موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥

عيد ارْتِفَاع الصَّليب

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الرَّابع والعِشْرون من السَّنة: عيد ارْتِفَاع الصَّليب (يوحنا 3: 13-16)

الأحَد الرَّابع والعِشْرون من السَّنة: عيد ارْتِفَاع الصَّليب (يوحنا 3: 13-16)

 

النَّص الإنجيلي (يوحنا 3: 13-16)

 

13 فما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماء، إِلاَّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء، وهو ٱبنُ الإِنسان 14 وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان 15 لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن. 16 فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة 17 فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم.

 

 

المُقَدِّمَة

 

تَحْتَفِلُ ٱلْكَنِيسَةُ فِي ٱلرَّابِعِ عَشَرَ مِنْ أَيْلُولَ بِعِيدِ ٱرْتِفَاعِ ٱلصَّلِيبِ ٱلْمُحْيِي، وَهُوَ مِنَ ٱلأَعْيَادِ ٱلْلِّيتُورْجِيَّةِ ٱلْكُبْرَى ٱلَّتِي تُذَكِّرُنَا بِسِرِّ خَلَاصِنَا. فَٱلصَّلِيبُ، ٱلَّذِي كَانَ فِي ٱلْعُصُورِ ٱلرُّومَانِيَّةِ أَدَاةَ عَذَابٍ وَمَوْتٍ، تَحَوَّلَ بِمَوْتِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ عَلَيْهِ إِلَى أَدَاةٍ لِلْفِدَاءِ، وَإِلَى عُنْوَانٍ لِلْمَجْدِ: أَوَّلًا لِلْمَسِيحِ ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ. إِنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَارًا، بَلْ صَارَ شِعَارَ ٱلِٱنْتِصَارِ: ٱنْتِصَارِ ٱلْمَحَبَّةِ عَلَى ٱلْكَرَاهِيَةِ، وَٱلْغُفْرَانِ عَلَى ٱلْخَطِيئَةِ، وَٱلْحَيَاةِ عَلَى ٱلْمَوْتِ.

 

هٰذَا ٱلسِّرُّ كَشَفَهُ يَسُوعُ لِنِيقُودِيمُوسَ، عُضْوِ ٱلسَّنْهَدْرِيمِ، ٱلَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلًا يَبْحَثُ عَنِ ٱلْحَقِّ. فَأَعْلَنَ لَهُ أَنَّ تَمْجِيدَ ٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ سَيَتِمُّ بِٱلصَّلِيبِ: "َوكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، فَكَذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ" (يُوحَنَّا ٣: ١٤-١٥).

 

هٰكَذَا يُصْبِحُ ٱلصَّلِيبُ بَابَ ٱلْوِلَادَةِ ٱلْجَدِيدَةِ: فَكُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِيَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبِ وَيَقْبَلْهُ بِنِعْمَةِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، لَا يَهْلِكْ بَلْ يُصْبِحْ إِنْسَانًا جَدِيدًا، يَعِيشُ حَيَاةَ ٱللَّهِ ٱلْأَبَدِيَّةَ (يُوحَنَّا ٣: ١٦-٢١). لِذٰلِكَ، مَعْنَى ٱلْعِيدِ لَنَا ٱلْيَوْمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرَى تَارِيخِيَّةٍ، بَلْ هُوَ ٱحْتِفَالٌ بِسِرِّ ٱلْفِدَاءِ ٱلْحَاضِرِ دَوْمًا.

فِي ٱلصَّلِيبِ نَكْتَشِفُ مَحَبَّةَ ٱللَّهِ ٱلْقُصْوَى لِلْبَشَرِيَّةِ.

فِي ٱلصَّلِيبِ نُعَايِنُ مَجْدَ ٱلْمَسِيحِ.

فِي ٱلصَّلِيبِ نَتَجَدَّدُ نَحْنُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرُ رَجَائِنَا وَخَلَاصِنَا.

 

وَعَلَيْهِ، حِينَ نَحْتَفِلُ بِعِيدِ ٱرْتِفَاعِ ٱلصَّلِيبِ، نَحْنُ لَا نُكَرِّمُ خَشَبَةً مِنَ ٱلْخَشَبِ، بَلْ نُكَرِّمُ مَا تَمَّ عَلَيْهَا: ذَبِيحَةَ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّتِي خَلَّصَتِ ٱلْعَالَمَ. وَمِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ ٱلْغَوْصِ فِي وِقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ وَتَأَمُّلَاتِهِ وَتَطْبِيقَاتِهِ ٱلْحَيَّةِ.

