موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥

مَثلُ الوَكِيل الخَائِن والمَالِ الحَرام

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الخَامِس والعِشُرون: مَثلُ الوَكِيل الخَائِن والمَالِ الحَرام (لوقا 16: 1-13)

الأحَد الخَامِس والعِشُرون: مَثلُ الوَكِيل الخَائِن والمَالِ الحَرام (لوقا 16: 1-13)

 

النص الإنجيلي (لوقا 16: 1-13)

 

1 وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: ((كانَ رَجُلٌ غَنِيّ وكانَ لَه وَكيل فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه . 2 فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. 3 فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَة مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. 4 قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم. 5 فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي ؟ 6 قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. 7 ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين. 8 فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. 9 ((وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة. 10 مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. 11 فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم ؟ 12 وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ 13 ((ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال)).

 

 

المُقَدِّمَة

 

يَتَناوَلُ إنجيلُ هذا الأحد (لوقا 16: 1-13) مَثَلَ الوَكيلِ الخائِن الّذي ضربَه يسوعُ لِتلاميذِه مُعَلِّمًا إيّاهُم الوَكالَةَ في استخدامِ المال، لأنَّ كُلَّ ما يُعطيهِ اللهُ للإنسانِ إنّما هو وِكالَةٌ مَوكولَةٌ إليه. فالمؤمِنُ ليس مالِكًا مُطلَقًا، بل وَكيلٌ على عَطايا الله: مِن مالٍ ووقتٍ وصِحَّةٍ ومَواهِبَ أُخرَى. وكُلُّ واحدٍ منَّا أُوكِلَ إليه ما يُميِّزُه من مَواهِبَ وعَطايا. وكثيرًا ما يَمرُّ في ساعاتٍ تَفرِضُ عليه أن يَتَحلّى بِالفِطنةِ والحِكمَةِ واتِّخاذِ القرارِ الصّائب.

 

ولَم يَذكُرِ الأناجيلُ هذا المثلَ إلّا إنجيلُ لوقا، وغايَتُه إظهارُ حِكمَةِ الاستِعدادِ لمُستَقبَلِ الإنسان، أي أن يَتَّخِذَ الخَيراتِ الزَّمنيَّةَ وسيلةً إلى السَّعادَةِ الأبدِيَّة. ولذلك، يُمكِن القولُ إنَّ هذا المَثَلَ يَمسُّ صَميمَ حياتِنا اليوم، حيثُ يَعيشُ الإنسانُ مُنغَمِسًا في المراوَغَةِ والغِشِّ والفَسادِ والخِيانَة. وهُنا يُرِيدُ يسوعُ أن يُعلِّمَنا أَن نُدَبِّرَ أمورَنا بِأمانَةٍ وحِكمَةٍ، لا أن نُبَذِّرَها بِخِيانَةٍ وفَساد. ومِن هذا المُنطَلَق تَكمنُ أهمِّيَّةُ التوقّفِ عِندَ وَقائِعِ النَّصِّ الإنجيلي وتَطبيقاتِه في حياتِنا الرُّوحيَّة واليَوميَّة.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 16: 1-13)

 

1 وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: كانَ رَجُلٌ غَنِيّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه"

 

وَقالَ أَيضاً" تُشِيرُ هذِهِ العِبارَةُ إِلى الاسْتِمراريَّةِ، لِأمثالِ الرَّحمَةِ: مَثَلُ الخَروفِ الضّالِّ (لوقا 15: 3-7)، مَثَلُ الدِّرهَمِ المَفقودِ (لوقا 15: 8-10)، وَمَثَلُ الابنِ الضّالِّ أَوِ الأَبِ الرَّحيمِ (لوقا 15: 11-32). الاسْتِمراريَّةُ هُنا تَظهَرُ بَينَ رَحمَةِ اللهِ المَجّانِيَّةِ مِن جِهَةٍ، وَمَسؤُولِيَّةِ الإِنسانِ الحَكيمَةِ في تَجاوُبِهِ مَعَها مِن جِهَةٍ أُخرَى. وَمِن هُنا يُؤَكِّدُ أَنَّ يَسوعَ لَم يُغَيِّرِ المَوضوعَ، بَل يُواصِلُ تَعليمَهُ مِن مَنظُورٍ آخَر: فَبعْدَ أَن كَشَفَ رَحمَةَ الآبِ تُجاهَ الخُطاةِ، يَنتَقِلُ إِلى الحَديثِ عَن حِكمَةِ الإِنسانِ في التَّعامُلِ مَعَ خَيراتِ هذَا العالَمِ (مَثَلُ وَكيلِ الظُّلمِ في لوقا 16: 1-8)، بِحَيثُ يَستَعمِلُها بِطَريقَةٍ تُؤَدِّي بِهِ إِلى حَياةٍ أَبَ.

 

"لِتَلاميذِه": تُشِيرُ هذه العِبارَةُ إلى جَميعِ المؤمنينَ بالمسيح، لا إلى الاثنَي عَشَر فقط. وكانَ بَعضُ أولئكَ التَّلاميذِ مِنَ العَشّارينَ والخُطاة، ما يُظهِرُ شُموليَّةَ دعوَةِ يسوعَ للجَميع، حتّى لِمن كانَت حياتُه بعيدةً عن النَّاموس.

 

"رَجُلٌ غَنِيّ": تُشيرُ إلى إنسانٍ كَثُر مالُهُ وصارَ ثَريًّا، حتّى ملكَ ما يَفيضُ عن حاجتِه.  ولَم يُدَبِّر هذا الغَنِيّ أموالَهُ بِنَفسِه، بل سَلَّمَها إلى وَكيلٍ يَعتني بها ويَجمَعُ لهُ محاصيلَها. وهُو يَرمُزُ هنا إلى اللهِ صَاحِبِ كُلِّ المَواهِب، الَّذي يَهبُ كُلَّ إنسانٍ ما يَحتاجُهُ مِن عَطايا، كما قالَ بُطرُسُ الرَّسول: "لْيَخْدُمْ بَعضُكم بَعضًا، كُلُّ واحِدٍ بِما نالَ مِنَ المَوهِبَة، كما يَحسُنُ بِالوُكَلاءِ الصَّالِحينَ على نِعمَةِ اللهِ المُتَنَوِّعَة" (1 بطرس 4: 10). فاللهُ سيَطلُبُ مِن كُلٍّ مِنَّا حِسابًا عَن كُلِّ ما أَودَعَهُ لدَينا.

 

"وَكيل" في الأصلِ اليونانيّ οἰκονόμος، وهو لَفظٌ يَنفَرِدُ بِهِ لوقا الإنجيليّ، ويُقصَدُ بهِ مُديرُ الأعمال الَّذي كانَ يَتولّى إدارةَ أملاكِ الرَّجُل الغَنِيّ والإشرافَ الكامِل عليها. ولِذلِك كانَ يُعتَبَرُ الشَّخصَ الثّاني بَعدَ سَيِّدِه، ولهُ شأنٌ عَظيم في القَرن الأوَّل. وقد أَشار بولسُ الرَّسولُ إلى هذا البُعدِ الرُّوحيّ قائلاً: "فَلْيَعُدَّنا النَّاسُ خَدَمًا لِلمسيح، ووُكَلاءَ أَسرارِ الله. وما يُطلَبُ آخِرَ الأَمرِ مِنَ الوُكَلاءِ أَن يَكونَ كُلٌّ مِنهُم أَمينًا" (1 قورنتس 4: 1-2). وكانَت هذه الوظيفةُ تُمكِّنُ الوَكيلَ مِن التَّصرُّفِ بِحُرِّيَّةٍ، الأمرُ الَّذي جَعَلَهُ أحيانًا مَعرَّضًا لِلخِيانَةِ والاختِلاس.

 

"فَشُكِيَ إِلَيه": تُشيرُ إلى وِشايَةٍ حَقَّة، إذ كُشِفَ غِشُّ الوَكيل وتلاعُبُهُ بأموالِ سَيِّدِه لمَصلَحتِه الخاصَّة.  ولَم يُنكِرِ الوَكيلُ تلكَ التُّهمَة، بل إنَّ تَصرُّفَهُ اللاحِق أَثبَتَ أنَّهُ غَيرُ أَمين، فصَدَقَ المثلُ الشَّعبيّ القائل: "حاميها حراميها".

 

"يُبَذِّرُ أَموالَه": في الأصل اليوناني  διασκορπίζωνتُشيرُ إلى خِيانَةِ الوَكيلِ الَّذي أساءَ التَّصرُّف في مالِ سَيِّدِه، فبَدَّدهُ على لذّاتِه عِوَضَ أن يَصونَهُ لمَنفَعَةِ مَولاه. وهو التَّعبيرُ عَينُه الَّذي استُخدِمَ في مثلِ الاِبنِ الضّال: "بَدَّدَ مالَهُ هُناكَ في عَيشَةِ إِسراف" (لوقا 15: 13). قَد أَعلَنَ عاموسُ النبيّ على لِسانِ اللهِ حُكمَه على الفاسِدين: "لا أَنْسى عَمَلاً مِن أَعمالِهِم لِلأبَد" (عاموس 8: 8). فالعِقابُ الإلهيّ حَتميٌّ لِكُلِّ مَن يَتَعامَلُ بِضَميرٍ فاسِدٍ ويُضيِّعُ أمانَةَ الوَكالَة.

 

2 فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً

 

"ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ؟":  لا تُشيرُ هذه العِبارَةُ إلى استفهامٍ غايَتُهُ التَّحقُّقُ مِن صِحَّةِ الوِشايَة، بل إلى تَعجُّبٍ وتَوبِيخٍ مِن أمرٍ واقِعٍ لا يَستطيعُ الوَكيلُ إنكارَه.  إنَّهُ مُطالَبٌ بالمسؤوليَّة، ومُعرَّضٌ لِلعِقاب.  وهكذا يَلمِّحُ يسوعُ إلى ما سيكونُ علَيهِ الحالُ عِندَ مَجيئِه كديّانٍ عادل، حيثُ لا مَفرَّ مِن مواجهةِ الحقّ.

 

"أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ": تُشيرُ إلى طَلبِ صاحِبِ العملِ مِن وَكيلِه أن يُصَفِّيَ حِساباتِه كُلَّها. وهُنا يَتَّضِحُ أنَّ الخِيانَةَ لا تُفيدُ الإنسان، لأنَّها لا بُدَّ أن تنكَشِف، فيخسَرُ الخائِنُ مركزَهُ وصِيتَه. وهذا يُرمِزُ إلى ما سَنَسمَعُهُ يَومَ الدَّينونَة، كما قالَ الرَّسولُ: "ما مِن خَلقٍ يَخْفى علَيه، بل كُلُّ شيَءٍ عارٍ مَكشوفٌ لِعَينَيه، ولَهُ يَجِبُ علَينا أن نُؤدِّيَ الحِساب" (عبرانيين 4: 13).

 

"لا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً": تُشيرُ هذه العبارة إلى أنَّ الرَّجُلَ الغَنِيّ الذي أرادَ أن يَستغنيَ عَن وَكيلِه، فحَكَمَ عَلَيه بِفَصلِه نِهائيًّا مِن وَظيفتِه.  لكنه لم يُهاجِمْهُ أو يُطالِبْهُ بِتَسويَةِ الدُّيونِ فَورًا، بل أَعطاهُ بَعضَ الوَقت، لِكَي يُصلِحَ الأَمرَ بطريقةٍ أو بأُخرى. وهكذا صارَ الوَكيلُ تَحتَ الحُكم، ولا بُدَّ لَهُ أن يُواجِهَ الحَقيقَة ويُؤدِّيَ الحِسابَ عَن أَعمالِه. وهذا يُؤكِّدُ أنَّ الخِيانَةَ لا تَدومُ، وأنَّ كُلَّ ما يُخفَى لا بُدَّ أن يَنفضِح، كما صَرَّحَ يسوع: "ما مِن خَفِيٍّ إِلّا سَيُظهَر، ولا مِن مَكتومٍ إِلّا سَيُعلَن" (متى 10: 26).

 

3 فقالَ الوَكيل في نَفْسِه: ماذا أَعمَل؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَة مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء

 

"فَقالَ الوَكيلُ في نَفسِه": تُشيرُ هذه العِبارَةُ إلى حديثِ الإنسانِ مَعَ نَفسِه، حيثُ يُعَبِّرُ عَن فِكرِه بكَلامٍ داخِليّ. وهُو أسلوبٌ يتردَّدُ في أمثالِ لوقا الإنجيليّ (15: 17-19؛ 16: 3؛ 18: 4؛ 20: 13)، كما نجِدهُ أيضًا في إنجيلِ متّى (21: 38؛ 24: 48). إنَّهُ نوعٌ مِن المُصارَحَةِ الذّاتِيَّة الَّتي تكشِفُ عن الحِوارِ الباطِنِيّ عند اتِّخاذِ قرارٍ مَصيريّ.

"ماذا أَعمَل؟": تُشيرُ إلى صَحوَةِ الوَكيلِ مِن غَفلَتِه، إذِ التَجَأَ إلى ذاتِه لِيُقَرِّرَ ما يَفعل. وهُو اعترافٌ داخليٌّ بحَرَجِ موقفِه وصُعوبَةِ مأزِقِه، فبَدأ يُفَكِّرُ مَلِيًّا في خُطَّةٍ تُمكِّنُهُ مِن التَّخلُّصِ مِن وَضعِه البائِس. ولَم يُهَيمِن على تفكيرِه سِوى هَاجِسٌ واحِد: تأمينُ مُستَقبَلِه. ومِن هُنا صارَ مَثَلاً لأَبناءِ النُّور، إذ إنَّهُ لا شيء أضرُّ بالإنسانِ مِن عَمَلٍ يَخلو مِن رَويَّةٍ وبَصيرَة.

