موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 14: 25-33)
25 وكانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه فَالتَفتَ وقالَ لَهم: 26 ((مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً 27 ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً. 28 فمَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه، 29 مَخافَةَ أَن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه 30 ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه. 31 أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إِلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفاً؟ 32 وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْداً، مادام ذَلك المَلِكُ بعيداً عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ. 33 وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً.
المُقَدِّمَةُ
يَتَناوَلُ إِنجيلُ يَومِ الأَحَدِ (لوقا 14: 25-33) مَطالِبَ يَسوع لِكُلِّ مَن يُريدُ أَن يَتبَعَهُ ويُصبِحَ لَهُ تِلميذًا. ومِن بَينِ هذِهِ المَطالِبِ: أَن يَحمِلَ التِّلميذُ صَليبَهُ ويَأتِيَ وَراءَ يَسوع (لوقا 14: 25-27)، وأَن يَحسِبَ نَفَقَةَ إتِّباعِه (لوقا 14: 28-32)، وأَن يَتَخَلّى عَن كُلِّ ما يَملِكُهُ في سَبيلِ المَسيح.
وقد أوضَحَ يَسوعُ ذلِكَ مِن خِلالِ مَثَلَين: فَكَمَا أَنَّ الّذي يُريدُ أَن يَبنيَ بُرجًا، أَو مَلِكًا يَستَعِدُّ لِلحَرب، عَلَيهِ أَن يَحسِبَ الكُلفَةَ والإِمكانيّات، كَذلِكَ يَجِبُ عَلى مَن يَرغَبُ في إتِّباعِ يَسوع أَن يَحسِبَ نَفَقَةَ الطَّريقِ وإمكانيّاتِهِ.
وهكذا تُصبِحُ دَعوَةُ يَسوع طَلبًا لِلأَولَويَّةِ في حَياةِ المَدعوِّ، تُحَرِّرُهُ مِنَ القُيودِ الدُّنيويَّةِ وَالارتِباطاتِ الأُسَرِيَّةِ الَّتي قَد تَشكِّلُ عَقَبَةً أَمامَ نِداءِ الرَّبِّ. وبِإعطاءِ اللهِ المَكانَةَ الأُولى في حَياتِهِ اليَوميَّةِ، يُغنِي المُؤمِنُ عَلاقاتِهِ بالآخَرين وَيَضَعُها في مَوضِعِها الصَّحيح. ومِن هُنا تَكمنُ أَهمِّيَّةُ البَحثِ في وَقائِعِ النَّصِّ الإِنجيلِيِّ وَتَطبيقاتِهِ.
أَوَّلًا: وَقائِعُ النَّصِّ الإِنجيلِي (لوقا 14: 25-33)
25 كانت جُموعٌ كثيرَةٌ تَسيرُ مَعَه، فَالتَفَتَ وقالَ لَهم:"
تشيرُ عِبارَةُ "جُموعٌ كثيرَةٌ" إلى هؤلاء النّاسِ الكَثيرين الّذين أُعجِبوا بيسوع، فَتأمَّلوا في شَخصِه وحَياتِه وتعاليمِه. أَمّا العِبارَةُ "تَسيرُ مَعَه" فَتُحيلُ إلى المَسيحِ الّذي يَسيرُ في مَنطِقَةِ بَيريَّةَ في اتِّجاهِ أُورَشَليم، لِيُتَمِّمَ رِسالَةَ الفِداءِ والخَلاصِ عَلى الصَّليب، وَمَعَهُ الحَشدُ الكَبيرُ الّذي يَتبَعُهُ إمّا لِمُشاهَدَةِ مُعجِزاتِه أو لِسَماعِ تَعليمِه.
ويَدعو يَسوعُ الجُموعَ في هذا النَّصِّ الإِنجيلِي ثَلاثَ مَرّات (لوقا 14: 28-29) لِكَي يَتبَعوهُ عَلى هذَا الطَّريقِ بِحَملِ الصَّليب. أَمّا عِبارَةُ "فَالتَفَتَ" فَتُشيرُ إلى مَشهَدٍ دِرامِيٍّ مُلفِت، فَهي مُحاوَلَةٌ مُتَعمَّدَةٌ مِن يَسوع لِيوقِفَ حَماسَ الجُموعِ السَّطحيِّ الطّائِشِ في اتِّباعِهِ. وأَمّا عِبارَةُ "وقالَ لَهم" فَلا تُخاطِبُ القِلَّةَ المُختارَة (الاثنَي عَشَر) وحَسب، بَل "جُموعٌ كثيرَة"، أي جَميعَ تَلاميذِ يَسوعَ الحاضِرينَ والمُستَقبَليّين، وَكُلَّ مَن يُريدُ أن يَكونَ تِلميذًا حَقيقيًّا لِلمَسيح.
26 مَن أَتى إِلَيَّ ولَم يُفَضِّلْني على أَبيهِ وأُمِّهِ وامَرأَتِه وبَنيهِ وإِخوَتِه وأَخواتِه، بل على نَفسِه أَيضاً، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً
"مَن أتى إِلَيَّ": تُشَدِّدُ هذهِ العِبارَةُ على جَوهرِيَّةِ التَّبَعيَّةِ ليسوع. فالمَطلوبُ هُوَ الإتِّباعُ الواعي الحُرّ، لا التَّعلُّقُ الخارجيّ أو النَّزواتُ العابِرَة. إنَّها تَطَلُبُ تَعلُّقًا داخليًّا عَميقًا يَفرِضُ التَّخلّيَ الدّاخليَّ عنِ الشَّخصِ ذاتِه وعَن كُلِّ ما يَملِكُهُ، بِقَرارٍ شَخصيٍّ حُرّ. فَفي حَياةِ كُلِّ إنسانٍ تأتي ساعَةُ الحَسم: يَختارُ وَظيفَتَهُ أو مَسيرَتَهُ أو مَستَقبَلَهُ. وبالمِثل، الإيمانُ يَطلُبُ قَرارًا واضِحًا. لذلك تُلزِمُ أقوالُ يَسوع باتِّخاذِ قَراراتٍ حاسِمَةٍ لِلحَياة.
"ولَم يُفَضِّلْني": تَظهَرُ في الأَصلِ اليونانِيّ كَلِمَة μισεῖ أي "يُبغِض"، والَّتي تُترجَم في سِياقِها إلى "يُحِبُّني أَقلّ". وَقَد حَفِظَ لوقا الإنجيلي العِبارَةَ الأَرامِيَّة الأَصلِيَّة: וְלא יִשְׂנָא אֶת־אָבִיו וְאֶת־אִמּוֹ. وَالفِعلُ "יִשְׂנָא" لا يُشيرُ إلى الكَراهِيَةِ المُطلَقَة، بل إلى الاسْتياءِ أو الإحباط بَعدَ خَيبَةِ الأَمل. ذلك أنَّ اللُّغَةَ الأَرامِيَّةَ لا تَعرِفُ صِيغَةَ التَّفْضِيل، كما في العَهدِ القَديم (تك 29: 31؛ تث 21: 15-16؛ أش 60: 15). لِذا استَخدَمَ يَسوع لَفظًا قَويًّا حافِظَ عَلَيه النَّصُّ اليونانِيّ. إذًا، يَسوعُ لا يَدعو إلى الكَراهِيَة، بَل إلى تَحريرِ الإنسانِ مِنَ الارتِباطاتِ الأُسَرِيَّةِ المُطلَقَة الّتي قد تُعيقُ تَتَبُّعَ الله. إنَّه يَفرِضُ مَحبَّةً مُطلَقَةً وتَكريسًا كامِلًا لِشَخصِه، دونَ قَيدٍ أَو شَرط. لا يَعني هذا إنكارَ المَشاعِرِ الشَّرعيَّةِ تُجاهَ العائِلَة أو مَحبَّةَ الحَياة. بَل يَطلُبُ يسوع أَن نُخضِعَ كُلَّ شَيءٍ لِمحبَّتِنا لله. فَالأَفضَلُ أن نُغضِبَ أَعَزَّ أَحبابِنا مِن أَن نُغضِبَ الّذي ماتَ عَلى الصَّليبِ مِن أَجلِنا. الطَّريقُ إلى الحَياةِ هو طَريقُ الصَّليب، المحَبَّة المُطلَقة لله. وهناك موازنة بين الوصيّة والمحبّة المطلَقة. لوقا يُذكِّر بالوصايا العَشر: "أَكرِم أَباكَ وأُمَّكَ" (لو 18: 20؛ خر 20: 12). لكنَّ يسوع يُريد أن يَتفوَّقَ حُبُّ الله على كُلِّ مَحبَّةٍ أُخرى. يُوضِّحُ مَتى الأمرَ أكثَر: "مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متّى 10: 37). وهُنا نَجِدُ تَمييزًا بين الفِعل اليوناني ἀγαπάω (محبَّة الله والقَريب) وφιλέω (محبَّة الأُسرَة)، بما يُظهِر أنَّ الروابِطَ العائِلِيَّة وإن كانت مشروعة قد تُصبِح عَقَبةً في سَبيلِ التَّبَعيَّة.
يَقولُ القُدِّيس كيرِلُّس الكَبير: "أَوضَحَ يسوعُ بقَولِه: "أَحَبَّ إِلَيه مِنّي" أَنَّهُ يَسمَحُ لَنا بالمحبَّة، وَلَكِن لَيسَ أَكثَرَ مِنهُ". ويُعلِّقُ القُدِّيس أَمبرُوسيوس: "اللهُ لا يُريدُنا أَن نَجهَلَ الطَّبيعَة (المحبَّة العائِلِيَّة)، ولا أَن نُستَعبَدَ لَها. بَل يُريدُنا أن نُخضِعَ الطَّبيعَةَ، ونُكرِمَ خالِقَ الطَّبيعَة، وأَلّا نَتَخَلّى عن الله بسببِ مَحبَّتِنا للوالدَين".
"أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ وَبَنِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ": تُشِيرُ هذِهِ العِبَارَاتُ إِلَى الرَّوَابِطِ الأُسَرِيَّةِ وَالاِلْتِزَامَاتِ العَائِلِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَتَحَوَّلُ إِلَى عُذْرٍ أَوْ عَقَبَةٍ أَمَامَ عَطَاءِ التِّلْمِيذِ الكَامِلِ لِلْمَسِيحِ ، (قَارِنْ مَعْ: لوقا 9: 23-26، 57-62). يَسُوعُ لَا يَطْلُبُ مِنَ الإِنْسَانِ أَنْ "يُبْغِضَ" بِالمَعْنَى الحَرْفِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، بَلْ أَنْ يَضَعَ مَحَبَّتَهُ لِلرَّبِّ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ أُخْرَى. وَبِالتَّالِي، كُلُّ عِلَاقَةٍ أَوْ رِبَاطٍ – حَتَّى وَإِنْ كَانَ مُقَدَّسًا كَالأُسْرَةِ – إِذَا أَصْبَحَ مَانِعًا عَنِ اتِّبَاعِ المَسِيحِ، يَجِبُ تَجَاوُزُهُ. وَلَا شَيْءَ يَجِبُ أَنْ يَقِفَ فِي طَرِيقِ الإِنْسَانِ نَحْوَ الرَّبِّ، حَتَّى ذَاتُهُ.
"امْرَأَتِهِ" تُشِيرُ إِلَى مَحَبَّةِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ مَحَبَّةٌ مَشْرُوعَةٌ لَكِنَّهَا تَأْتِي بَعْدَ مَحَبَّةِ المَسِيحِ (قَارِنْ مَعْ لوقا 18: 29). وَيَخْتَلِفُ لُوقا هُنَا عَنْ مَتَّى الَّذِي يُعَبِّرُ بِوُضُوحٍ عَنْ "تَرْكِ الزَّوْجَةِ" لِأَجْلِ المَلَكُوتِ (مَتَّى 19: 29). فَالمَبْدَأُ وَاحِدٌ: مَحَبَّةُ اللهِ أَوَّلًا.