 

 

 أولاً: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 3: 14-21)

 

13 فما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماء، إِلاَّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء، وهو ٱبنُ الإِنسان".

 

عِبارَةُ: "فَما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماءِ، إِلَّا الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ" تُشِيرُ إِلى تَصحيحِ يَسوعَ لِلمَفهومِ اليَهودِيِّ الخاطِئ، القائِلِ إِنَّ موسى صَعِدَ إِلى السَّماءِ وَنَزَلَ بِالنَّاموسِ إِلى إِسْرائيل (يوحنّا 3: 2)، مُؤَكِّدًا أَنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يَصعَدُ إِلى السَّماءِ إِلَّا ٱبْنُ الإِنْسانِ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ. لذلك هُوَ وَحْدَهُ يَقْدِرُ أَنْ يَكشِفَ عَنِ الأَسْرارِ السَّماوِيَّةِ، وَيَحْمِلَ المُؤْمِنينَ إِلى السَّماءِ، وَيُقَدِّمَ لَهُم إِرادَةَ الآب (1 كو 15: 47). فَالصُّعودُ إِلى السَّماءِ يَتَطَلَّبُ أَنْ يَأْتيَ مَنْ لَهُ الحَقُّ وَالأَصْلُ فيها، أَيِ الآتي مِنَ السَّماءِ نَفْسِهِ.

 

عِبارَةُ: "إِلَّا الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ" تُشِيرُ إِلى "الكَلِمَةُ صارَ جَسَدًا" (يوحنّا 1: 14). فَقَدْ نَزَلَ يسوع مِنَ السَّماءِ لِيَصيرَ إِنْسانًا، وَمَعَ ذلِكَ لَمْ يَتْرُكِ السَّماءَ بِلاهوُتِهِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَحاضِرٌ في كُلِّ مَكانٍ. هُوَ الإِلَهُ المُتَجَسِّدُ، وَهَذا يَعْني أَنَّهُ في زَمَنِ تَجَسُّدِهِ عَلى الأَرضِ، لَمْ يَتْرُكِ السَّماءَ ـ بِلاهوُتِهِ غَيْرِ المَحْدُودِ ـ فَهُوَ في حالَةِ تَجَسُّدٍ وَصُعودٍ دائِمَةٍ، كَما تُفيدُ كَلِمَةُ "صَعِدَ" في اللُّغَةِ   اليُونانِيَّةِ ἀναβέβηκεν، فَهِيَ لَيسَتْ في زَمَنِ الماضِي، بَلْ في زَمَنِ المُضارِعِ التّام. وَيَقولُ يُوحَنّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "كُنْ عُضوًا في ذاكَ الَّذي وَحْدَهُ يَصعَدُ. لا يَصعَدُ إِلَّا الَّذي يَكونُ عُضوًا في جَسَدِهِ، فيَتَحَقَّقُ القَولُ: لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصعَدَ إِلَّا الَّذي نَزَلَ".

 

وَتُشِيرُ عِبارَةُ "ٱبْنُ الإِنْسانِ" إِلى يَسوعَ المَسيحِ، الَّذي تَجَسَّدَ وَنَزَلَ مِنْ عِندِ الآبِ، وَهُوَ وَحْدَهُ القادِرُ أَنْ يَفْتَحَ بابَ السَّماءِ وَيَقودَ إِلَيْها. وَقَدْ فَسَّرَ الآباءُ هذِهِ العِبارَةَ بِأَنَّ يَسوعَ، حَتَّى وَهُوَ عَلى الأَرضِ، لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ حِضْنِ الآبِ. أَي أَنَّ لَهُ طَبيعَةً سَماوِيَّةً أَزَلِيَّةً، وَفي الوَقتِ نَفْسِهِ يَعيشُ عَلى الأَرضِ بِالجَسَدِ.وَيَقولُ القِدِّيسُ أوغسطينوس: "كَمَا أَنَّ المَسيحَ كانَ في السَّماءِ وَهُوَ عَلى الأَرضِ، كَذلِكَ نَحنُ بِالإِيمانِ وَبِالمَحبَّةِ يُمكِنُ أَنْ نَكونَ في السَّماءِ وَنَحنُ بَعدُ عَلى الأَرضِ"، أَي أَنَّ اتِّحادَ المَسيحِ بِالآبِ لا يَنْقَطِعُ بِتَجَسُّدِهِ. وَيُوضِحُ القِدِّيسُ الذَّهَبِيُّ الفَم أَنَّ يَسوعَ يُشِيرُ هُنا إِلى لاهُوتِهِ: فَهُوَ حاضِرٌ في كُلِّ مَكانٍ، في السَّماءِ وَفي الأَرضِ، لأَنَّ اللاهُوتَ لا يَحُدُّهُ مَكانٌ. هذِهِ الآيَةُ تُعْلِنُ أَنَّ المَسيحَ هُوَ الوَسيطُ الوَحيدُ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرضِ، لأَنَّهُ وَحْدَهُ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ وَصَعِدَ إِلَيْها لِيُدْخِلَ المُؤْمِنينَ إِلى المَجْدِ. وَهُوَ "ٱبْنُ الإِنْسانِ، وَهُوَ وَحْدَهُ يَكْشِفُ سِرَّ السَّماءِ وَيَمْنَحُنا الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ.

