موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٨ مارس / آذار ٢٠١٣

الأبيض بعد الأسود

بقلم :
المطران بطرس المعلم

أكثر من 6000 آلاف صحفي و2870 إذاعة وفضائية في العالم، ونصف مليون من البشر في ساحة القديس بطرس وحولها، كلها تحاصر الفاتكان منذ أيام وخصوصًا منذ مساء الثلاثاء، والعيون مسمّرة على مدخنةِ السيستين. طبعًا لم يكن أحدٌ يتوقع أيَّ دخانٍ أبيض لذلك المساء، أي أن يكون أحد قد حصل على 77 صوتًا من أصل ال 115 من آباء الكونكلاف (أي ثلثي الأصوات المقتضاة) منذ الاقتراع الأول. وعليه فالدخان الأسود مساء الثلاثاء لم يفاجئ أحدًا، وكذلك ظهر الآربعاء، ولكن التوقع والتوتر بدأ يتصاعد. 6:30 مساءَ الأربعاء (بتوقيت رومة، أي 7:30 عندنا)، حطّت فجأةً على المدخنة لمدة دقيقتين حمامةٌ بيضاء هادئة وادعة، ثم استدارت على نفسها في الاتجاهات الأربعة، وطارت نحو البازيليك. هل كان يجري تحتها شيءٌ ما؟ هل كانت تحمل رسالة ما؟ ازدادت حماسةُ وهتافات الجماهير، ولكن سرعان ما بدأت تخفت إذ لم يظهر شيء، فهل سيتصاعد الدخان الأسود من جديد؟ وفجأة، 7:06 دفقاتٌ كثيفة متتالية من الدخان الأبيض، وبسرعة البرق تُقرَع أجراس البازيليك فأجراس كنائس رومة فالعالم. وتحت المطر المنهمر، تبدأ تظهر قطعاتٌ رمزية من الحرس البابوي (السويسري) لتأدية التحية الرسمية للبابا كرئيس دولة، ومن قوى الأمن الإيطالي يرافقها رئيس بلدية رومة، لتحية "أسقف رومة"، ومن الفِرَق الكشفية والموسيقية...كل ذلك ولا أحد يعلم بَعدُ مَن هو البابا المنتخَب وأين هو. في السيستين، وحالاً بعد فرزِ الأصوات والتأكد من حصول الثلثين، يتوجه عميد الكونكلاف إلى المنتخَب، فيسأله هل يقبل انتخابه كالخليفة المئتين والخامس والستين للرسول بطرس، وأيَّ اسم يختار لنفسه كبابا؟ صمتٌ وصلاة يغمران المنتخَب وجميع الكونكلاف. وإذ يجيب المنتخَب بالقبول ويعطي الاسم كبابا، يتقدم كرادلة الكونكلاف ال 114 فيقدّمون للبابا الجديد طاعتهم وتعاونهم. ويذهب هو إلى غرفةٍ مجاورة، حيث أعِدّت سلفًا الثيابُ الحبرية البيضاء بقياسٍ كبيرٍ وصغير ووسط، فيرتدي منها الأنسب له، ثم يتوجه في مسيرة "المئة خطوة" نحو شرفة البازيليك المغلقة. كل هذا يستغرق أكثر من ساعة، وحماسة الجماهير وتوترهم على تصاعدٍ متسارع. وفي هذه الأثناء يكون عميد الكرادلة "الشمامسة" (وهو الفرنسي توران) قد استعدّ لإعلان الانتخاب إلى الجماهير، فيسبق المنتخَبَ إلى الشرفة المغلقة. وفي الساعة 8:12 يُفتح بابها، ويطلّ الكردينال ليقرأ على مهل باللاتينية: إني أبشركم بفرحٍ عظيم: لدينا بابا...هو السيد الكردينال خورخيه (أي جورج) ماريو ببغوليو...الذي اتخذ لنفسه اسم فرنشيسكو (أي فرنسيس)...وتلتهب أيدي الجماهير بالتصفيق والحناجر بالهتافات والفرق الموسيقية بالصداح...ويعود الكردينال من حيث أطل، ويظهر مكانه موظفون يُنزِلون من الشرفة سجّادة خاصة يبسطونها مُدَلاّةً في الواجهة، إيذانًا بقربِ ظهور البابا الجديد. وإلى حين ظهوره يفيدك معلقو الإذاعات والفضائيات أن البابا الجديد هو رئيس أساقفة بوينس أيرس (الأرجنتين)، أصله إيطالي، عمره 76 سنة (مواليد 17/12/1936)، وهو أصلا من الرهبانية اليسوعية... وأخيرًا يطلّ قداسته من الشرفة مبتسمًا هادئا مطمئنًا، برغم تأثره الظاهر. وببساطة كاملة يحيّي الجماهير بكلمة مساء الخير . ثم يتابع : تعلمون أن واجب الكونكلاف هو انتخاب أسقف رومة. ويبدو أن إخوتي الكرادلة أرادوا أن يأتوا به من أقاصي الأرض.. أشكركم لهذا الاستقبال: هي أبرشية رومة تستقبل أسقفها. أود قبل كل شيء أن أصلّي مع أسقفنا الفخري بندكتس السادس عشر. نصلي كلنا معا لأجله، لكي يباركه الرب وتحميه العذراء...