"نَفْسِهِ" فِي النَّصِّ اليُونَانِيِّ ψυχή تَعْنِي "النَّفْسَ وَالحَيَاةَ". هَذِهِ الإِشَارَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ التِّلْمِيذَ مَدْعُوٌّ إِلَى التَّحَرُّرِ مِنَ الذَّاتِ، أَيْ مِنْ أَنَانِيَّتِهِ المُفْرِطَةِ وَتَعَلُّقِهِ الزَّائِدِ بِنَفْسِهِ وَقُوَاهُ وَإِمْكَانِيَّاتِهِ. فَمَنْ يَعْتَمِدْ عَلَى ذَاتِهِ فَقَطْ، يَسِيرْ فِي طَرِيقِ المَوْتِ. أَمَّا مَنْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الصَّلِيبِ، فَيَسْلُكْ طَرِيقَ الحَيَاةِ. وَيُعَلِّقُ القُدِّيسُ غِرِيغُورِيُوس النِّزْيَنْزِي: "لَا يَكْفِي أَنْ نَتَخَلَّى عَمَّا نَمْلِكُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ نَتَخَلَّى أَيْضًا عَنْ نُفُوسِنَا (ذَوَاتِنَا)" (العِظَةُ 32/10).
"لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا": هَذِهِ العِبَارَةُ تُظْهِرُ صُعُوبَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى التِّلْمَذَةِ. فَهِيَ صُعُوبَةُ إِعْطَاءِ الأَوَّلَوِيَّةِ لِيَسُوعَ عَلَى الجَمِيعِ وَحَتَّى عَلَى الذَّاتِ، وَصُعُوبَةُ حَمْلِ الصَّلِيبِ فِي الوَاقِعِ اليَوْمِيِّ، وَصُعُوبَةُ التَّخَلِّي عَنِ المَالِ وَالمُقْتَنَيَاتِ.
"تِلْمِيذ" اللَّفْظَةُ اليُونَانِيَّةُ μαθητής تَعْنِي: مَنْ يَتْبَعُ مُعَلِّمًا عَنْ وَعْيٍ وَاخْتِيَارٍ، وَيُشَارِكُهُ أَفْكَارَهُ وَحَيَاتَهُ. فِي العَهْدِ الجَدِيدِ، يُطْلَقُ لَقَبُ "تِلْمِيذ":
• عَلَى الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ تَبِعُوا يَسُوعَ مُبَاشَرَةً (مَتَّى 10: 1)،
• وَعَلَى الاِثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُم يَسُوعُ لِلتَّبْشِيرِ (لوقا 10: 1)،
• وَفِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ المُؤْمِنِينَ: سَوَاءٌ مَنْ عَرَفَ يَسُوعَ فِي حَيَاتِهِ الأَرْضِيَّةِ (أَعْمَال 1: 13)، أَمْ مَنْ آمَنَ بَعْدَ القِيَامَةِ كَبُولُسَ الرَّسُولِ (أَعْمَال 9: 10-26).
27 ومَن لم يَحمِلْ صَليَبهُ ويَتبَعْني، لا يَسْتَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذاً.
"يَحمِلْ صَليَبَهُ" تُشِيرُ إِلَى العِقَابِ الَّذِي اسْتَخْدَمَهُ الرُّومَانُ فِي القَرْنِ الأَوَّلِ لِلخَوَنَةِ وَالعَبِيدِ، حَيْثُ كَانَ المَحْكُومُ عَلَيْهِ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ إِلَى مَكَانِ الإِعْدَامِ. وَيَسُوعُ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالعَبْدِ وَحَمَلَ صَلِيبَهُ، فَمَنْ يُرِدْ أَنْ يَتْبَعَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّعَ العَقَبَاتِ وَالآلَامَ وَصُعُوبَاتِ الحَيَاةِ، وَأَنْ يَتَحَمَّلَهَا لاَ رَغْمًا عَنْهُ بَلْ بِرِضَاهُ كَعَلاَمَةِ اتِّحَادِهِ بِالمَسِيحِ وَمُشَارَكَتِهِ فِي السَّيْرِ وَرَاءَهُ. إِنَّهُ قَبُولٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ نُكَابِدَهُ كَوَسِيلَةٍ لِلتَّضْحِيَةِ بِالشَّخْصِ حَتَّى المَوْتِ. يَطْلُبُ مِنَّا يَسُوعُ أَنْ نَقْبَلَ المَوْتَ اليَوْمِيَّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ اللهِ، وَأَنْ نَحْمِلَ مَعَهُ الصَّلِيبَ بِلَا اِنْقِطَاعٍ، مِنْ خِلَالِ مَحَبَّتِنَا الفَائِقَةِ لِلَّهِ الَّتِي تَسْمُو عَلَى كُلِّ عَاطِفَةٍ وَمَحَبَّةٍ! وَيُعَلِّقُ البَابَا غِرِيغُورِيُوس الكَبِير: "نَحْنُ نَحْمِلُ صَلِيبَ رَبِّنَا بِطَرِيقَتَيْنِ: إِمَّا بِالزُّهْدِ فِيمَا يَخُصُّ أَجْسَادَنَا، أَوْ خِلَالَ حَنُوِّنَا عَلَى أَقَارِبِنَا حَيْثُ نَحْسِبُ احْتِيَاجَاتِهِمُ احْتِيَاجَاتِنَا." حَمْلُ الصَّلِيبِ اليَوْمَ يَتَطَلَّبُ مِنَّا أَنْ نَزْهَدَ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، بِمَا فِيهَا مِنْ تَجَارِبَ سَهْلَةٍ كَالإِبَاحِيَّةِ وَالإِجْهَاضِ وَالكَرَاهِيَّةِ وَالعُنْفِ وَالسَّرِقَةِ، لِنَخْتَارَ يَسُوعَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَنَتْبَعَهُ. فَتَبَعِيَّةُ المَسِيحِ بِدُونِ صَلِيبٍ لاَ تَكُونُ تَبَعِيَّةً. وَيَعْتَبِرُ الرَّسُولُ بُولُسُ أَنَّ الصَّلِيبَ جَوْهَرُ إِتِّبَاعِ المَسِيحِ، فَيَقُولُ: "فَإِنِّي لَمْ أَشَأْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا، وَأَنَا بَيْنَكُمْ، غَيْرَ يَسُوعَ المَسِيحِ، بَلْ يَسُوعَ المَسِيحَ المَصْلُوبَ" (1 قورنتس 2: 2). وَيُضِيفُ: "أَمَّا أَنَا فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ!" (غلاطية 6: 14).
"يَتْبَعْنِي" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ ἔρχεται ὀπίσω تَعْنِي "يَأْتِي وَرَاءَ" أَوْ "يَسِيرُ وَرَاءَهُ"، وَتُشِيرُ إِلَى السَّيْرِ عَلَى خُطَى يَسُوعَ: أَنْ يَكُونَ التِّلْمِيذُ "وَرَاءَ" المُعَلِّمِ، لاَ بِجَانِبِهِ وَلاَ أَمَامَهُ. فَكَوْنُ التِّلْمِيذِ وَرَاءَ المُعَلِّمِ يُمَكِّنُهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَيْهِ لِيَتْبَعَهُ وَيُشَارِكَهُ فِي مَصِيرِهِ. إِنَّ حَمْلَ الصَّلِيبِ وَالسَّيْرَ وَرَاءَ يَسُوعَ هُوَ شَرْطٌ يَوْمِيٌّ. وَنُلاحِظُ أَنَّ اللُّغَتَيْنِ العِبْرِيَّةَ وَالآرَامِيَّةَ لاَ تَمْتَلِكَانِ مُفْرَدَةً خَاصَّةً تُفِيدُ "اتَّبَعَ"، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُشِيرُ فِي اليَهُودِيَّةِ فِي القَرْنِ الأَوَّلِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالخِدْمَاتِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى التَّلَامِيذِ نَحْوَ رَبَّانِيهِم. أَمَّا فِي الإِنْجِيلِ، فَاتَّخَذَ فِعْلُ "اتَّبَعَ" مَعَانِيَ أُخْرَى: الدَّعْوَةُ لاَ تَصْدُرُ عَنِ التِّلْمِيذِ بَلْ عَنْ يَسُوعَ نَفْسِهِ، وَتُلَبَّى بِطَاعَةٍ فَوْرِيَّةٍ. وَالتِّلْمِيذُ لاَ يَتْبَعُ يَسُوعَ كَسَامِعٍ فَقَطْ، بَلْ كَمُعَاوِنٍ وَشَاهِدٍ لِلْمَلَكُوتِ، وَكَأَحَدِ العَامِلِينَ فِي حَصَادِهِ (مَتَّى 10: 1-27). إِذًا، تِلْمِيذُ يَسُوعَ لاَ يَتَمَسَّكُ بِتَعْلِيمِ المُعَلِّمِ فَقَطْ، بَلْ يُلاَزِمُ شَخْصَهُ وَيَسِيرُ فِي خُطَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ المُؤَدِّيَةِ إِلَى الصَّلِيبِ. هُنَاكَ مُشَارَكَةٌ فِي الآلاَمِ بَيْنَ المَسِيحِ وَتِلْمِيذِهِ. وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ أَعَزِّ أَقَارِبِهِ (مَتَّى 15: 4) وَبَيْنَ المَسِيحِ. وَبِمَا أَنَّ يَسُوعَ حَمَلَ الصَّلِيبَ مِنْ أَجْلِنَا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَحْمِلَ صَلِيبَنَا نَحْنُ أَيْضًا مِنْ أَجْلِهِ! هَذَا هُوَ حِسَابُ النَّفَقَةِ الَّذِي سَأَلَنَا السَّيِّدُ أَنْ نَضَعَهُ فِي الاِعْتِبَارِ: بِنَاءُ بُرْجِ الصَّدَاقَةِ أَوْ خَوْضُ المَعْرَكَةِ ضِدَّ تَجَارِبِ إِبْلِيسَ. فَيُعَلِّمُنَا يَسُوعُ وُجُوبَ خُسْرَانِنَا أَصْحَابَنَا عَلَى الأَرْضِ وَحَيَاتِنَا الجَسَدِيَّةِ، وَتَحَمُّلَ المَشَقَّةِ وَالعَارِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ وَإِكْرَامًا لَهُ.
"لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" هَذِهِ صِيغَةُ تَحْذِيرٍ تَكَرَّرَت ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي النَّصِّ (لوقا 14: 26، 27، 33)، مِمَّا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّتَهَا كَشُرُوطٍ أَسَاسِيَّةٍ لِلتِّلْمَذَةِ الحَقِيقِيَّةِ.
28 فمَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجاً، لا يَجلِسُ قَبلَ ذلِكَ ويَحسُبُ النَّفَقَة، لِيَرى هل بِإِمكانِه أَن يُتِمَّه،
"مَن مِنكُم، إذا أَرادَ أَن يَبنِيَ بُرجًا" تُشِيرُ إِلَى ضَرُورَةِ التَّفْكِيرِ وَاتِّخَاذِ القَرَارِ قَبْلَ الإِقْدَامِ عَلَى مَشْرُوعٍ هَامٍّ، خَاصَّةً مَشْرُوعَ الاِلْتِزَامِ بِاتِّبَاعِ يَسُوعَ كَتِلْمِيذٍ لَهُ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ يَقُولُ يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ: "يَا بُنَيَّ، إِنْ أَقْبَلْتَ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ فَأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلمِحْنَةِ (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ 2: 1). الإِنْسَانُ الحَكِيمُ يَقْضِي وَقْتًا كَافِيًا فِي أَنْ يَحْسِبَ قَدْرَ النَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ لِبِنَاءِ بُرْجٍ قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَاءَهُ.
"يَحْسُبُ النَّفَقَةَ" تُشِيرُ إِلَى مَطْلَبِ يَسُوعَ لَنَا أَنْ نَحْسِبَ حِسَابَ النَّفَقَةِ، وَيُقَدِّمُ لَنَا مَثَلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْسِبَ النَّفَقَةَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَحْفِرَ الأَسَاسَ. وَيُذَكِّرُنَا هَذَا الأَمْرُ بِقَوْلِ يَشُوعَ بْنِ سِيرَاخ: "هَيِّئْ عَمَلَكَ فِي الخَارِجِ وَأَعْدِدْهُ فِي حَقْلِكَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ اِبْنِ بَيْتَكَ" (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ 24: 27). فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَ يَسُوعَ يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ: وَهِيَ التَّضْحِيَةُ بِكُلِّ مَا فِي العَالَمِ، حَتَّى العَلاَقَاتِ الأُسَرِيَّةِ العَادِيَّةِ، وَالمَالِ، وَحَتَّى الحَيَاةِ نَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ سَتُعَطِّلُهُ عَنْ مَحَبَّةِ يَسُوعَ وَاتِّبَاعِهِ.
