنافق هو شخص يتظاهر بأشياء كثيرة، يُجامل ويخدع لأنّه يعيش مع قناع على وجهه، ولا يتمتّع بالشجاعة ليواجه الحقيقة ". وقد وصف السيد يسوع الفِرِّيسِيِّينَ بالمرائين، لأنهم كانوا يَعبدون الله لا محبة فيه تعالى بل مربحاً لهم. فكانوا يبدون متدينين كي يرفعوا مكانتهم في المجتمع لا أمام الله. فوبّخهم السيد المسيح بشدّة لأنهم يحفظون الشريعة كي يَظهروا للناس انهم أتقياء، بدلا من إكرام الله. واستخدم يسوع كلمات أشعيا في تنديد عبادة الرياء (أشعيا 29: 13). وباختصار، هم يظهرون كمدافعين عن الحق لكنهم في الواقع يكسرونه. يحملون صورة الغيرة على مجد الله وهم يهتمون بما لذواتهم، يعبدون الله عبادة خارجية أي ليس عن حب وإنما لتحقيق أهداف بشرية ذاتية " إِنَّهُم بالباطِلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعلِّمونَ مِنَ المَذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيَّة " (متى 15: 9)؛ أمَّا عبارة "هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" فتشير إلى اقتباس من كلمات النبي أشعيا الذي ندَّد بالرؤساء الدينيين في عصره "أَنَّ هذا الشَّعبَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِفَمِه ويُكرِمُني بِشَفَتَيه وقَلبُه بَعيدٌ مِنِّي" (أشعيا 29: 13)، وتدل هذه الآية على التمسك بطقوس لا تنبع من شعور باطني (أشعيا 1: 10-20). ويعلق القدّيس مكسيميليان كولبي الفرنسيسكاني " الحياة الناشطة هي نتيجة الحياة الداخليّة وليست لها قيمة إلاّ إذا كانت تعتمد عليها" (لقاءات روحيّة). وكثيرا ما ثار الأنبياء على الرياء الديني (عاموس 5: 21-27). إذ يظن الإنسان أنه أتمّ ما عليه وانه بارٌ، لأنه مارس بعض الرتب الطقسية (ذبائح وصوم)، مُهِمِلاً وصايا العدالة الاجتماعية ومحبة القريب، لذلك لا يقبل الله ذبائحه كما جاء في قول هوشع "فإِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحة مَعرِفَةَ اللهِ أَكثَرَ مِنَ المُحرَقات"(هوشع 6: 6). وشدَّد صاحب المزامير على المشاعر الباطنية التي يجب أن تستوحى منها الذبائح (الطاعة والحمد والندامة) " إِنًّما الذَّبيحةُ للهِ روحٌ مُنكَسِر القَلبُ المُنكَسِرُ المُنسَحِقُ لا تَزْدَريه يا أَلله." (مزمور 51: 19). ولم يتردَّد صاحب المزامير أن يقاوم التمسك بالشكليات في العبادة. فجاء يسوع يدعو تلاميذه إلى اتباع منحنى آخر نجده في الشرائع القديمة وقد تمَّ تغافله. كان لأحكام الطهارة الخارجية دور اجتماعي هام، والغرض منه تذكير المؤمن بضرورة طهارة القلب. ويعُلق القدّيس العلامة برنادس " نحن المؤمنين بالمسيح، يجب أن نحاول اتّباع طريق قويم. فلنرفع إلى الله قلوبنا وأيدينا معًا، لكي نكون أبرارًا بكليّتنا، فنؤكّد بأعمال البرّ استقامة إيماننا، " (العظة 24 عن نشيد الأناشيد) وجاء العهد الجديد الذي يعطي تعليما جذريا في هذا الشأن "الوَيلُ لكم أَيُّها الفِرِّيسِيُّونَ، فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعنَعِ والسَّذابِ وسائِرِ البُقول، وتُهمِلونَ العَدلَ ومحبَّةَ الله. فهذا ما كانَ يَجبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك" (لوقا 11: 42). إن الفِرِّيسِيِّينَ كانوا مُخْطئين في نظر يسوع، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم يُقبلون عند الله لأنهم أنقياء من الخارج. لذا هاجم السيد المسيح تمسكهم بالشكليات القاتلة تحت ستار الحفاظ على التقليد. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يلزم أن يكون اهتمامنا بسلوكنا عظيمًا، لماذا؟ لأنه يجب ألا يكون اجتماعنا المستمر هنا مجرد اجتماع ندخل إليه، وإنما يلزم أن نحمل بعض الثمار على الدوام. فإن أتيتم وخرجتم بلا ثمر يكون دخولكم بلا نفع... إن كنتم تشتركون في الترنم بمزمورين أو ثلاثة وتمارسون الصلوات كيفما كان، فهل تظنون أن هذا كافٍ لخلاصكم؟". ما الفائدة من عبادة لا نضع قلبنا فيها؟  ويُعلق القدّيس بيّو من بييتريلشينا "ينقصك أن تتوجّه إلى الرّب يسوع متكلّمًا من قلبك، لا من شفتيك فقط" (Une pensée, 23). فما يهمّ الله لا الظاهر بل القلب، لا الشرائع بل الحبّ، لا الطقوس بل الرحمة، كما يؤكد ذلك يعقوب الرسول " إِنَّ التَّدَيُّنَ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ عِندَ اللهِ الآب هو العِنايَةُ بالأَيتامِ والأَرامِلِ في شِدَّتِهِم وصِيانَةُ الإِنسانِ نَفْسَه مِنَ دَنَسِ العالَم" (يعقوب 1: 27). ويُعلق القديس أوغسطينوس " فإذا كانت شريعة الله مكتوبة على قلبك فإنّها لا تولّد الخوف كما حصل على جبل سيناء إنّما تفيض في نفسك عذوبة سرّية" (العظة 150).

 

7 إِنَّهم بالباطلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعَلِّمونَ مِنَ المذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيُّة

 

تشير عبارة " بالباطلِ يَعبُدونَني " إلى طلب يسوع عدم التمسك بالشكليات، لان الرب لا ينظر إلى ظاهر الأمور، بل إلى باطنها، إلى القلب والفكر والضمير إذ لا قيمة للعبادة التي لا تعبّر قبل كل شيء عن الشعور الداخلي العميق؛ أمَّا عبارة " فلَيسَ ما يُعَلِّمونَ مِنَ المذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيُّة " فتشير إلى اقتباس يسوع كلمات أشعيا النبي (29: 13) لكي يكشف عن جذور النجاسة التي تمسُّ الحياة الداخلية لا المظاهر الخارجية.