 

"سَيِّدي": تُشيرُ إلى الرَّجُلِ الغَنِيِّ المذكورِ في الآيةِ الأولى (لوقا 16: 1). وفي البُعدِ الرُّوحيّ يَرمُزُ هذا الغَنِيّ إلى الرَّبِّ يسوعَ المسيح، واهِبِ الحياةِ وكَنزِ الصّالِحاتِ والعَطايا. فهو المالِكُ الحقيقيّ كُلَّ شيء، والإنسانُ ليسَ إلّا وَكيلًا على ما بين يديه.

 

"أَنا لا أَقوَى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء": تُظهِرُ هذه العِبارَةُ عَجزَ الوَكيلِ عن التَّحوُّلِ إلى عَملٍ بَسيطٍ كالفِلاحةِ، بَعدَ أن كانَ يَنعَمُ بِعِزٍّ وسُلطانٍ كـ"المدير الثّاني" بَعدَ سَيِّدِه.  وأنَّهُ أيضًا يَستَنكِفُ عن التَّسوُّل لِكسبِ لُقمَةِ العَيش، إذ لا يَليقُ ذلكَ بِمَقامِه.  وفَوقَ هذا، فإنَّ سُمعَتَهُ السَّيِّئَة بَعدَ فَضحِ خِيانَتِه تَجعَلُه غَيرَ قابِلٍ للعملِ عِندَ سَيِّدٍ آخَر. فَهو الآنَ مُحاصَرٌ مِن كُلِّ جانب: لا يَستَطيعُ العَودَةَ إلى العَملِ الكادِح، ولا يجرؤ على التَّسوُّل، ولا يَجدُ مَن يَقبَلُهُ في خِدمَتِه.

 

4 قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم

 

"عَرَفتُ ماذا أَعمَلُ": تُشيرُ هذه العِبارَةُ إلى اتِّخاذِ القَرارِ الحاسِم في وَقتِ الأزمَة ،عندما عَلم بأنَّه على وَشك أن يُفصَل من عَمله بسبب ِسُوء إدارته لأموال سيِّده.  فالوَكيلُ الخائِنُ، بَعدَ حِوارِه مَعَ نَفسِه، اهتَدى إلى خُطَّةٍ تُنقِذُه مِن وَضعِه الحَرِج حتى لا يُتْرك بلا دَعم أو مُمْتلكات. وهُو يَمثُلُ أمامَنا مَثَلاً في الفِطنةِ الإنسانيّة، إذ لا بُدَّ مِن قَرارٍ مُحدَّد في اللَّحظاتِ العَصَيبة.

 

"يَقبَلونَني": تُشيرُ إلى رَغبَتِه في أن يَجِدَ مَكانًا آمِنًا عِندَ أصدقائِه الجُدُد، الَّذين كَسِبَهُم بِمالِ الظُّلم. وهُنا يُعَلِّقُ القِدّيسُ إقليمنضُس الإسكندريّ قائلًا: "الصَّداقةُ لا تُولَدُ مِن هَديَّةٍ واحِدة، بل مِن أُلْفَةٍ طَويلة. فلا الإيمان، ولا الإحسان، ولا الصَّبر هي حَصيلةُ عَملِ يَومٍ واحِد: "الَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهايَة فذاكَ الَّذي يَخلُص" (متى 10: 22)" (عِظَة: أيُّ غَنِيّ يُمكِنُه أن يُخلَص؟). وهؤلاء الأصدقاءُ يُمَثِّلون في البُعدِ الرُّوحيّ جماعةَ الفُقَراء والمَساكين الَّذين وُعِدوا بملكوتِ الله حَسَبَ الإِنجيل الطّاهِر. الوَكيلُ الخائِنُ لا يَطلُبُ الآن أكثَر مِن بَيتٍ يُرحِّبُ بِه، بَعدَ أنِ اختَبَرَ مَحدوديَّتَهُ وعَجزَهُ عن الاكتِفاءِ بالذّات، وانهيارَ بَيتِه بِسَبَبِ خِيانَتِه. إنَّهُ يُدرِكُ أنَّ الثَّروَةَ الحقيقيَّة تَتَجَسَّدُ في الصَّداقةِ والأُخوَّة، وفي العُثورِ على مَكانِ رَاحَةٍ وسَلام في وَسَطِ إخوَتِه. يُعلِّقُ إقليمنضُس الإسكندريّ مُجَدَّدًا قائلاً :"فلا تَطمَحوا إلّا إلى العَيشِ في السَّماء وإلى المُلكِ مَعَ الله. إنسانٌ حَقٌّ وفَقيرٌ سيُعطيكُم هذا المَلكوت" (عِظَة: أيُّ غَنِيّ يُمكِنُه أن يُخلَص؟).

 

"بُيُوتِهِم" تُشِيرُ إِلى مَآوِي الَّتي يَرجُو أَن يَجِدَ الوَكيلُ الخائِنُ فِيها استِقبَالًا بَعدَما يُفصَلُ مِن عَمَلِهِ. وَهُوَ التَّعبيرُ عَينُهُ الَّذي استُخدِمَ فِي مَثَلِ الاِبنِ الضّالِّ: "بَدَّدَ مالَهُ هُناكَ فِي عَيشَةِ إِسرافٍ" (لوقا 15: 13). هُنا تُبرِزُ الكَلِمَةُ قَلَقَ الإِنسانِ الَّذي يَخسَرُ مَركَزَهُ، فَيَبحَثُ عَن أَمَانٍ جَديدٍ يَقيهِ العَوزَ وَالضَّياعَ. إِلَّا أَنَّ البُيُوتَ البَشَرِيَّةَ الَّتي يَطمَحُ إِلَيها الوَكيلُ أَوِ الاِبنُ الضّالُّ، هِيَ أَمَانٌ زائِفٌ مَبنيٌّ عَلَى المالِ أَوِ الشَّهَواتِ أَوِ العَلاقاتِ المَصلَحِيَّةِ. هَكَذا يُظهِرُ يَسوعُ المُفارَقَةَ: الإِنسانُ يَركُضُ وَراءَ "بُيُوتٍ" مِن صُنعِهِ، لَكِنَّهُ فِي النِّهايَةِ مُحتاجٌ أَن يَرجِعَ إِلى "بَيتِ الآبِ"، رَمزِ الحَياةِ الحَقيقيَّةِ وَالشَّرِكَةِ مَعَ اللهِ وَالأَمَانِ الأَبَدِيِّ الَّذي وَحدَهُ يُؤَمِّنُ لَهُ كَرامَتَهُ وَمُستَقبَلَهُ الأَبَدِيَّ.

 

5 فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي؟

 

"مَديني سَيِّدِه":  تُشيرُ هذه العِبارَةُ إلى أولئكَ الَّذين كانوا يُسدِّدونَ ديونَهُم عَينِيًّا، إمّا بالزَّيت أو بالقمح، وَفْقًا لِمَا كان سَائِدًا في العاداتِ الاقتصاديَّة في ذلِكَ الزَّمَن. وكانَ الوُكَلاءُ أحيانًا يَستَغِلّونَ هذا النِّظامَ لِيَتَلقَّوا أكثَر مِمّا يُقيِّدونَهُ في الدَّفاتِر، فَيَزيدونَ ثَروتَهُم الشَّخصيَّة على حسابِ سَيِّدِهم. 

 

"كَم عَلَيكَ لِسَيِّدي؟": تُشيرُ إلى سُؤالِ الوَكيلِ للمَديون، لِيُنبِّهَهُ على مِقدارِ دَينِه، ويُشعِرَهُ أنَّهُ يُسدِي لهُ مَعرُوفًا بتَخفيضِهِ أو تَسهيلِ سَدادِه.  وهُو أسلوبٌ ذَكيّ يَجمَعُ لَهُ أصدقاءَ في وَقتِ الأزمَة، ويَكشِفُ عن بُعدٍ إنسانيّ يُمكِن أن يُصبِحَ لَنا نَحنُ أيضًا مَثَلاً في عِلاقَتِنا مع الفُقَراء والمَحتاجين.  وفي البُعدِ الرُّمزيّ، يُمكِنُ أن تَدلَّ هذه العِبارَةُ على الفُقَراء والمَحتاجين، أولئكَ الَّذينَ ليسَ لديهم ما يَأكُلونَ أو يَلبَسون. أليسَ هؤلاء هُم إخوةُ الرَّبّ يسوع؟ فإذا صَرَفنا عَليهِم مِن خَيراتِنا، صَاروا لَنا أصدقاءً يَشهَدونَ لنا في السَّماء. وبهذا تُصبِحُ أموالُنا زمنيَّةٌ مُرتَبِطَةً بِالخَلاص، وتَتحوَّلُ إلى كنزٍ في السَّماء ينفَعُنا حينَ نُغادِرُ هذا العالَم (راجع متى 6: 20).

 

6 قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين

 

"مِائَةُ كَيْلٍ" في الأصل اليونانيّ ": تَرِدُ في النَّصِّ اليونانيّ كلمةβάτος  ( باتوس) وهِي تُعادِلُ الكَلمةَ العِبرِيَّة בַּת (بَث)، وهُو مِكيالٌ عبريٌّ لِلموادِّ السَّائِلَة. وتُقدَّرُ سَعتُهُ بنحو 45  لِترًا. وبِناءً علَى ذلِك، فإنَّ مِائَةَ كَيْلٍ تُعادِلُ حَوالَي 3000  لِتر مِن الزَّيت. وهو مَقدارٌ ضَخم يُظهِرُ كِبَرَ الدَّين وأهمِّيَّةَ ما اختَلَسَهُ الوَكيل.

 

"مِائَةُ كَيْلٍ زَيتًا": تُشيرُ إلى المَديونِ الَّذي كانَ يَستَأجِرُ مِن ذلك السَّيِّدِ أرضًا مَغرُوسَةً بأشجارِ الزَّيتون، وكانَ نصيبُ السَّيِّدِ مِن غَلتِها مِائَةُ كَيْلٍ زَيتًا.  وكانَ الزَّيتُ في تلك الأيّام سلعةً اقتصاديَّةً أساسيّة، يُتاجَرُ بِها كما في أيّامِنا هذه.

 

"اكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين" : تُشيرُ إلى أنَّ الوَكيلَ الخائِنَ قَامَ بِتَزويرِ أوراقِ سَيِّدِه، فَقَبِلَ مِن مَديونِه أقَلَّ مِمّا عَلَيه مِن دُيون، جاعِلًا نَفسَهُ صاحِبَ فَضلٍ ومَعرُوفٍ عَلَيه. وهكذا أَنقَصَ مَبلَغَ الدَّينِ لِصالِحِ المَدين، لِيَكسَبَ وُدَّهُ ويَضمَنَ أن يَستَقبِلَهُ لاحِقًا إذا فَقَدَ وَظيفَتَه.

 

"عَلى عَجَلٍ": تُشيرُ إلى السُّرعَةِ في كِتابَةِ الصَّكِّ قَبلَ أن يَطَّلِعَ السَّيِّدُ علَيه. فالوَكيلُ لم يَكُن له الحَقُّ في تَغييرِ الصُّكُوك أو تَعديلِها، بل كانَ مُلزَمًا أن يَصُونَ حُقوقَ سَيِّدِه. إلّا أنَّهُ بِخِيانَتِه خَسَّرَ سَيِّدَهُ نِصفَ دَخلِه مِن الزَّيت، ورَبِحَ الأَجيرُ بالمُقابِل، وصارَ مَمنونًا له ومُشارِكًا إيّاهُ في الاِختِلاس. مِن هُنا يَتَّضِحُ أنَّ الخَطيئَةَ تَجرُّ إلى خَطيئَةٍ أُخرَى. فمَن يَبدَأ بالخِيانَةِ في القَليل، تَدفَعُه شَهواتُه أن يُتابِعَ بالخِيانَةِ في الكَثير، كما قال يسوع لاحِقًا في هذا المثل عَينِه (لوقا 16: 10).

 

7 ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين

 

"كَيْلٍ"تَرِدُ في الأصلِ اليونانيّ كلمةκόρος  (كوروس)، وهي تُعادِل الكلمة العبريَّة כּר (كُر)، وتُشيرُ إلى مِكيالٍ عبريٍّ لِلمَوادِّ الجافَّة. وتُقدَّرُ سَعتُهُ بنحو 450  لِترًا. وبِناءً علَى ذلِك، فإنَّ مِائَةَ كُرٍّ مِن القَمح تُعادِلُ نحو 45,000  لِترًا مِن الحُبوب، وهو مَقدارٌ ضَخم يُظهِرُ وَزنَ الدَّينِ الَّذي كانَ يَدينُ به المَديونُ لسَيِّدِه.