"لِيَرَى هَلْ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُتِمَّهُ" تُشِيرُ إِلَى دَعْوَةِ الحَاضِرِينَ لِلتَّأَمُّلِ فِي أَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِاتِّبَاعِ المَسِيحِ مَعَ كُلِّ الشُّرُوطِ وَالتَّضْحِيَاتِ. وَفْقًا لِقَوْلِ الحَكِيمِ: "أَنْ لاَ تَنْذِرَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذِرَ وَلاَ تَفِي" (الجَامِعَة 5: 4).
يُعَلِّقُ القُدِّيسُ غِرِيغُورِيُوس أُسْقُفُ النِّيصِي: "يُلْزِمُنَا أَنْ نُجَاهِدَ عَلَى الدَّوَامِ لِنَبْلُغَ نِهَايَةَ كُلِّ عَمَلٍ صَعْبٍ بِالاِهْتِمَامِ المُتَزَايِدِ بِوَصَايَا اللهِ، وَبِهَذَا نُكَمِّلُ العَمَلَ الإِلَهِيَّ. فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي حَجَرٌ وَاحِدٌ لِعَمَلِ البُرْجِ، هَكَذَا لاَ تَكْفِي وَصِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِكَمَالِ النَّفْسِ. إِنَّمَا يَلْزَمُنَا أَنْ نَحْفِرَ الأَسَاسَ، وَكَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ أَنْ نَضَعَ حِجَارَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَأَحْجَارٍ كَرِيمَةٍ (1 قورنتس 3: 12). لِذَلِكَ، لِيَكُنْ هَمُّنَا وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَتْبَعَ الرَّبَّ أَنْ نَجْلِسَ مَعَ أَنْفُسِنَا لِنَحْسِبَ النَّفَقَةَ، أَلاَ وَهِيَ: "الإِيمَانُ الحَيُّ العَامِلُ بِالمَحَبَّةِ" (غَلاَطِيَّة 5: 6).
29 مَخافَةَ أَن يَضَعَ الأَساسَ ولا يَقدِرَ على الإتمام، فيأخُذَ جَميعُ النَّاظِرينَ إِلَيه يَسخَرونَ مِنه.
"مَخافَةَ" في الأصل اليوناني ἵνα μήποτε (معناها ربما) تُشِيرُ إِلَى نَبْرَةٍ تَحْذِيرِيَّةٍ مِنَ التَّسَرُّعِ فِي اتِّخَاذِ قَرَارٍ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ المَشْرُوعِ. فَالتِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ لَا يَسِيرُ وَرَاءَ يَسُوعَ بِانْدِفَاعٍ سَطْحِيٍّ، بَلْ بِقَرَارٍ رَاسِخٍ وَمُدْرَكٍ لِلتَّبِعَاتِ.
"أَنْ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلا يَقْدِرَ عَلَى الإِتْمَامِ" تُشِيرُ إِلَى الاِلْتِزَامِ بِالفِطْنَةِ وَالقَنَاعَةِ حَسَبَ الإِمْكَانِيَّاتِ المُتَاحَةِ، كَمَا يَقُولُ المَثَلُ الشَّعْبِيُّ: "عَلَى قَدْرِ فِرَاشِكَ مِدَّ رِجْلَيْكَ." هُنَا يَدْعُونَا الإِنْجِيلُ إِلَى الحَذَرِ مِنَ الاندِفَاعِ وَالطُّمُوحِ وَالتَّهَوُّرِ فِي اِتِّبَاعِ يَسُوعَ، وَمِنَ الاِكْتِفَاءِ بِالعَاطِفَةِ الدِّينِيَّةِ السَّطْحِيَّةِ غَيْرِ المُؤَسَّسَةِ عَلَى الإِيمَانِ الرَّاسِخِ وَالمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَالإِرَادَةِ الصَّامِدَةِ أَمَامَ الصُّعُوبَاتِ. فَالعَاطِفَةُ وَحْدَهَا مُؤَقَّتَةٌ وَضَعِيفَةٌ، لاَ تَلْبَثُ أَنْ تَنْهَارَ وَتَضْمَحِلَّ أَمَامَ مَطَالِبِ يَسُوعَ الشَّاقَّةِ. لِذَلِكَ يُشَدِّدُ الإِنْجِيلُ عَلَى حِسَابِ النَّفَقَةِ وَوَضْعِ أَسَاسٍ مَتِينٍ فِي الإِيمَانِ، حَتَّى لاَ نَسْقُطَ فِي مَسِيرَةِ التِّلْمَذَةِ.
30 ويقولون: هذا الرَّجُلُ شَرَعَ في بِناءٍ ولَم يَقْدِرْ على إِتْمامِه.
"هَذَا الرَّجُلُ شَرَعَ فِي بِنَاءٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْمَامِهِ" تُشِيرُ هذِهِ العِبَارَةُ إِلَى حِسَابِ النَّفَقَةِ الَّتِي تَلْزَمُنَا لِاتِّبَاعِ المَسِيحِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي خِدْمَتِهِ. فَالتِّلْمَذَةُ لَيْسَتْ حَمَاسًا مُؤَقَّتًا، بَلْ مَسِيرَةً طَوِيلَةً تَطْلُبُ اِلْتِزَامًا كَامِلًا.
قَدْ فَسَّرَ يَسُوعُ المَقْصُودَ بِمَثَلَيْنِ خَاصَّيْنِ بِإِنْجِيلِ لُوقا:
• الأَوَّل: مَثَلُ بِنَاءِ البُرْج.
• الثَّانِي: مَثَلُ الشُّرُوعِ بِالحَرْب.
يُعَلِّقُ القُدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير قَائِلًا: "بِدُونِ قَبُولِ الصَّلِيبِ نَحْمِلُ اِسْمَ المَسِيحِ دُونَ حَيَاتِهِ فِينَا، وَيَكُونُ لَنَا مَنْظَرُ الصَّلِيبِ دُونَ قُوَّتِهِ. لِهَذَا تَتَطَلَّعُ إِلَيْنَا القُوَّاتُ الشَّرِيرَةُ وَتَهْزَأُ بِنَا، قَائِلَةً: "هَذَا الرَّجُلُ شَرَعَ فِي بِنَاءٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِتْمَامِهِ." وَيُضِيفُ: "إِنَّ لَنَا أَعْدَاءً كَثِيرِينَ يُرِيدُونَ الاِسْتِهْزَاءَ بِنَا، مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَنَامُوسِ الخَطِيئَةِ وَشَهَوَاتِ الجَسَدِ …".
تَطْبِيقٌ حَيَاتِيّ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا أَمَامَ مَشْرُوعٍ يُجِبُ تَنْفِيذَهُ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ يُوَاجِهُ صُعُوبَاتٍ كَثِيرَةً. فَهَلْ نَتَوَقَّفُ لِنَخْتَارَ الوَسِيلَةَ الَّتِي تَجْعَلُ مَشْرُوعَنَا يَتِمُّ بِنَجَاحٍ؟ هَذَا هُوَ السُّؤَالُ الَّذِي يَضَعُهُ الإِنْجِيلُ أَمَامَنَا، لأَنَّ الاِلْتِزَامَ بَلاَ إِتْمَامٍ يُعَرِّضُ التِّلْمِيذَ لِلسُّقُوطِ وَالاِسْتِهْزَاءِ.
31 أَم أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إلى مُحارَبَةِ مَلكٍ آخَر، ولا يَجلِسُ قَبلَ ذلك فيُفَكِّرُ لِيَرى هل يَستَطيعُ أَن يَلْقى بِعَشَرَةِ آلافٍ مَن يَزحَفُ إِلَيه بِعِشرينَ أَلفاً؟
"أَيُّ مَلِكٍ يَسيرُ إِلَى مُحارَبَةِ مَلِكٍ آخَر" تُشِيرُ هذِهِ العِبَارَةُ إِلَى أَنَّ الحَرْبَ عَمَلِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ تَفْكِيرًا وَمُثَابَرَةً، وَهَكَذَا لاَ يُمْكِنُ اتِّبَاعُ يَسُوعَ دُونَ تَفْكِيرٍ. فَإِنَّ اِتِّبَاعَهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَنْظِيمٍ وَحِسَابٍ، لأَنَّ حَمْلَ الصَّلِيبِ وَرَاءَ يَسُوعَ يَتَطَلَّبُ صِرَاعًا مَعَ عَدُوِّ الخَيْرِ، الَّذِي يَلْتَهِبُ حَسَدًا وَغَيْرَةً، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَنْ مُحَارَبَتِنَا بِكُلِّ طُرُقِ الخِدَاعِ لِتَحْطِيمِ أَعْمَاقِنَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "هُنَالِكَ حَرْبٌ أَعْمَقُ يَجِبُ عَلَيْنَا جَمِيعًا خَوْضُهَا، نَحْنُ جَمِيعًا! إِنَّهُ القَرَارُ القَوِيُّ وَالشُّجَاعُ بِنَبْذِ الشَّرِّ وَإِغْرَاءَاتِهِ وَاخْتِيَارِ الخَيْرِ، مُسْتَعِدِّينَ لِدَفْعِ الثَّمَنِ شَخْصِيًّا: إِنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى اتِّبَاعِ المَسِيحِ، وَحَمْلِ الصَّلِيبِ الخَاصِّ! هَذِهِ الحَرْبُ العَمِيقَةُ ضِدَّ الشَّرِّ! فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ شَنِّ الحُرُوبِ، الحُرُوبِ الكَثِيرَةِ، إِنْ كُنْتَ عَاجِزًا عَنْ خَوْضِ الحَرْبِ ضِدَّ الشَّرِّ؟".
"مَلِكٍ آخَر" تُشِيرُ إِلَى إِبْلِيسَ، إِلَهِ هَذَا الدَّهْرِ وَرَئِيسِ هَذَا العَالَمِ. وَلِحَسَدِهِ فَهُوَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَنْ مُحَارَبَتِنَا بِكُلِّ طُرُقِ الخِدَاعِ وَالكَذِبِ. وَإِنْ كَانَ إِبْلِيسُ يُصَارِعُ كَمَلِكٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْتَنِصَ الكُلَّ إِلَى مَمْلَكَةِ الظُّلْمَةِ، فَإِنَّنَا كَمُؤْمِنِينَ قَدِ ارْتَبَطْنَا بِمَلِكِ المُلُوكِ يَسُوعَ المَسِيحِ، فَصِرْنَا "مُلُوكًا" (رُؤْيَا 1: 6). وَيَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَلَيْسَ صِرَاعُنَا مَعَ اللَّحْمِ وَالدَّمِ، بَلْ مَعَ أَصْحَابِ الرِّئَاسَةِ وَالسُّلْطَانِ وَوُلاَةِ هَذَا العَالَمِ، عَالَمِ الظُّلُمَاتِ، وَالأَرْوَاحِ الخَبِيثَةِ فِي السَّمَاوَاتِ (أَفَسُس 6: 12).
"يَجْلِسُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُفَكِّرُ" تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذًا لِلمَسِيحِ، عَلَيْهِ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ التَّضْحِيَاتِ المَطْلُوبَةِ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِهَا بِقَلْبٍ كَبِيرٍ.
"عَشَرَةِ آلاَفٍ" الرَّقْمُ 10-يُشِيرُ إِلَى الوَصَايَا، وَالرَّقْمُ "1000" يُشِيرُ إِلَى الفِكْرِ الرُّوحِيِّ السَّمَاوِيِّ. فَالتِّلْمِيذُ يُحَارِبُ بِالمَسِيحِ يَسُوعَ سَالِكًا فِي الوَصِيَّةِ بِالفِكْرِ السَّمَاوِيِّ. وَحَرْبُهُ هُنَا هِيَ الاِلْتِزَامُ بِالوَصَايَا مَحَبَّةً فِي المَسِيحِ:
"مَنْ تَلَقَّى وَصَايَايَ وَحَفِظَهَا فَذَاكَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أَيْضًا أُحِبُّهُ فَأُظْهِرُ لَهُ نَفْسِي" (يُوحَنَّا 14: 21).