 

8 إِنَّكم تُهمِلونَ وصِيَّةَ الله وتَتمَسَّكونَ بِسُنَّةِ البَشَر

 

تشير عبارة "تُهمِلونَ وصِيَّةَ الله " إلى تعدّي الكتبة والفِرِّيسِيِّينَ على وصايا الله التي نجدها في الكتاب المقدس بسبب تقاليدهم (متى 15: 2)؛ أمَّا عبارة " تَتمَسَّكونَ بِسُنَّةِ البَشَر" فتشير إلى تقاليد القدماء التي هي تقاليد وأحكام بشريَّة (متى 15: 9). ويسوع ميّز بين هذه وتلك. وقذ أضاف الفِرِّيسِيُّونَ مئات من أحكامهم وقوانينهم الدقيقة إلى شرائع الله المقدسة حتى أصبحت 613 وصية، ثم أجبروا الناس على حفظها، فكانوا يدّعون أنهم يعرفون مشيئة الله في كل تفاصيل الحياة. لذا نجد في هذه الآية أن يسوع يُميّز بين وصايا الله التي نجدها في الكتاب المقدس، وبين "الفرائض الخارجية الآتية من تقاليد الأقدمين. إن الفرائض مصدرها الإنسان وتبقى أمراً ظاهرياً، أما الوصايا فتأتي من الله وتلمس قلب الإنسان.  فالالتزام بالفرائض الخارجية تمنح بعضاً من الأمن ويمكنها أن توهمنا بإمكانية الخلاص بقدرتنا الشخصية، لكنه ليس كافيا لتقريب هذا القلب من الله، بينما تُحرِّرنا الوصايا وتجعلنا منفتحين على الله. لا بدَّ من العبور من الالتزام بالفرائض الخارجية إلى الطاعة للوصايا التي تشفي القلب. لمن السهل أن يكتفي المرء بالعبادة المظهرية وتأدية الفروض الدينية الخارجية ويترك القلب مملوءاً شرًا. لكنه بهذا سيصير كالقبور المُبَيَّضَةً من الخارج وبالداخل نجاسة. كما جاء في تعنيف يسوع للفريسيين "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة"(متى 23: 27).

 

9 وقالَ لَهم: إنَّكُم تُحسِنونَ نَقْضَ وَصِيَّةِ الله لِتُقيموا سُنَّتَكم!

 

تشير عبارة "إنَّكُم تُحسِنونَ نَقْضَ" في الأصل اليوناني Καλῶς ἀθετεῖτε (معناها تنقضون حسناً) إلى التفاف الفِرِّيسِيِّينَ حول الوصية وتحايلهم بخبث عليها وفقا تاما لنبوءة أشعيا " أحسَنَ أَشَعْيا في نُبُوءتِه عَنكم، كما وَرَدَ في الكِتاب: هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" (مرقس 7: 6). أمَّا عبارة "إنَّكُم تُحسِنونَ نَقْضَ وَصِيَّةِ الله لِتُقيموا سُنَّتَكم!" فتشير إلى قول يسوع عن الفِرِّيسِيِّينَ بأنهم يعرفون الكثير عن الله، لكنهم لم يعرفوا لله، لأنهم لا يتجاوبون مع الله نفسه. فهناك تمييز بين التقليد الحرفي القاتل الذي يناقض الوصية، وبين ما حمله التقليد من تراث روحي أصيل أو تدبير تعبدي جميل كالليتورجيا اليهودية بما حملته من تسابيح ومزامير.  إن التقاليد البشرية يمكن أن تصبح ذريعةً لتجنب طاعة الوصايا وتوهّم الإنسان بأنه على صواب.

 

10 فقد قالَ موسى: أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ، ومَن لعَنَ أَباه أَو أُمَّه، فلْيَمُتْ مَوتاً ؛

 

تشير عبارة "أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" إلى الاستشهاد بوصية موسى تجاه الوالدين من ناحية إيجابية "أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ" (خروج 20: 12)، وهي الوصية الرابعة. أمَّا عبارة " مَن لعَنَ أَباه أَو أُمَّه، فلْيَمُتْ مَوتاً" فتشير إلى وصية موسى تجاه الوالدين من ناحية سلبية كما ورد في العهد القديم " مَن لَعَنَ أَباه أَو أُمَّه، فلْيُقتَلْ قَتلاً " (خروج 21: 17).

 

11 وأَمَّا أَنتُم فتَقولون: إِذا قالَ أَحَدٌ لِأَبيه أَو أُمِّه: كُلُّ شيءٍ قد أُساعِدُكَ به جَعَلتُه قُرباناً

 

تشير عبارة "أَمَّا أَنتُم" إلى مفاضلة بين وصية الله وتقاليد البشر.  أمَّا عبارة "كُلُّ شيءٍ قد أُساعِدُكَ به جَعَلتُه قُرباناً" فتشير إلى سُنة الشيوخ التي كانت تعفي المرء من واجب مساعدة أبيه وأمه إذا نذر أن يقدّم لخزانة لهيكل ما يحتاجان إليه (مرقس 7: 11). فاتخذ الفريسيون باسم الله مُبرِّرا لعدم معاونتهم لعائلاتهم، وخاصة والديهم. وكانوا يظنُّون أن وضع الأموال في خزانة الهيكل أهم من مساعدة والديهم المحتاجين، مع أن شريعة الله تأمر بإكرام الآباء والأمهات (خروج 20:12)، والعناية بالمحتاجين (الأحبار 25: 35-43). فقد استند معلمو الشريعة إلى الكتاب المقدس (عدد 3:1-2) الذي يتكلم عن نذر القربان، وفسَّروا النص تفسيرا يتعارض مع روح الوصية "أكرم أباك وأمك". أمَّا عبارة " قُرباناً" في الأصل اليوناني Κορβᾶν مشتقة العبري קָרְבָּן (معناها تقدمة أو منحة مكرسة لله) فتشير إلى ما يُقدَّم لله (حزقيال 20:28)، ثم إلى خزانة الهيكل (متى 27: 6). وبالقربان يكرِّس المؤمن لله خيرات كان بإمكانها أن تسعف والديه المحتاجين، وهكذا بتلك العبارة الشرعية الدينية، كان اليهود يُكرسون لله أموالا يجب تخصيصها لإعالة الوالدين الطاعنين في السن أو المُعوزين. وكان يمكن إجراء تقديم القربان بشكل رمزي بدون دفع أي مبلغ، أو كان يمكن تأجيل الدفع إلى ما بعد موته؛ وذكرت المشنا "أن على الأب أن يسكت إذا نذر الابن ما له للهيكل". وقد وضع الرابيُّون احدى عشر فصلا في المشنا بخصوص القرابين. وكانت هذه الممارسة موضع نقاش حاد في الدين اليهودي حتى قبل المسيح، لان الشعور بالتضامن في الأسرة كان شديداً. ورفض يسوع استعمال الكتاب المقدس من اجل إبطال وصية إلهية. علينا ألا نتَّخذ من التفسير الخاطئ لكلمة الله مُبرراً لإهمال مسؤولياتنا، فإكرام الوالدين ومعاونة المحتاجين منهم من أهم الوسائل لإكرام الله.

 

12 فإِنَّكم لا تَدَعونَه يُساعِدُ أَباه أَو أُمَّه أَيَّ مُساعَدة

 

تشير عبارة " لا تَدَعونَه يُساعِدُ أَباه أَو أُمَّه أَيَّ مُساعَدة" إلى إعفاء الإنسان من مدّ يد العون إلى والديه إذا نذر أن يقدِّم لخزانة الهيكل الخيرات الضرورية لمساعدتهما، ولكنه يستطيع أن يستفيد من هذا القربان طوال حياته، وهكذا صارت الوصية بدون معنى، وكأنها لم تكن.