 

"صَكّ" " تُشيرُ إلى الوَثيقَةِ الخَطِّيَّة الَّتي تُثبِتُ الدَّين، إمّا بمالٍ أو مَتاعٍ أو غَيرِه. وهي على نَحوٍ ما تُشابِهُ الـ"شيك" في عُرفِنا الحَديث، إذ تَكونُ نَموذَجًا مَطبوعًا أو مَكتوبًا على شَكلٍ مُعيَّن يَستَعملُهُ المَدينُ أو المُودِعُ كأمرٍ لِلدَّفع. وكانَ هَذا "الصَّكّ" يُعتَبرُ حُجَّةً قانونيَّة مُلزِمَة، ولذلك كانَ التلاعُبُ بِه يُعَدُّ جَريمَةً أخلاقيَّة وقانونيَّة في آنٍ معًا.

 

"اكتُب ثَمانين": بعد أن خفَّضَ الوكيلُ الخائنُ دينَ مَدينِ الزيت، التَفَتَ إلى المَدينِ الثّاني، الّذي كانَ يَدِينُ لسيِّدِه مِائةَ كُرٍّ قَمحٍ (أي نحو 45,000 لترًا). وهُنا قالَ له: "خُذ صَكَّكَ واكتُب ثَمانين"، أي قَلَّل الدَّينَ إلى 80 كُرًّا (36,000 لتر). وبذلك أسقَطَ عنه خُمسَ الدَّين (20%)، في محاولةٍ أُخرى لِكسبِ وُدِّه وتَأمينِ مَكانٍ له عنده في المُستَقبل. لم يكُن للوكيلِ أيّ حَقّ في تَغييرِ الصُّكوك، فوظيفتُهُ تقتَصِرُ على حِفظِ أموالِ سيِّدِه وضَمانِ حُقوقِه. لكنّه بِهذا التَّلاعُب خَسَّرَ سَيِّدَهُ مَبلغًا ضَخمًا مِن القَمح، في المُقابِل ربِحَ لنفسِه أصدقاءَ جُدُدًا. وهو تَصرُّف يَجمعُ بين الذكاء البشريّ والخِيانة الأخلاقيّة. الـ"ثمانون" هُنا يُمكِن أن تُفهَمَ رمزيًّا على أنَّها نقصان عن الكَمال (100).  فهي تُشيرُ إلى أنَّ مَن يَتلاعَبُ بالأمانَةِ لا يَبلُغُ الكَمال، بل يَبقى ناقصًا ومَكشوفًا. وفي المقابِل، الكمالُ هو في الأمانة المُطلَقة لله، لا في المراوَغَة البشريّة. في هذا التَّصرُّف يَظهر مَثَلٌ قويّ: مَن يخون في الكَثير إنّما بَدأ أوّلًا بالخِيانَة في القَليل (راجع لوقا 16: 10). إنَّ الخَطيئةَ لا تَقفُ عند حَدٍّ، بل تُولِّدُ خطيئةً أُخرى، فَتَجرُّ صاحِبَها إلى سَلسلةٍ مِن السُّقوط. وفي المُقابِل، يَدعونا المسيحُ إلى أن نَكونَ أُمناء في القَليل لِنُستَؤمَنَ على الكَثير. ويدل يسوع هنا من خلال هذه الآية على البُعد الرُّوحيّ، وهي إسقاطُ الوَكيلِ مِقدارًا مِن الدُّيون عَن المَدينين، بِتَغييرِ الصُّكوك، يُظهِرُ أنَّهُ بَدَلَ أن يُحافِظَ على حُقوقِ سَيِّدِه، اختارَ أن يُؤمِّنَ مَنفَعَتَهُ الخاصَّة. وهُو يَرمُزُ في الحَياةِ الرُّوحيَّة إلى أنَّ كُلَّ إنسانٍ سَيُسألُ يَومًا عَن "الصُّكّ" الَّذي بين يَدَيه، أي عَن أمانَتِه في ما استُؤمِنَ علَيه.

 

8 فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيل الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور

 

"أَثْنى": تُشِيرُ إِلى امتِداحِ السَّيِّدِ لِلوَكيلِ الخائِنِ. غَيرَ أَنَّ المَديحَ لَم يَكُنْ عَلى تَبذيرِهِ أَو خِيانَتِهِ أَو ظُلمِهِ – فَالخِيانَةُ مَذمُومَةٌ مَهما كانَت – بَل عَلى فِطنَتِهِ وَحِكمَتِهِ فِي الخُرُوجِ مِن أَزمَتِهِ. فَقَد أَحسَنَ التَّصرُّفَ فِي كَسبِ أَصدِقاءَ لَهُ، وَتَأمِينِ مُستَقبَلِهِ، وَاستِعمالِ المالِ فِي خِدمَةِ الآخَرينَ. بِهَذا أَظهَرَ تَدبِيرًا ذَكِيًّا لِتَفادِي الكارِثَةِ الشَّخصِيَّةِ وَلإيجادِ خَشبَةِ نَجاةٍ فِي الغَدِ. إِذًا المَديحُ يَتَعَلَّقُ بِالذَّكاءِ لا بِعَدمِ النَّزاهَةِ.يُقَدِّمُ يَسوعُ الوَكيلَ الخائِنَ كَمِثالٍ لَيسَ لِعَدمِ إِخلاصِهِ، بَل لِقُدرَتِهِ عَلى التَّصرُّفِ بِحِكمَةٍ وَإيجادِ الحُلولِ بِسُرعَةٍ وَفَعّالِيَّ

 

"السَّيِّدُ": تُشيرُ إلى سيِّد الوَكيل في المثل. وفي البُعد المجازيّ تَدلّ على الله، مالك كل شيء، وصاحب النِّعم والمواهب.

 

"الوَكيل الخائِن" تَرِد في الأصل اليوناني: οἰκονόμον τῆς ἀδικίας، أي "وَكيلُ الظُّلم" أو "وَكيلٌ دونَ بِرّ". فالمقصودُ ليس الكَتَبة والفريسيّين فقط، بل صِفَةٌ تُطلَق على كُلّ إنسان يَتصرّف بالخِيانة والظُّلم، بدل الأمانة (راجع لوقا 16: 10–12).

 

"فَطِناً" تُشيرُ إلى إنسانٍ حاذقٍ وماهِر، يُدرِكُ المَوقِف ويَفهَمُه، ويَعرِفُ كيفَ يتصرّف بِبَصيرَة.

 

"أبناء هذه الدُّنيا" تُشيرُ إلى المتعلّقينَ بِأُمورِ هذا العالَم، الَّذين لا يَعرِفون سِوى الدُّنيا الحاضِرة ويَعملونَ لأجلِها فقط. ويقول الأب ثيوفلاكتيوس": المقصودُ بأبناء هذه الدنيا أولئك الَّذين يَضَعونَ فكَرَهم في خَيرات الأرض".

 

"فِطنَة" تُشيرُ إلى البَصيرَة الّتي بها يَستَدرِكُ الإنسانُ مَوقِفًا خَطيرًا لِتجنّب الخَسارة. وفي العَهد القديم تَدُلّ الفِطنَة أحيانًا على الحِيلَة الشَّريفة أو غير الشَّريفة، كما جاء في سفر التكوين: "كانتِ الحَيَّةُ أَحيَلَ جَميعِ حَيَواناتِ الحُقولِ الَّتي صنَعَها الرَّبّ الإِله" (التكوين 3: 1).

 

"أبناء هذه الدنيا أَكثَر فِطنَة" تُشيرُ إلى تفكيرهم الدّائم في الغَد، حيثُ يَستثمِرونَ أموالَهم كَضمانٍ للمُستقبَل، ويُحسِنون التَّعامُل مع أبناء جيلهم، أكثَر مِمّا يَفعل أبناءُ النُّور مع مؤمني جيلهم. وهُنا يُمكن أن نُطبِّق المثل على كُلّ ما أَعطاه الله لنا: المال، الوَقت، الصِّحّة، العِلم، الذَّكاء... فهي وكالات نُسأل عنها.

 

"أشباهِهِم" تَرِد في الأصل اليوناني: γενεὰν τὴν ἑαυτῶν (أي "الجيل الذي يَحمِلُ صِفاتِهم"). وتَرد هذه اللفظة أيضًا في نُصوص قُمران، حيث تُشير إلى فئةٍ أو جماعةٍ مُعَيَّنة.

 

"أبناء النُّور" تُشيرُ إلى أبناءِ الإيمان، الَّذين يَسيرونَ في نُورِ الله، في نُور العَهد الجديد الذي يَقودُ إلى الحياة الأبدية. ويُعلِّق الأب ثيوفلاكتيوس:" المقصود بأبناء النُّور هُم الَّذين يَنشغِلون بالكنوزِ الرُّوحيَّة من خلال الحُبّ الإلهيّ". وفي مخطوطات قُمران، هُم أعضاءُ الجماعة المُقابِلة لـ"أبناء الظَّلام". يسوعُ لا يُريد أن يَمتَدِحَ الخِيانَة، بل يَلفِتُ أنظارَنا إلى ألاَّ يكون أبناءُ الملكوت أقلّ حِكمةً وفِطنَةً مِن أبناء هذا العالَم في خِدمَةِ ما هو زائل. إنَّهُ يُشيرُ إلى أنَّ الذكاء، متى كانَ مَصحوبًا بالأمانة، يَقودُ إلى الحَياة. فيَسوع لا يَطرَحُ الوَكيلَ كنَموذَجٍ للتَّوبَة، بل يَطرَحُه كمَثَلٍ على أنَّ الوقتَ الضَّائع يجب أن يُستَثمَرَ في صُنعِ الرَّحمَة، لأنَّ ما نَملِكُهُ ليس لنا، بل لله. وكما قال بولس الرَّسول: "لأَنَّكم جَميعًا أَبناءُ النُّورِ وأَبناءُ النَّهار" (1 تسالونيقي 5: 5؛ أفسس 5: 8).  يُرِيدُ يَسوعُ أَن يُعَلِّمَنا مِن خِلالِ "فِطنَةِ الوَكيلِ الخائِنِ" أَنَّ حَياةَ الإِيمَانِ تَحتَاجُ إِلى وعيٍ وَتَدبِيرٍ وَمَسؤُولِيَّةٍ. فَكَم بالأَحْرَى يَجِبُ عَلَينا أَن نُظهِرَ حِكمَةً فِي تَدبِيرِ أُمُورِ الخَلاصِ وَالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ، إِن كانَ أَبنَاءُ هذَا العالَمِ يَعرِفُونَ كَيفَ يَتَصَرَّفُونَ بِذَكَاءٍ لِمَصالِحِهِم الزَّائِلَةِ. الوَكيلُ اسْتَخدَمَ المالَ لِيَكْسَبَ أَصدِقاءَ، أَمَّا نَحنُ فَنَحنُ مَدعُوُّونَ لِنَستَعمِلَ كُلَّ خَيراتِنا فِي خِدمَةِ الآخَرينَ، حَتَّى نَصنَعَ لَنا "أَصدِقاءَ فِي السَّمَاءِ" يَستَقبِلونَنا فِي المَسَاكِنِ الأَبَدِيَّةِ.

 

9 وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة

 

تَدعُو عِبَارَةُ "اِتَّخِذوا لَكُم أَصدِقاءَ" إِلَى الخُرُوجِ مِنَ الذَّاتِ وَالمُشَارَكَةِ مَعَ الآخَرِينَ، وَلا سِيَّمَا مَعَ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ الَّذِينَ لا ضَمَانَ لَهُم عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ. فَهَؤُلاءِ هُم أَوَائِلُ مَن وُعِدُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ (رَاجِع: مَثَلُ لِعَازَرَ الفَقِيرِ عِندَ بَابِ الغَنِيّ، لوقا 16: 20). وَيُفَسِّرُ القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس النَّصَّ قَائِلًا: "اِتَّخِذوا لَكُم أَصدِقاءَ بِالمَالِ الحَرَامِ، حَتّى نَسْتَطِيعَ مِنْ خِلَالِ كَرَمِنَا تُجَاهَ الفُقَرَاءِ أَنْ نَحصُلَ عَلَى حُظْوَةِ المَلائِكَةِ وَالقِدِّيسِينَ، فَهَذَا هُوَ الرَّاتِبُ الوَحِيدُ الَّذِي لا يَفقِدُ قِيمَتَهُ يَومًا."

 

المَالُ في الأصل ُ اليُونَانِيَّة μαμωνᾶ)، مَأْخُوذَةٌ مِنَ العِبْرِيَّةِ מָמוֹנָהּ، وَتُشِيرُ إِلَى مَا هُوَ أَمِينٌ أَوْ ثَابِتٌ. وَلَكِنَّهَا استُخدِمَت كِنَايَةً عَنِ المَالِ كَقُوَّةٍ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى العَالَمِ. هُنَا يَظْهَرُ التَّنَاقُضُ: المَالُ مُرْتَبِطٌ بِالخِيَانَةِ وَالخِدَاعِ، ولَكِنْ إِذَا وُجِّهَ لِخِدْمَةِ الفُقَرَاءِ يُصْبِحُ صَدِيقًا، إِذْ يَسْتَقْبِلُنَا الفُقَرَاءُ عِندَ أَبْوَابِ المَلَكُوتِ.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "المَالِ الحَرَامِ" إِلَى مَالِ الظُّلْمِ: وبالتحديد الثَّرْوَةِ الزَّمَنِيَّةِ الَّتِي غَالِبًا مَا جُمِعَتْ بِالطَّمَعِ أَوِ الاِبْتِزَازِ.

