موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢١ مارس / آذار ٢٠١٣

يا فرنسيس أصلح كنيستي

بقلم :
المطران بطرس المعلم

حيَّرتَنا يا صاحب القداسة، بأيّ اسمٍ أو لقب ندعوك؟ فأنت في أقلّ من أسبوع أربكتَ كل بروتوكولات الفاتكان. يوم انتخابك، ومنذ إطلالتك الأولى لم تُرِدْ أن يبقى – أو أن يوضع - على صدرك أي صليبٍ آخر غير الصليب البسيط جدا الذي قُدِّم لك يوم رسامتك الأسقفية قبل أكثر من عشرين سنة. انتقدوك، ولكن ما هَمّ؟ وقبل أن تعطي "للمدينة (رومة) والعالم" بركتك الأولى، كما هو مطلوب، انحنيتَ أنت أمام الجماهير تطلب الصلاة لينالوا لك بركة الرب. تعجّبوا، ولكن لم يجرؤوا على الاعتراض. عُدتَ مع الكرادلة إلى نزل "القديسة مرتا"، وأبيتَ أن يٌفرَد لك مكان خاص أو خدمة خاصة على المائدة، بل تعمَدُ أنت الى الself-service فيتعلمها منك الآخرون. وفي الغد الباكر، تمضي إلى إحدى كنائس السيدة العذراء لتكرّس لها حبريتك، فتذهب في سيارة صغيرة بسيطة، لأنك مدة أسقفيتك كلها لم يكن لك سيارة ولا سائق، بل كنت تطوف في شوارع بوينس أيرس في الباص أو المترو، أو تجول في أزقتها على دراجة هوائية، تتفقّد الفقراء في أكواخهم. الذين برون اليوم ويسمعون، لا يكادون يصدّقون. وأنتَ حيَّرتنا في لقائك مع الكرادلة، سواء في قداس ختام المجمع الانتخابي، أم في الاجتماع معهم لتوديعهم. فالتوجُّه إلى الكرادلة يجب أن يكون عادةً، بموجب البروتوكول، بالصيغة التالية: أصحاب النيافة السامي احترامهم جدًّا السادة الكرادلة Eminentissimi e Reverendissimi Signori Cardinali… ، أما أنت فخاطبتهم ببساطة: إخوتي الكرادلة Fratelli Cardinali ، وكأنك نسيت، أو أردتَ أن تُنسيهم، أنهم "أمراء الكنيسة". وإن تقدّمَ عميد الكرادلة بكلمةٍ باسمهم، فمن الواجب أصلاً أن يصعد بعدها إلى منصّة البابا ليقبل يده، ولكنه يُفاجأ ويذهل إذ يرى "أسقفَ رومة" (وكأنه يستثقل لنفسه لقب البابا) ينزل هو لملاقاته ومصافحته. ثم يتقدمون لوداعه (حوالي المئتين)، فيبقى واقفًا يستقبلهم واحدًا واحدًا، ممسكًا بكلتا يديه، وللا أقلّ من دقيقة، يمينَ كل واحد، هادئًا مبتسمًا، بل ممازحًا ضاحكًا أحيانًا. وفيما كلهم يقبّلون يمينه، نراه هو يقبّل أحيانًا يمين بعضهم ممن ثقل عليهم المرض أو السنون. أيقظة هي أم منام؟ ولقاء مع الصحفيين، وقد زاد عددهم على الستة آلاف، وما أدراك ما الصحفيون وحب الاستطلاع ومكر الاستدراج أحيانًا عندهم. سأله أحدهم لماذا اختار اسم فرنسيس؟ أجاب بكل بساطة وعفوية: كان إلى جانبي في الكونكلاف الكردينال هومِّس ( وهو برازيلي وصديق كبير لنا منذ كنا مطران البرازيل، وقد رافقني ممثلاً مطارنة البرازيل حين انتقلتُ إلى الجليل)، وحين بلغ العددُ في فرز الأصوات إلى 77، أي ثلثي المقترعين (وهو العدد المطلوب)، مال عليّ وصافحني وقال: "مبروك، ولا تنسَ الفقراء". البرازيل، الأرجنتين، أميركا اللاتنية، بلاد الفقر... فالتمعَت على الفور في ذهني صورة القديس فرنسيس الأسيزي أبي الفقراء، فاتخذتُه شفيعًا لحبريتي. أو يكون الصحفيون قد زحلقوا البابا الجديد أن يكون أولَ مَن يسرِّب، عفويًّا، شيئا مما جرى في الكونكلاف؟ 19 آذار عيد القديس يوسف، النجار، العامل البسيط، المتواضع، الصامت، فتختاره موعدا للتنصيب، يوما عاديا من الأسبوع، بدل أن يكون أحد الشعانين المقبل وما فيه من أبهة، كما كان يتوقع الكثيرون. في ساحة القديس بطرس مئات الآلاف، وعلى الشاشات مئات الملايين في العالم يتابعون تحركاتك. وفيما الإعلاميون يعدّون الوفود الرسمية، بمن فيهم الملوك ورؤساء الدول والحكومات والسفراء لمئة وثمانبن دولة، المنتظرين خارجًا على المنصة منذ الصباح تحت الشمس، تنزل أنت بكل خشوع وورع إلى ضريح القديس بطرس، تحت الهيكل الكبير، فتجثو في صمت وتصلي. حسن أن ليس هناك من يقطع عليك صمتك، أو يسألك ماذا قلت في صلاتك. ولكن يلفتني جدا أنك لم تصطحب معك لزيارة ضريح بطرس، من بين 180 كردينالاً و250 مطرانًا حولك من كل أنحاء العالم، لم تصطحب معك سوى بطاركة الكنائس الشرقية. أسلافك، وخصوصًا منذ المجمع الفاتكاني الثاني، أدركوا أكثر فأكثر أهمية هذه الكنائس، وضرورة العودة إلى تراثها لكي تتنفس الكنيسة الجامعة بكلتا رئتيها، بعد أن كادت تختنق برئة واحدة. أو ليس من الشرق انطلق بطرس وبولس، فحملا إلى رومة نفسها نور الإنجيل، وبدّدا فيها ظلام الجهل والوثنية؟ أو ليس أن عددًا من البابوات كان من أصلٍ شرقي حتى أواسط القرن الثامن؟ ألم يُصرّ بعض أسلافك الأخيرين، وخصوصًا يوحنا بولس الثاني وبندكتس السادس عشر، على زيارة تلك الكنائس بأنفسهم، للتغذي بروحانية آبائها وشهدائها القديسين؟ وفي هذا الزمن الرديء، زمن التشنج والتعصب والأصوليات، استشعر البابوات الأخيرون ما يهدد كنائَس ومؤمني الشرق من أخطار، تريد اقتلاعهم وإبطال رسالتهم، مما يجلب أسوأ النتائج أيضا على الكنيسة كلها، بل على البشرية جمعاء. نعم، لهذا بعينه دعا سلَفكَ بندكتس إلى سينودس أساقفة الشرق الأوسط (حيث شارك أيضًا مسيحيون غير كاثوليك، ومسلمون ودروز ويهود...) في تشرين الأول 2010، ثم جاء بنفسه إلى لبنان، ليوقّع "الإرشاد الرسولي"، ثمرة ذلك السينودس، ويتركه كوصية أخيرة له إلى أبنائه وإخوته في هذا الشرق، من أي كنيسة أو دينٍ أو مذهبٍ كانوا. فالعالم كله ينظر اليوم إلى الكنيسة كسفينة الخلاص الأخيرة، على هذا البحر الهائج، التائه بدون شراعْ أو بوصلة أو منارة. على هذا الأمل والرجاء، العالم كله ينتظر في الخارج في ساحة القديس بطرس: البطريرك المسكوني برثلماوس الأول، الذي يحضر مثل هذا