 

13 فَتنقُضونَ كلامَ الله بِسُنَّتِكمُ الَّتي تَتَناقلونَها. وهُناكَ أَشياءُ كثيرةٌ مِثلُ ذلكَ تَفعَلون

 

تشير عبارة " فَتنقُضونَ كلامَ الله " إلى تفسير معلمي الشريعة حول نص الكتاب المقدس الذي يتكلم عن نذر القربان (عدد 30: 1-2)، وهذا التفسير يتعارض مع روح الوصية. فلا يجوز إبطال وصية إلهية. أمَّا عبارة "تَتَناقلونَها" فتشير إلى الفِرِّيسِيُّونَ والكتبة الذين كان يتناقلون السنن ويسلمونها إلى سواهم. لقد حرّر الربّ يسوع الناس من القوانين الّتي لا يمكن أن تُقدّسهم.  أمَّا عبارة " وهُناكَ أَشياءُ كثيرةٌ مِثلُ ذلكَ تَفعَلون " فتشير إلى تنديد يسوع للفِرِّيسِيِّينَ "الوَيلُ لكم أَيُّها الفِرِّيسِيُّونَ، فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعنَعِ والسَّذابِ وسائِرِ البُقول، وتُهمِلونَ العَدلَ ومحبَّةَ الله. فهذا ما كانَ يَجبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك" (لوقا 11: 42).

 

14 ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا

 

تشير عبارة " الجَمعَ " إلى جماهير الشعب الذين يوجِّه يسوع كلامه إليهم بعد أن كان يتكلم إلى الفِرِّيسِيِّينَ. يطلب يسوع من كل المحيطين به من الجمع إلى إن يتخذوا الكلام لأنفسهم.  أمَّا عبارة " أَصغوا إِليَّ" فتشير إلى امر يسوع بالسماع والطاعة إليه. أمَّا عبارة " افهَموا " إلى طلب يسوع من السامعين الاقتناع والالتزام بتعليم يسوع وطاعته وما هو مطلوب تجاهه كما هو الأمر في شان الطهارة. وشرح السيد المسيح للشعب أن سر الحياة والقداسة لا يكمن في الأعمال الخارجية الظاهرة وإنما في الحياة الداخلية، وهذا عكس ما ينادى به الفِرِّيسِيِّونَ إذ تركوا نقاوة القلب على حساب غسل الأيدي.

 

15 ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه.

 

تشير عبارة " إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه " إلى نظام جسم الإنسان الذي يستفيد من كل ما هو صالح في الطعام ويلقى بما هو غير صالح من الطعام خارج الجسم.  طالما كان القلب طاهرًا لا تستطيع الأطعمة أن تُنجسِّه، لأنها تدخل إلى جوف الإنسان، فما كان منها مفيدًا يتحوَّل إلى أنسجة جديدة، وما كان منها ضارًا يخرج إلى الخلاء، ولا ترتبط النجاسة والطهارة بتجاوز شرائع خارجية بل ترتبط بالقلب حيث لا يمكن لشيء خارجي أن يدنِّس الإنسان. وهذا الموضوع له دور رئيسي في الدين اليهود المعاصر ليسوع (أحبار 11-16). يقدّم الربّ يسوع الجواب على عدم قيامه وتلاميذه بالتطهّر قبل تناول الطعام؛ فلا شيء يدخل إليهم يُنجّسهم، بل ما يَخرج منهم هو الّذي ينجّسهم (مرقس 7، 15).

 

16 ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان.

تشير عبارة "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان" إلى الشر الكامن في باطن الإنسان، وما يُنجسه هو ما يقوله: أقوال جارحة أو كاذبة (متى 15: 18)، أو ما يعمله مما يُسي به إلى القريب مثل: الزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ. وفي هذا الصدد يقول القديس يعقوب "إِنَّ التَّدَيُّنَ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ عِندَ اللهِ الآب هو ... صِيانَةُ الإِنسانِ نَفْسَه مِنَ العالَم لِيَكونَ بِلا دَنَس" (يعقوب 1: 27). فان المنبع الحقيقي لكل نجاسة هو من الداخل، حيث أن القضية ليست القضية قضية الأيدي، بل قضية القلب علما أنّ قلب الإنسان خادع وخبيث، كما جاء في تعليم ارميا النبي " القَلبُ أَخدَعُ كُلِّ شيَء وأَخبَثُه فمَن يَعرِفه؟  (إرميا 17: 9).

 

17 ولمَّا دخَلَ البَيتَ مُبتَعِداً عنِ الجَمْع، سأَلَهُ تَلاميذُه عَنِ المَثَل

 

تشير عبارة "البَيتَ" إلى الموضع العاديّ لنشاط يسوع في الجليل. ويدل هنا على بيت سمعان واندراوس في كفرناحوم (مرقس 1 :19)، الذي يُسمّى "البيت" (مرقس 2 :1؛ 3 :20؛ 9 :33؛ 10 :10) والبيت عادة مكوّن من أربع غرف حول فناء داخلي. وهو نمط وُجد في فلسطين وفي خارج فلسطين، وكان يتيح للعائلة أن تجتمع حتى أربعة أجيال مع ممارسة الزراعة وتربية الغنم أو المعز. أمَّا السطح فمؤلّف من عوارض خشبيّة وأغصان الشجر وطبقة من الطين. وفي الفناء الداخلي، نجد فرن الخبز والرحى وأحيانا البئر. أمَّا عبارة "تَلاميذُه" فتشير إلى الاثني عشر والتلاميذ الذين حوله (مرقس 4: 10). وهم صورة سابقة لجماعة المسيحيين. أمَّا عبارة " المَثَل " في الأصل اليوناني παραβολήν في العبرية הַמָּשָׁל إلى حكمة مقتضبة فيها لغز (مرقس 4: 11) يرى فيها مرقس الإنجيلي معنى خفياً يُكشف للتلاميذ فقط (مرقس 4: 10-12) وهو خاص بالعمل الذي أُرسل يسوع من أجله (مرقس 3: 23-27).

 

18 فقالَ لَهم: أَهكَذا أَنتم أَيضاً لا فَهمَ لكم؟ أَلاَ تُدرِكونَ أَنَّ ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه

 

تشير عبارة "هكَذا أَنتم أَيضاً لا فَهمَ لكم؟" إلى موضوع قلة فهم التلاميذ وغباوتهم بالذات والذي كثيرا ما تناوله مرقس الإنجيلي (متى 4: 13، 6: 52، 7: 18، 8: 17-18، 9: 10، 10: 38).  ترينا هذه العبارة كم كان يسوع منعزلا حتى عن أعز أصدقائه الذين لم يفهموه، وظل في أصعب المواقف وحده بسبب عمق شخصيته ورسالته التي لا يُسبر غورها.  أمَّا عبارة "ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه" فتشير إلى ارتباط النجاسة والطهارة بالقلب، إذ ما يقطع بينا وبين الله هو الخطيئة وليس الأكل بأيد نجسة. إذا كان الفرّيسيّون يميلون إلى الاعتقاد بأنّ القداسة يمكن تحقيقها بمجرّد التقيّد بقوانين الطهارة الطقسيّة أمام الربّ، فالربّ يسوع يُعلّمنا بأنّ القداسة لا يمكن تحقيقها إلا بغسل وتطهير قلوبنا.