"بِعِشْرِينَ أَلْفًا" تُشِيرُ إِلَى العَدُوِّ الَّذِي يُحَارِبُ بِضَرَبَاتٍ يَمِينِيَّةٍ (10000) (بِرٌّ ذَاتِيّ)، وَضَرَبَاتٍ يَسَارِيَّةٍ (10000) (شَهَوَات). وَهُوَ يُحَارِبُ التَّلاَمِيذَ فِي الرُّوحَانِيَّاتِ (1000) لِيُخْرِجَهُم مِنْهَا، كَمَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ بُولُسُ الرَّسُولُ (أَفَسُس 6: 12). المُفَارَقَةُ هنا ان قُوَّةُ العَدُوِّ (20000) تَبْدُو أَكْبَرَ مِنْ قُوَّةِ التَّلاَمِيذِ (10000)، وَهُمُ "القَطِيعُ الصَّغِيرُ" (لوقا 12: 32) الَّذِي يُسَرُّ الآبُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فِي المَظْهَرِ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ أَمَامَ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّ الخَيْرِ، وَلَكِنْ بِقَدْرِ مَا يَتْرُكُونَ "جَمِيعَ أَمْوَالِهِم" أَيْ لاَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ذَوَاتِهِم وَلاَ عَلَى بِرِّهِم الذَّاتِيِّ، بَلْ عَلَى المَسِيحِ وَوَصَايَاهُ وَإِنْجِيلِهِ، فَإِنَّهُمْ يَحَارِبُونَ بِالمَسِيحِ، سَالِكِينَ فِي الوَصِيَّةِ بِالفِكْرِ السَّمَاوِيِّ، وَيَغْلِبُونَ الشَّرَّ.
إِذًا، يُوصِينَا يَسُوعُ فِي هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ (بِنَاءِ البُرْج وَالمَلِكِ الخَارِجِ لِلحَرْب) إِلَى الحَذَرِ وَالحِسَابِ مِنْ جِهَةٍ، وَإِلَى التَّقَدُّمِ بِالثِّقَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. فَكُلٌّ مِنَّا أَمَامَهُ مَشْرُوعٌ وَصُعُوبَاتٌ، فَهَلْ نَتَوَقَّفُ عِنْدَ العَقَبَاتِ، أَمْ نَخْتَارُ الوَسِيلَةَ الَّتِي تَجْعَلُ مَعْرَكَتَنَا تَتَكَلَّلُ بِالاِنْتِصَارِ؟
32 وإِلاَّ أَرسَلَ وَفْداً، مادام ذَلك المَلِكُ بعيداً عنه، يَسْأَلُه عن شُروطِ الصُّلْحِ.
"فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقَاتِلَ، أَرْسَلَ وَفْدًا وَطَلَبَ شُرُوطَ السَّلاَمِ" تُشِيرُ هذِهِ الآيَةُ إِلَى نَظَرِ المَلِكِ فِي قَبُولِ شُرُوطِ الصُّلْحِ لِكَيْ لاَ يَتَكَبَّدَ العَوَاقِبَ الَّتِي تَعْرِضُ نَفْسَهُ وَجُنُودَهُ لِلقَتْلِ وَأَمْوَالَهُ لِلهَلاَكِ. إِنَّهَا دَعْوَةٌ إِلَى الحِكْمَةِ وَالفِطْنَةِ فِي اِتِّخَاذِ القَرَارَاتِ.
المَقْصُودُ الرُّوحِيُّ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ هُوَ وُجُوبُ النَّظَرِ إِلَى عَوَاقِبِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. فَالتِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ مَدْعُوٌّ إِلَى:
• التَّوْبَةِ: كَخُرُوجٍ مِنْ حَالَةِ العَدَاوَةِ مَعَ اللهِ.
• الإِيمَانِ: كَسَبِيلٍ لِلدُّخُولِ فِي عَلاَقَةِ البُنُوَّةِ.
• إِنْكَارِ الذَّاتِ: كَشَرْطٍ لِلسَّيْرِ وَرَاءَ المَسِيحِ وَحَمْلِ الصَّلِيبِ.
وَهَكَذَا يُصْبِحُ قَبُولُ "شُرُوطِ السَّلاَمِ" هُوَ الاِسْتِسْلاَمُ الكَامِلُ لِنِعْمَةِ اللهِ، لِكَيْ يَسُودَ المَسِيحُ فِي الحَيَاةِ، وَتُهْزَمَ قُوَى الشَّرِّ فِي القَلْبِ.
33 وهكذا كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً.
"وَهكَذَا" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ οὕτως οὖν ( مَعْنَاهَا "فَكَذَلِكَ إِذًا") تُشِيرُ إِلَى هَذَا الأَمْرِ: كَمَا أَنَّ بَانِي البُرْجِ يَقْبَلُ بِكُلِّ النَّفَقَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِئَلَّا يَسْخَرَ النَّاسُ مِنْهُ، وَكَمَا أَنَّ المَلِك يَبْدَأُ بِمُحَادَثَاتِ سَلاَمٍ لِئَلَّا يُصَابَ بِهَزِيمَةٍ تَامَّةٍ، كَذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتُوقُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذًا لِلمَسِيحِ أَنْ يَقْبَلَ بِكُلِّ التَّضْحِيَاتِ المَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَهْلَكَ.
"لاَ يَتَخَلَّى" تُشِيرُ إِلَى نِدَاء التَّحَرُّرِ مِنَ المَالِ لِلاِغْتِنَاءِ عِنْدَ اللهِ (لوقا 12: 13-34). وَالتَّحَرُّرُ يَتَطَلَّبُ عَدَمَ اِتِّكَالِ التِّلْمِيذِ عَلَى أَمْوَالِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، بَلْ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهَا عَلَى المُحْتَاجِينَ، وَأَنْ يُنْكِرَ ذَاتَهُ وَيَنْبُذَ كُلَّ شَيْءٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى المَسِيحِ وَحْدَهُ. كَمَا أَوْصَى يَسُوعُ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَزْهَدْ فِي نَفْسِهِ، وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مَتَّى 16: 24). وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ تَخَلِّي أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ لأَجْلِ تَلْبِيَةِ دَعْوَةِ اللهِ، الَّذِي قَالَ لَهُ: "اِنْطَلِقْ مِنْ أَرْضِكَ وَعَشِيرَتِكَ وَبَيْتِ أَبِيكَ، إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. وَأَنَا أَجْعَلُكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَأُبَارِكُكَ وَأُعَظِّمُ اسْمَكَ، وَتَكُونُ بَرَكَةً" (التَّكْوِين 12: 1-2). وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "تِلْمِيذُ يَسُوعَ يَتَخَلَّى عَنْ جَمِيعِ الخَيْرَاتِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِي المَسِيحِ الخَيْرَ الأَعْظَم، ذَاكَ الخَيْرُ الَّذِي مِنْهُ تَنَالُ كُلُّ الخَيْرَاتِ الأُخْرَى مِلْءَ قِيمَتِهَا وَمَعْنَاهَا".
"جَمِيعِ أَمْوَالِهِ" تُشِيرُ إِلَى قَاعِدَةٍ مُطْلَقَةٍ لاَ تَحْتَمِلُ اِسْتِثْنَاءً أَوْ تَلْطِيفًا. لأَنَّ المَالَ قَدْ يَنْتَصِبُ سَيِّدًا بِلاَ رَحْمَةٍ:
• فَهُوَ يَخْنُقُ كَلِمَةَ الإِنْجِيلِ فِي قَلْبِ التِّلْمِيذِ (مَتَّى 13: 22).
• وَيُنْسِيهِ الأَمْرَ الجَوْهَرِيَّ، أَلاَ وَهُوَ سِيَادَةُ اللهِ عَلَيْهِ (لوقا 12: 15-21).
• وَيُعَطِّلُ عَن طَرِيقِ الكَمَالِ أَفْضَلَ القُلُوبِ اِسْتِعْدَادًا (مَتَّى 19: 21-22).
فَالغَنِيُّ الَّذِي لَهُ "خَيْرَاتُهُ" (لوقا 16: 25) وَعَزَاؤُهُ (لوقا 6: 24) فِي هَذَا العَالَمِ، لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ المَلَكُوتَ. وَقَدْ صَرَّحَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: "الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: يَعْسُرُ عَلَى الغَنِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ: لأَنْ يَمُرَّ الجَمَلُ مِنْ ثَقْبِ الإِبْرَةِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ الغَنِيُّ مَلَكُوتَ اللهِ" (مَتَّى 19: 23-24).
"لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" تُشِيرُ إِلَى اِسْتِعَادَةِ مَا وَرَدَ فِي الآيَتَيْنِ 26 وَ27 لِتَأْكِيدِ مَا يُمَيِّزُ وَضْعَ تِلْمِيذِ المَسِيحِ: اِلتِزَامٌ كَامِلٌ وَقَبُولٌ بِلَا قَيْدٍ وَلاَ شَرْطٍ. يَخْتِمُ لُوقا هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ (بِنَاءِ البُرْج وَالمَلِكِ الخَارِجِ لِلحَرْب) بِهَذِهِ الآيَةِ، فَيَجْعَلُ مِنْهُمَا دَعْوَةً إِلَى التَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الأَمْوَالِ، وَنِدَاءً إِلَى الزُّهْدِ وَالتَّجَرُّدِ وَالتَّحَرُّرِ (لوقا 12: 13-34؛ 16: 1-13؛ 18: 24-30).
ثانِيًا: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 14: 25-33)
اِنْطِلاَقًا مِنْ تَحْلِيلِ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 14: 25-33)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مُتَطَلَّبَاتِ اِتِّبَاعِ يَسُوعَ. وَمِنْ هُنَا نَتَسَاءَلُ: مَا مَعْنَى اِتِّبَاعِ يَسُوعَ؟ وَمَا هِيَ شُرُوطُهُ وَالْتِزَامَاتُهُ؟
1) مَا مَعْنَى اِتِّبَاعِ يَسُوعَ؟
اِتِّبَاعُ السَّيِّدِ المَسِيحِ مَعْنَاهُ السَّيْرُ فِي طُرُقِ اللهِ الَّتِي خَطَّهَا يَسُوعُ المَسِيحُ، دَاعِيًا جَمِيعَ البَشَرِ إِلَى مَلَكُوتِ الخَلاَصِ. وَهَذَا الاِتِّبَاعُ يَفْتَرِضُ دَعْوَةً إِلَهِيَّةً، كَمَا حَدَثَ مَعَ التَّلاَمِيذِ الَّذِينَ سَمِعُوا نِدَاءَهُ فَلَبَّوْا الدَّعْوَةَ: "كانَ يسوعُ سائِرًا عَلَى شاطِئِ بَحرِ الجَليل، رَأَى سِمعانَ وَأَخاهُ أَندَراوُس يُلقِيانِ الشَّبَكَةَ فِي البَحرِ، لأَنَّهُما كانا صَيَّادَيْن. فَقالَ لَهُما: اِتْبَعانِي أَجعَلْكُما صَيَّادَي بَشَر. فَتَرَكا الشِّباكَ لِوَقتِهِما وَتَبِعاهُ" (مَرقُس 1: 16-18).
• اِتَّبَعَ التَّلاَمِيذُ يَسُوعَ كَـ الْقَطِيعِ لِرَاعِيهِ (مَزْمُور 80: 2).
• وَكَـ الشَّعْبِ لِمَلِكِهِ (2 صَمُوئِيل 15: 13).
• وَكَـ المُؤْمِنِ لإِلَهِهِ (1 مُلُوك 18: 21).
المَطْلُوبُ إِذًا لِكَيْ يُصْبِحَ الإِنْسَانُ تِلْمِيذًا لِيَسُوعَ، لَيْسَ الاِسْتِعْدَادَاتِ الفِكْرِيَّةَ (الذَّكَاءَ) وَلاَ حَتَّى الأَدَبِيَّةَ، بَلْ الدَّعْوَةَ وَالنِّدَاءَ الحُرَّ الَّذِي يُوَجِّهُهُ يَسُوعُ:"اِتْبَعْنِي" (يُوحَنَّا 1: 43). فِي الإِنْجِيلِ يَدُلُّ اللَّفْظُ اليُونَانِيُّ ἀκολουθέω (يَتْبَعُ) عَلَى التَّعَلُّقِ بِشَخْصِ يَسُوعَ. كَمَا عَبَّرَ أَحَدُ أَتْبَاعِهِ:
"يَا مُعَلِّم، أَتْبَعُكَ حَيْثُ تَمْضِي" (مَتَّى 8: 19).
وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، فَإِنَّ فِعْلَ "يَتْبَعُ" فِي مَفْهُومِ التَّلاَمِيذِ يَعْنِي:
• قَطْعَ كُلِّ عَلاَقَةٍ بِالمَاضِي.