 

والمَالِ الَّذِي يُوهِمُ بِالفَرَحِ وَالحَيَاةِ وَلَكِنَّهُ لا يُوفِي بِوَعْدِهِ. وَلِذَلِكَ يَنْزَلِقُ الغَنِيُّ غَالِبًا إِلَى الغُطْرُسَةِ: "الغَنِيّ حَكِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ" (أمثال 28: 11)، والقَسَاوَةِ: "الغَنِيّ يُجَاوِبُ بِالغِلاظَةِ" (أمثال 18: 23)، والجَورِ: "كَثُرَ مَالُهُ بِالرِّبَا وَالفَائِدَةِ" (أمثال 28: 8). أَمَّا التَّلْمِيذُ فَمَدْعُوٌّ لِاسْتِعْمَالِ المَالِ وَالفُرَصِ الزَّمَنِيَّةِ لِبِنَاءِ مَلَكُوتِ اللهِ: “مَن يَرحَمِ الفَقيرَ يُقرِضِ الرَّبَّ، فَهُوَ يُجَازِيهِ عَلَى صَنِيعِهِ" (أمثال 19: 17).

 

تَدُلُّ عِبَارَةُ "قَبِلوكُم" عَلَى أَنَّ الفُقَرَاءَ أَنْفُسَهُم، الَّذِينَ خُدِمُوا بِالمَالِ، سَيُصْبِحُونَ شُفَعَاءَ لَنَا أَمَامَ اللهِ بَعْدَ المَوْتِ. وَفِي سَاعَةِ الدِّينُونَةِ، حَيْثُ المَالُ لا يَنْفَعُ (صفنيا 1: 18)، يَسْتَقْبِلُنَا هَؤُلاءِ فِي المَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ. فَيَتَرَدَّدُ صَوْتُ الإِنْجِيلِ:"تَعالَوا، يَا مَن بَارَكَهُم أَبِي، فَرِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُم… لأَنِّي جُعتُ فَأَطعَمتُمُونِي" (متى 25: 34-35). المَالُ، إِنِ استُخدِمَ لِذَاتِهِ، يَغُشُّ وَيُهْلِكُ؛ أَمَّا إِذَا وُجِّهَ لِلرَّحْمَةِ وَالخِدْمَةِ، فَيُصْبِحُ جِسْرًا نَعْبُرُ بِهِ إِلَى المَلَكُوتِ. فَالفُقَرَاءُ الَّذِينَ نُسَاعِدُهُم هُمُ الأَصْدِقَاءُ الَّذِينَ يَسْتَقْبِلُونَنَا فِي المَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "المَساكِنِ الأَبَدِيَّة" فِي الأَصلِ اليُونَانِيِّ αἰωνίους σκηνάς، (مَعْنَاهَا: المَظَالُّ الأَبَدِيَّة)، فَتُشِيرُ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ دَارِ الخُلُودِ حَيْثُ الأَفْرَاحُ الحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ أَبَدِيَّةٌ تُقَابِلُ المَسَاكِنَ الأَرْضِيَّةَ الزَّائِلَةَ. يَقُولُ القِدِّيسُ إِقْلِيمَنْضُس الإِسْكَنْدَرِيّ: "فَكِّرْ إِذًا بِالمُكَافَأَةِ الرَّائِعَةِ المَوْعُودَةِ مُقَابِلَ كَرَمِكَ: المَنَازِلُ الأَبَدِيَّةُ. يَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ مُدْهِشَةٍ! نَشْتَرِي الخُلُودَ بِالمَالِ، وَنَسْتَبْدِلُ الخَيْرَاتِ الزَّائِلَةَ بِمَنْزِلٍ أَبَدِيٍّ فِي السَّمَاءِ." وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "الصَّدَقَةُ هِيَ أَكْثَرُ الفُنُونِ مَهَارَةً؛ لا تَبْنِي لَنَا بُيُوتًا مِنَ الطِّينِ، بَلْ تُخَزِّنُ لَنَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً." فَالصَّدَقَةُ، إِذًا، لَيْسَتْ خَسَارَةً بَلِ اسْتِثْمَارٌ أَبَدِيٌّ. كَانَ عِيدُ المَظَالِّ عِنْدَ اليَهُودِ عِيدَ الفَرَحِ، حَيْثُ يَسْكُنُونَ فِي مَظَالٍّ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ: رَمْزٌ لِلزَّمَنِ العَابِرِ. وَصُورَةٌ مُسْبَقَةٌ لِلخَلاصِ وَالفَرَحِ الأَبَدِيِّ (زَكَرِيَّا 14: 16-21). وَهَكَذَا أُطْلِقَ عَلَى السَّمَاءِ اسْمُ "المَظَالِّ الأَبَدِيَّة"، لِأَنَّهَا مِلْءَ الفَرَحِ وَالعِيدِ الَّذِي لا يَنْتَهِي. كَمَا قَبِلَ أَصْدِقَاءُ الوَكِيلِ الفَطِنِ فِي بُيُوتِهِمُ الأَرْضِيَّةِ، هَكَذَا يَقْبَلُنَا الفُقَرَاءُ الَّذِينَ أَحْسَنَّا إِلَيْهِمْ فِي المَسْكَنِ السَّمَاوِيِّ. وَلِذَلِكَ يُذَكِّرُنَا الإِنْجِيلُ: "اِجْعَلُوا لَكُمْ أَكْيَاسًا لا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاوَاتِ" (لوقا 12: 33). "طَهِّرُوا بَاطِنَكُمْ بِالإِحْسَانِ" (لوقا 11: 41). فَكُلُّ عَمَلِ رَحْمَةٍ هُوَ تَذْكِرَةُ دُخُولٍ إِلَى المَظَالِّ الأَبَدِيَّة، حَيْثُ المَلائِكَةُ وَالقِدِّيسُونَ يَسْتَقْبِلُونَنَا.  يَبْقَى السُّؤَالُ الَّذِي يَطْرَحُهُ النَّصُّ عَلَيْنَا: هَلْ مُسْتَقْبَلُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ كَضَمَانٍ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ؟ أَمْ عَلَى المَالِ الَّذِي يَعِدُ بِالخَيْرِ وَلَكِنَّهُ يَزُولُ وَيَخُونُ صَاحِبَهُ. إِنَّ المَسَاكِنَ الأَبَدِيَّةَ لَيْسَتْ حُلْمًا شِعْرِيًّا بَلْ حَقِيقَةٌ مَوْعُودَةٌ. وَالصَّدَقَةُ الَّتِي تَبْدُو فِي نَظَرِ العَالَمِ خَسَارَةً، هِيَ فِي نَظَرِ اللهِ أَعْظَمُ تِجَارَةٍ: أَنْ نَشْتَرِيَ الخُلُودَ بِمَالٍ يَفْنَى.

 

10مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "مَن كانَ أَمِينًا عَلَى القَلِيلِ" إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الغِنَى الأَرْضِيِّ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ قِلَّتِهِ أَوْ كَثْرَتِهِ؛ فَلا يُبَدِّدُ الإِنْسَانُ مَالَهُ عَلَى مَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، بَلْ يُعْطِيهِ لِلْمُحْتَاجِ. وَخَيْرُ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ الأَرْمَلَةُ الَّتِي كَانَ لَهَا فَلْسَانِ، "فَقَدَّمَتْهُمَا إِلَى الهَيْكَلِ، فَقَدَّمَتْ كُلَّ مَا تَمْلِكُهُ" (لوقا 21: 2). فَمَنْ كَانَ أَمِينًا عَلَى الأَرْضِيَّاتِ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى الرُّوحِيَّاتِ. يَقُولُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "الأُمُورُ الصَّغِيرَةُ تَبْقَى صَغِيرَةً، وَلَكِنَّ الأَمَانَةَ فِي الأُمُورِ الصَّغِيرَةِ هِيَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. أَلَيْسَ رَبُّنَا مَوْجُودًا بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِهَا فِي الزَّائِرِ الفَقِيرِ كَمَا فِي الزَّائِرِ العَظِيمِ؟" (متى 25: 40). وَتُضِيفُ الطُّوبَاوِيَّةُ الأُم تِيرِيزَا الكَالْكُوتِيَّة: "إِنَّنَا لَسْنَا مَدْعُوِّينَ لِنَنْجَحَ، بَلْ لِنَكُونَ أُمَنَاءَ. فَالأَمَانَةُ مُهِمَّةٌ حَتَّى فِي الأُمُورِ الصَّغِيرَةِ، لَيْسَ مِنْ أَجْلِ الأَمْرِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَمْرِ العَظِيمِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ اللهِ."

 

أَمَّا عِبَارَةُ "كانَ أَمِينًا عَلَى الكَثِيرِ" فَتُشِيرُ إِلَى العَطَايَا الرُّوحِيَّة وَالاهْتِمَامِ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الكُنُوزِ الفَائِقَةِ لِمَلَكُوتِ اللهِ.  فَالأَمِينُ عَلَى خَيْرَاتِ الأَرْضِ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى خَيْرَاتِ السَّمَاءِ، وَمَنْ يَكُنْ أَمِينًا مَعَ النَّاسِ يَكُونُ أَمِينًا مَعَ اللهِ.

 

أَمَّا كَلِمَةُ "خَائِنٍ" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἄδικος (مَعْنَاهَا: ظَالِمٌ)، وَتُشِيرُ حَرْفِيًّا إِلَى مَنْ لَيْسَ بَارًّا. فَإِنْ كُنَّا غَيْرَ جَدِيرِينَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الغِنَى الأَرْضِيِّ، فَلَسْنَا جَدِيرِينَ أَيْضًا بِالكُنُوزِ الفَائِقَةِ لِمَلَكُوتِ الرَّبِّ. تَهْدِفُ هَذِهِ الآيَةُ إِلَى إِبْعَادِ كُلِّ سُوءِ فَهْمٍ، فَالمَثَلُ لَيْسَ تَشْجِيعًا عَلَى الغِشِّ أَوِ الخِيَانَةِ، بَلْ هُوَ دَعْوَةٌ لِلأَمَانَةِ الكَامِلَةِ حَتَّى فِي أَبْسَطِ التَّفَاصِيلِ وَأَدَقِّهَا، لِنَكُونَ جَدِيرِينَ بِالكُنُوزِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَثْمَنُ وَأَغْلَى مِنْ كُلِّ غِنًى أَرْضِيٍّ. الأَمَانَةُ فِي القَلِيلِ هِيَ مِفْتَاحُ الأَمَانَةِ فِي الكَثِيرِ. وَمَنْ يُثْبِتُ أَمَانَتَهُ فِي الأُمُورِ البَسِيطَةِ، يُعْطِيهِ اللهُ الكَنُوزَ الأَبَدِيَّةَ، لِأَنَّ الغِنَى الحَقِيقِيَّ لَيْسَ مَا فِي الأَرْضِ، بَلْ مَا فِي السَّمَاءِ.

 

11 فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم؟

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "المَالِ الحَرامِ" إِلَى المَالِ الَّذِي سُمِّيَ بِالمَالِ الحَرَامِ، لأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُجْمَعُ بِالظُّلْمِ، وَيُنْفَقُ بَاطِلًا، وَيُخَزَّنُ بُخْلًا. وَكَثِيرًا مَا يَخْدَعُ مَالِكَهُ، فَيَقُودُهُ إِلَى الخَطِيئَةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس قَائِلًا: "لَقَدْ أَجَادَ الرَّبُّ يَسُوعُ الكَلاَمَ عَنِ المَالِ الحَرَامِ، لأَنَّ البُخْلَ يُخْضِعُ مَيُولَنَا لِلتَّجْرِبَةِ مِنْ خِلَالِ الإِغْرَاءَاتِ الَّتِي نَحْصُلُ عَلَيْهَا نَتِيجَةً لِلثَّرَوَاتِ المُتَنَوِّعَةِ بَيْنَ أَيْدِينَا، لِدَرَجَةِ أَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَكُونَ عَبِيدًا لَهَا (شَرْحٌ لِإِنْجِيلِ القِدِّيسِ لُوقَا، 7).

 

أَمَّا عِبَارَةُ "الحَقِّ" فَتُشِيرُ إِلَى الغِنَى الحَقِيقِيِّ: والتحديد رِضَى اللهِ وَكَنْزِ السَّمَاءِ (متى 6: 19-20، ومِيرَاثِ القِدِّيسِينَ وَالمَلَكُوتِ المُعَدِّ مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَمِ. إِنَّهُ الفَرْقُ بَيْنَ مَالِ الحَرَامِ وَالخَيْرِ الحَقِّ: فَالمَالُ بَاطِلٌ، مَوْجُودٌ اليَوْمَ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ غَدًا، وَلا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى العَالَمِ الآخَرِ. أَمَّا الخَيْرُ وَالحَقُّ وَالفَضَائِلُ وَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، فَإِنَّهَا تَصْحَبُ الإِنْسَانَ مَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَيُصَرِّحُ يُوحَنَّا الرَّسُولُ:"طُوبَى مُنْذُ الآنَ لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ! أَجَل، يَقُولُ الرُّوحُ، فَلْيَسْتَرِيحُوا مِنْ جُهُودِهِم، لأَنَّ أَعْمَالَهُم تَتْبَعُهُم" (رؤيا 14: 13).