 

 14وكما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ فِي البَرِّيَّةِ" إِلَى ٱلنَّصِّ ٱلوارِدِ فِي سِفْرِ ٱلْعَدَد ِ"صَنَعَ مُوسى حَيَّةً مِن نُحاسٍ وَجَعَلَهَا عَلَى سَارِيَةٍ. فَكَانَ أَيُّ إِنسَانٍ لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ وَنَظَرَ إِلَى ٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ يَحْيَا" (ٱلْعَدَد 21: 9). رَأَى يَسُوعُ فِي هَذِهِ ٱلْحَادِثَةِ نُبُوءَةً عَنْ صَلْبِهِ. فَمَا فَعَلَهُ مُوسَى كَانَ رَمْزًا نَبَوِيًّا لِمَا سَيَفْعَلُهُ يَسُوعُ عَلَى ٱلصَّلِيبِ. فَكَمَا حَوَّلَ ٱلْإِسْرَائِيلِيُّونَ ٱلْمُشْرِفُونَ عَلَى ٱلْمَوْتِ عُيُونَهُمْ إِلَى ٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ وَنَالُوا ٱلشِّفَاءَ، هَكَذَا ٱلنَّاسُ ٱلَّذِينَ هُمْ تَحْتَ دَيْنُونَةِ ٱلْخَطِيئَةِ يَنَالُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ بِرَفْعِ نَظَرِهِم نَحْوَ يَسُوعَ ٱلْمُخَلِّصِ ٱلْمَرْفُوعِ عَلَى خَشَبَةِ ٱلصَّلِيبِ.  ٱلْمَسِيحُ ٱلْمَرْفُوعُ عَلَى خَشَبَةِ ٱلصَّلِيبِ يُخَلِّصُنَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلشَّرِيعَةِ ٱلَّتِي صَارَتْ كَلَدَغَاتِ ٱلْحَيَّاتِ ٱلنَّارِيَّةِ ٱلْقَاتِلَةِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلشَّرِيعَةِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا" (غَلَاطِيَّة 3: 13).  وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوسُ قَائِلًا: "مَا حَصَلَ رَمْزِيًّا فِي ٱلْمَاضِي، ٱسْتَعَادَهُ ٱلرَّبُّ حِينَ قَالَ: (وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ فَكَذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ). أَخَذَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْمَوْتَ، وَعَلَّقَهُ عَلَى ٱلصَّلِيبِ، فَتَحَرَّرَ ٱلْبَشَرُ ٱلْفَانُونَ مِنَ ٱلْمَوْتِ" (عِظَاتٌ عَنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا)

 

كَلِمَةُ "رَفَعَ" تَحْمِلُ بُعْدًا مُزْدَوَجًا فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا:

ٱلرَّفْعُ عَلَى ٱلصَّلِيبِ: "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ فَكَذٰلِكَ يَجِبُ أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ" (يُوحَنَّا 3: 14).

ٱلرَّفْعُ فِي ٱلْمَجْدِ: "مَجِّدْنِي ٱلْآنَ عِنْدَكَ يَا أَبَتِ بِمَا كَانَ لِي مِنَ ٱلْمَجْدِ عِنْدَكَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ٱلْعَالَمُ" (يُوحَنَّا 17: 5).