• وَالتَّعَلُّقَ الكُلِّيَّ وَالخُضُوعَ المُطْلَقَ لِيَسُوعَ.
• وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ وَالاِقْتِدَاءِ بِهِ.
أ) اِتِّبَاعُ يَسُوعَ عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ
فِي مَفْهُومِ يُوحَنَّا الرَّسُولِ، اِتِّبَاعُ المَسِيحِ يَعْنِي الإِيمَانَ بِهِ إِيمَانًا كَامِلًا، مِنْ خِلَالِ الآيَاتِ الخَارِجِيَّةِ، كَمَا صَرَّحَ السَّامِرِيُّونَ لِلمَرْأَةِ السَّامِرِيَّةِ: "لا نُؤمِنُ الآنَ عَنْ قَولِكِ، فَقَدْ سَمِعْنَاهُ نَحْنُ وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العَالَمِ حَقًّا" (يُوحَنَّا 4: 42). هَذَا الإِيمَانُ يَتَغَلَّبُ عَلَى كُلِّ تَرَدُّدٍ مِنْ جَانِبِ الحِكْمَةِ البَشَرِيَّةِ: "فَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، لِمَا رَأَوْا مِنَ الآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا عَلَى المَرْضَى" (يُوحَنَّا 6: 2).
وَيَعْنِي اِتِّبَاعُ يَسُوعَ أَيْضًا أَنَّهُ اِتِّبَاعُ نُورِ العَالَمِ وَاتِّخَاذُهُ رَائِدًا، كَمَا أَعْلَنَ يَسُوعُ: "أَنَا نُورُ العَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي لا يَمْشِ فِي الظَّلاَمِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاةِ" (يُوحَنَّا 8: 12).
وَيُفِيدُ الاِتِّبَاعُ أَيْضًا الاِنْتِظَامَ فِي صَفِّ الخِرَافِ الَّتِي يَجْمَعُهَا الرَّاعِي الوَاحِدُ فِي قَطِيعٍ وَاحِدٍ: "الخِرَافُ إِلَى صَوْتِهِ تُصْغِي. يَدْعُو خِرَافَهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاسْمِهِ وَيُخْرِجُهَا" (يُوحَنَّا 10: 3).
ب) اِتِّبَاعُ يَسُوعَ عَنْ طَرِيقِ الاِقْتِدَاءِ
يُؤَدِّي اِتِّبَاعُ يَسُوعَ عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ إِلَى الاِقْتِدَاءِ بِهِ وَبِمِثَالِهِ وَسَمَاعِ تَعْلِيمِهِ، وَمُطَابَقَةِ الحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ عَلَى خُطَاهُ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَزْهَدْ فِي نَفْسِهِ، وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. لأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ حَيَاتَهُ يُفْقِدْهَا، وَأَمَّا الَّذِي يُفْقِدُ حَيَاتَهُ فِي سَبِيلِي وَسَبِيلِ البِشَارَةِ فَإِنَّهُ يُخَلِّصُهَا" (مَرقُس 8: 34-35). وَيُؤَكِّدُ بُولُسُ الرَّسُولُ أَنَّ اِتِّبَاعَ يَسُوعَ يَتِمُّ عَنْ طَرِيقِ الاِقْتِدَاءِ بِمَوْتِ المَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ وَتَطْبِيقِ ذَلِكَ فِي الحَيَاةِ:
• وَهَذَا التَّطْبِيقُ يَبْدَأُ بِسِرِّ المَعْمُودِيَّةِ: "أَوَ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا، وَقَدِ اِعْتَمَدْنَا جَمِيعًا فِي يَسُوعَ المَسِيحِ، إِنَّمَا اِعْتَمَدْنَا فِي مَوْتِهِ؟ فَدُفِنَّا مَعَهُ فِي مَوْتِهِ بِالمَعْمُودِيَّةِ لِنَحْيَا نَحْنُ أَيْضًا حَيَاةً جَدِيدَةً كَمَا أُقِيمَ المَسِيحُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ" (رُومَة 6: 3-4).
• وَيَكْتَمِلُ بِالاِقْتِدَاءِ بِالمَسِيحِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ: "اِقْتَدُوا بِي كَمَا أَقْتَدِي أَنَا بِالمَسِيحِ" (1 قورنتس 11: 1).
• وَبِالاِشْتِرَاكِ بِالاِخْتِيَارِ فِي الأَلَمِ، الَّذِي مِنْ خِلاَلِهِ تَظْهَرُ قُوَّةُ القِيَامَةِ: "نَحْمِلُ فِي أَجْسَادِنَا كُلَّ حِينٍ مَوْتَ المَسِيحِ، لِتَظْهَرَ فِي أَجْسَادِنَا حَيَاةُ المَسِيحِ أَيْضًا" (2 قورنتس 4: 10).
بِاخْتِصَارٍ، إِنَّ اِتِّبَاعَ المَسِيحِ يَعْنِي:
• الإِيمَانَ بِهِ كَتَلاَمِيذَ.
• وَالاِقْتِدَاءَ بِهِ وَالسَّيْرَ عَلَى نَهْجِهِ.
• وَالاِلْتِزَامَ بِرِسَالَتِهِ وَحِفْظَ وَصَايَاهُ وَالتَّبْشِيرَ بِهَا.
• وَتَكْرِيسَ حَيَاتِنَا مُخْلِصِينَ لَهُ حَتَّى النِّهَايَةِ.
وَخِلالَ هَذِهِ المَسِيرَةِ نَحْتَمِلُ الآلاَمَ مِنْ أَجْلِهِ، مُتَشَبِّهِينَ بِمَنْ أَحَبَّنَا حَتَّى المُنْتَهَى. وَلِهَذَا فَإِنَّ لاِتِّبَاعِ يَسُوعَ بَعْضُ الشُّرُوطِ أَوِ المُتَطَلَّبَاتِ الَّتِي سَيَرِدُ ذِكْرُهَا. يَشْتَرِطُ يَسُوعُ مِنْ أَتْبَاعِهِ ثَلاَثَةَ مُتَطَلَّبَاتٍ، وَهِيَ: الزُّهْدُ بِالذَّاتِ، حَمْلُ الصَّلِيبِ، التَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الأَمْوَالِ.
المُتَطَلَّبُ الأَوَّلُ: الزُّهْدُ بِالذَّاتِ
يَقُومُ هَذَا المُتَطَلَّبُ عَلَى إِنْكَارِ الذَّاتِ، لأَنَّ حُضُورَ الذَّاتِ يُعَطِّلُ كُلَّ اِتِّجَاهٍ نَحْوَ اللهِ، بَيْنَمَا إِزَاحَتُهَا تُتِيحُ لِلمَسِيحِ أَنْ يَكُونَ الكُلَّ فِي الكُلِّ، الأَوَّلَ وَالآخِرَ، مَحْبُوبًا وَمُطَاعًا أَكْثَرَ مِنَ النَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالعَالَمِ كُلِّهِ. يَقُومُ الزُّهْدُ بِالذَّاتِ عَلَى:
• التَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ عَزِيزٌ عَلَى قَلْبِنَا، حَتَّى عَنْ عَوَاطِفِ المَوَدَّةِ الشَّرْعِيَّةِ (لوقا 14: 26).
• وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الرَّغَبَاتِ وَالمَلَذَّاتِ الأَرْضِيَّةِ وَالمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ.
• وَالمُشَارَكَةِ فِي آلاَمِ المَعَلِّمِ (لوقا 14: 27).
• وَالاِسْتِعْدَادِ لِلتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الإِنْسَانُ مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ (لوقا 14: 33).
هَذَا الزُّهْدُ يَتَطَلَّبُ مِنَ التِّلْمِيذِ التَّحَرُّرَ مِنَ الذَّاتِ عِنْدَمَا يَسْعَى لِتَحْقِيقِ الأَمْنِ وَالحَيَاةِ بِوَسَائِلِهِ، بَدَلًا مِنَ اللهِ، وَإِلاَّ وَجَدَ نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقِ المَوْتِ.
يُلَخِّصُ إِنْجِيلُ مَتَّى هَذَا المُطْلَبَ الأَوَّلَ بِقَوْلِ يَسُوعَ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَزْهَدْ فِي نَفْسِهِ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" مَتَّى 16: 24). فَيَنْبَغِي لِلتِّلْمِيذِ:
• أَلاَّ يَمُوتَ فِي ذَاتِهِ فَحَسْب، بَلْ أَنْ يَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا.
• أَنْ يَقْطَعَ كُلَّ عَلاَقَةٍ طَبِيعِيَّةٍ مَعَ أَهْلِهِ فِي حَالَةِ وُقُوفِهِمْ فِي وَجْهِ إِيمَانِهِ (مَتَّى 10: 33-39).
• أَنْ يَقْبَلَ وَضْعَهُ كَمُضْطَهَدٍ: "جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْيَوْا حَيَاةَ التَّقْوَى فِي المَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ" (2 طِيمُوثَاوُس 3: 12).
في بُعْدٌ لاهُوتِيٌّ، يَتِمُّ الزُّهْدُ بِالذَّاتِ مِنْ خِلَالِ:
• المَوْتِ عَنِ الخَطِيئَةِ: "فَكَذَلِكَ أَحْسِبُوا أَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَمْوَاتٌ عَنِ الخَطِيئَةِ، أَحْيَاءٌ للهِ فِي يَسُوعَ المَسِيحِ" (رُومَة 6: 11).
• المَوْتِ عَنِ الإِنْسَانِ القَدِيمِ: "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ إِنْسَانَنَا القَدِيمَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيَزُولَ هَذَا البَشَرُ الخَاطِئُ، فَلاَ نَظَلَّ عَبِيدًا لِلخَطِيئَةِ" (رُومَة 6: 6).
• المَوْتِ عَنْ شَهَوَاتِ الجَسَدِ: "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ صَلَبُوا الجَسَدَ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَاءٍ وَشَهَوَاتٍ" (غَلاَطِيَّة 5: 24).
• المَوْتِ عَنْ أَرْكَانِ العَالَمِ: (قُولُسِّي 2: 20).
وخير مثال على الزُّهْدِ بِالذَّاتِ هو يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الَّذِي اِحْتَمَلَ ظُلْمَ الاِتِّهَامِ وَظَلاَمَ السِّجْنِ الطَّوِيلِ، وَأَبَى السُّقُوطَ فِي الشَّهَوَاتِ، رَافِضًا أَنْ يُخْطِئَ إِلَى اللهِ فِي تَجْرِبَةِ اِمْرَأَةِ فُوطِيفَار: "هُوَذَا سَيِّدِي كُلُّ مَا هُوَ لَهُ قَدْ جَعَلَهُ فِي يَدِي. وَلَيْسَ هُوَ أَكْبَرَ مِنِّي فِي هَذَا البَيْتِ، وَلَمْ يُمْسِكْ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَكِ لأَنَّكِ زَوْجَتُهُ. فَكَيْفَ أَصْنَعُ هَذِهِ السَّيِّئَةَ العَظِيمَةَ وَأُخْطِئَ إِلَى اللهِ؟" (تَكْوِين 39: 9).
ولنا أيضًا شَهَادَةٌ رُوحِيَّةٌ في القِدِّيسَةُ تِرِيزَا دِي كَالْكُوتَا التي رفعت صَلاَتَهَا قَائِلَةً: "اِجْعَلْنَا، يَا رَبّ، نَفْهَمْ أَنَّنَا لَنْ نَبْلُغَ مِلْءَ الحَيَاةِ إِلَّا بِمَوْتٍ مُسْتَمِرٍّ عَنْ ذَاتِنَا وَعَنْ رَغَبَاتِنَا الأَنَانِيَّةِ، لأَنَّنَا فَقَطْ عِنْدَمَا نَمُوتُ مَعَكَ، يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُومَ مَعَكَ".