 

19 لأَنَّهُ لا يَدخُلُ إلى القَلْب، بل إلى الجَوْف، ثُمَّ يَذهَبُ في الخَلاء. وفي قَولِه ذلك جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة

 

تشير عبارة "القَلْب" إلى النفس أو الجزء الروحي من الإنسان. أمّا عبارة "الجَوْف" فتشير إلى المعدة والأمعاء.  أمَّا عبارة "طاهِرة" في الأصل اليوناني καθαρίζων  وفي العبرية  טְּהוֹרָ  فتشير إلى جدارة أو عدم جدارة بالنسبة إلى شعائر العبادة وحياة الجماعة العباديّة، وهي لا تدلّ في ذاتها على صفة خلقيّة. أمَّا عبارة "جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة" فتشير إلى إلغاء تحريم بعض الأطعمة الذي من شأنه أن يُزيل كل عقبة تحول دون وحدة المائدة بين المسيحيين الذين من أصل يهودي، المسيحيين من أصل وثني (أعمال الرسل 10: 9-16)، وبهذا الأمر أتاح يسوع أبواب الكنيسة على مصرعيها أمام الشعوب التي لا ترتبط بمثل هذه التقاليد اليهودية. أمَّا اليهود فقد اعتقدوا انه يمكنهم أن يكونوا أطهاراً أمام الله بامتناعهم عن بعض الأطعمة بحسب تفسيرهم لشرائع الطعام (الأحبار 11) أمَّا تعليم بولس الرسول فواضح في هذا الأمر "فلا يَحكُمَنَّ علَيكم أَحَدٌ في المَأكولِ والمَشروب... إِنَّها وَصايا ومَذاهِبُ بَشَرِيَّة" (قولسي2: 16، 22). فالإيمان بالله لا يرتبط بالعادات ومن هنا جاء مرسوم المجمع الفاتيكاني الثاني الخاص بنشاط المرسلين في الكنيسة "يتوجب على المرسلين أن يألفوا تقاليد الشعوب القومية والدينية التي سيجري تبشيرها". وفي هذه الآية وضع يسوع حداً للتمييز بين الأطعمة الطاهرة والأطعمة الدنسة.

 

20  وقال: ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان

 

تشير عبارة "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان" إلى النَّوايا السيِّئة من أقوال وأعمال لا الأكل بأيد نجسة. وهي تجاوز شرائع الله بالقلب، وهذه هي الخطيئة التي تقطع العلاقة مع الله. أوضح يسوع هنا أن الطعام لا ينجسِّ الإنسان أنما ما يخرج من الإنسان من كلامه وسيرته وأعماله التي تدل على أفكار قلبه.  وفي هذا الصدد يقول كتاب الاقتداء بالمسيح "الإنسان إلى الوجه ينظر، أما الله فإلى القلب. الإنسان يلتفت إلى الأعمال أما الله فيزن النوايا. أمَّا عبارة "الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان" فتشير إلى ما يجعل الإنسان مكروها في عيني الله وغير مستحق أن يدنو منه تعالى.

 

21 لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ

 

تشير عبارة "مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم" إلى بداية كل خطيئة في قلب الإنسان ونوايا فكره وميله وانفعالاته (غلاطية 5: 19-21). ويسوع لم يبخس الشريعة حقَّها، ولكنه مهّد الطريق أمام التغيير الذي تجلى في حياة الجماعة المسيحية الأولى (أعمال الرسل 10: 9-29) عندما فك الله القيود المتعلقة بالطعام. فنحن لسنا أنقياء بسبب أعمال خارجية بعدم أكلنا بعض الأطعمة، ولكننا أنقياء بتجديد المسيح لأذهاننا وجعلنا على صورته بالبرِّ والتقوى؛ أمَّا عبارة "المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ" فتشير إلى الرذائل التي يُسيء به الإنسان إلى القريب.  وهي لائحة الرذائل التي عُرفت في العالم اليهودي كما في العالم اليوناني (رومة 1: 29-30)؛ أمَّا عبارة "الفُحشُ " في الأصل اليوناني πορνεία (معناها فِسق) فتشير إلى نوع من الزنى ما فيه من فجور وانغماس في الملذَّات وما هو قبيح ومخل بالحياء. ويُعلق القديس أوريجانوس "أحصرْ بحثَكَ بنفسك فقط. فالمعركة التي ستخوض هي في داخلِكَ؛ وفي داخلِكَ أيضًا مدينة الخبث التي عليك أن تقهرَها؛ فعدوّكَ يخرجُ من أعماقِ قلبِكَ" (العظات عن يسوع رقم 5). أمَّا عبارة "السَّرِقَةُ" فتشير إلى أخذ مال الغير في خفاء أو بالخداع والحيلة، ويمكن أن يقوم بذلك فردٌ أو عصابة (أيوب 1: 15و17أمَّا عبارة "القَتْلُ" فتشير إلى القتل المتعمد وحُكمه أن يقتل القاتل من دون استثناء. ويعتبر القتل أنه تعمّد إذا ضرب القاتل إنساناً بأداة حديد أو بحجر مما يقتل به أو ضربه بأداة حديد أو بحجر مما يقتل به أو ضربه بأداة من خشب مما يقتل به فمات أو دفعه مبغضه أو ألقى عليه شيئاً بتعمد فمات (عد 35: 16-20).

 

22 والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة

 

