موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٣

وَأَعفِنَا مِنْ خَطايانَا، فَإنَّنا نُعفي نحنُ أيضًا كُلَّ مَنْ لَنَا عَليه

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿وَأَعفِنَا مِنْ خَطايانَا، فَإنَّنا نُعفي نحنُ أيضًا كُلَّ مَنْ لَنَا عَليه﴾ (لوقا 4:11)

﴿وَأَعفِنَا مِنْ خَطايانَا، فَإنَّنا نُعفي نحنُ أيضًا كُلَّ مَنْ لَنَا عَليه﴾ (لوقا 4:11)

 

عظة الأحد الرّابع والعشرين من زمن السّنة - أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحِبَّاء في الْمَسيحِ يسوع. يَعودُ القِدّيسُ بُطرس لِيَتَصَدّرَ واجِهةَ الْمَشهَدَ في إنجيلِ هَذا الأحَد. نَرَاهُ يُدنو مِنْ يسوع، يُخاطِبُهُ قائِلًا: ﴿كَمْ مرَّةً يُخطِأُ إليَّ أَخي واَغفِرَ لَهُ؟ أَسَبعَ مَرَّات؟﴾ (متّى 21:18). هَذا بالْمناسَبةِ عَددٌ جَيِّدٌ مِنَ الغُفرانَات، فَالبَعضُ لا يَغفِر حَتّى مِنَ الْمَرّةِ الأولَى للخَطَأ.

 

وبِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤال، لا بُدَّ أنّ بُطرسَ قَدْ تَعَرَّضَ لإسَاءَةٍ مِنْ أَحدِ الأخوَة، فَلَجَأَ إلى يسوعَ بِصِفَتِهِ الْمُعَلِّم، لِيَسمعَ مِنهُ الجَواب. وفي الوَقتِ الّذي كانَ فيهِ بُطرسُ يَنتَظرُ عَدَدًا مُحدَّدًا، تَنتَهي مَعَهُ فُرَصُ الْمَغفِرَة، استِنَادًا عَلَى مَنطقٍ بَشريّ، يَأتيهِ جَوابُ يَسوع، ذُو الحِكمَةِ وَالْمَنطِقِ الإلهيّ، حَيثُ لا يَربطُ الْمَغفِرةَ بمرَّات، إنَّمَا يُدَلِّلُ عَلَى أَنَّ الغُفرانَ هِبَةٌ مُتَاحَةٌ دَومًا، لا تُحجَّم ولا تُقيَّد، لِكُلِّ إنسانٍ جَاءَ يقصِدُ التّوبَةَ والعَفو.

 

وقَدْ جَعلَ يسوعُ مِنَ الْمَغفرةِ الْمُتَبَادَلةِ بَينَ النّاس، شَرطًا للحُصولِ عَلَى مَغفرِةِ الله، كَمَا عَلّمَنَا في الصَّلاةِ الرّبيّة، أنْ نُصَلّي قَائِلين: ﴿وَأَعفِنَا مِنْ خَطايانَا، فَإنَّنا نُعفي نحنُ أيضًا كُلَّ مَنْ لَنَا عَليه﴾ (لوقا 4:11). فَإذا كُنَّا نَطلُبُ منَ اللهِ كُلَّ يوم، أنْ يَغفِرَ لَنَا وَيَعفو عَنَّا، فَلِمَاذا نبخَلُ نحنُ بالغُفرانِ لِمَنْ خَطِئَ إلَينَا؟ هَلْ لأنَّ اللهَ صَاحِبُ القُدرَةِ الْمُطلَقَة، فلذلِكَ نخشَاهُ ونخافُ جَزَاءَهُ، وبِسَببِ الخَوفِ نطلُبُ الغُفرَان؟! بَينَمَا الآخرُ الْمُخطِئ، فَإنَّنَا عَادةً لا نَمنحُهُ العَفوَ بِسهولَة، وقدْ لا نَعفو عنهُ أبدًا، بلْ نَسعَى للاقتصاصِ والانتِقامِ منه، تمامًا كَمَا حَدَثَ في مَثلِ هَذا الأحد.

 

فالعَبدُ خَافَ عِقابَ مَولاه، فَأخَذَ يَتَوسَّلُ إليهِ ويرجوه العَفو. ولَكِنَّه بَدلًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ بالْمِثل، أَمسَكَ بِعُنُقِ أَخيه، رَافِضًا أنْ يغفِرَ لَه! وهَذهِ هيَ قِمُّةُ الجُحودِ وَالنَّذَالَة. أنْ تَطلُبَ مِنَ اللهِ شَيئًا وتحصُلَ عَليه، وَتَرفضُ أَنْ تُعطيهِ لِغَيرك وهوَ عِندَك، عِندَمَا يَطلُبُهُ مِنك! أَنْ تَتَوسَّلَ إلى الله، أو إلى مَنْ أَسَأتَ إليه، بأَنْ يَغفِرَ لَكَ زلَّتَك، وأنت تحجِمُ عَنِ الْمَغفرةِ لِمَنْ أَسَاءَ إلَيك.