إِنَّ التِّلْمِيذَ، وَقَدْ زَهِدَ فِي ذَاتِهِ وَمُمْتَلَكَاتِهِ، يَتَعَلَّمُ أَنْ يَتْبَعَ يَسُوعَ حَتَّى الصَّلِيبِ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَنِي، فَلْيَزْهَدْ فِي نَفْسِهِ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي" (مَتَّى 16: 24). وَعِنْدَمَا يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ تَلاَمِيذِهِ مِثْلَ هَذِهِ التَّضْحِيَةِ، فَلاَ يَقْصِرُهَا عَلَى خَيْرَاتِهِمْ وَمُمْتَلَكَاتِهِمْ فَحَسْب، بَلْ يَطْلُبُ أَيْضًا تَضْحِيَةَ أَشْخَاصِهِمْ. وَبِذَلِكَ يُظْهِرُ نَفْسَهُ كَإِلَهٍ، وَيُبَيِّنُ نِهَائِيًّا إِلَى أَيِّ مَدًى تَبْلُغُ مُتَطَلَّبَاتُ اللهِ. غَيْرَ أَنَّ التَّلاَمِيذَ لَنْ يَسْتَطِيعُوا أَدَاءَ هَذِهِ المُتَطَلَّبَاتِ إِلاَّ عِنْدَمَا يُتَمِّمُ يَسُوعُ أَوَّلًا فِعْلَ هَذِهِ التَّضْحِيَةِ فِي مَوْتِهِ وَفِصْحِهِ.
وخير مِثَالٌ بُطْرُسُ، الَّذِي كَانَ مُسْتَعِدًّا بِالرُّوحِ لاِتِّبَاعِ يَسُوعَ حَيْثُمَا يَذْهَبُ (مَتَّى 26: 35)، لَكِنَّهُ لِضَعْفِهِ تَرَكَهُ أُسْوَةً بِبَاقِي التَّلاَمِيذِ (مَتَّى 26: 56). لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُدْرِكَ أَمْرَ التَّبَعِيَّةِ إِلاَّ عِنْدَمَا فَتَحَ يَسُوعُ الطَّرِيقَ بِمَوْتِهِ وَقِيَامَتِهِ. عِنْدَئِذٍ فَقَطْ تَحَقَّقَ مَا قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ شَابًّا كُنْتَ تَتَزَنَّرُ بِيَدَيْكَ وَتَسِيرُ إِلَى حَيْثُ تَشَاء. فَإِذَا شِخْتَ بَسَطْتَ يَدَيْكَ، وَشَدَّ غَيْرُكَ لَكَ الزُّنَّارَ، وَمَضَى بِكَ إِلَى حَيْثُ لاَ تَشَاء. قَالَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى المِيتَةِ الَّتِي سَيُمَجِّدُ بِهَا اللهَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: اِتْبَعْنِي!" (يُوحَنَّا 21: 18-19).
وَالمُؤْمِنُ الَّذِي يَتْبَعُ المَسِيحَ "حَيْثُمَا يَذْهَبُ" (رُؤْيَا 14: 4)، عِنْدَئِذٍ يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَعْدُ يَسُوعَ: "مَن أَرَادَ أَنْ يَخْدُمَنِي، فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا يَكُونُ خَادِمِي" (يُوحَنَّا 12: 26).
الزُّهْدُ بِالذَّاتِ يُسَاعِدُنَا عَلَى أَنْ نَضَعَ مَحَبَّةَ اللهِ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "مَن أَتَى إِلَيَّ وَلَمْ يُفَضِّلْنِي عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ وَبَنِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، بَلْ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لوقا 14: 26).
مَا يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَنَا إِيَّاهُ يَسُوعُ يَظْهَرُ وَاضِحًا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى: "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوْ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (مَتَّى 10: 37). فَبِقَوْلِهِ: "أَكْثَرَ مِنِّي" أَوْضَحَ يَسُوعُ أَنَّهُ يَسْمَحُ لَنَا بِالمَحَبَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَمَحَبَّةُ الإِنْسَانِ لِلهِ تَسْمُو عَلَى كُلِّ مَحَبَّةٍ أُخْرَى. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس:
"نَتِيجَةَ رَحْمَتِهِ، دَعَا الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيحُ الجَمِيعَ، لَكِنَّ تَخَاذُلَنَا أَوْ ضَيَاعَنَا هُوَ الَّذِي يُبْعِدُنَا عَنِ المَلَكُوتِ. مِثْلَ ذَاكَ الَّذِي اِعْتَذَرَ لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: "مَن أَتَى إِلَيَّ وَلَمْ يُفَضِّلْنِي … لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لوقا 14: 26)". إِذًا، الزُّهْدُ يُحَرِّرُنَا مِنْ كُلِّ عَائِقٍ أُسْرِيٍّ، فَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَّبِعَ المَسِيحَ (مَتَّى 16: 25). فَيَسُوعُ لاَ يُرِيدُنَا أَنْ نَرْفُضَ المَحَبَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ العَائِلِيَّةَ، بَلْ أَنْ يَكُونَ حُبُّنَا لَهُ أَكْبَرَ وَأَعْلَى.
إِنَّ مَحَبَّةَ الأَهْلِ وَإِكْرَامَهُم وَمَحَبَّةَ العَائِلَةِ هِيَ وَصِيَّةٌ مِنْ وَصَايَا اللهِ وَوَاجِبٌ، وَلَكِنَّهَا تَأْتِي بَعْدَ مَحَبَّةِ المَسِيحِ. وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ المَحَبَّةُ أَحْيَانًا مُبَرِّرًا لِعَدَمِ خِدْمَةِ اللهِ أَوْ إِنْجَازِ عَمَلٍ، كَمَا ادَّعَى بَعْضُ الكَتَبَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ:
"وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ أُسَاعِدُكَ بِهِ جَعَلْتُهُ قُرْبَانًا، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُكْرِمَ أَبَاهُ. لَقَدْ نَقَضْتُمْ كَلاَمَ اللهِ مِنْ أَجْلِ سُنَّتِكُمْ" (مَتَّى 15: 5). هُنَا يُوَضِّحُ السَّيِّدُ المَسِيحُ أَنَّ إِكْرَامَ الوَالِدَيْنِ وَصِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، بَلْ وَوَبَّخَ اليَهُودَ بِشِدَّةٍ، لأَنَّهُمْ بِعَدَمِ اِلْتِزَامِهِم بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ قَدْ خَالَفُوا وَتَعَدَّوْا عَلَى النَّامُوسِ.
بِمَا أَنَّ تِلْمِيذَ يَسُوعَ لاَ يَرْتَبِطُ بِتَعْلِيمٍ بَلْ بِشَخْصٍ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتْرُكَ مُعَلِّمَهُ، لأَنَّهُ أَصْبَحَ مُرْتَبِطًا بِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ (لوقا 14: 25-26). فَاتِّبَاعُ يَسُوعَ، فِي الوَاقِعِ، لاَ يَعْنِي اعْتِنَاقَ تَعْلِيمٍ أَدَبِيٍّ وَرُوحِيٍّ فَحَسْب، بَلْ مُشَارَكَتَهُ فِي مَصِيرِهِ أَيْضًا: فِي آلاَمِهِ وَمَجْدِهِ.
فِي الوَاقِعِ، كَانَ التَّلاَمِيذُ مُسْتَعِدِّينَ لِمُشَارَكَتِهِ فِي مَجْدِهِ، كَمَا صَرَّحَ بُطْرُسُ: "هَا قَدْ تَرَكْنَا نَحْنُ كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ، فَمَاذَا يَكُونُ مَصِيرُنَا؟" (مَتَّى 19: 27). وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمُوا أَنَّهُمْ لاَ بُدَّ لَهُمْ أَنْ يُشَارِكُوهُ أَوَّلًا فِي تَجَارِبِهِ وَآلاَمِهِ.
لِذَا يُطَالِبُ يَسُوعُ تِلْمِيذَهُ بِـ الزُّهْدِ بِالذَّاتِ:
• بِتَفْضِيلِ يَسُوعَ عَلَى نَفْسِهِ (لوقا 14: 26).
• وَبِالتَّجَرُّدِ الكَامِلِ.
• وَبِتَرْكِ الأَقَارِبِ إِنْ كَانُوا عَائِقًا (مَتَّى 8: 19-22).
• دُونَ مُقَاسَمَةٍ أَوْ رُجُوعٍ (لوقا 9: 61-62).
وَهَذَا النِّدَاءُ قَدْ يُدْعَى إِلَيْهِ الجَمِيعُ، وَلَكِنْ لَيْسَ الجَمِيعُ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُلَبُّوا هَذَا النِّدَاءَ (مَتَّى 19: 22-24).
نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الزُّهْدَ المَطْلُوبَ مِنَّا هُوَ أَنْ نَقْطَعَ كُلَّ اِهْتِمَامٍ (رَوَابِطَ أُسَرِيَّةً – مَالًا – كَرَامَةً) يُعَطِّلُنَا عَنِ النُّمُوِّ فِي مَحَبَّةِ رَبِّنَا، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لَهَا سُمُوُّهَا أَكْثَرُ مِنْ تَكْرِيمِ الوَالِدَيْنِ وَمَحَبَّتِهِمَا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "اللهُ لاَ يُرِيدُنَا أَنْ نَجْهَلَ الحُبَّ العَائِلِيَّ وَلاَ أَيْضًا أَنْ نُسْتَعْبَدَ لَهُ، وَإِنَّمَا أَنْ نُخْضِعَ الطَّبِيعَةَ، وَنُكْرِمَ خَالِقَ الطَّبِيعَةِ، فَلاَ نَتَخَلَّى عَنِ اللهِ بِسَبَبِ حُبِّنَا لِلوَالِدَيْنِ". فَاتِّبَاعُ المَسِيحِ هُوَ هِبَةُ الذَّاتِ لِلمَسِيحِ، وَهَذَا الأَمْرُ يَتَطَلَّبُ أَنْ نَضَعَهُ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ فِي الحَيَاةِ قَبْلَ الذَّاتِ وَالأَهْلِ.
المُتَطَلَّبُ الثَّانِي: حَمْلُ الصَّلِيبِ
يَقُومُ المُطْلَبُ الثَّانِي لاِتِّبَاعِ يَسُوعَ عَلَى حَمْلِ الصَّلِيبِ. قَالَ يَسُوعُ: "وَمَنْ لَمْ يَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لوقا 14: 27). فَفِي زَمَنِ المَسِيحِ، "حَمْلُ الصَّلِيبِ" مَعْنَاهُ أَنْ يَتَخَلَّى الإِنْسَانُ عَنْ حَيَاتِهِ، وأَنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلمَوْتِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَنْ يَمُوتَ (لوقا 17: 33). فِي هَذَا المَعْنَى، يَعْنِي "حَمْلُ صَلِيبِهِ" أَنْ نَكُونَ فِي وَضْعٍ نَتَحَمَّلُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ، حَتَّى المَوْتَ. عَلَى التِّلْمِيذِ أَنْ يَقْبَلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَمَّلَهُ كَوَسِيلَةٍ لِلتَّضْحِيَةِ بِنَفْسِهِ حَتَّى المَوْتِ. فَالتِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي مَوْقِفِ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالمَوْتِ، فَحَمَلَ أَدَاةَ تَعْذِيبِهِ وَمَوْتِهِ.
قَبْلَ المَسِيحِ، كَانَ الصَّلِيبُ يُرْمَزُ إِلَى العَارِ وَالأَلَمِ. لَكِنَّ مَعَ المَسِيحِ أَصْبَحَ يَرْمُزُ أَوَّلًا إِلَى المَحَبَّةِ وَالتَّضْحِيَةِ وَالعَطَاءِ. فَدَعْوَةُ يَسُوعَ المُتَطَلِّبَةُ لِحَمْلِ صَلِيبِهِ وَرَاءَهُ، هِيَ فِي الأَسَاسِ إِحْدَى مُتَطَلَّبَاتِ الحُبِّ الإِنْسَانِيِّ نَفْسِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ اللهَ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ الصَّلِيبِ: "مَنْ فَقَدَ حَيَاتَهُ فِي سَبِيلِي يَحْفَظْهَا" (مَتَّى 10: 39ب).