 

مَن يَأَتَمِنُكم؟ إِنَّ الرَّبَّ لَنْ يَأتَمِنَنَا عَلَى الكَثِيرِ إِنْ لَمْ نَكُنْ أُمَنَاءَ فِي القَلِيلِ. فَالأَمَانَةُ فِي المَالِ الزَّائِلِ تَفْتَحُ أَمَامَنَا بَابَ الغِنَى الأَبَدِيِّ، أَمَّا الخِيَانَةُ وَالتَّعَلُّقُ بِالغِنَى البَاطِلِ فَتَحْجُبُ عَنَّا مِيرَاثَ المَلَكُوتِ. المَالُ الحَرَامُ يُقَيِّدُ القَلْبَ وَيُسَلْطِنُ البُخْلَ وَالخَطِيئَةَ، أَمَّا الغِنَى الحَقِيقِيُّ فَهُوَ كَنْزُ السَّمَاءِ الَّذِي يَتْبَعُ الإِنْسَانَ إِلَى الأَبَدِيَّةِ. وَالمُؤْمِنُ مَدْعُوٌّ لِيَخْتَارَ بَيْنَ بَاطِلِ المَالِ وَخَيْرِ الحَقِّ الَّذِي لا يَفْنَى.

 

12 وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "ما لَيسَ لَكُم" إِلَى الغِنَى الأَرْضِيِّ الَّذِي نَحُوزُهُ فَقَطْ بِالْوَكَالَةِ، وَلا يُمْكِنُ اخْتِزَانُهُ. فَلا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَدَّعِي أَنَّ مَالَهُ لِنَفْسِهِ، لأَنَّ المَالَ للهِ وَالإِنْسَانَ وَكِيلُهُ، وَهُوَ مُلْزَمٌ أَنْ يُنْفِقَهُ كَمَا أَمَرَ اللهُ. فَإِنْ لَمْ نَكُنْ أُمَنَاءَ مَعَ الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ "مَالِ الظُّلْمِ"، فَاللهُ لَنْ يُعْطِينَا مَا هُوَ لَنَا: البَرَكَةَ وَالسَّلامَ وَالفَرَحَ وَالرَّجَاءَ. وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْنَا مَا عِنْدَنَا لِلْفُقَرَاءِ، سَكَبَ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ غِنَى مَجْدِهِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "ما لَكُم" فَتُشِيرُ إِلَى الثَّرْوَةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي يَهَبُهَا اللهُ لَنَا، وَالَّتِي نَمْتَلِكُهَا إِلَى الأَبَدِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بُطْرُسُ الرَّسُولُ: "مِيرَاثٍ غَيْرِ قَابِلٍ لِلْفَسَادِ وَالرَّجَاسَةِ وَالذُّبُولِ، مَحْفُوظٍ لَكُمْ فِي السَّمَاوَاتِ" (1بطرس 1: 4). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "مَا هُوَ لَيْسَ لَكُم هُوَ كَمِّيَّةٌ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الفِضَّةِ؛ أَمَّا مَا هُوَ لَكُمْ فَهُوَ المِيرَاثُ الرُّوحِيُّ، إِذْ قِيلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "فِدَاءُ نَفْسِ الإِنْسَانِ غِنَاه" (أمثال 13: 8)." بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: مَنْ لا يَكُنْ أَمِينًا وَفِيًّا لِمَشِيئَةِ اللهِ فِي تَعَاطِيهِ الأُمُورَ المَادِّيَّةَ، وَلا يَحْسِبُ لِلْفَقِيرِ حِسَابًا، فَهَذَا لَنْ يَحْظَى بِالخَيْرَاتِ الرُّوحِيَّةِ. أَمَّا مَنْ يَكُونُ أَمِينًا فِي القَلِيلِ (المَالِ الزَّائِلِ)، فَيُؤْتَمَنُ عَلَى الكَثِيرِ (المِيرَاثِ الأَبَدِيِّ). الغِنَى الأَرْضِيُّ وَكَالَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، أَمَّا الغِنَى السَّمَاوِيُّ فَهُوَ مِيرَاثٌ أَبَدِيٌّ. وَالمُؤْمِنُ يُمْتَحَنُ بِأَمَانَتِهِ فِي الزَّائِلِ لِيُعْطَى الغَيْرَ الزَّائِلِ.

 

13 ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "يَعمَلَ" هُنَا إِلَى العِبَادَةِ. فَإِمَّا نَحْنُ بِالفِعْلِ وَكَلاءٌ، وَبِالتَّالِي أُمَنَاءُ للهِ؛ وَإِمَّا نَتَصَرَّفُ كَمَالِكِينَ، وَحِينَئِذٍ لَسْنَا أُمَنَاءَ للهِ. إِنَّ المَالَ إِلَهٌ كَذَّابٌ، وَصَنَمٌ يَتَعَبَّدُ لَهُ الإِنْسَانُ إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ كَمَالِكٍ لا كَوَكِيلٍ. فَهُوَ عِنْدَئِذٍ يُحَوِّلُ الإِنْسَانَ إِلَى عَبْدٍ. يَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "إِنَّ الشُّرُورَ الَّتِي تُسَبِّبُهَا لَنَا الثَّرَوَاتُ هِيَ إِبْعَادُنَا عَنْ خِدْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ، وَتَحْوِيلُنَا إِلَى عَبِيدٍ لِسَيِّدٍ جَامِدٍ وَفَاقِدِ الحِسِّ." (العِظَة 21 عَن إِنْجِيلِ مُتَّى).  وَيُعَلِّقُ أَيْضًا: "يُسَمِّي المَسِيحُ المَالَ رَبًّا لا بِسَبَبِ طَبِيعَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، إِنَّمَا بِسَبَبِ تَعَاسَةِ الَّذِينَ يَنْحَنُونَ لِنِيرِهِ. فَمَا أَتْعَسَ الَّذِينَ يَتَخَلَّوْنَ عَنِ اللهِ لِيَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمِ المَالُ تَسَلُّطًا مُؤْلِمًا." وَيُضِيفُ: "نَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ عَنِ الَّذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَ الثَّرَوَاتِ، بَلْ عَنِ الَّذِينَ تَرَكَتْ تِلْكَ الثَّرَوَاتُ تَتَمَلَّكُهُم. فَأَيُّوبُ كَانَ ثَرِيًّا، لَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُ المَالَ وَلَمْ يَكُنْ يَخْدِمُهُ.  أَمَّا القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس فَيَقُولُ: "السَّيِّدُ المَسِيحُ يَضَعُ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ قَبُولِ تَبَعِيَّتِهِ وَالارْتِبَاطِ بِمَحَبَّةِ المَالِ." وَيُعَلِّقُ البَابَا لاوُن الكَبِير: "فَلْنَخْتَرْ سَيِّدًا لا يُعَثِّرُ الطَّرِيقَ لِيَقُودَ النَّاسَ إِلَى الهَاوِيَةِ، بَلْ يُقِيمُ السَّاقِطِينَ لِيَقُودَهُم إِلَى المَجْدِ."

 

إِنَّ كَلِمَةَ "سَيِّدَان" لا تُشِيرُ إِلَى وُجُودِ سَيِّدَيْنِ حَقِيقِيَّيْنِ، بَلْ سَيِّدٍ وَاحِدٍ، لأَنَّ المَالَ لا حَقَّ لَهُ فِي السِّيَادَةِ؛ إِنَّمَا الإِنْسَانُ هُوَ الَّذِي يُثْقِلُ نَفْسَهُ بِنِيرِ العُبُودِيَّةِ لَهُ. وَعِبَادَةُ المَالِ تَعْنِي أَنْ يَظُنَّ الإِنْسَانُ أَنَّ المَالَ هُوَ ضَمَانُ مُسْتَقْبَلِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "واعلَمْ أَنَّهُ سَتَأْتِي فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَزْمِنَةٌ عَسِيرَةٌ، يَكُونُ النَّاسُ فِيهَا مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِم وَلِلْمَالِ … فَأَعْرِضْ عَنْ أُولَئِكَ النَّاسِ" (2 طيموتاوس 3: 1-5). 

 

"إمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر" المَسِيحُ يَضَعُنَا أَمَامَ خِيَارٍ حَاسِمٍ: مِنْ جَانِبٍ: الرَّبُّ وَرَغْبَتُهُ فِي خَلاصِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَمَلَكُوتُهُ المُسْتَقْبَلِيُّ. وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ: المُتْعَةُ المُبَاشِرَةُ، وَالرَّفَاهِيَّةُ المَادِّيَّةُ، وَالأَنَانِيَّةُ.  فَهَلْ نَعْرِفُ أَنْ نَتَّخِذَ الخِيَارَ الَّذِي يُخَلِّصُنَا؟  لْنَتَشَبَّهْ بِالقَائِدِ يَشُوعَ بْنِ نُون فِي قَرَارِهِ: "أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ" (يشوع 24: 15).

 

"المَالُ" الكَلِمَةُ اليُونَانِيَّةُ: μαμωνᾶ تُشِيرُ إِلَى "المَالِ كَسُلْطَانٍ يَسْتَعْبِدُ العَالَمَ" (لو 16: 9). إِنَّهُ سَيِّدٌ مُخَادِعٌ، يَعِدُ صَاحِبَهُ بِالسِّيَادَةِ وَالقُوَّةِ، وَلَكِنَّهُ غَالِبًا لا يُوفِي بِوُعُودِهِ. ولا يُمْكِنُ لِأَيِّ قَدْرٍ مِنَ المَالِ أَنْ يَمْنَحَ الإِنْسَانَ الصِّحَّةَ، أَوِ السَّعَادَةَ، أَوِ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. اللهُ لَيْسَ ضِدَّ الغِنَى، بَلْ ضِدَّ عِبَادَةِ المَالِ. فَمَنْ يَخْتَارُ اللهَ سَيِّدًا يَحْيَا فِي سَلاَمٍ وَرَجَاءٍ، وَمَنْ يَخْتَارُ المَالَ يَغْدُ عَبْدًا لِسُلْطَانٍ مُخَادِعٍ. وَالخِيَارُ فِي النِّهَايَةِ مَصِيرِيّ: نَحْنُ لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْمَلَ لِلهِ وَلِلْمَالِ.

 

 

ثانياً: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيّ (لوقا 16: 1-13)

 

يَتَمَحْوَرُ النَّصُّ حَوْلَ الأَمَانَةِ فِي الوَكَالَةِ فِي اسْتِعْمَالِ خَيْرَاتِ الأَرْضِ. وَيَظْهَرُ التَّسَاؤُلُ: مَا الفَرْقُ بَيْنَ حُكْمِ الرَّجُلِ الغَنِيّ عَلَى وَكِيلِهِ الخَائِن، وَحُكْمِ يَسُوعَ عَلَيْهِ؟

 

1) حُكْمُ الرَّجُلِ الغَنِيّ عَلَى وَكِيلِهِ الخَائِن (لوقا 16: 2-8)

 

"أَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّهُ كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذِهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مَعَ أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور" (لوقا 16: 8). لَمْ يُقِرَّ السَّيِّدُ وَكِيلَهُ عَلَى خِيَانَتِهِ، بَلْ عَلَى فِطْنَتِهِ. لَمْ يُمَدِّحْهُ عَلَى فَضِيلَتِهِ، بَلْ عَلَى حِكْمَتِهِ. أُعْجِبَ السَّيِّدُ بِذَكَاءِ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَزَلَهُ عَن وَظِيفَتِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَرَّ بِاعْوِجَاجِ قَلْبِهِ.

 

عَرَفَ الوَكِيلُ كَيْفَ يَتَصَرَّفُ بِالمَالِ بِذَكَاءٍ، وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي خِدْمَةِ الآخَرِينَ، آمِلًا أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ كَمَا أَحْسَنَ إِلَيْهِم، فَيُؤَمِّنُ مُسْتَقْبَلَهُ. وَكَأَنَّهُ يُطَبِّقُ كَلاَمَ يَسُوعَ: "بِيعُوا أَموالَكُم وَتَصَدَّقوا بِها، وَاجعَلوا لَكُم أَكياسًا لا تَبْلى، وَكَنزًا فِي السَّماواتِ لا يَنفَد" (لوقا 12: 33).

 

أَبْناءُ هذَا العَالَمِ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُدَبِّرُونَ حَيَاتَهُم وَمُسْتَقْبَلَهُم الزَّمَنِيَّ، وَعِنْدَهُم عَزْمٌ وَغَيْرَةٌ وَاجْتِهَادٌ فِي بُلُوغِ غَايَاتِهِم. أَمَّا أَبْناءُ النُّورِ، فَيَعُوزُهُم كَثِيرًا النَّظْرَةُ المُسْتَقْبَلِيَّةُ لِحَيَاتِهِم الأَبَدِيَّةِ.  التَّعْلِيمُ الرُّوحِيّ في هذا المثل هو أنه لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُسِيءَ اسْتِعْمَالَ المَالِ، وَخُصُوصًا مَالَ الغَيْرِ. يَقُولُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: "لا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَتَمَثَّلَ بِهَذَا الوَكِيلِ فِي تَبْذِيرِهِ أَمْوَالَ الوَكَالَةِ وَلَا فِي تَلَاعُبِهِ فِي الصُّكُوكِ، وَإِنَّمَا نَتَمَثَّلُ بِهِ فِي الْتِزَامِهِ بِالحِكْمَةِ وَالنَّظْرَةِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ (الأَبَدِيَّةِ)." أَبْناءُ النُّورِ هُم نَقِيضُ أَبْناءِ هذَا العَالَمِ، وَهُم مَدْعُوُّونَ لِيُصْبِحُوا وُكَلاءَ الحَقِّ الَّذِي حَمَلَهُ المَسِيحُ فِي تَعْلِيمِ التَّطْوِيبَاتِ.