 

لِمَاذا تَنتفِضُ فَينَا مَشاعِرُ التَّذلُّلِ والتَّوسُّلِ عِندَمَا نُسيء، وتَصحو فينَا مَشاعِرُ الكِبرياءِ عِندَمَا يُسَاءُ إلينَا؟! لِأنَّنَا بِبَساطَةٍ نَطلبُ الْمَغفِرةَ بِدافعٍ منَ الخَوفِ، لا بدافعٍ مِنَ الْمَحبَّة. فَلو كُنَّا نُحبُّ اللهَ فِعلًا، لاسْتَطعنَا أنْ نَعفُوَ عَمَّن أَساءَ إلينا. ولكِنّنَا نَسعَى بِكُلِّ السُّبُلِ لإذلالِ الطَّرفِ الْمُسيء، وتمريغِ كَرَامتِه بالأرض، إلى أنْ تَرتَوي فينَا مَشَاعِرُ الكِبرياءِ والحِقدِ والانتِقام.

 

في الوقتِ عينِه، الْمغفرةُ لا يجبُ أن تَكونَ سَذاجَةً أو ضُعفًا. فَهناكَ مَواقِف يجبُ فيها أن يُرفِعَ الظُّلمُ، ويُوضَعَ حَدٌّ للظّالِمين، وتُردَّ الحُقوقُ لأصحَابِها. فَهَذا العَبدُ نالَ جَزاءَ ظُلمِهِ لأخيه، وعَدمِ منحِهِ الرّحمةَ كَمَا حَصلَ هوَ عَليها. فَطلبُ الْمَغفرةِ مِنْ جِهةٍ، ومَنحُها منَ الجهةِ الأخرَى، يجبُ أنْ يَرتبِطَ بانْتِهَاءِ الظُّلمِ والتَّعَسُّف! ولَنَا في زكّا العَشّار (لوقا 1:19-10)، أَسمى مِثَالٍ عَلَى ذلك. فزكّا نَالَ رحمَةَ الْمسيح، عندَما تَخلّى عَنْ ظُلمِهِ ونهبِه للنّاس: ﴿فَوَقَفَ زكّا فَقَال للرّب: يا رب، إذا كُنتُ قَدْ ظَلَمتُ أَحَدًا شيئًا، أَرُدُّه عَليه أَربعةَ أَضعَاف. فَقَالَ يَسوعُ فيه: اليومَ حَصلَ الخلاصُ لهذَا البَيت، فَهو أَيضًا اِبنُ إبراهيم﴾ (لو 8:19-9). ومِنْ هُنَا، قَبلَ أَن تَطلُبَ رَحمةَ اللهِ عَليك، اِفْحصْ ضَميرَكَ جَيّدًا، لِتَرى إنْ كُنتَ قَدْ ظَلَمتَ أو تجبّرتَ أو قَسيتَ أو هَضَمتَ ونهبت؟! فَإنْ كُنتَ يا ظالمُ تَنَام، فاللهُ لا يَنامُ عَن صُراخِ الْمُظلومين!

 

دعونَا نَقرأُ مِنْ جَديدٍ سَؤالَ بُطرس: ﴿كَمْ مرَّةً يُخطِأُ إليَّ أَخي واَغفِرَ لَهُ؟﴾. هَذا السّؤالُ "البُطرسيّ" مُبْهَمْ بَعضَ الشّيء! فبُطرسُ لَم يَقُلْ: "كَمْ مرَّةً يُخطِأُ إليَّ أَخي، ويَأتيني تَائِبًا، واَغفِرَ لَهُ؟". ربّما تَغفِرُ لإنسانٍ أَساءَ إليك، إذَا أَتاكَ تائِبًا، يَسألُك العَفوَ ويَستَميحُ الْمعذِرة. ولكن، كيفَ يكونُ الأمر، في حَالَةِ مَنْ يُخطِأُ ولا يَعتَذِر، مَنْ يُسيءُ ولا يَتوب، من يُذنِب ولا يُقرُّ بذنبِهِ ويَندَم؟ هَلْ سَتَغفر في هذهِ الحالَة؟! الإجابَةُ يَا أَحِبَّة تَتَبَاينُ بَينَ شَخصٍ وآخر، والْمَواقِفُ عَلَى هَكَذا حَالات كَثيرَة. وأحيانًا قَدْ تصطدِمُ بمواقف يُسَاءُ فيها إلَيك، وتجِدُ الطّرفَ الْمُسيء ينتظِرُ منكَ أن تَذهبَ أنتَ إليه مُلْتَمِسًا الْمغفِرَة.

 

وهنا، إنْ كُنتُ أنا سَأغفِرُ وأتجاوزُ عنِ الإسَاءَة، فَذلِكَ لِكَي لا أفقِدَ سَلامي الدَّاخلي. أَمَّا هوَ فَصَلّي لأجلِه، عَلّهُ يَصحو ويَتوب، قَبلَ فواتِ الأوَان، ومُلاقاةِ جَزاءَ الدّيانِ العادِل.