موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
دُعيتُ صباحَ الإثنين الماضي الى الاحتفال بقداسِ ثاني الفصح في كنيسةِ قريةِ معلولَ المُهَجَّرة، قرب يافة الناصرة. لبّيتُ الدعوة فرِحًا، لاسيما وانه اليومُ الوحيد في السنة الذي "يُسمَح" فيه لأهالي معلول بزيارة "كنيستهم". - تغادر سيارتُك الطريقَ العام يافة الناصرة - حيفا، فتنعطف بك يمينًا، ثم تصَعِّد بك، لنحو كيلومتر ونصف، في طريقٍ ترابيّةٍ ضيّقةٍ متعرّجة، بحذاء حاجزٍ من الأسلاك الشائكة الكثيفة، يفصلك عن مخيّمٍ عسكري كبير إلى اليسار. وتخترق غابةً ظليلةَ الأشجار رائعةَ الجمال، إلى أن ترى على اليمين بقايا مسجدٍ صغير، متصدع الجدران، لا مئذنة له ولا أبواب، وفوقه بقليل بقايا كنيسة أرثوذكسية من الطراز نفسه، أي مصدّعة الجدران، لا جرَس لها ولا أبواب. ثم تُطلّ عليك كنيسة الكاثوليك، وكلما اقتربتَ منها تبَيَّنَ لك أكثرَ فأكثر، عددُ المؤمنين المتوجّهين إليها بالمئات، مشياً أو في أرتال السيارات. وتصل إليها فتُفاجأ: هي أيضًا كانت قد امتُهِنَت وذُلّلت ودُنّسَت ودِيسَت كرامتُها، وحُوِّلت إلى حظيرةِ أبقار ومكبّ نفايات. ولكن ها هي، بتضامُن المعلوليين جميعًا، وبجهدِ المُخْلصين، ومثابرة المُلاحِقين، تُستنقَذ جزئيًا، ولو ليومٍ واحد في السنة، لتستقبل جميع أطياف معلول بدون استثناء، يحجّون إليها من مختلف أماكن تهجيرهم، ومعهم الأصدقاء والمتعاطفون، من أعضاء كنيست، ورؤساء مجالس محلية، وكهنة وراهبات... فتغصّ بهم الكنيسة، وينتشر في ساحتها الخارجية عدد أكبر من الذين في داخلها... ووسط الترانيم الكنسية، ينتظم الطواف إلى أمام المدخل الكبير، للاحتفال برتبة "الهجمة" التقليدية، فتُقرَع الأبواب، وتصدح الجوقة "المسيح قام من بين الأموات..."، ويهلّل الرجال، وتزغرد النساء، ويدخل المصلّون لبدء القداس الإلهي... ونسأل: "أين جرَس الكنيسة؟ لِمَ لَم نسمع زغردتَه؟" – الجواب: "قد سرقوه" – "سرقوه؟" تمامًا كما فعلوا، وبدل المرة مرتين، بجرَسِ كنيسة "إقرِت" المهجّرة وغيرها؟ "قلنا: ما همّ. فخرَسُ الجرَسِ لن يُسكِتنا، وصَمتُه سيبقى أبلغَ من أبواق الإذاعات المأجورة. ألا يزال هاجسُ السرقة والرشوة هو هو منذ ألفي سنة إلى اليوم"؟ فيومَ فجرِ القيامة، كان زلزالٌ شديد قد حدث، وملاكٌ نزل من السماء، فدحرجَ الحجرَ عن باب القبر الفارغ، فارتعد الحَرَسُ وخافوا جدا. وفيما يسوع القائمُ من الموت يظهر للنسوة ويلقي عليهن السلام، أتى الحرَسُ المدينة، فأخبروا رؤساءَ الكهنة بما جرى. فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا، وأعطوا الجُندَ فضةً كثيرة ، قائلين: قولوا إنّ تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سمع الوالي ذلك، تولّينا نحن إرضاءه، وجعلناكم مطمئنين. فأخذوا الفضة، وفعلوا كما لقَّنوهم، فشاعَ ذلك القولُ إلى اليوم (متى 28: 1-15). خَرَسُ الجَرَسِ في معلولَ وإقرِتَ وغيرهما اليوم، وخَرَسُ الحَرَسِ أمام القبر الفارغ في المدينة المقدسة قبل ألفي سنة، لهما هدفٌ واحد: كَمُّ الأفواه وإسكاتُ الضمير أمام مظالم هذا العالم. علامَ حوكِمَ يسوعُ؟ أليس لأنه جاء ليشهد للحق في وجه الباطل، ولأنه قال: أنا الطريق والحق والحياة (يوحنا 14: 6)، فيستهزئ به الوالي الروماني: وما هو الحق؟ (18:38). أليس أن حق القوة، لا قوة الحق، هو، اليومَ كما في الأمس، ما يحكم به العالمَ أكثرُ حُكّامه؟. يعترفون بالوصية "لا تسرق"، ويعاقِبون مَن يسرقُ رغيفًا لإشباع أطفاله، أما كبار اللصوص، شركاتٍ وعصاباتٍ ومافيات، وأحيانا دولاً، صغيرةً أو كبيرة، الذين ينهبون شعوباً وبلداناً بأسرها، أرضاً ومياهاً ونفطاً ومناجمَ معادن... ويتركون أهلها يعانون الفقر والجهل والتخلف، فهؤلاء هم الذين حذّر يسوعُ من أمثالهم، لأنهم المتسلطون المستبدّون، يستعبدون الناس، ومع ذلك فكثيرون يزحفون أمامهم، ويسمّونهم المانحين المحسنين (لوقا 22: 24). – ويعترفون بالوصية "لا تقتل"، فالقتل جريمة، ويعاقِبون مرتكِبَها أو مُحاوِلَ ارتكابها. ولكن ماذا عن الذين يقتلون صيتَ وسمعة غيرهم، بالنميمة والافتراء، والقدحِ وشتى أنواع الكذب والبُهتان؟ هل القتل فقط بالسكين أو السمّ أو العصا؟ وماذا عن الذين لا تتلطخ أيديهم بالدماء، ولكنهم يُتقنون التخطيط للحروب، وتهجيرِ وتشريدِ شعوبٍ بأسرها، أو محقِها وإبادتها؟ إنهم يسرحون ويمرحون، ولا حسيب ولا رقيب، فيما مكانُهم الصحيح، هم قبل غيرهم، هو خلف قضبان السجون. الجرَس الذي يريدون إخراسَه، وصوتُ القبر الفارغ الذي يريدون إخمادَه، هو ذاك الذي قال قبل ألفَي سنة: "ليكن كلامكم: النَعَم نَعَم، واللا لا، وما زادَ على ذلك فهو من الشرّير" (متى 5: 37)، و"لا تستطيعون أن تعبدوا ربّين: الله والمال" (6: 24). فماذا عن الذين لا يعبدون إلا ربًّا واحدًا هو المال، يُفسدون به الضمائر، فيشترون ضميرَ العاملِ والتاجر والموظَّف (وإن كان كالحرَس على باب القبر)، والناخبِ والنائبِ والوزير، والصحفيّ وقناة التلفزة... فيجعلون النَعَم لا واللا نعَم، والأبيض أسود والأسود أبيض، والحق باطلاً والباطل حقًّا. وإن عُرِفَت الحقيقة وفُضِح الباطل، فهناك اليوم أيضًا من يتولّى بالرشوةِ إرضاءَ "الوالي"، وجعْلَ الخائفين مطمئنين. الصوت الذي يريدون إخراسَه اليوم هوذاك الذي قال قبل ألفي سنة، ولا يزال اليوم ينادي من باب قبره الفارغ: "سمعتم أنه قيل: عينٌ بعين، وسِنّ بسِنّ... وأحبِب قريبك وأبغِض عدوَّك. أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءَكم، بارِكوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم.." (متى 5: 38-48). ونحن، بعد زيارتنا لمعلول وما رأينا فيها، عُدنا ونحن نتساءل: ما كان ضرَّ في كل مدينة وقرية ما في معلول: كنائسُ تتآخى، جرسيّاتٌ ومآذنُ تتعانق؟ وماذا لو كان في كل كنيسة أو مسجد أو خلية أو كنيس، أيدٍ تمتدُّ للتلاقي، وأصواتٌ تأتلف في سيمفونيةٍ صادحة، تدعو إلى أخُوَّةٍ متكاملة في مواطنيّةٍ وإنسانيةٍ واحدة؟ وهل جميعُنا: المسيحيّ والمسلم، الدرزيّ واليهوديّ، البوذيّ والهندوسيّ، هل جميعنا إلا خَلق الله وعياله؟.