 

قَدْ تَأْتِي لَحَظَاتٌ يُطَالَبُ فِيهَا أَبْناءُ النُّورِ بِاتِّخَاذِ قَرَارٍ مُنَاسِبٍ فِي الوَقْتِ المُنَاسِبِ وَلِلظَّرْفِ المُنَاسِبِ، كَمَا فَعَلَ الوَكِيلُ الخَائِنُ. وَالفَرْقُ أَنَّ الوَكِيلَ فَكَّرَ فِي مُسْتَقْبَلِهِ الزَّمَنِيِّ، أَمَّا التَّلْمِيذُ فَهُوَ مَدْعُوٌّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مُسْتَقْبَلِهِ الأَبَدِيِّ. ويعلمنا المثل أن المَالَ وَسِيلَةٌ وَلَيْسَ غَايَةً. وَالمُؤْمِنُ الحَقِيقِيُّ هُوَ مَنْ يَسْتَعْمِلُ خَيْرَاتِ الأَرْضِ بِحِكْمَةٍ لِيَبْنِيَ بِهَا كَنْزًا فِي السَّمَاءِ.

 

2) حُكْمُ يَسُوعَ عَلَى الوَكِيلِ الخَائِن (لوقا 16: 9-13)

 

يَنْتَقِلُ يَسُوعُ مِنْ مَسْأَلَةِ الفِطْنَةِ إِلَى مَسْأَلَةِ المَالِ لِيُفَسِّرَ مَثَلَ الوَكِيلِ الخَائِنِ. وَيُعْطِي أَرْبَعَةَ إِرْشَادَاتٍ فِي اسْتِعْمَالِ المَالِ:

 

أ) المَالُ خَيْرٌ قَلِيلُ الأَهَمِّيَّةِ

 

"مَن كانَ أَمينًا عَلَى القَلِيلِ، كانَ أَمينًا عَلَى الكَثِيرِ أَيضًا" (لوقا 16: 10). 

يَعْتَبِرُ يَسُوعُ المَالَ قَلِيلَ الأَهَمِّيَّةِ، أَمَّا الأَمْرُ الكَبِيرُ فَهُوَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ وَالخَيْرَاتُ الإِلَهِيَّةُ.

يَدْعُو يَسُوعُ إِلَى حُسْنِ إِدَارَةِ المَالِ لِنَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَتَصَرَّفُ فِي الأُمُورِ الأَكْثَرِ أَهَمِّيَّةً، وَهِيَ الرُّوحِيَّاتُ.

نَصِيحَةُ يَسُوعَ لَيْسَتْ دَعْوَةً لِلتَّبْذِيرِ، بَلْ لِلاِسْتِعْمَالِ الحَسَنِ لِلْمَالِ كَوَسِيلَةٍ لِلْخَيْرِ.

 

المَالُ يَصِيرُ شَرًّا… مَتَى؟ حِينَ تُصْبِحُ مَحَبَّتُهُ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الإِنْسَانِ وَسَدِّ حَاجَتِهِ. لِذَلِكَ جَاءَتْ وَصِيَّةُ يَسُوعَ: "فَاطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَهُ وَبِرَّهُ، تُزَادُوا هذَا كُلَّهُ" (متى 6: 33). كُنُوزُ السَّمَاءِ أَثْمَنُ وَأَغْلَى مِنْ كُلِّ غِنًى أَرْضِيٍّ: "اِكْنِزُوا لأَنفُسِكُم كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ" (متى 6: 20).

 

لَيْسَ المَالُ هُوَ مَا يَصْنَعُ الإِنْسَانَ. فالغِنَى المَادِّيّ لا يُعْطِي السَّعَادَةَ. والقِيمَةُ الحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فِيمَا نَمْلِكُ، بَلْ فِي مَنْ نَكُونُ. يُمْكِنُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَمْلِكَ كَثِيرًا وَيَبْقَى تَعِيسًا وَشِرِّيرًا. لِذَلِكَ يَدْعُونَا يَسُوعُ إِلَى أَنْ نَسْتَعْمِلَ الخَيْرَاتِ كَوَسِيلَةٍ لِمُحَبَّةِ الإِنْسَانِ وَمُسَاعَدَتِهِ.

 

يَقُولُ يَسُوعُ: المَالُ تَافِهٌ، لأَنَّهُ لا يُعْطِي الحَيَاةَ. المَالُ غَيْرُ شَرِيفٍ، لأَنَّهُ يَعِدُ بِالحَيَاةِ حَتَّى لَوْ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الوَفَاءِ بِوَعْدِهِ (لو 16: 11-12). وَمَعَ ذَلِكَ، فَالإِنْسَانُ الَّذِي يَسْتَخْدِمُ مَالَهُ بِسَخَاءٍ وَمُشَارَكَةٍ، يَجِدُ فِي نِهَايَةِ المَطَافِ غِنَى المَالِ الحَقِيقِيَّ، الَّذِي يَكْمُنُ فِي الفَرَحِ وَالسَّعَادَةِ النَّابِعَةِ مِنَ العَطَاءِ.

خلاصة القول: المَالُ خَيْرٌ قَلِيلُ القِيمَةِ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جِسْرًا إِلَى الكَثِيرِ إِذَا استُعْمِلَ بِالحِكْمَةِ. مَنْ يُثْبِتُ أَمَانَتَهُ فِي القَلِيلِ، يُؤْتَمَنُ عَلَى الكَثِيرِ. وَمَنْ يَسْتَعْمِلُ المَالَ كَوَسِيلَةٍ لِلرَّحْمَةِ يَجِدُ أَنْ كَنْزَهُ الحَقِيقِيَّ مَحْفُوظٌ لَهُ فِي السَّمَاءِ.

 

ب) المَالُ خَيْرٌ غَرِيبٌ

 

"فَإِذا لم تَكونوا أُمَناءَ على المَالِ الحَرام، فَعَلى الخَيْرِ الحَقِّ مَن يَأتَمِنُكُم؟" (لوقا 16: 12). لَيْسَ المَالُ خَيْرَ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيَّ، إِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ غَرِيبٌ. يَقُولُ القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس: "الثَّرَوَاتُ غَرِيبَةٌ عَنَّا، لأَنَّهَا خَارِجُ طَبِيعَتِنَا، فَهِيَ لا تُولَدُ مَعَنَا وَلا تَتْبَعُنَا فِي المَوْتِ. أَمَّا الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيحُ فَهُوَ لَنَا، لأَنَّهُ الحَيَاةُ." المَالُ غَرِيبٌ لأَنَّهُ بَاطِلٌ: مَوْجُودٌ اليَومَ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ غَدًا. لا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى العَالَمِ الآخَرِ. "بَاطِلُ الأَبَاطِيل، يَقُولُ الجَامِعَة، كُلُّ شَيْءٍ بَاطِل" (الجامعة 12: 8). يُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: "إِنَّ مَا لَيْسَ لَكُم هُوَ الغِنَى الَّذِي نَمْتَلِكُهُ، إِذْ لَمْ نُولَدْ وَمَعَنَا الغِنَى، بَلْ وُلِدْنَا عُرَاةً … "فَإِنَّنَا لَمْ نَأتِ العَالَمَ وَمَعَنَا شَيْءٌ، وَلا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَخْرُجَ مِنهُ وَمَعَنَا شَيْءٌ" (1 طيموتاوس 6: 7). وَكَمَا قَالَ أَيُّوبُ البَارُّ: "عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ جَوْفِ أُمِّي وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَيْهِ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا" (أيوب 1: 21). لِذَلِكَ: يَجِبُ أَلاَّ نُضَيِّعَ المَوَارِدَ الَّتِي عِندَنَا، لأَنَّهَا مُلْكٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَتْ لَنَا. المَالُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ فِي يَوْمٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْقَدَ فِي يَوْمٍ.  وَمَتَى صَارَ إِلَهًا، زَالَتِ القِيَمُ وَانْهَارَتِ المَبادِئُ. المَالُ زَائِلٌ كَالسَّرَابِ، يَبْدُو حَقِيقَةً، وَلكِنَّكَ مَا أَنْ تَقْتَرِبَ إِلَيْهِ حَتَّى تَجِدَهُ وَهْمًا.

 

ج) المَالُ خَيْرٌ مُكْتَسَبٌ

 

"اِتَّخِذوا لَكُم أَصدِقاءَ بِالمَالِ الحَرام" (لوقا 16: 9). المَالُ ثَمَرَةُ التَّعَبِ: "بِعَرَقِ جَبِينِكَ تَأكُلُ خُبزًا" (التكوين 3: 19). المَالُ قِوَامُ الحَيَاةِ، وَهَمُّ كُلِّ إِنْسَانٍ لِضَمَانِ العَيْشِ الكَرِيمِ. وَلَكِنَّ المَالَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مَصْدَرَ ظُلْمٍ: يَسُوعُ يَدْعُوهُ "حَرَامًا"، لأَنَّهُ مَا أَسْهَلَ أَنْ يُحْرَمَ الآخَرُونَ مِنْ حَقِّهِم بِسَبَبِهِ. يُفْسِدُ أَهْوَاءَ الإِنْسَانِ، فَيَنْقَلِبُ فِي يَدَيْهِ أَدَاةَ ظُلْمٍ. مَنْ يَعْبُدُ المَالَ يُسَخِّرُهُ لِشَهَوَاتِهِ، فَيَخْسَرُ أَبَدِيَّتَهُ. المَالُ يَصِيرُ سَيِّدًا عِنْدَمَا: تُقَدَّرُ قِيمَةُ الإِنْسَانِ بِالمَالِ، تُحَدَّدُ العَلاقَاتُ بِالمَالِ، يُصْبِحُ الأَمَانُ فِي المَالِ، يُسْتَغَلُّ الإِنْسَانُ وَتُدَاسُ كَرَامَتُهُ فِي سَبِيلِ المَالِ.

 

لِذَلِكَ قَالَ يَسُوعُ: "ما مِنْ خَادِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ لِسَيِّدَيْن … فَأَنْتُم لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا للهِ وَلِلمَالِ" (لوقا 16: 13). يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس: "هذَا لا يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ سَيِّدَيْنِ؛ فَلا يُوجَدُ سِوَى سَيِّدٍ وَاحِدٍ. فَالمَالُ لا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ سَيِّدًا، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَخْتَارُونَ نِيرَ العُبُودِيَّةِ لَهُ."

 

وَالمِثَالُ الأَسْمَى: أَيُّوبُ. كَانَ غَنِيًّا، وَلَكِنَّهُ: لَمْ يَدَعْ ثَرْوَاتِهِ تَتَمَلَّكُهُ. كَانَ يَسْتَعْمِلُ المَالَ لِمُسَاعَدَةِ الآخَرِينَ. وكَانَ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مُوَزِّعًا لِلْخَيْرَاتِ، لا مَالِكًا لَهَا. كَانَ سَيِّدَ المَالِ، لا عَبْدَهُ. إِذًا: لِلْمَالِ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، فَلْنَسْتَخْدِمْهُ بِحِرْصٍ وَرَوِيَّةٍ، كَوَسِيلَةٍ لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، لا كَغَايَةٍ تُقَيِّدُنَا.

 

د) المَالُ خَيْرٌ لِلمَلَكُوت

 

"اِتَّخِذوا لَكُم أَصدِقاءَ بِالمَالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة" (لوقا 16: 9). يَطْلُبُ مِنَّا المَسِيحُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى المَالِ بِـ نَظْرَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ، لَا مُقَيَّدَةٍ بِهذَا العَالَمِ. الحَيَاةُ المُسْتَقْبَلِيَّةُ هِيَ ثَمَرَةٌ وَنَتِيجَةٌ لِلحَيَاةِ الحَاضِرَةِ.

 

اللهُ أَعْطَانَا "المَالَ الحَرَام" أَيْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، لِنَسْتَعْمِلَهَا بِالحِكْمَةِ فَنَنَالَ "الخَيْرَ الحَقَّ" فِي المَلَكُوتِ (لو 16: 11).

 

يَعْتَبِرُ يَسُوعُ المَالَ خَادِمًا لِلمَحَبَّةِ. لِذَلِكَ قَالَ: "اِتَّخِذوا لَكُم أَصدِقاءَ بِالمَالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة" (لو 16: 9). وَجَاءَتْ نَصِيحَتُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً، فَلَا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ وَلَا إِخوَتَكَ وَلَا أَقرِباءَكَ وَلَا الجِيرَانَ الأَغْنِيَاء … بَلِ ادْعُ الفُقَرَاءَ وَالكُسْحَانَ وَالعُرْجَانَ وَالعُمْيَان … فَتُكَافَأُ فِي قِيَامَةِ الأَبْرَار" (لو 14: 12-14). الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الصَّدَقَاتِ يُصْبِحُونَ أَصْدِقَاءَنَا، لأَنَّنَا كُنَّا رُحَمَاءَ مَعَهُم فِي وَقْتِ عَوَزِهِم."طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، فَإِنَّهُم يُرْحَمُون" (متى 5: 7).