تشير عبارة "الزِّنى" في الأصل اليوناني μοιχεῖαι إلى ممارسة الجنس خارج العلاقة الزوجية؛ أمَّا عبارة الطَّمَعُ" في الأصل اليوناني πλεονεξίαι(معناها "يريد أكثر"، أي لا يشبع) إلى  محبة المال الزائدة التي تقود صاحبها إلى ظلم غيره وغشّه. إنها رغبة جامحة للحصول على أكثر مما يحتاجه الشخص وامتلاكه لمحاولة التفوّق على الآخرين واستعبادهم، وهي رغبة لا تنتهي كما يقول أفلاطون "إنّها كالإناء المثقوب لا يمتلئ أبداً".  أمَّا عبارة " الخُبثُ " في الأصل اليوناني   πονηρίαι (معناها الأعمال الشريرة) فتشير إلى الانفعال الشرير على الغير وقصد ضرره. إنها سمة من يفرح في مصائب الآخرين، ويُسر عندما يؤذي قريبه، لذلك يدعى إبليس بالخبيث، أمَّا عبارة " والمَكْرُ "في الأصل اليوناني δόλος (معناها يوقع في الفخ) فتشير إلى الغش والخداع والإيقاع في الفخّ، أيّ أن الإنسان يسلك بمكر حتّى يصطاد شخصاً. أمَّا عبارة "الفُجورُ" في الأصل اليوناني ἀσέλγεια, (معناها الدعارة)  فتشير إلى اطلاق عنان الشهوات والى السلوك الفاسق الذي يتنافى والذوق السليم العام ويُفسد الحب البشري. فإنّ الإنسان الّذي يتّصف بهذه الصفة هو شخص قد فقد كل الإحساس بالخجل ولا يتردّد في عمل أي شر دون أن يشعر بأي وازع اجتماعيّ أو أخلاقيّ فيُخطئ علناً. والفجور هو الإكثار من الكبائر والاستهتار بها والانطلاق فيها والتمادي فيها. أمَّا عبارة "الحَسَدُ" في الأصل اليوناني ὀφθαλμὸς πονηρός (معناها عين شريرة) فتشير إلى شعور عاطفي يقوم على تمنِّي زوال قوة أو إنجاز أو ملك أو ميزة من شخص آخر أو يكتفي الحاسد بالرغبة في زوالها من الآخرين أو تحويلها إلى فشل، وهو الحزن لخير الغير.  والحسد لا يضر سوى الحاسد إذ يمتلئ قلبه شرا (متى 2: 15)؛ وأمَّا عبارة "الشَّتْمُ" في الأصل اليوناني βλασφημία (معناها تجديف) فيشير إلى شتيمة ونميمة (قولسي 3: 8) ويقصد بها في الكتاب المقدس كلام غير لائق في شأن الله وصفاته (مزمور 74: 10-18 وأشعيا 52: 5). وأما في شان الإنسان فالشتم هو سبَّ جاره وعابه، وصفه بما فيه نقصٌ وازدراء.  وأمَّا عبارة "الكِبرِياءُ" فتشير إلى مركب العظمة، وعلوّ الإنسان، وإعجاب الإنسان بنفسه حتى يحتقر غيره من الناس فيبرِّر نفسه أمام الله فهي تصف الإنسان الّذي يحتقر كلّ شخص ظانّاً أنّه أعظم منهم، أو تشير أيضا إلى التدخّل في شئون الربّ الإله ومحاولة الوقوف ضدّه، كما جاء في مثل يسوع" وضرَبَ هذا المَثَلَ لِقَومٍ كانوا مُتَيَقِّنينَ أّنَّهم أَبرار، ويَحتَقِرونَ سائرَ النَّاس (لوقا 18:9)، ولهذا قال القدّيس يعقوب الرسول " إِنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكَبِّرين "(يعقوب 4: 6). إنّ الكبرياء هي رأس كل الرذائل.  أمَّا عبارة "الغباوة " في الأصل اليوناني ἀφροσύνη (معناها الجهل) فتشير إلى الجهل الروحي وليس الجهل العقلي، والجهل الروحي أو السخافة الأدبية التي تنظر إلى الخطيئة وكأنها أضحوكة.  فالغبي هو من لا يستعمل قواه التي تميَّز الإنسان عن البهيمة فتصرّف بحماقة بدون خوف الله وإطاعة الضمير.  إنّ هذه القائمة الّتي يذكرها يسوع مرعبة حقّاً، وإنّها هي الّتي تنجّس الإنسان حقّاً، وهي خطايا ضد القريب. وهي تتقابل مع الوصايا العشر التي لها العلاقة مع الآخرين. الطريقة الآن لتطهير أنفسنا هي طاعة الوصايا العشر والامتناع عن تلك الرذائل. وفي هذا الصدد يقول القديس يعقوب " إِنَّ التَّدَيُّنَ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ عِندَ اللهِ الآب هو افتِقادُ الأَيتامِ والأَرامِلِ في شِدَّتِهِم وصِيانَةُ الإِنسانِ نَفْسَه مِنَ العالَم لِيَكونَ بِلا دَنَس" (يعقوب 1: 27). وهذه القائمة للرذائل يقدِّمها لنا العهد الجديد دائمًا للتحذير، كالقائمة التي في رسائل بولس الرسول (رومة 1: 29-31، وغلاطية 5: 13-19).  يدعو يسوع أن نتجنب هذه الرذائل مردِّدين مع صاحب المزامير " عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبي فأَخافَ اْسمَكَ" (مزمور 86: 11).

 

23 جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه

 

تشير "المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ" إلى العمل الشرير الذي يبدأ بمجرد فكرة واحدة. وعندما نسمح لأفكارنا أن تتركز على الشهوة أو الحسد أو البغض أو الانتقام... لا بد أن يؤدي هذا كله إلى أعمال شريرة لان الفكر يسبق العمل والعمل يتبع الفكر ويعزِّزه. وهكذا بداية هذه المنكرات هي المَقاصِدُ السَّيِّئةُ ونهايتها هي الغباوة أي عدم الفكر. والأولى علة التعدي والثانية عدم الطاعة. ومن هذا المنطلق، إن أعظم خطر على الإنسان ليس من التجارب الخارجية بل من داخله.

 

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 7: 1-23)

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس7: 1-23) يمكننا أن نتناول موضوعين: التقاليد اليهودية والطهارة الطقسية. وقد ناقشهما يسوع مع ثلاثة جماعات من الناس وهم الفريسيون والكتبة ثم جماهير الشعب وأخيرا تلاميذه.

 

1) موقف يسوع من التقاليد اليهودية

 

"اجتَمَعَ لَدَى يسوع الفِرِّيسِيُّونَ وبَعضُ الكَتَبَةِ الآتينَ مِن أُورَشَليم" (مرقس 7: 1) فدار الحوار حول سُنَّة الشيوخ. وسُنّة الشيوخ أو التقاليد هي عبارة عن تراث في الأوساط الكهنوتية، وعند علماء اليهود، وعند كل الطوائف التي تتَألف منها أُمَّة اليهود. ويستند في نقله إلى الصلة الشخصية بين المعلم وتلاميذه: المعلم ينقل ويُسلّم، والتلميذ يُسلم ما يجب عليه أن يسلّمه بدوره. إن هذا التسليم يُعرِّفه إنجيل مرقس بلفظة يونانية أي παράδοσις "أي سُنّة الشيوخ" (مرقس7: 5 و13)، ويذكره بولس الرسول بعبارة "سنن آبائي" τῶν πατρικῶν μου παραδόσεων (غلاطية 1: 14). إن هذا التراث يضاف إلى الكتب المقدسة ليؤلف "ما أورثنا موسى من سنن" (أعمال 6: 14)، فينسب الكتبة أصلها إلى ماض سحيق لتدعيم سلطانها. إلاّ أنه لا يجوز خلط هذا التقليد المتأخر الذي تشهد له هذه الكتب بالتقليد الشفهي القديم الذي تبلور في الكتب المقدسة القانونية.

 

منذ البداية، يوضّح يسوع عدم تقيّده بسُنة الشيوخ المعاصرين له. إلاّ أنه لا يمس جوهر التراث التقليدي المحفوظ في الكتب المقدسة: الشريعة والأنبياء لا ينبغي أن يبطلا، بل أن يتمما "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل"(متى 5: 17). أمَّا "سنّة الشيوخ" فإنها لا تحظى بمثل هذا الامتياز، لأنها بشرية، قد تحمل في ذاتها خطر نسخ الشريعة (مرقس7: 8-13)، ولذا يشجّع يسوع تلاميذه على التحرّر من سنّة الشيوخ بل ويعلن أيضاً بطلانها. لم ينتقد السيد المسيح الغسل في ذاته، لكنه انتقد الانشغال به على حساب الغسل الداخلي، والاهتمام بتقاليد حرفية على حساب الوصايا في أعماقها.

 

أوضح يسوع لهم أن التقليد البشري لا يمكن أن يكون له نفس السلطان لكلمة الله. في حين أعطى الكتبة والفريسيُّون للتقليد البشري أهمية أكبر من السلطان المعطى لكلمة الله أو وصاياه. فهم فضَّلوا الطقوس الدينية على ما هو روحي وأدبي. وأعطى لهم يسوع مثل افتراضي معروف ذلك الوقت يدور حول نذر القربان (مرقس 7: 10-13). وكلمة قربان مشتقة من الآصل العبري קָרְבָּן ومعناها تقدمة أو منحة مكرسة لله. لقد كانت الوصية الخاصة بالوالدين واضحة، ولكن اليهود تهربوا منها تحت ستار التقوى. فكان باستطاعة الابن أن يَعدَ بدفع نقوده لخزينة الهيكل. وكان يمكن إجراءه بشكل رمزي بدون دفع أي مبلغ، أو كان يمكن تأجيل الدفع إلى ما بعد موته. فقد استشهد يسوع بوصية إكرام الوالدين " أكرم أباك وأمك"(خروج 20: 12)، ولا يستطيع أي قانون طقسي أن ينقضها. ولذلك فإنَّ هذه التقاليد في نظر يسوع هي فرائض بشرية وخيانة لوصايا الله.