صَلِيبُ المَسِيحِ هُوَ أَيْضًا أَعْظَمُ بُرْهَانٍ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا، وَهُوَ أَفْضَلُ تَعْبِيرٍ عَنْ هَذَا الحُبِّ الكَبِيرِ. فَكُلُّ أَنْوَاعِ الحُبِّ تَحْتَاجُ إِلَى لُغَةِ التَّضْحِيَةِ أَوِ الذَّبِيحَةِ، أَيْ الصَّلِيبِ. هَذَا المَوْقِفُ لَوِ اعْتَنَقْنَاهُ، قَدْ يُعَرِّضُنَا لِلاِحْتِقَارِ أَوْ عَدَمِ تَفَهُّمِ الآخَرِينَ أَوْ لِلسُّخْرِيَةِ أَوْ لِلنَّمِيمَةِ. وَلَكِنْ لاَ نَنْسَى أَنَّ يَسُوعَ بَعْدَ أَنْ حَمَلَ صَلِيبَهُ وَسُمِّرَ عَلَيْهِ، قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ. فَإِنْ كُنَّا نَتَقَبَّلُ مَا تَحْمِلُهُ لَنَا الحَيَاةُ مِنْ آلاَمٍ، اِنسِجَامًا مَعَ دَعْوَتِنَا المَسِيحِيَّةِ، نَكْتَشِفُ فِي حِينِهِ أَنَّ الصَّلِيبَ دَرْبٌ يَقُودُنَا إِلَى فَرَحٍ جَدِيدٍ، وَتَنْتَمِي إِلَيْهِ نُمُوُّنَا الرُّوحِيُّ وَيَثْبُتُ فِينَا مَلَكُوتُ اللهِ. فِي هَذَا الصَّدَدِ، أَكَّدَتِ الطَّبِيبَةُ إِرِيكَا فِيلِيلَا (مُؤَسِّسَةُ أَبْنَاءِ مَرْيَم): "إِنَّ الصَّلِيبَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي مَعْنًى لِلأَلَمِ وَقُوَّةً لِلآمَلِ، فَيَثْبُتُ المُؤْمِنُ فِي إِيمَانِهِ وَفِي مَسِيرَتِهِ مَعَ المَسِيحِ. الصَّلِيبُ (أَيِ المَرَضُ وَالأَلَمُ) مَعَ المَسِيحِ هُوَ اِنتِصَارٌ".
كَانَ الجُمْهُورُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَى يَسُوعَ يُدْرِكُونَ تَمَامًا مَعْنَى "حَمْلِ الصَّلِيبِ". فَعِنْدَمَا كَانَ الرُّومَانُ يَسُوقُونَ مُجْرِمًا لِتَنْفِيذِ حُكْمِ الإِعْدَامِ، كَانُوا يُجْبِرُونَهُ عَلَى حَمْلِ الصَّلِيبِ الَّذِي سَيُعَلَّقُ عَلَيْهِ، إِلَى مَكَانِ التَّنْفِيذِ. وَهَذَا كَانَ يُظْهِرُ خُضُوعَهُ لِرُومَا، وَيُحَذِّرُ الآخَرِينَ أَيْضًا حَتَّى يَخْضَعُوا.
وَيَسُوعُ، المَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالصَّلْبِ، حَمَلَ صَلِيبَهُ إِلَى مَكَانِ التَّنْفِيذِ، كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: "خَرَجَ حَامِلًا صَلِيبَهُ إِلَى المَكَانِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَكَانُ الجُمْجُمَةِ، وَيُقَالُ لَهُ بِالعِبْرِيَّةِ جُلْجُثَة" (يُوحَنَّا 19: 17). فَاتِّبَاعُ يَسُوعَ مَعْنَاهُ الخُضُوعُ الكَامِلُ لَهُ حَتَّى المَوْتِ. وَهَذَا يَتَطَلَّبُ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَتْبَعَهُ أَلاَّ يَنْدَفِعَ فِي حِمَاسٍ سَطْحِيٍّ، بَلْ أَنْ يُدْرِكَ أَنَّ لِلاِتِّبَاعِ ثَمَنًا. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "إِنَّ السَّيِّدَ لاَ يُطَالِبُنَا أَنْ نَضَعَ صَلِيبًا مِنْ خَشَبٍ لِنَحْمِلَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا أَنْ نَضَعَ المَوْتَ نُصْبَ أَعْيُنِنَا".
فِي زَمَنِ آبَاءِ الكَنِيسَةِ، اِتَّخَذَتِ العِبَارَةُ "حَمْلُ الصَّلِيبِ" مَعْنًى رَمْزِيًّا. فَالصَّلِيبُ أَصْبَحَ اِسْتِعَارَةً تَدُلُّ عَلَى الأَحْدَاثِ الَّتِي تُضَايِقُنَا فِي حَيَاتِنَا، وَتُقْلِقُنَا وَتُؤْلِمُنَا. فِي هَذَا المَفْهُومِ، تَعْنِي عِبَارَةُ "حَمْلُ الصَّلِيبِ" الدُّخُولَ فِي مَخَطَّطِ اللهِ، وَالقَبُولَ بِسَخَاءٍ بِهَذِهِ الأَحْدَاثِ المُؤْلِمَةِ كَأَنَّهَا أَدَاةُ خَلاَصِنَا، وَكَأَنَّهَا وَسَائِلُ تُرْسِلُهَا العِنَايَةُ مِنْ أَجْلِ تَقَدُّمِ مَلَكُوتِ اللهِ. فَعِنْدَمَا نَحْمِلْ صَلِيبَنَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ نَتْبَعْ يَسُوعَ حَقًّا.
حَمْلُ الصَّلِيبِ: مِنَ العَارِ إِلَى المَجْدِ
مَاتَ يَسُوعُ مَصْلُوبًا، فَأَصْبَحَ الصَّلِيبُ أَدَاةً لِلفِدَاءِ، مَعَ المَوْتِ وَالأَلَمِ وَالدَّمِ، أَحَدَ الأَرْكَانِ الأَسَاسِيَّةِ الَّتِي تُسَاعِدُ عَلَى تَذْكِيرِنَا بِخَلاَصِنَا. فَالصَّلِيبُ لَمْ يَعُدْ عَارًا، بَلْ أَصْبَحَ مُطْلَبًا وَعُنْوَانًا لِلمَجْدِ، لِلمَسِيحِ أَوَّلًا ثُمَّ لِلمَسِيحِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا أَعْلَنَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَإِنَّنَا نُبَشِّرُ بِمَسِيحٍ مَصْلُوبٍ، عِثَارٍ لِليَهُودِ وَحَمَاقَةٍ لِلوَثَنِيِّينَ" (1 قورنتس 1: 23). حَمَلَ يَسُوعُ الصَّلِيبَ مِنْ أَجْلِنَا، فَلْنَحْمِلْهُ نَحْنُ أَيْضًا مِنْ أَجْلِهِ! هَذَا هُوَ حِسَابُ النَّفَقَةِ الَّذِي سَأَلَنَا أَنْ نَضَعَهُ فِي الاِعْتِبَارِ لِبِنَاءِ بُرْجِ التِّلْمَذَةِ أَوْ لِمُحَارَبَةِ مَلِكٍ آخَرَ، أَيْ إِبْلِيسَ.
نَسْتَنْتِجُ أَنَّ المَعْنَى المُبَاشِرَ لِحَمْلِ الصَّلِيبِ هُوَ قَبُولُ الأَلَمِ وَالعَارِ وَالاِضْطِهَادِ وَالظُّلْمِ بِأَنْوَاعِهِ، مِنْ أَجْلِ المَسِيحِ، حَتَّى بَذْلِ الحَيَاةِ شَهَادَةً لَهُ. وَلَمْ يَتَرَدَّدْ بُطْرُسُ الرَّسُولُ فِي تَشْجِيعِ المُؤْمِنِينَ عَلَى حَمْلِ الصَّلِيبِ: "فَقَدْ تَأَلَّمَ المَسِيحُ أَيْضًا مِنْ أَجْلِكُمْ، وَتَرَكَ لَكُمْ مِثَالًا لِتَقْتَفُوا آثَارَهُ" (1 بطرس 2: 21).
وَالمُؤْمِنُ وَهُوَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ، يُشَارِكُ الرَّبَّ الَّذِي تَأَلَّمَ مَظْلُومًا وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ (أَشَعْيَا 53: 7): "وَيَتِمُّ فِي جَسَدِهِ مَا نَقَصَ مِنْ شَدَائِدِ المَسِيحِ فِي سَبِيلِ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ الكَنِيسَةُ" (قُولُسِّي 1: 24). وَيُصَرِّحُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "فَأَعْرِفَهُ وَأَعْرِفَ قُوَّةَ قِيَامَتِهِ وَالمُشَارَكَةَ فِي آلاَمِهِ، فَأَتَمَثَّلَ بِهِ فِي مَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ القِيَامَةَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ" (فِيلِبِّي 3: 10-11). عَاشَ القِدِّيسُ بُولُسُ الرَّسُولُ حَيَاتَهُ فِي الإِيمَانِ مَصْلُوبًا، كَمَا صَرَّحَ: "وَقَدْ صُلِبْتُ مَعَ المَسِيحِ. فَمَا أَنَا أَحْيَا بَعْدَ ذَلِكَ، بَلِ المَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غَلاطِيَّة 2: 20-21). وَسَجَّلَ قَائِمَةَ آلاَمِهِ: "نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْطَمُ وَنُشَرَّدُ، وَنُجْهِدُ النَّفْسَ فِي العَمَلِ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ، نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ، يُشَنَّعُ عَلَيْنَا فَنَرُدُّ بِالحُسْنَى. صِرْنَا شِبْهَ أَقْذَارِ العَالَمِ وَنُفَايَةَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ" (1 قورنتس 4: 12-13).
مَعَ كُلِّ هَذِهِ الآلاَمِ، لَمْ يَعُدِ الصَّلِيبُ مُجَرَّدَ أَلَمٍ أَوْ مَذَلَّةٍ، بَلْ أَصْبَحَ يُحَقِّقُ مَجْدَ اللهِ مُقَدَّمًا. إِنَّهُ عَلاَمَةُ الخَلاَصِ (يُوحَنَّا 3: 14)، وَ"شَجَرَةُ الحَيَاةِ" (رُؤْيَا 22: 2، 14-15). لِذَا يَسْتَطِيعُ المَسِيحِيُّ أَنْ يُصَرِّحَ بِفَخْرٍ مَعَ بُولُسَ الرَّسُولِ: "أَمَّا أَنَا فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ! فِيهِ أَصْبَحَ العَالَمُ مَصْلُوبًا عِنْدِي، وَأَصْبَحْتُ أَنَا مَصْلُوبًا عِنْدَ العَالَمِ" (غَلاطِيَّة 6: 14). وَيُضِيفُ: "إِذَا شَارَكْنَاهُ فِي آلاَمِهِ، نُشَارِكُهُ فِي مَجْدِهِ أَيْضًا" (رُومَة 8: 17). إِنْ شِئْنَا الحُصُولَ عَلَى السَّلاَمِ الدَّاخِلِيِّ وَاسْتِحْقَاقَ الإِكْلِيلِ الخَالِدِ، فَلْنَحْمِلِ الصَّلِيبَ وَنَتْبَعْ يَسُوعَ، لأَنَّهُ قَدْ سَبَقَنَا "حَامِلًا صَلِيبَهُ" (يُوحَنَّا 19: 17). لَيْسَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ إِلَى الحَيَاةِ وَالسَّلاَمِ الدَّاخِلِيِّ الحَقِّ سِوَى طَرِيقِ الصَّلِيبِ المُقَدَّسِ.
المُتَطَلَّبُ الثَّالِث: التَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الأَمْوَالِ
يَقُومُ المُطْلَبُ الثَّالِثُ مِنْ أَجْلِ اِتِّبَاعِ يَسُوعَ عَلَى تَخَلِّي التِّلْمِيذِ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: "كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتَخَلَّى عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لوقا 14: 33)). وَيُوضِّحُ إِنْجِيلُ مَتَّى هَدَفَ التَّخَلِّي بِقَوْلِهِ: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا، فَاذْهَبْ وَبِعْ أَمْوَالَكَ وَأَعْطِهَا لِلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ فَاتْبَعْنِي" (مَتَّى 19: 21).
التَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الأَمْوَالِ يَعْنِي أَنَّ تِلْمِيذَ المَسِيحِ لاَ يَسْتَطِيعُ بَعْدَ اِتِّبَاعِهِ لِلمَسِيحِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَمْوَالِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْبُذَ كُلَّ شَيْءٍ يَمْنَعُ اِعْتِمَادَهُ عَلَى المَسِيحِ وَحْدَهُ: "وَمَنْ لَمْ يَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَلَيْسَ أَهْلًا لِي. مَنْ حَفِظَ حَيَاتَهُ يُفْقِدْهَا، وَمَنْ فَقَدَ حَيَاتَهُ فِي سَبِيلِي يَحْفَظْهَا" (مَتَّى 10: 38-39). فَالمَطْلُوبُ لَيْسَ التَّخَلِّي عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ المَسِيحِ.