 

عَرَفَ الوَكِيلُ الخَائِنُ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُ خَيْرَاتِ هذَا العَالَمِ لِيَكْسَبَ أَصْدِقَاءَ، فَيُهَيِّئَ لِنَفْسِهِ مُسْتَقْبَلًا أَرْضِيًّا. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: "إِنَّ السَّيِّدَ المَسِيحَ إِذْ يُقَدِّمُ لَنَا مَثَلًا لَا يَقْصِدُ بِنَا أَنْ نُطَبِّقَهُ فِي كُلِّ الجَوَانِبِ، بَلْ فِي الجَانِبِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَهُوَ الحِكْمَةُ وَالنَّظْرَةُ المُسْتَقْبَلِيَّةُ (الأَبَدِيَّة)." فَكَمْ بِالأَحْرَى عَلَى المَسِيحِيِّ أَنْ يُهَيِّئَ مُسْتَقْبَلَهُ الأَبَدِيَّ بِمُشَارَكَتِهِ الفُقَرَاءَ فِي الصَّدَقَةِ، لِيَسْتَقْبِلُوهُ فِي مَدِينَةِ اللهِ. والفُقَرَاءُ هُم فِي مَنْزِلِهِم لَدَى اللهِ، وَهُم أَوَائِلُ المَوعُودِينَ بِالمَلَكُوتِ (مَثَلُ لَعَازَرَ وَالغَنِيِّ – لو 16: 19-31).

 

أَدْرَكَ الوَكِيلُ الخَائِنُ أَنَّ الثَّرْوَةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ ثَرْوَةُ الإِخْوَةِ. تَوَقَّفَ عَنِ اسْتِغْلَالِ الآخَرِينَ لِكَيْ يَثْرِي، وَبَدَأَ يَسْتَعْمِلُ ثَرْوَتَهُ لِيَكْسَبَ الصَّدَاقَةَ. وبَحَثَ لَا عَنْ بَيْتِ الغِنَى، بَلْ عَنْ بَيْتِ الإِخُوَّةِ وَالمَحَبَّةِ الَّذِي يُؤَمِّنُ لَهُ السَّعَادَةَ الحَقِيقِيَّةَ.المَالُ إِذَا وُجِّهَ بِالحِكْمَةِ نَحْوَ الخَيْرِ، يَصِيرُ جِسْرًا لِلمَلَكُوتِ. فَالفُقَرَاءُ الَّذِينَ نُحْسِنُ إِلَيْهِم هُمُ الَّذِينَ سَيَسْتَقْبِلُونَنَا فِي المَسَاكِنِ الأَبَدِيَّةِ. أَمَّا الثَّرْوَةُ الحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ ثَرْوَةُ الإِخُوَّةِ وَالمَحَبَّةِ، لا ثَرْوَةُ الأَمْوَالِ الزَّائِلَةِ.

 

لَيْسَتْ طَرِيقَةُ الوَكِيلِ الخَائِنِ نَمُوذَجًا لِلتَّوْبَةِ، بَلْ هِيَ مِثَالٌ لِـ الفِطْنَةِ وَالحِسَابَاتِ الحَكِيمَةِ. فَقَدِ اسْتَغَلَّ سَاعَاتِهِ الأَخِيرَةَ كَوَكِيلٍ لِيُظْهِرَ الرَّحْمَةَ لِلآخَرِينَ بِتَخْفِيفِ دُيُونِهِم. إِنَّنَا نُشِيدُ بِفِطْنَتِهِ كَمِثَالٍ لَنَا، أَبْنَاءَ النُّورِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "لأَنَّكُم جَمِيعًا أَبْنَاءُ النُّورِ وَأَبْنَاءُ النَّهَار" (1 تسالونيقي 5: 5؛ أفسس 5: 8). فَنَحْنُ نُدْرِكُ أَنَّ مَا نَمْلِكُهُ لَيْسَ لَنَا، كَمَا أَدْرَكَهُ الوَكِيلُ الخَائِنُ، بَلْ هُوَ لِسَيِّدٍ آخَر، وَهُوَ المَسِيحُ الرَّبّ.

 

المَالُ خَيْرٌ لِاكْتِسَابِ المَلَكُوتِ، وَذَلِكَ بِـ مُسَاعَدَةِ القَرِيبِ. القَرِيبُ لَيْسَ هُوَ قَرِيبُنَا بِالجَسَدِ فَقَط، بَلْ هُوَ كُلُّ إِنْسَانٍ نَلْتَقِيهِ فِي حَيَاتِنَا. القَرِيبُ لَيْسَ فَقَط مَنْ يُشَارِكُنَا الدِّينَ أَو الطَّائِفَةَ أَو الوَطَنَ أَو العِرْقَ … بَلْ هُوَ كُلُّ إِنْسَانٍ خَلَقَهُ اللهُ عَلَى صُورَتِهِ وَمِثَالِهِ. وَتَزْدَادُ القَرَابَةُ كُلَّمَا زَادَتْ حَاجَةُ هذَا الإِنْسَانِ إِلَيْنَا وَإِلَى أَمْوَالِنَا. وَقَدْ سَاوَى المَسِيحُ نَفْسَهُ بِالقَرِيبِ المُحْتَاجِ عِنْدَمَا قَالَ: "لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وَعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وَكُنتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي، وَعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي، وَمَرِيضًا فَعُدْتُمُونِي، وَسَجِينًا فَجِئْتُم إِلَيَّ" (متى 25: 35-36).

 

مَنْ يُحِبُّ اللهَ حَقًّا، عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ الجَائِعَ وَاللَّاجِئَ وَالذِي بِلَا مَأْوًى، لَيْسَ بِالكَلِمَةِ وَالفِكْرِ وَحَسْب، بَلْ بِالفِعْلِ وَبِالمَالِ. وَفِي هذَا الصَّدَدِ قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ … أَنْ يَصْنَعُوا الخَيْرَ، وَأَنْ يُغْنُوا فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يُعْطُوا بِسَخَاءٍ، وَأَنْ يُشَارِكُوا غَيْرَهُم … لِيَكْنِزُوا لأَنْفُسِهِم لِلمُسْتَقْبَلِ ذُخْرًا ثَابِتًا، لِيَنَالُوا الحَيَاةَ الحَقِيقِيَّةَ" (1 طيموتاوس 6: 18-19).  

 

استعمال المَالِ فِي الصَّدَقَةِ وَالإِحْسَانِ يَجْعَلُ لَنَا أَصْدِقَاءَ هُمُ الفُقَرَاء، الَّذِينَ جَاءَ المَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِم (لو 4: 18). هؤُلَاءِ يَكُونُونَ يَوْمًا فِي "حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ" (لو 16: 21-25)، أَي فِي مَنزِلَةٍ رَفِيعَةٍ فِي السَّمَاءِ، وَيَسْتَقْبِلُونَ المُحْسِنِينَ فِي "المَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ". يَقُولُ القِدِّيسُ مَنْصُورُ دِي بُول: "الفُقَرَاء؟ هُمُ الَّذِينَ يَفْتَحُونَ لَنَا السَّمَاءَ. فَإِنْ أَرَدْنَا بُلُوغَ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ، عَلَيْنَا أَنْ نَحْيَا وَنَمُوتَ فِي خِدْمَةِ الفُقَرَاء." وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمبرُوسِيُوس: "إِنَّ صُدُورَ الفُقَرَاءِ، وَبُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَأَفْوَاهَ الأَطْفَالِ، هِيَ بِمَثَابَةِ الأَهْرَاءِ الَّتِي تَدُومُ إِلَى الأَبَدِ." الثَّرْوَةُ الحَقِيقِيَّةُ إذن لَيْسَتْ فِيمَا نَحْتَفِظُ بِهِ، بَلْ فِيمَا نُعْطِيهِ. المَالُ أُعْطِيَ لَنَا كَوَكَالَةٍ، وَيَنْتَظِرُ الرَّبُّ مِنَّا أَنْ نَضَعَهُ فِي خِدْمَةِ الآخَرِينَ. نَحْنُ نَنْتَمِي إِلَى الرَّبِّ، وَكُلُّ مَا نَمْلِكُهُ هُوَ لَهُ.

يَطْلُبُ يَسُوعُ الأَمَانَةَ فِي القَلِيلِ، أَيْ أَنْ يَتَرَفَّقَ الإِنْسَانُ بِالمُحْتَاجِ، وَيُعِينُ مَنْ هُمْ فِي ضِيقَةٍ مِمَّا أُعْطِيَ لَهُ. يَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "إِنْ خَدَمْتَ القِدِّيسِينَ (الفُقَرَاء) فَسَتُشَارِكُهُمْ مُكَافَآتهُمْ. فَالصَّدَقَةُ هِيَ أَكْثَرُ الفُنُونِ مَهَارَةً؛ لَا تَبْنِي لَنَا بُيُوتًا مِنْ طِينٍ بَلْ تَخْزُنُ لَنَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً." وَقَدْ كَتَبَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "لأَنَّنَا مِنْ صَنْعِ اللهِ، خُلِقْنَا فِي المَسِيحِ يَسُوعَ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ بِسَابِقِ إِعْدَادِهِ لِنُمَارِسَهَا" (أفسس 2: 10). اللهُ يُرِيدُ أَنْ نُحَوِّلَ أَمْوَالَنَا لِتُصْبِحَ رَصِيدًا سَمَاوِيًّا كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ: "بِيعُوا أَمْوَالَكُم وَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَاجْعَلُوا لَكُم أَكْيَاسًا لَا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاوَاتِ لَا يَنْفَد" (لوقا 12: 33).

 

الإِنْسَانُ الفَطِنُ هُوَ مَنْ يَعْتَبِرُ المَالَ وَسِيلَةً لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ غَايَةً. خَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ حَيَاةُ الأُمِّ تِرِيزَا الكَالْكُوتِيَّة، الَّتِي جَمَعَتِ المَالَ وَالمُسَاعَدَاتِ بِحِكْمَةٍ، لا لِذَاتِهَا، بَلْ لِخِدْمَةِ "أَفْقَرِ الفُقَرَاءِ". كَانَت تَسْتَعْمِلُ كُلَّ مَوَارِدِهَا لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ، وَجَعَلَتْ مِنَ المَالِ أَدَاةَ مَحَبَّةٍ.

 

مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ حَقًّا، عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالمَالِ كَأَنَّهُ أَمَانَةٌ مِنَ اللهِ. يَصْرِفُهُ فِي مَكَانِهِ الصَّحِيح: عَلَى المُحْتَاجِينَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ وَالنَّازِحِينَ وَالمُعَذَّبِينَ. الإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِمَالِهِ إِلَّا حِينَ يُنْفِقُهُ. أَمَّا مَنْ يَحْتَفِظُ بِهِ لِنَفْسِهِ، ظَانًّا أَنَّهُ ضَمَانَةٌ لِمُسْتَقْبَلِهِ، فَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ عَبْدٌ لِلْمَالِ.

 

يَجِدُ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ دَائِمًا أَمَامَ خِيَارٍ حَاسِمٍ: إِمَّا عِبَادَةُ اللهِ وَالعَمَلُ فِي سَبِيلِ مَلَكُوتِهِ وَالسَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ. وَإِمَّا عِبَادَةُ المَالِ وَتَكْدِيسُ الثَّرَوَاتِ وَاتِّبَاعُ كِبْرِيَاءِ الغِنَى وَشَهَوَاتِهِ. مَنْ يَجْعَلُ المَالَ صَنَمًا لَهُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلنُّورِ. مُنْذُ أَنْ ظَهَرَ اللهُ فِي العَالَمِ، وَالإِنْسَانُ أَمَامَ خِيَارٍ جِذْرِيٍّ. وَالمَسِيحِيُّ يُظْهِرُ انْتِمَاءَهُ لِلهِ مِنْ خِلَالِ اسْتِعْمَالِهِ لِلْمَالِ فِي خِدْمَةِ الإِخْوَةِ. إِذَا اسْتُعْمِلَ المَالُ لِإِسْعَافِ الإِخْوَةِ المُحْتَاجِينَ، فَإِنَّهُ يُصْبِحُ مِفْتَاحًا لِلسَّمَاءِ. "لأَنَّ المَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثِيرًا مِنَ الخَطَايَا" (1 بطرس 4: 8). "مَن يَرحَمِ الفَقِير يُقْرِضِ الرَّبَّ، فَهُوَ يُجَازِيهِ عَلَى صَنِيعِهِ" (أمثال 19: 17). خلاصة القول: الأمانة في القليل تَكْمُنُ فِي اسْتِعْمَالِ المَالِ كَوَسِيلَةٍ لِلْمَحَبَّةِ وَالخِدْمَةِ. فَالمالُ الَّذِي يُعْطَى بِسَخَاءٍ لِلْمُحْتَاجِينَ يَصِيرُ كَنْزًا سَمَاوِيًّا وَمِفْتَاحًا لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.

 

 

العِبْرَة مِن المَثل

 

يُثِيرُ هذَا المَثَلُ غَالِبًا شَيْئًا مِنَ الاسْتِغْرَابِ، لأَنَّهُ – فِي الظَّاهِرِ – يَجْعَلُ مِنَ الوَكِيلِ الخَائِنِ قُدْوَةً يُقْتَدَى بِهَا. وَإِنْ صَحَّ أَنَّ هذَا الوَكِيلَ قُدْوَةٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبِ فِطْنَتِهِ. إِنَّ المَثَلَ يَدْعُونَا أَنْ نَعِيشَ نَحْنُ كَوُكَلَاءِ اللهِ، فَكُلُّ مَا هُوَ بَيْنَ أَيْدِينَا هُوَ عَطِيَّةٌ مِنْهُ: مَوَاهِبُنَا، قُدُرَاتُنَا، دَوَافِعُنَا، عَوَاطِفُنَا، مُمْتَلَكَاتُنَا، حَتَّى أَجْسَادُنَا وَأَوْقَاتُنَا.