 

إلا أن يسوع تصرف في الوقت نفسه تصرّف معلم، يعلّم لا على طريقة الكتبة -بتكرار تقليد منقول بل كمن له سلطان (مرقس 1: 22 و27)، ويعهد إلى تلاميذه برسالة تقوم في نقل تعاليمه (متى 28: 19-20). بالإضافة إلى ذلك، يظهر التجديد حتى في أعمال يسوع: يغفر الخطايا (متى 9: 1-8)، ويعطي البشر نعمة الخلاص، ويضع علامات جديدة يوصي بتكرارها من بعده، وهي العشاء الرباني (1 قورنتس11: 23-25). وبذا فهو يصبح، بكلماته وأعماله، أصل تراث جديد يستبدل سنّة الشيوخ، كأساس لتفسير الكتب المقدسة.

 

وقد حافظ القديس بولس الرسول على تقليد يسوع. إذ أوصى أهل تسالونيقي ببعض الوصايا من قبل الرب يسوع (1 تسالونيقي 4: 2) وقد "تسلّموها منه" (1 تسالونيقي 4: 1). إنه يستحلفهم أن يحافظوا على السنن παράδοσις ، التي أخذوها عنه، إمّا مُشافهة وإمّا مكاتبة (2 تسالونيقي 2: 14). ويقول بولس الرسول أيضاً لأهل فيلبي: وما تَعلَّمتموه مِني وأَخَذتُموه عَنِّي وسَمِعتُموه مِنِّي وعايَنتُموه فِيَّ، كُلُّ ذلك اعمَلوا بِه " (فيلبي 4: 9). ويوضح لأهل قورنتس: " سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا " (1 قورنتس 15: 3)، ويقصد بولس بكلامه عن مجموعة التعاليم الخاصة بموت المسيح وقيامته. أمَّا في قوله " فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم " (1 قورنتس11: 23)، فهنا يتعلّق الأمر بسرد طقسيّ عن العشاء الرباني؛ فيشمل التقليد الرسولي، والممارسات كما يشمل التعليم.

 

إستخدم لوقا أيضا أسلوب التقليد في كتابة إنجيله كما جاء في مقدمة إنجيله: "لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، كما نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة" (لوقا 1: 1-2). إذن، يقتصر دور الروايات الإنجيلية على تدوين ما كان قائماً من قبل في التقليد. ففي هذه الروايات تحتفظ حياة الكنيسة بالمآثر والعادات التي سلّمها إليها المسيح، ووضعها الرسل موضع التنفيذ.

 

ويتميّز تقليد يسوع عن "سنّة الشيوخ" (متى 15: 2)، وعن كل " سُنَّةِ النَّاسِ" (قولسي 2: 8)، من حيث أنه يستند إلى سلطة المسيحٍ. فقد "عَمِلَ يسوعُ وعلَّم" (أعمال 1: 1)، وأعطى تلاميذه تفسيراً شرعياً للكتب المقدسة السابقة فمثلا قال يسوع "سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: "لا تَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء". أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: ((يا أَحمَق)) اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: ((يا جاهِل)) اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم" (متى 5: 20-48)، وأوصاهم بما ينبغي عليهم أن يعلّموه للناس باسمه "عَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به" (متى 28: 20)، ومعطياً لهم قدوة حيّة لما ينبغي أن يصنعوه "فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم" (يوحنا 13: 15). فكما أن التعليم الذي كان يُكرز به لم يكن من عنده، بل من عند الذي أرسله (يوحنا 7: 16)، هكذا يحمل التقليد الرسولي دوماً في ذاته سمة المسيح المخلص، محافظاً بدقَّة على روحه ورسومه وأعماله. وفي هذا الصدد يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: "السيد المسيح السيد الذي فيه يكتمل كلُّ وحي الله العليّ، بعد أن حقَّق في حياته وأعلن بلسانه الإنجيل أمر رسله أن يُبشروا الناس أجمعين بهذا الإنجيل، منبعا لكل حقيقة خلاصية، ومصدرا لكل نظام خلقي، ويسبغوا هكذا على الجميع المواهب الإلهية" (رقم 75).

 

بقى روح المسيح القائم من بين الأموات مع تلاميذه، ليعلّمهم جميع الأشياء (يوحنا 14: 26)، ويُرشدهم إلى الحق كله (يوحنا 16: 13). وإذن، ليس ثمة فرق بين سلطة الرسل وسلطة معلمهم: " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 10: 16).

 

نستنتج مما سبق أن هناك استمرارية حقيقية من التراث الرسولي إلى تقليد الكنيسة. وأمَّا التقليد الكنسي فلا يتعدى دور المحافظة والصيانة؛ وقد حدّد العهد الجديد قاعدته في قول بولس الرسول: " اِحفَظِ الوَديعَة " (1 طيموتاوس 6: 20)، وهذه الوديعة هي التراث الرسولي الذي لا يمكنه أن يقبل أية عناصر جديدة: لقد أكمل الوحي. ويؤكد بولس الرسول على التقليد (1 قورنتس 34:11) وكذلك يوحنا الرسول (2يوحنا 12). وأمَّا نموه في تاريخ الكنيسة فهو من نظام آخر، لأنه لا يفعل أكثر من أن يوضّح الأمور المضمرة المتضمنة في الوديعة الرسولية.

 

ويلخص كتاب التعليم المسيحي الفرق بين التقليد الرسولي والتقاليد الكنسيّة: "التقليد الرسولي هو الذي يصدر عن الرسُل، وينقلُ ما أُلقي إليهم من تعليم يسوع ومثله وما لَقِنوهُ من الروح القدس. فلم يكن بعد لدى جيل المسيحييِّن الأول عهد جديد مكتوب، والعهد الجديد نفسه يُثبت نهج التَّقليد الحي. أما تقاليد الكنيسة فهي “التقاليد" اللاهوتية، والتنظيمية، والليتروجية أو التعبُّدية التي نشأت عبر الأزمان في الكنائس المحلية. إنها تؤلّفُ صِيغَا خاصة يستمدُّ منها التقليد الكبير تعبيراتٍ توافق الأمكنة المختلفة والعصور المختلفة. وهي لا تستطيع الديمومة إلا في نوره، مبدَّلة أو مُهملةً في حكم سلطة الكنيسة التعليميّة.

 

2) موقف يسوع من الطهارة الطقسية

 

الموضوع الثاني الذي ناقشه يسوع مع الفِرِّيسِيِّينَ والكتبة وجماهير الشعب وأوضحه لتلاميذه هو موضوع الطهارة الطقسية. ومن هنا نبحت في مفهومها عامة ومفهومها عند المسيح خاصة.

 

ا) مفهوم الطهارة الطقسية

 

تقوم الطهارة الطقسية على الاستعداد المطلوب للتقرّب من الأشياء المقدسة. وبالرغم من أنها فضيلة أدبية مضادّة للدعارة، التي يحصل عليها المرء ليس فقط عن طريق الأفعال الأدبية، بل بواسطة الطقوس الدينية أيضاً. وقد يفقدها بحسب العقلية اليهودية بالملامسات الماديّة بغض النظر عن أية مسئولية أدبية. وهي تشمل أيضا النظافة الجسدية: أي الابتعاد عن كل قذارة (تثنية 23: 13)، وعن كل مرض مثل البرص (الأحبار 13-14)، وعن كل فساد مثل الجثة الميت (عدد 19: 11-14).