 

إِذًا فَٱلصَّلِيبُ هُوَ فِي نَفْسِ ٱلْوَقْتِ مَوْضِعُ إِهَانَةٍ وَمَوْضِعُ مَجْدٍ؛ فَيَسُوعُ ٱلَّذِي رُفِعَ عَلَى ٱلصَّلِيبِ هُوَ عَيْنُهُ ٱلَّذِي رُفِعَ فِي مَجْدِ ٱلْآبِ. صَارَتْ عَلامَةُ ٱلْحَيَّةِ ٱلْمُلْتَوِيَةِ عَلَى عَمُودٍ مِنْ خَشَبٍ، وَٱلْمَرْسُومَةُ عَلَى لَوْحَةِ كُلِّ صَيْدَلِيَّةٍ فِي ٱلْعَالَمِ، شِعَارًا لِلْعِلَاجِ. وَهَذِهِ ٱلْعَلَامَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ ٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا مُوسَى لِيَشْفِيَ ٱللَّهُ كُلَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا (ٱلْعَدَدُ ٢١: ٦-٩). فَكَمْ بِٱلْأَوْلَى أَنْ نَنْظُرَ إِلَى يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُعَلَّقِ عَلَى خَشَبَةِ ٱلصَّلِيبِ، فَهُوَ ٱلطَّبِيبُ ٱلْعَظِيمُ ٱلَّذِي يَشْفِينَا مِنْ سُمِّ ٱلْخَطِيئَةِ وَيُنْقِذُنَا مِنَ ٱلْمَوْتِ. كَمَا جَاءَ فِي ٱلرِّسَالَةِ إِلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ: "مُحَدِّقِينَ إِلَى مُبْدِئِ إِيمَانِنَا وَمُتَمِّمِهِ، يَسُوعَ ٱلَّذِي، فِي سَبِيلِ ٱلْفَرَحِ ٱلْمَعْرُوضِ عَلَيْهِ، تَحَمَّلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَخِفًّا بِٱلْعَارِ، ثُمَّ جَلَسَ عَنْ يَمِينِ عَرْشِ ٱللَّهِ" (عِبْرَانِيِّينَ 12: 2).

 

تُشيرُ عِبارَةُ "رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة" إِلى النَّصِّ الوارِدِ في سِفرِ العَدَد: "صَنَعَ موسى حيَّةً مِن نُحاسٍ وجَعَلَها على سارِيَة. فكانَ أَيُّ إِنسانٍ لَدَغَته حَيَّةٌ ونَظَرَ إِلى الحَيَّةِ النُّحاسيَّةِ يَحيا" (العَدَد 21: 9). رَأى يَسوعُ في هذِه الحادِثةِ نُبوءَةً عن صَلبِهِ. فَما فَعَلَهُ موسى كانَ رَمزًا نَبويًّا لِما سَيَفعَلُهُ يَسوعُ على الصَّليب. فَكَمَا حَوَّلَ الإِسرائيليُّونَ المُشرِفونَ على المَوتِ عُيونَهُم إِلى الحَيَّةِ النُّحاسيَّةِ ونالوا الشِّفاء، هكَذا النّاسُ الَّذينَ هُم تَحتَ دَينونَةِ الخَطيئَةِ يَنالونَ الحَياةَ الأَبديَّةَ بِرَفعِ نَظَرِهِم نَحوَ يَسوعَ المُخَلِّصِ المَرفوعِ على خَشَبَةِ الصَّليب. المَسيحُ المَرفوعُ على خَشَبَةِ الصَّليب يُخَلِّصُنا مِن لَعنَةِ الشَّريعَةِ الَّتي صَارَت كَلدَغاتِ الحَيَّاتِ النّاريَّةِ القاتِلَة، كَما قالَ بُولُسُ الرَّسول:"إِنَّ المَسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعَة، إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا (غَلاطِيَّة 3: 13). ويُعلِّقُ القِدِّيسُ أُوغسطينوس قائلاً: "ما حَصَلَ رَمزِيًّا في الماضي، استَعادَهُ الرَّبُّ حينَ قالَ: "وكما رَفَعَ موسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان". أَخَذَ الرَّبُّ يَسوعُ المسيحُ المَوتَ، وعلَّقَهُ على الصَّليب، فَتَحرَّرَ البَشرُ الفانونَ مِنَ المَوت" (عِظات عن إِنجيل يُوحَنّا).