التنصيب لأول مرة، ويتقدم إلى الهيكل لمعانقة البابا فرنسيس، ومثله المتروبوليت هيلاريون ممثل بطريرك موسكو، وكاثوليكوس أرمينيا كيراكين الثاني... وكبار الحاخامين بكيباتهم، والعلماء والشيوخ بعمائمهم، وحتى الحطّة والعقال في مكان الصدارة. في مطلع القرن الثالث عشر، كانت الكنيسة، خصوصًا بسبب صراعات الأسَر المالكة وتدخلهم في الشؤون الكنسية . كانت تعاني أشدّ المحن والانقسامات والتشرذم، حتى لتجد أحيانًا بابوين أو ثلاثة في آنٍ واحد يتصارعون على الألقاب والمناصب. وسط هذه الفضائح والمعاثر، ظهر في مدينة أسسيزي (إيطاليا) شاب اسمه فرنتشيسكو (فرنسيس). كان سليلَ أسرةٍ ثريّةٍ مرموقة. عاش فترةً في اللهو والعبث الطائش والقلق، إلى أن التقاه المسيح يومًا فجندله كما بولسَ على طريق دمشق، وسمع من فم المصلوب: يا فرنسيس أصْلِحْ كنيستي. - فقام وبدأ بإصلاح نفسه، فهجر الترف، ووزّع ثروته على الفقراء، وساح في الأرض واعظًا زاهدًا، حافيا، مستعطيا، مصليا، متواضعا، وديعًا، مَثلاً رائعًا في الفقر والمحبة، وبساطة السيرة، وحبّ التفاهم والسلام مع كل إنسان، أيًّا كان عرقه أو لونه أو دينه؛ وإن كان من تفضيل، فللفقير والمريض والمنسِيّ والمظلوم. لم يعمّر طويلاً (1182-1226)، ولكن مَثله كان قد سرى كالنار في الهشيم، فكثرَ تلاميذه، وبهم كان إصلاح الكنيسة الغربية الأول والأكبر في تلك الأيام. أليست من هذه الروح نشأت لقاءات أسييزي، التي دعا إليها أولاً يوحنا بولس الثاني، ثم خلفُه بندكتس، حيث يجتمع حوله في المحبة قادةُ جميع الكنائس والأديان في العالم؟ أليس لهذا الهدف بالذات اتخذ البابا الجديد فرنسيسَ الأسيزي شفيعًا له؟ في أواخر العام 2012، ووفق استطلاعاتٍ علمية وعالمية دقيقة، كانت نسبة الأوروبيين الذين لا يزالون يثقون بالكنيسة الكاثوليكية كمرجعيةِ أملٍ ورجاء للبشرية، قد تدنّت إلى 46%. وبعد أسبوعٍ واحد من انتخاب البابا فرنسيس كانت نسبة الاستطلاع الجديد قد قفزت إلى 65%. "فيا فرنسيس واصِلْ إصلاح كنيستي". واليوم بالذات 20 آذار، وهو عيد الأم، أعِدْ إلى أمي الكنيسة بهاءَ وجهها السني. وغدًا 21 آذار، وهو عيد الربيع، ليحمل العيد هديّةً للعالم، ربيعَ الكنيسة البهيّ، ثورةَ إصلاحاتٍ كنسيةٍ هادئة، لا عنف فيها ولا دماء. وبعد غدٍ السبت، حين تزور سَلَفَك بندكتس في كاستيل غندولفو، وتتناولان معًا طعام الغداء (مَن الضيفُ ومَن المضيف؟)، أخبِره أن الإصلاحات التي بدأها، ثم خانته قوى الجسد عن إنجازها، ستواصلها أنت بثباتٍ وشجاعة، ترافقك في المسعى صلوات جميع المؤمنين، مسيحيين ومسلمين ويهود، وأماني ذوي الإرادة الطيبة أينما كانوا. نرحّب بك أجمل ترحيب، وندعو لك من صميم القلب، ونحييك نحن أيضًا مع سعف النخل وزيتون بلادنا: مبارَكٌ الآتي باسم الرب.