 

أمَّا التمييز بين الحيوانات الطاهرة والنجسة (الأحبار 11) فلا يمكن تعليله بمجرّد سبب الصحة فقط. هذه الطهارة تُشكل حماية ضد الوثنية: وبما أن بلاد كنعان كانت مُدنَّسة بوجود الوثنيين فغنائم الحرب كان نصيبها الحرم (يشوع 6: 24-26). كما أن ثمار هذه الأرض ذاتها هي أيضاً مُحرّمة مدة سنوات الحصاد الأولى الثلاث (الأحبار 19: 23-25)، وكانت بعض الحيوانات كالخنازير تعتبر نجسة (الأحبار 11: 7)، لارتباطها بعبادة الوثنيين إذ "يُصعِدونَ دَمَ خِنْزيرٍ تَقدِمَةً" (أشعيا 66: 3) وأكد علماء الآثار هذه الموضوع في موقع ترصة الأثرية (الفارعة).

 

وتنظم الطهارة استعمال كل ما هو مقدس، فكل ما يمسّ العبادة يجب أن يكون طاهراً، ولا يمكن التقرّب منه بدون استحقاق "كُلُّ رَجُلٍ بِه عَيبٌ مِن نَسْل هارونَ الكاهِن لا يَتَقَدَّمْ لِيُقَرِّبَ الذَّبائِحَ بِالنَّارِ لِلرَّبّ: إِنَّه بِه عَيْب، فلا يَتَقَدَّمْ لِيُقَرِّبَ طَعامَ إِلهِه لكِنَّه يأكُلُ مِن طَعامِ إِلهِه، مِن قُدْسِ الأَقْداسِ كانَ أَو مِنَ الأَقْداس." (الأحبار 21: 21-22).

 

أما الأنبياء فقد كانوا يُعلنون باستمرار أن أنواع الغسل والذبائح ليس لها قيمة في ذاتها، ما لم تنطوِ على طهارة باطنية "هذا الشَّعبَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِفَمِه ويُكرِمُني بِشَفَتَيه وقَلبُه بَعيدٌ مِنِّي" (أشعيا 29: 13). ومع ذلك فهذا لا يعني اختفاء الشكل الطقسي (أشعيا 52: 11)، بل أن النجاسة الحقيقية هي من شأنها تدنيس الإنسان هي الخطيئة، والنجاسات المقرّرة في الشريعة ليست سوى صورتها الخارجية (حزقيال 36: 17-18). فهناك وصمة أساسية تصيب الإنسان، لا يُطهِّره منها سوى الله (أشعيا 6: 5-7). والتطهير الجذري للشفاه، وللقلب، وللكيان كله يدخل في عداد المواعيد المُعلّقة على المسيح " وأَرُشُّ عليكم ماء طاهِرًا، فتَطهُرونَ مِن كُلِّ نَجاسَتِكم" (حزقيال 36: 25).

 

أمَّا الحكماء فيضعون شرطا أساسيا وهو إرضاء الله بطهارة الأيدي، والقلب، والجبين، والصلاة (أيوب 11: 14-15، 16: 17، 22: 30)، وبالتالي بسلوك أخلاقي لا عيب فيه. ويشعر الحكماء بنجاسة الإنسان أمام الله (أمثال 20: 9، أيوب (9-30 -31). ومن الجسارة أن يتصوّر الإنسان نفسه طاهراً (أيوب 4: 17). وينبغي على الحكيم أن يجتهد في الحفاظ على الطهارة، لا سيما الطهارة الجنسية، فقد حفظت سارة نفسها طاهرة (طوبيا 3: 14)، إنما استسلام الوثنيين لدعارة فهو مذلّة (حكمة 24:14).

 

أمَّا صاحب المزامير فأبدى اهتمامه أيضا بالطهارة الأخلاقية، في إطار طقسيّ. إن محبة الله تتّجه نحو أنقياء القلوب (مزمور 73: 1). فالدخول إلى الأقداس مقصور على الرجل صاحب اليدين النقيّتين والقلب الطاهر "مَن ذا الَّذي يَصعَدُ جَبَلَ الرَّبِّ ومَنْ ذا الَّذي يُقيمُ في مَقَرِّ قُدْسِه؟ النَّقِيُّ الكَفَّين والطَّاهِرُ القَلْبِ الَّذي لم يَحمِلْ على الباطِلِ نَفسَه ولم يَحْلِفْ خادِعًا. (مزمور 24: 4)، ويكافئ الرب، الأيدي النقيّة التي تصنع بر الرَّبُّ "بِحَسَبِ برِّي كافأني وبطَهارةِ يَدَيَّ أَثابَني"(مزمور 18: 21). ولكن بما أن الله وحده يستطيع أن يمنح الطهارة، فإن الإنسان يتوسل إليه أن يطهّر القلوب كما جاء في ترنيم صاحب المزامير " زِدْني غُسْلاً مِن إِثْمي ومِن خَطيئَتي طَهِّرْني" (المزمور 51: 4).

 

ب) الطهارة الطقسية بنظر يسوع:

 

في زمن يسوع زادت الشروط المادية في الطهارة: من تطهير متكرّر (مرقس 7: 3-4)، وأنواع غسل دقيقة (متى 23: 25)، وهرب من الخطأة الذين ينشرون النجاسة (مرقس 2: 15-17)، والابتعاد عن القبور تجنباً للنجاسة (متى 23: 27).

 

يسوع الذي تُصوّره الأناجيل الإزائيّة، إنه يلمس الأبرص (مرقس 1 :40-43)، يأكل مع العشّارين والخطأة (مرقس 2 :15-17)، يشجب الممارسات الفريسية (مر 7 :1-23)، لا يدلّ على اهتمام بالطهارة الطقسيّة، بل يشدّد على الطهارة الأخلاقيّة. ما يجب أن نطهّره أولاً هو القلب لا اليدان والكأس.  وفي هذا الصدد تقول القديسة الأم تريزا دي كالكوتا " دَع محبّة الله تجتاحُ القلبَ وتتملّكه، فتصبحَ بالنسبة إلى هذا القلب كطبيعة ثانية؛ فلا يَدَع هذا القلب شيئًا مضادًّا له يدخله؛ ولْيَعملْ باستمرار على زيادة حبّ الله هذا بإرضائه في كلّ شيء، وبعدم رفض أيّ شيء يطلبه؛ فليَقبَل كلّ ما يجري له كأنّه صادر عن يد الله"(صلاة البحت عن قلب الله).

 

وطالب يسوع بالمحافظة على بعض قواعد الطهارة الشرعية (مرقس 1: 43-44) لكنه أدان أولاً التطّرف في الفرائض، والمضاعفة على الشريعة "إنَّكُم تُحسِنونَ نَقْضَ وَصِيَّةِ الله لِتُقيموا سُنَّتَكم" (مرقس 7: 9). ثم أعلن أن الطهارة الوحيدة هي الطهارة الباطنية: " مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان" (مرقس 7: 15). ثم منح يسوع ذاته إلى " أنقياء القلوب " طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله" (متى 5: 8).