ومن أَمْثِلَةٌ كِتَابِيَّةٌ عَلَى التخلي هي:
• تَرَكَ التَّلاَمِيذُ الأَوَائِلُ (بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا) السَّفِينَةَ المُمتَلِئَةَ بِالسَّمَكِ وَالأَهْلَ وَتَبِعُوا يَسُوعَ: "رَجَعُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى البَرِّ، وَتَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ" (لوقا 5: 11).
• تَرَكَ لاَوِي مَكَانَ الجِبَايَةِ: "فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَامَ فَتَبِعَهُ (لوقا 5: 28).
• تَرَكَتِ المَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ جَرَّتَهَا (يُوحَنَّا 4: 28)، رَمْزًا لِلتَّخَلِّي عَنِ المَاضِي الشِّرِّيرِ. فَتَغْيِيرُ الحَيَاةِ شَرْطٌ وَاضِحٌ لِيُصْبِحَ المَرْءُ تِلْمِيذًا لِلرَّبِّ.
وهناك شَاهِدَانِ مُتَقَابِلاَن:
• القِدِّيسُ أَنْطُونِيُوسُ الكَبِيرُ بَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَوَزَّعَ مَالَهُ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَمَضَى إِلَى البَرِّيَّةِ مُتَخَلِّيًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِيَتَّحِدَ بِالرَّبِّ، فَسَطَعَ نُورُهُ فِي العَالَمِ.
• الشَّابُّ الغَنِيُّ أَخْفَقَ أَنْ يَتْبَعَ المَسِيحَ لأَنَّهُ اسْتَكْثَرَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ أَمْوَالِهِ: "وَاحِدَةٌ تَنْقُصُكَ بَعْدُ: بِعْ جَمِيعَ مَا تَمْلِكْ وَوَزِّعْهُ عَلَى الفُقَرَاءِ … فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ اغْتَمَّ لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا" (لوقا 18: 18-23). وَقَدْ حَذَّرَ بُولُسُ مِنَ الاِرْتِبَاطِ بِالعَالَمِ، قَائِلًا عَنْ رَفِيقِهِ: "دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي لِحُبِّهِ هَذِهِ الدُّنْيَا" (2 طِيمُوثَاوُس 4: 10).
كَثِيرُونَ مِمَّنْ كَانُوا يَتْبَعُونَ يَسُوعَ، لَمَّا سَمِعُوا كَلاَمَهُ قَالُوا: "هَذَا كَلاَمٌ قَاسٍ، فَمَنْ يَسْمَعُهُ؟" فَتَرَكَهُ كَثِيرُونَ. فَقَالَ لِلإِثْنَيْ عَشَرَ: "أَفَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا؟" فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: "يَا رَبّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ وَكَلاَمُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ؟" (يُوحَنَّا 6: 67-68). وَيُعَلِّقُ الرَّاهِبُ الدُّومِنِيكَانِي جَانْ تُولِير: "نُلاَحِظُ أَنَّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُونَ هَذَا العَالَمَ الدُّنْيَوِيَّ مِنْ أَجْلِ نَيْلِ أَلْقَابٍ سَخِيفَةٍ … كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ كَسْبِ مُمْتَلَكَاتٍ خَارِجِيَّةٍ فَقَطْ! أَمَّا الصَّوَابُ فَهُوَ أَنْ نُمَارِسَ التَّخَلِّي الكَامِلَ مِنْ أَجْلِ كَسْبِ الخَيْرِ الكَامِلِ، أَلاَ وَهُوَ اللهُ، وَبِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ نَتْبَعُ رَئِيسَنَا".
وللتخلي له بُعْدٌ رَعَوِيّ وَإِنْسَانِيّ. قَدْ يُوَاجِهُ الإِنْسَانُ المَسِيحِيُّ، مِنْ أَجْلِ اِتِّبَاعِ يَسُوعَ:
• خَسَارَةً فِي المَرْكَزِ الاِجْتِمَاعِيِّ أَوْ فِي المَالِ.
• فُقْدَانَ وَظِيفَةٍ أَوْ وَقْتٍ.
• كُرْهَ البَعْضِ أَوْ عَزْلَ الأُسْرَةِ.
• وَقَدْ يَبْلُغُ الأَمْرُ إِلَى الحُكْمِ عَلَيْهِ بِالمَوْتِ.
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اِتِّبَاعَ المَسِيحِ لَيْسَ مَعْنَاهُ حَيَاةً خَالِيَةً مِنَ المَتَاعِبِ. لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَحْسِبَ بِدِقَّةٍ تَكَالِيفَ التِّلْمَذَةِ حَتَّى لاَ نَتَعَرَّضَ لِلتَّجْرِبَةِ وَالاِرْتِدَادِ، فَنُصْبِحَ عَثْرَةً وَسُخْرِيَّةً (لوقا 14: 28-30).
باختصار، إِنَّ المَطْلَبَ الثَّالِثَ يَقْتَضِي التَّخَلِّي عَنْ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِحُبِّ المَالِ، لأَنَّهُ يُصْبِحُ إِلَهًا يُعْبَدُ دُونَ اللهِ. لِذَلِكَ يَتَطَلَّبُ التَّخَلِّي:
• السَّعْيَ لِلْعَيْشِ بِكَرَامَةٍ.
• مُسَاعَدَةَ الفُقَرَاءِ وَسَدَّ حَاجَةِ المُعْوِزِينَ.
• الاِقْتِسَامَ فِي الخَيْرَاتِ.
• مُشَارَكَةَ المَرْضَى وَالمُتَضَرِّرِينَ بِالمَجَاعَاتِ وَالكَوَارِثِ.
• وَالخِدْمَةَ وَالتَّبَرُّعَ السَّخِيَّ كَبُرْهَانٍ عَلَى صِدْقِ الإِيمَانِ. ذلك من الحاجات الإنسانيَّة والدينيَّة الضروريَّة، بالخدمة والتبرُّع السخي برهاناً لصِدْق الإيمان.
الخُلاصَة
يبَحتُ النَّص الإنْجيلي في النُّقاط اللاهوتيّة والرُّوحيّة التَّالية:
1. الأَوَّلَوِيَّةُ لِلمَسِيحِ: يَدعُو يَسُوعُ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تِلْمِيذًا أَنْ يُعْطِيَهُ المَكَانَ الأَوَّلَ فِي حَيَاتِهِ. فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ العَائِلَةُ أَوْ الأَصْدِقَاءُ أَوْ حَتَّى النَّفْسُ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ.
2. حَمْلُ الصَّلِيبِ يَوْمِيًّا: لاَ تُوجَدُ تَبَعِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِلَا صَلِيبٍ. التِّلْمِيذُ الحَقِيقِيُّ هُوَ مَنْ يَقْبَلُ الآلاَمَ وَالتَّضْحِيَاتِ كَجُزْءٍ مِنْ مَسِيرَةِ المَلَكُوتِ، مُتَّحِدًا بِالمَسِيحِ الَّذِي مَاتَ وَقَامَ مِنْ أَجْلِنَا.
3. حِسَابُ النَّفَقَةِ: مَثَلا بِنَاءِ البُرْج وَالمَلِكِ الخَارِجِ لِلحَرْب يُشَدِّدَانِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ يَسُوعَ يَطْلُبُ وَعْيًا وَحِسَابًا. فَالتَّلْمَذَةُ لَيْسَتْ حَمَاسًا مُؤَقَّتًا، بَلْ قَرَارًا وَاعيًا يَسْتَنِدُ إِلَى الإِيمَانِ الرَّاسِخِ وَالمَحَبَّةِ الصَّامِدَةِ.
4. التَّحَرُّرُ مِنَ المَالِ: يَطْلُبُ المَسِيحُ التَّخَلِّي عَنْ "جَمِيعِ الأَمْوَالِ". فَالمَالُ قَدْ يُصْبِحُ سَيِّدًا يَخْتَنِقُ فِي ظِلِّهِ الإِنْجِيلُ، وَيُعَطِّلُ مَسِيرَةَ الكَمَالِ. وَالحُرِّيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ تَكْمُنُ فِي أَنْ يَكُونَ اللهُ هُوَ الغِنَى الأَعْظَمُ.
5. التَّجَرُّدُ وَالزُّهْدُ: التِّلْمِيذُ مَدْعُوٌّ لِلتَّجَرُّدِ وَالزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا يُعِيقُ سَيْرَهُ وَرَاءَ المَسِيحِ. وَالمَعْنَى الرُّوحِيُّ هُوَ التَّوْبَةُ وَالإِيمَانُ وَإِنْكَارُ الذَّاتِ، لأَنَّهَا تُشَكِّلُ الأَسَاسَ الرَّاسِخَ لِلتَّلَمَذَةِ.
6. المُفَارَقَةُ الإِنْجِيلِيَّةُ: "القَطِيعُ الصَّغِيرُ" (لوقا 12: 32) الَّذِي يَبْدُو ضَعِيفًا أَمَامَ قُوَى الشَّرِّ، يَصِيرُ بِالمَسِيحِ قَوِيًّا وَغَالِبًا. فَالقُوَّةُ لاَ تَكْمُنُ فِي العَدَدِ وَالعَتَادِ، بَلْ فِي الوَفَاءِ لِلمَسِيحِ وَوَصَايَاهُ.
بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلْنَا فِي المَطَالِبِ الثَّلاَثَةِ لِلتِّلْمَذَةِ الحَقِيقِيَّةِ – الزُّهْدِ بِالذَّاتِ، وَحَمْلِ الصَّلِيبِ، وَالتَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ الأَمْوَالِ – نَسْتَنْتِجُ أَنَّ اِتِّبَاعَ يَسُوعَ هُوَ مَسِيرَةُ حُبٍّ وَتَجَرُّدٍ وَتَضْحِيَةٍ. فَهُوَ طَرِيقٌ يَطْلُبُ القَرَارَ الحُرَّ، وَالمَحَبَّةَ الأَوْلَى لِلمَسِيحِ، وَالاِسْتِعْدَادَ لِكُلِّ تَكْلِفَةٍ حَتَّى النِّهَايَةِ. هَكَذَا نَسِيرُ وَرَاءَ السَّيِّدِ فِي دَرْبِ الجُلْجُثَةِ، وَنَشَارِكُهُ فِي مَجْدِ القِيَامَةِ.
يَضَعُ يَسُوعُ أَمَامَنَا طَرِيقًا وَاحِدًا: اِلتِزَامٌ كَامِلٌ دُونَ قَيْدٍ أَوْ شَرْطٍ ويدعونا إلى تَطْبِيقٌ حَيَاتِيّ:
• لِنَضَعِ المَسِيحَ أَوَّلًا فِي كُلِّ خِيَارٍ وَعَلاَقَةٍ.
• لِنَحْمِلْ صَلِيبَنَا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَسِيرَةِ الإِيمَانِ.
• لِنُحَاسِبِ النَّفَقَةَ، وَلْنَكُنْ مُسْتَعِدِّينَ لِلتَّضْحِيَةِ.
• لِنَتَحَرَّرْ مِنْ سُلْطَةِ المَالِ وَكُلِّ مَا يُعِيقُ سَيْرَنَا.
• لِنَعِشْ التَّجَرُّدَ وَالإِيمَانَ كَزَادٍ يَوْمِيٍّ فِي دَرْبِ المَلَكُوتِ.
فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ يَدْخُلُ مَسِيرَةَ التِّلْمَذَةِ الحَقِيقِيَّةِ، حَيْثُ الحُرِّيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ وَالحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.
دُعَاء
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِي، نَطْلُبُ إِلَيْكَ بِاسْمِ اِبْنِكَ يَسُوعَ المَسِيح، أَنْ نَضَعَكَ فِي المَكَانَةِ الأُولَى فِي حَيَاتِنَا، فَنَسْتَطِيعَ أَنْ نُرَدِّدَ مَعَ القِدِّيسِ نِيقُولا:
رَبِّي وَإِلَهِي، اِنْزِعْ مِنِّي كُلَّ مَا يُبْعِدُنِي عَنْكَ.
رَبِّي وَإِلَهِي، هَبْنِي كُلَّ مَا يُقَرِّبُنِي مِنْكَ.
رَبِّي وَإِلَهِي، جَرِّدْنِي مِنْ ذَاتِي لِكَيْ أَكُونَ كُلِّيًّا لَكَ."
(القِدِّيسُ نِيقُولا دي فْلُو 1417–1487، مُتَصَوِّفٌ وَنَاسِكٌ سُوِيسْرِيّ).