والآن لنبدأ هذه المسيرة: أسقف وشعبه، كنيسة رومة المتقدمة في المحبة. مسيرة ثقة. لنصلِّ كل واحد لأجل الآخرين، ولأجل العالم كله، ليكون الجميع إخوة... الآن أودّ أن أعطيكم البركة. ولكن قبل ذلك أودّ أن أطلب منكم أن تصلوا إلى الرب أن يبارك أسقفه. فلنقم بذلك بصمت (وأمام ذهول الجميع من أنه يطلب هو البركة قبل أن يمنحها، وينحني أمام الشعب). ويسود صمت مؤثر، ثم يتلو الصلاة الربية والسلام الملائكي والمجد، وبكل بساطة يمنح بركته الأولى "للمدينة (رومة) والعالم" Urbi et Orbi التي يشمل به جميع الحاضرين والمتابعين بسائر أنواع الميديا. كان قد استيقظ كردينالا، فإذا به يمسي بابا. ويبيت مع الكرادلة في دار ضيافة "القديسة مرتا"، ليفيق باكرًا صباح اليوم الخميس، فيذهب إلى "كنيسة مريم الكبرى"، ليضع حبريته وخدمته الجديدة كلها تحت حماية السيدة العذراء. يذهب "بلا طبل ولا زمر"، بدون حشَم ولا خدَم ولا طوابيرِ مواكَبة، بل يكتفي يسيارتين صغيرتين من سيارات الشرطة. يفاجئ في الكنيسة عمّالاً جاءوا لورشةِ إصلاحات، فراح يسلّم عليهم دون أن يعرفوه. وفي طريق العودة، عرّج على "بيت الإكليروس العالمي" (وهو مِلكٌ للفاتكان)،حيث كان قد نزل لدى وصوله من الأرجنتين قبل انتقاله إلى "القديسة مرتا" للكونكلاف. عرّج إذن على "البيت" ليأخذ أغراضه المتبقية هناك، ويدفع فاتورة إقامته كاملة رغم ممانعة القيّمين على "البيت"، فيطوف على الموظفين والخَدم، يحييّهم ويودعهم ويشكر لهم حسن خدمتهم. ومن "القديسة مرتا" يتصل بسلفه بندكتس في كاستيل غندولفو ليطمئن على صحته، وينقل إليه صلاته ومحبته، وصلاةَ ومحبة جميع الكرادلة، ويَعِدَه بأن يزوره في أقرب وقتٍ ممكن، كما شكره بندكتس وهنّأه، وجدّد ما كان قد وعد به سلفًا من احترام وطاعة للخلف الآتي. وفي المساء عاد إلى السيستين ليقيم مع "مجمع الكرادلة" قداس ختام الكونكلاف، ويلقي أول عظة له مقتضبة مرتجلة غير مكتوبة، نابضة بالحياة والمحبة. من المبكر جدا أن نعلق على شخصية البابا الجديد، إلا أننا، تلبية لطلب كثيرين، اكتفينا بإعطاء وصف موجز لبعض مراحل الانتخاب، مما هو شبهُ مجهولٍ تمامًا لدى أغلبية قرائنا. ولكن تحضرنا هنا مقارَبةٌ طريفة أردنا استطرادًا أن نشرك بها القارئ. فعلى أبواب الفاتكان تقوم قلعةٌ أو، إن شئتَ، فاتكانٌ آخر، هو مركز الرئاسة العامة للرهبانية اليسوعية، التي إليها ينتمي البابا الجديد فرنسيس، والتي أسسها القديس إغناطيوس دي لويولا (1491-1556). ومن الغريب في قوانين هذه الرهبانية أن رئيسها العام (وكثيرًا ما يسمّونه "البابا الأسود") يُنتخَب هو أيضًا لمدى الحياة، فلا يستقيل ولا يقال. وفي أواخر القرن الماضي، قُدِّمت، وأكثر من مرة، طلباتٌ بتغيير هذا القانون، فكان البابوات عمومًا يمانعون، احترامًا لنية واضعي القانون. وحدث أن انتُخِب (لا أذكر بالضبط متى) كرئيسٍ عام للرهبانية رئيسُ ديرها في بيروت، صديقنا الأب كولفنباخ. وكنا إذا مررنا أحيانا برومة، يدعونا إلى الغداء عنده، ونتبادل الرأي في موضوع الاستقالة. وبعد مدة أعيد طلب تغيير القانون، فتريّث يوحنا بولس الثاني للبت في الموضوع بعد عشر سنين، وبعدها لكل حادث حديث!!! ولكن لما جاء البابا بندكتس جُدِّد إليه الطلب، فجاء الجواب بالإيجاب منذ السنة الأولى لحبريته، وقُبِلت استقالة الأب كولفنباخ، وعاد إلى بيروت حلم حياته. فهل كان لكلا البابوين الأبيض والأسود الرأي والرؤية نفسها منذ ذلك الحين؟ مع ذكرنا العطر وشكرنا العميق للبابا الجليل السابق بندكتس، تهانينا البنوية الخالصة لقداسة البابا الجديد، مع أحرّ صلوات الكنيسة: أذكر يارب أولاً أبانا فرنسيس بابا رومة الطوباوي، وأنعِم على كنائسك المقدسة أن يكون في سلام، صحيحًا، مكرَّمًا، معافًى، مديد الأيام، مُفَصِّلاً بإحكامٍ كلمةَ حقك.