 

فإن الطهارة الأدبية نفسها لم تعد تكفي لمعاينة اللّه، وللتقرب إليه، وإنما يحتاج الأمر إلى حضور الرب الفعّال، حينئذ يكون الإنسان طاهراً جذرياً. وهذ ما أكّد يسوع لرسله: "أَنتُمُ الآنَ أَطهار بِفَضْلِ الكَلامِ الَّذي قُلتُه لَكم" (يوحنا 15: 3)، وبوضوح أكثر: " مَن استَحَمَّ لا يَحتاجُ إِلاَّ إلى غَسلِ قَدَمَيه، فهو كُلُّه طاهِر. أَنتُم أَيضاً أَطهار" (يوحنا 13: 10).

 

ونستنتج مما سبق أن يسوع أبدل الطقوس تطهير الكيان الداخلي بذبيحته "فقَد أَبطَلَ العِبادةَ الأُولى لِيُقيمَ العِبادةَ الأُخْرى. وبِتِلكَ المَشيئَة، صِرْنا مُقَدَّسينَ بِالقُرْبانِ الَّذي قُرِّبَ فيه جَسَدُ يَسوعَ المَسيحِ مَرَّةً واحِدَة (عبرانيين 9:10 -10) وحيث أن "دَم يسوعَ ابنِه يُطَهِّرُنا مِن كُلِّ خَطيئَة"(1 يوحنا 1: 7). وتحقق هذا التطهير بطقس المعمودية التي تستمد فاعليتها من الصليب" أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها لِيُقدَسَها مُطهِّرًا إِيَّاها بِغُسلِ الماءِ وكَلِمَةٍ تَصحَبُه (أفسس 5: 25-26). جاء السيد المسيح جاء إلى العالم لكي يدخل بنا إلى إنساننا الداخلي، ومن هذا المنطلق علينا ألا نهتم بالشكليات الخارجية والمظاهر، إنما نطلب تجديد إنساننا العميق، لهذا وبخ المهتمين بالوصايا في شكلها دون روحه.

 

المسيحيّ الحقيقي هو الذي تحرّر من الشريعة ومن محرّماتها الطقسيّة (غلاطية 3 :23-4 :10، وسار منذ الآن في "شريعة المسيح" (1قورنتس 9 :21)، "شريعة الروح الذي يُعطي الحياة" (رومة 8 :2) لا شيء نجس في ذاته (رومة 14 :14)، ولا يوجد شعب طاهر وشعب نجس، إنما الحاجة إلى القلب الطاهر الداخلي. يعبّر عن الطهارة الشخصية في العلاقات مع القريب.

 

 

الخلاصة

 

بين معجزتي تكثير الخبز والسمك الأولى عند اليهود (مرقس 6: 30 44) والمعجزة الأخرى عند الوثنيين (مرقس 8: 1-13).  أعطى يسوع درسا عمليا في التقليد حول الطاهر والنجس حيث وضع حدا للتمييز القديم بين الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة تمهيدا لعبوره الجليل إلى أرض وثنية و"غير طاهرة.  وطالب يسوع باستعداد القلب الذي يجعل المؤمن ينظر إلى حياته على ضوء كلام الله، لا حسب تقاليد وعادات التي تجعل الإنسان عبدا في العالم الذي يعيش فيه.  إن التمسك بالتقليد يؤدي إلى ترك الوصية (مرقس 7: 8) ورفض الوصية (مرقس 7: 9) وإبطالها لها (مرقس 7: 13).

 

واستخرج بطرس الرسول بوحي من الله من كلمة المسيح، هذه النتيجة: لم يعد بعد غذاء نجس "ما طَهَّرَهُ الله، لا تُنَجِّسْه أَنتَ " (أعمال 10: 15)، وليس القلف أنفسهم نجسين كما صرّح بطرس الرسول "أمَّا أَنا فقَد بَيَّنَ اللهُ لي أَنَّه لا يَنبغي أَن أَدعُوَ أَحَدًا مِن النَّاسِ نَجِسًا أَو دَنِسًا. (أعمال 10: 28)، وان الله طهّر منذ الآن قلوب الوثنيين بالإيمان (أعمال 15: 9). من هذا المنطلق، دّل إلغاء التمييز بين الطاهر والنجس لدى الحيوانات على إلغاء هذا التمييز نفسه عند البشر. ولذلك فقد وإنفتحت أبواب كنيسته على مصراعيها أمام جميع الشعوب التي لا ترتبط بمثل هذه التقاليد اليهودية. من وراء هذا الرمز الحيواني. ترتهن مسألة وحدة البشر وشمولية الكنيسة.

 

واعتمد بولس الرسول من ناحيته على تعليم يسوع (مرقس 7)، وأعلن بجرأة أنه بالنسبة إلى المسيحي " أَن لا شَيءَ نَجِسٌ في حَدِّ ذاتِه (رومة 14: 14). ومع انتهاء نظام الشريعة القديم، أصبحت ممارسات الطهارة "أركاناً ضعيفة" ، إذ حرَّرنا المسيح منها كما جاء في تصريح بولس الرسول "أَمَّا الآن، وقَد عَرَفتُمُ الله، بل عَرَفَكمُ الله، فكَيفَ تَعودونَ مَرَّةً أُخْرى إلى تِلكَ الأَرْكانِ الضَّعيفةِ الحَقيرة وتُريدونَ أَن تَعودوا عَبيدًا لَها مَرَّةً أُخْرى؟ (غلاطية 4: 9). فالقداسة والنجاسة هما على طرفي نقيض (1 تسالونيقي 4: 7-8). والقداسة المسيحية تنبع من قلب طاهر، وضمير صالح، وإيمان لا رياء فيه (1طيموتاوس 1: 5) بعكس النجاسة.

 

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، باسم يسوع ابنك، طهّرنا من كل نجاسة وإملأنا من روحك القدّوس وهبنا عقلا نيرا، واجعل قلبنا مثل قلبك ينمو فينا الحبّ الإلهيّ كي نطيع الوصايا الله ونتصرّف بحكمة ونتمسَّك بجوهر الأمور وليس فقط بمظهرها لكي نصير مثله قادرين على الحبّ. لئلاّ يكون إكرامنا بالشفتين، فنسمع تأنيب يسوع لنا "هذا الشَّعبُ يُكَرِمُني بِشَفَتَيه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي".

 

 

صلاة القديس توما الأكويني

 

ليتني لا أرغب في شيء سواك! أعطِني باستمرار أن أوجّه قلبي نحوك؛ وحين أضعف، أعطِني أن أقيّم خطئي بألم، مع قرار ثابت بتصحيح نفسي. امنَحني يا ربّ، قلبًا يقِظًا لا تستطيع أيّ فكرة سيّئة أن تبعده عنك؛ قلبًا نبيلاً لا يذلّه أيّ شعور معيب؛ قلبًا مستقيمًا لا ينحرف بسبب أيّ نيّة مريبة؛ قلبًا ثابتًا لا تحطّمه أيّ عدائيّة؛ قلبًا حرًّا لا يسيطر عليه أيّ شغف عنيف. امنَحني يا ربّي، ذكاءً يتعرّف إليك، وحماسة تبحث عنك، وحكمة تعثر عليك، وحياة تروقك، ومثابرة تنتظرك بثقة، وثقة تمتلكك في النهاية. امنَحني أن أعاني ما تحمّلته، وأن أستفيد من ميزاتك بالنعمة، وأن أستمتع بأفراحك خاصّة في وطن المجد. أنت يا ربّ، يا مَن يعيش ويحكم إلى دهر الدهور. آمين.