 

اِسْتَعْمَلَ الوَكِيلُ الخَائِنُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَمَا لَمْ يَسْتَطِعِ الاِحْتِفَاظَ بِهِ، لِيَحْصُلَ عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ لَاحِقًا. فَصَنَعَ صَدَاقَاتٍ وَاشْتَرَى شَرَاكَاتٍ مُسْتَقْبَلِيَّةً بِمَالٍ لَيْسَ لَهُ. إِنَّ مَا يُشِيدُ بِهِ يَسُوعُ فِي هذَا الوَكِيلِ لَيْسَ خِيَانَتَهُ، بَلْ طَرِيقَتُهُ فِي مُوَاجَهَةِ مَوْقِفِهِ الجَدِيدِ بِنَظَرَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ.

 

نَحْنُ وُكَلاءُ، وَسَنُعْطِي حِسَابًا عَنْ كُلِّ كَلِمَةٍ وَكُلِّ مَا أُؤْتُمِنَّا عَلَيْهِ، لأَنَّ غَايَةَ اللهِ أَنْ نَحْمِلَ سِمَاتِهِ فِينَا، وَفِي مَقْدِّمَتِهَا "الأَمَانَة". قَدْ دُعِيَ اللهُ "الأَمِين": "هُوَ اللهُ أَمِينٌ دَعَاكُم إِلَى مُشَارَكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ المَسِيحِ رَبِّنَا" (1 قورنتس 1: 9). وَيُوصِينَا: "كُنْ أَمِينًا حَتَّى المَوت، فَسَأُعْطِيَكَ إِكْلِيلَ الحَيَاةِ" (رؤيا 2: 10). إِذًا: نَحْنُ أَمَامَ اللهِ وُكَلاءُ لا مَلَّاكٌ. فَكُلُّ مَا نَمْلِكُهُ – مَالًا، خَيْرَاتٍ، صِفَاتٍ، إِمْكَانَاتٍ – هُوَ لِلرَّبِّ، وَسَنُؤَدِّي عَنْهُ حِسَابًا.

 

الحَيَاةُ المُسْتَقْبَلِيَّةُ هِيَ ثَمَرَةٌ وَنَتِيجَةٌ لِلحَيَاةِ الحَاضِرَة. وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي بِهَا يَتَصَرَّفُ الإِنْسَانُ بِمُتَاعِ الدُّنْيَا تُحَدِّدُ مَصِيرَهُ فِي الحَيَاةِ الآخِرَة. لَا يَجُوزُ أَنْ نُضَيِّعَ المَوَارِدَ الَّتِي لَدَيْنَا، لأَنَّهَا مِلْكٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَتْ لَنَا. اِسْتِعْمَالُ المَالِ كَغَايَةٍ فِي ذَاتِهِ يُفْصِلُنَا عَنِ اللهِ وَعَنِ الإِخْوَةِ المُحْتَاجِينَ. أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ بِحِكْمَةٍ فَهُوَ مُفْتَاحُ السَّمَاءِ. "بِيعُوا أَمْوَالَكُم وَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَاجْعَلُوا لَكُم أَكْيَاسًا لَا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاوَاتِ لَا يَنْفَد" (لوقا 12: 33). الإِنْسَانُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَعْمَلُهُ. مَا نَكْنِزُهُ يَكْشِفُ عَنْ أَوْلَوِيَّاتِنَا الحَقِيقِيَّة. "فَحَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُم يَكُونُ قَلْبُكُم" (لوقا 12: 34). الخُلاصَة: المَثَلُ لَيْسَ تَشْجِيعًا عَلَى الخِيَانَةِ، بَلْ دَعْوَةً لِـ الأَمَانَةِ وَالفِطْنَةِ. فَنَحْنُ لَنَا سَيِّدٌ وَاحِدٌ هُوَ اللهُ، وَنَحْنُ وَكَلَاؤُهُ عَلَى الخَيْرَاتِ. وَمِنْ طَرِيقَةِ تَصَرُّفِنَا بِهَا يَتَحَدَّدُ مَصِيرُنَا الأَبَدِيّ.

 

 

التَّحذِيرَات

 

إِنَّ مَثَلَ الوَكِيلِ الخَائِنِ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ بَعْضَ التَّحْذِيرَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَخْذُهَا بِعَيْنِ الاِعْتِبَارِ:

 

1. لشَّرُّ لَا يَسْتَمِرُّ. فَإِنَّ عَطَايَا الرَّبِّ لَنْ تَتَبَدَّدَ، وَالخِيَانَةُ أَوِ الظُّلْمُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسُودَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّ اللهَ هُوَ سَيِّدُ التَّارِيخِ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ.

 

2. الإِدْرَاكُ أَنَّ العَطَايَا لِلْمُسَاعَدَةِ المُشْتَرَكَةِ. فَإِذَا كَانَ الوَكِيلُ الخَائِنُ قَدْ دُفِعَ مِنَ الحَاجَةِ لِيُصْبِحَ كَرِيمًا – وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنَ الخُبْثِ – مِنْ أَجْلِ خَلاصِ نَفْسِهِ، فَكَمْ بِالأَحْرَى عَلَى أَبْنَاءِ النُّورِ أَنْ يَتَحَرَّكُوا بِدَافِعِ الإِيمَانِ وَالمَحَبَّةِ لِيُحَقِّقُوا تَضَامُنًا وَمُشَارَكَةً حَقِيقِيَّةً بَيْنَ البَشَرِ. وَهَكَذَا يُصْبِحُ المَسِيحِيُّونَ أَبْنَاءً لِلآبِ السَّمَاوِيِّ: "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ" (مَتَّى 5: 48).

 

3. الصِّرَاعُ بَيْنَ غِنَى المَالِ وَالغِنَى الحَقِيقِيّ إِنَّ الغِنَى المُقْتَنَى بِمَالِ السُّوءِ هُوَ فِي صِرَاعٍ دَائِمٍ مَعَ الغِنَى الحَقِيقِيِّ. وَعَلَى أَبْنَاءِ النُّورِ أَنْ يَتَحَرَّرُوا مِنَ الغِنَى الأَوَّلِ، رَافِضِينَ إِيَّاهُ، وَيَعْتَمِدُوا عَلَى مَبَادِئِ إِيمَانِهِم فَقَط، حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ غِنَاهُم وَكَنْزَهُم الحَقِيقِيّ.

 

4. التَّحْذِيرُ الأَسَاسِيّ هُوَ أَنْ نَسِيرَ فِي النُّورِ، مُتَحَرِّرِينَ مِنْ عُبُودِيَّةِ المَالِ، مُسْتَخْدِمِينَ كُلَّ عَطَايَا اللهِ لِـخِدْمَةِ الإِخْوَةِ وَبِنَاءِ المَلَكُوتِ.

 

 

الخُلاصَة

 

وَضَعَ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ مَثَلَ الوَكِيلِ الخَائِنِ بَعْدَ أَمْثَالِ الرَّحْمَةِ الثَّلَاثَةِ (لوقا 15: 1-32)، لِيُذَكِّرَنَا أَنَّ اللهَ يَدْعُونَا إِلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّوْبَةِ، لِنَسِيرَ نَحْوَ حَيَاةٍ كَامِلَةٍ، نَكُونُ فِيهَا وُكَلَاءَ رَحْمَةٍ وَأَمَنَاءَ عَلَى عَطَايَاهُ.

 

كُلُّ مَا نَتَمَتَّعُ بِهِ الْيَوْمَ – مِنْ وَقْتٍ وَصِحَّةٍ وَمَالٍ وَأَقَارِبَ وَأَوْلادٍ – إِنَّمَا هُوَ عَطَايَا مِنَ الرَّبِّ، وَنَحْنُ وَكَلَاءٌ عَلَيْهَا. لِذَلِكَ، مَثَلُ الوَكِيلِ يُذَكِّرُنَا أَنَّ الحِكْمَةَ وَالفِطْنَةَ هُمَا الطَّرِيقُ لِتَأْمِينِ المُسْتَقْبَلِ؛ لَيْسَ المُسْتَقْبَلَ الأَرْضِيَّ الزَّائِل، بَلِ المُسْتَقْبَلَ الأَبَدِيَّ.

 

قَدْ يَكُونُ هَذَا الوَكِيلُ الغَيْرُ الأَمِينِ صُورَةً لَنَا، نَحْنُ الَّذِينَ نَتَصَرَّفُ فِي نِعَمِ اللهِ دُونَ أَمَانَةٍ. فَلا شَيْءَ مِمَّا عِنْدَنَا هُوَ لَنَا بِالطَّبِيعَةِ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِن نِعْمَةِ اللهِ. وَتَنْشَأُ المُشْكِلَةُ عِنْدَمَا نَنْسَى مَصْدَرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَنَتَصَرَّفُ كَمَالِكِينَ وَنُحَوِّلُ العَطَايَا إِلَى أَمْوَالٍ نَخْتَزِنُهَا بِالغِشِّ أَوِ الرَّشْوَةِ أَوِ الفَسَادِ، فَنَسْقُطُ فِي فَخِّ الغِنَى الفَاحِشِ وَعَدَمِ المُشَارَكَةِ.

 

وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ هِيَ أَنَّ الحَيَاةَ تُذَكِّرُنَا دَائِمًا: كُلُّ مَا نَمْلِكُهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَّا فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ، لأَنَّهُ لَيْسَ مُلْكًا لَنَا، بَلْ نَحْنُ مُجَرَّدُ وُكَلَاءَ عَلَيْهِ.

 

وبِالتَّالِي، يَدْعُونَا هَذَا المَثَلُ إِلَى أَنْ نَتَصَرَّفَ فِي الحَيَاةِ كَوُكَلَاءَ أَمَنَاء، نَسْتَخْدِمُ كُلَّ مَا أُؤْتُمِنَّا عَلَيْهِ فِي خِدْمَةِ الإِخْوَةِ، لِنَكْنُزَ لَنَا كَنْزًا فِي السَّمَاءِ، وَنَنَالَ "الإِكْلِيلَ الحَيَاةِ" (رؤيا 2: 10).

 

 

الدُّعَاء

"أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيّ، كُلُّ مَا نَمْلِكُهُ هُوَ هِبَةٌ مِنْكَ. سَاعِدْنَا بِاسْمِ يَسُوعَ ابْنِكَ أَنْ نَكُونَ وُكَلَاءَ حُكَمَاءَ وَفُطَنَاءَ وَأَمَنَاءَ عَلَى أَمْوَالِنَا وَمُمْتَلَكَاتِنَا الَّتِي تَضَعُهَا بَيْنَ أَيْدِينَا، كَيْ نَسْتَخْدِمَهَا لِمَجْدِكَ وَلِخَيْرِ القَرِيبِ، فَنُؤَدِّي لَكَ المَجْدَ بِكُلِّ حَيَاتِنَا.
يَا رَبُّ، أَعْطِنَا عُيُونًا تُبْصِرُ، وَآذَانًا تَسْمَعُ، وَقُلُوبًا تَرِقُّ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ بِأَيِّ نَوْعٍ، لَعَلَّهُ يَكُونُ طَرِيقَنَا لِلدُّخُولِ إِلَى المَلَكُوتِ. آمِينَ."

 

 

قِصَّة وَعِبْرَة

 

مَاتَت سَيِّدَةٌ غَنِيَّةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ تَمْتَلِكُ المَلاَيِينَ. وَفِي جَنَازَتِهَا، كَانَ الجَمِيعُ مَشْغُولِينَ يَتَسَاءَلُونَ: كَمْ تَرَكَتْ مِنْ أَمْوَالٍ؟ فَجَاءَ أَحَدُهُمْ – وَكَانَ مَادِّيًّا – وَسَأَلَ كَاهِنَ الرَّعِيَّةِ: "كَمْ تَرَكَتْ هَذِهِ السَّيِّدَةُ؟"

فَأَجَابَهُ الكَاهِنُ بِذَكَاءٍ وَبِدَرْسٍ عَمِيقٍ: "لَقَدْ تَرَكَتْ كُلَّ شَيْءٍ."

نَعَم، لَنْ نَأْخُذَ مَعَنَا شَيْئًا. فَهَلْ نُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ فُرْصَةٍ يُتِيحُهَا الرَّبُّ لَنَا هِيَ لِتَسْخِيرِهَا فِي خِدْمَةِ الآخَرِينَ؟ كُلُّ بَرَكَةٍ يُعْطِينَا إِيَّاهَا الرَّبُّ هِيَ لِنَشْرِكَهَا مَعَ الآخَرِينَ، وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ نِلْنَاهَا هِيَ لِنُكَرِّسَهَا لِخِدْمَتِهِم. وَإِنْ كُنَّا أُمَنَاءَ فِيمَا هُوَ لِلغَيْرِ، سَيُعْطِينَا اللهُ مَا هُوَ لَنَا، أَيْ الأَبَدِيَّةَ فِي السَّمَاءِ.