موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
قلنا في حديثٍ سابق إن البابا لا يستقيل عموما، وإنْ حدثَ ذلك أحيانًا ففي النادر النادر، ولأسبابٍ استثنائية، كان آخرها قبل حوالي ست مئة سنة، وبَيَّنَّا في حديثنا ذاك أسبابَ عدم الاستقالة. فلِمَ إذَن يستقيل اليوم بندكتسُ السادس عشر ؟ في كلمته إلى الكرادلة في مجمعهم الخاص بتاريخ 11 شباط الجاري ، فاجأهم قداستُه بالقول: "بعد مراجعة ضميري تكرارًا أمام الله، توصلتُ إلى القناعة بأني لم أعُدْ قادرًا على ممارسة خدمتي على كرسي بطرس بسبب تقدمي في السنّ...ولا بدّ لمن يدبّر سفينة بطرس في الظروف العالمية الراهنة أن يتمتع بالقوة الجسدية والعقلية اللازمة". كلام البابا مقتضَب وصريح وواضح: إنه يستقيل "بسبب التقدم في السنّ". ومع ذلك، فالتعليقات عليه، في الفاتيكان والعالم ومختلف وسائل الإعلام، لا تكتفي بذلك، بل تحاول أن تستبطن في تصريح قداسته أمورًا أخرى لم يقلها. صحيح أن قداسته بلغ السادسة والثمانين ولم يعُدْ شابا، وصحيح أنه أصبح يتوكأ على العصا، وصحيح أنهم جعلوا له عربة خاصة يجرّها بعض مرافقيه حتى داخل كنيسة القديس بطرس من الباب إلى الهيكل، ولكنه، مع ذلك، لا يزال يترأس احتفالات تدوم لا أقل من ثلاث ساعات، ويخاطب الجماهير بمختلف لغاتهم في صفاءِ ذهن كامل. فالمشكلة إذَن ليست في السنّ، أو على الأصحّ ليست كلها فقط في السنّ. قداسته يبدأ كلامه بالقول: "بعد مراجعة ضميري تكراراً أمام الله...". هي إذَن مسألة ضمير مزمنة، ولم تكن وليدة ساعةٍ متسرعة. في ندوة مع صحفيين عام 2009، تناولت عددًا من أهم المواضيع العالمية آنذاك، فاجأهم البابا بالسؤال: ماذا تظنون، إذا شعر بابا أن وضعه الصحي لا يمكّنه من القيام بوظيفته كما يجب، هل بإمكانه أو من واجبه أن يستقيل؟ لم يجبه أحد بشيء، لأن السؤال كان مفاجئًا ويبدو افتراضيّا لا يُطرَح في الواقع. ولكن البابا أجاب ببساطة واقتضاب، وبدون أيّ تعليق: طبعًا نعم. هل كان عنده منذ ذلك الحين مشكلةٌ صحيّة؟ ليس لدى عارفيه والقريبين منه أيّ إشارة إلى ذلك. فهل كان هناك أيّ هاجسٍ ضميريّ؟ جوزف راتسينغر سيبقى أحد كبار الفلاسفة في القرن العشرين، إن لم نقُل أكبرهم على الإطلاق. وقد استقطب انتباهَه ودراساتِه وأبحاثَه العلمية كلها مشكلةُ التوفيق بين العقل والإيمان في أمور الدين. وهذا الاختصاص هو خصوصًا ما قرّبه إلى الكأردينال فرينغس رئيس أساقفة ميونيخ، كمستشار له لاهوتي أثناء المجمع الفاتكاني الثاني، مما لفت إليه في ما بعد أنظار البابا بولس السادس، فعيّنه في أيار 1977 خلفًا لفرينغس، وبعد شهرٍ فقط عاد فرقّاه كردينالا. لم تكن الألقاب والمناصب هي التي تشغل بال راتسينغر، بل متابعة أبحاثه الفلسفية واللاهوتية حول موضوع العقل والإيمان، وكأن عناية إلهية كانت ترافق مسيرته. فما هي إلا فترة قصيرة بعد انتخاب يوحنا بولس الثاني (1978) حتى عيّنه البابا الجديد عميدًا لمجمع العقيدة والإيمان في رومة (1981)، ثم ما لبث أن انتقل نهائيًّا إلى رومة (1983)، حيث أُسنِدَت إليه مسؤولياتٌ كثيرة أخرى، فجعلته من أقرب المقرَّبين إلى البابا يوحنا بولس الثاني لأكثر من عشرين سنة. هل كان ذلك هو الإعداد الربّاني لراتسينغر ليزداد معرفةً بالبابا وبالفاتيكان، ويصبح لاحقًا هو البابا خليفة يوحنا بولس وخليفة الرسول بطرس على كرسيه في رومة؟ أسلاف يوحنا بولس الثاني لم يكونوا يغادرون الفاتيكان على مدى عقود طويلة (باستثناء بولس السادس لثلاث مرات فقط إلى القدس والقسطنطينية وهيئة الأمم في جنيف). أما هو فطاف العالمَ كله في أكثر من مئة جولة عالمية، بالإضافة إلى عشرات الجولات الراعوية في أبرشيات إيطاليا، فعرف عن كثب همومَ ومشاكل الدنيا، فنقلها جميعا إلى الفاتكان، كَمًّا هائلا من الآلام والتساؤلات الجديدة، توضع كلها على المشرحة للتشخيص والمعالجة. تم ارتحل بعد حبرية مديدة (1978-2005)، تاركًا لخَلَفه هذا الإرث الثقيل من المسؤوليات، الذي ما عرفت الكنيسة له مثيلا من قبل، لا في الكمّ ولا في النوعية ولا في الحجم. أليس إلى هذه "الظروف العالمية الراهنة" يشير البابا بندكتس في أسباب استقالته، حين يقول إن التصدي لها يقتضي ممّن يدبّر سفينة بطرس أن يكون له من القوة الجسدية والعقلية ما أصبح هو يشعر أنه يفتقر إليه؟ لقد أدرك يندكتس منذ اليوم الأول لانتخابه (19 نيسان 2005) ثقل المسؤولية الملقاة عليه، فطلب من المؤمنين أن يصلّوا لأجله، ليكون حقا الراعي الصالح "فلا يهرب من الذئاب" (راجع يوحنا 10: 1-18). الذئاب هي كل ما كان سلفه قد اكتشف، داخل الكنيسة وفي العالم، من مَكامنَ تتهدّد القطيع، فعليه هو أن يفضحها ويتصدى لها. والعجالة هنا لا تتسع طبعًا لتعدادها. وحسبنا الإشارة إلى بعض ما عالج في داخل الكنيسة، كتنظيم الإدارات المالية والقانونية والليترجية وغيرها، ونقص الدعوات الكهنوتية والرهبانية، وعزوبة الكهنة، والانقسامات في الكنيسة، وتزايد الاضطهاد على المسيحيين، وتراجع نسبة عددهم في العالم بالمقارنة مع المدّ الكاسح لغيرهم من أصوليين وغير مؤمنين ولااكتراثيين...أما على الصعيد العالمي فقضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فردَا وجماعات، طفلا وامرأة، عاملا ومريضًا، مهمّشًا ومستضعَفًا (تحديد النسل، الإجهاض، "الموت الرحيم"، الأيدز، البيدوفيليا، التحرش، المثلية الجنسية...)، والحروب، واستعباد الشعوب بالمضاربات المالية والعسكرية، والبيئة، ووو.... كل ذلك وكثير غيره، كان على الراعي الصالح أن يتصدى له دفاعا عن القطيع. وقد قام به بندكتس على مدى حبريته (2005-2013) بجرأةٍ وشجاعة وحزمٍ وحكمة نادرة (وليس هنا مكان تفصيلها)، طالما سمحت له قواه الجسدية والعقلية بذلك. أما اليوم، يقول بندكتس، "فقد قرّرتُ التخلي عن الخدمة التي أوكلها إليّ الرب، وفعلتُ ذلك بحريةٍ تامة من أجل خير الكنيسة، مع إدراكي خطورة هذا العمل، ولكن مع إدراكي أيضا أني لم أعُدْ قادرًا على القيام بخدمتي البطرسية بالدفع اللازم الذي تقتضيه هذه الخدمة، تدعمني وتنيرني الثقة بأن الكنيسة هي من المسيح، الذي سيواصل قيادتها والعناية بها". في حبريته كان البابا بندكتسُ الراعيَ الصالح الساهرَ على القطيع، ولكنه ظلّ أيضًا راتسينغر الفيلسوفَ واللاهوتي، الباحث عن الحقيقة، والمتمسك بها بوصلةً وحيدةً وثيقة للنظر السليم في جوهر الأمور، وحسن تشخيصها ومعالجتها. وملخصُ الاستنتاج الذي وصل إليه، نتيجةَ التأمل والتفكير العميق الطويل، والخبرة الجامعية والراعوية الثريّة، هي أن الابتعاد عن الله والاستغناء عنه، وفقدان المبادئ الأخلاقية القويمة التي يقرّها العقل، هي المشكلة الأساسية الرهيبة التي يواجهها العالم اليوم، ولا خلاص من دمار الإنسانية الداهم إلا بالعودة إلى الدين والعقل معًا، والتوفيق بينهما مرجعين متكاملين لخير البشرية، إنْ فُقِد أحدهما أو اختلّ التوازن بينهما، كان في ذلك زوالها. عاش راتسينغر وعمل حياته كلها وفق هذه النظرة طالما ساعدته قواه على ذلك، واليوم ينزل الفارس عن الصهوة، ليترك العمل لغيره ممن له القوى اللازمة لذلك. ولكنه لا ليترك النضال، بل يواصله عن طريق الصلاة والصوم والـتأمل، فرسالة الكنيسة تتمّ بأمرين خصوصًا هما شعار الراهب على الأخص: العمل والصلاة (ora et labora. فإنْ كبا الجسد عن العمل لأنه ضعيف، فالروح يقِظٌ ساهرٌعلى استعداد (يو 26: 41).