 

أَصبَحَت عَلامَةُ الحَيَّةِ المُلتَوِيَةِ على عَمودٍ مِن خَشبٍ، والمرسومة على لَوحَةِ كُلِّ صَيدَلِيَّةٍ في العالَم، شِعارًا لِلعِلاجِ. وهذه العَلامَةُ مَأخوذَةٌ مِن الحَيَّةِ النُّحاسيَّةِ الَّتي صَنَعَها موسى لِيَشفي اللهُ كُلَّ مَن نَظَرَ إِلَيها (العَدَد 21: 6-9). فَكَم بِالأَولَى أَن نَنظُرَ إِلى يَسوعَ المَسيحِ المُعَلَّقِ على خَشَبَةِ الصَّليب، فَهُو الطَّبيبُ العَظيمُ الَّذي يَشفينا مِن سُمِّ الخَطيئَةِ ويُنقِذُنا مِنَ المَوت. كَما جاءَ في الرِّسالَةِ إِلى العِبرانيِّين: "مُحَدِّقينَ إِلى مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه، يَسوعَ الَّذي، في سَبيلِ الفَرَحِ المَعْروضِ علَيه، تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفًّا بِالعَار، ثُمَّ جَلَسَ عن يَمينِ عَرشِ الله" (عب 12: 2). بهذه القراءة الرمزية–اللاهوتية، يُصبِح الصَّليبُ ليس عَلامَةَ مَوتٍ فَقط، بَل بَابًا إلى الحَياةِ الأَبديَّة.

 

أَمَّا ٱسْمُ "مُوسَى" فَمِصْرِيٌّ مَعْنَاهُ "وَلَد"، وَبِٱلْعِبْرِيِّ מֹשֶׁה مَعْنَاهُ "مُنْتَشَل". وَهُوَ قَائِدُ ٱلْأُمَّةِ ٱلْعِبْرَانِيَّةِ، وَتَصِفُهُ كُتُبُ ٱلشَّرِيعَةِ: "لَمْ يَقُمْ مِنْ بَعْدُ فِي إِسْرَائِيلَ نَبِيٌّ كَمُوسَى ٱلَّذِي عَرَفَهُ ٱلرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ" (تَثْنِيَة 34: 10). ظَهَرَ مُوسَى مَعَ إِيلِيَّا عَلَى جَبَلِ ٱلتَّجَلِّي وَتَكَلَّمَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ (لُوقَا 9: 31).

 

وَكَانَ مُوسَى رَمْزًا لِلْمَسِيحِ:


أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلًا أَنْ يَحْمِلَ مَذَلَّةَ شَعْبِهِ عَلَى أَنْ يَفْقِدَ إِيمَانَهُ. وَكَذٰلِكَ ٱلْمَسِيحُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مَمَالِكَ ٱلْعَالَمِ حِينَ عَرَضَهَا ٱلشَّيْطَانُ.


مُوسَى مُحَرِّرٌ لِشَعْبِهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ مِصْرَ، أَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَمُحَرِّرٌ لِتَابِعِيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْخَطِيئَةِ.

مُوسَى أَنْشَأَ نَامُوسَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ، أَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَوَهَبَ نَامُوسَ ٱلْحَيَاةِ ٱلرُّوحِيَّةِ.

 مُوسَى نَبِيٌّ، وَٱلْمَسِيحُ نَبِيٌّ أَعْظَمُ مِنْهُ.

مُوسَى وَسِيطٌ بَيْنَ ٱللَّهِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَهُوَ "ٱلْوَسِيطُ بَيْنَ ٱللَّهِ وَٱلنَّاسِ" (1 طِيمُوتَاوُس 2: 5).

 

كَلِمَةُ "ٱلْحَيَّةِ" فِي ٱلْعِبْرِيَّةِ נָחָשׁ (نَحَاش) تَرْمُزُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، لِأَنَّ ٱلْمَوْتَ دَخَلَ إِلَى ٱلْعَالَمِ بِوَاسِطَةِ ٱلْحَيَّةِ (تَكْوِين 3). يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: "إِلَامَ تَرْمُزُ ٱلْحَيَّاتُ ٱلَّتِي تَلْسَعُ؟ إِلَى ٱلْخَطَايَا ٱلآتِيَةِ مِنَ ٱلْجَسَدِ ٱلْفَانِي. وَمَا هِيَ ٱلْحَيَّةُ ٱلَّتِي رُفِعَتْ؟ إِنَّهُ مَوْتُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلصَّلِيبِ. لَدْغَةُ ٱلْحَيَّةِ تُعْطِي ٱلْمَوْتَ، أَمَّا مَوْتُ ٱلرَّبِّ فَيُعْطِي ٱلْحَيَاةَ."

 

وَيُعَلِّقُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "ٱلْحَيَّةُ ٱلَّتِي رُفِعَتْ تُمَثِّلُ ٱلسَّيِّدَ ٱلْمَسِيحَ حَامِلَ خَطَايَانَا؛ فَهِيَ مِنْ نَاحِيَةٍ تُشِيرُ إِلَى ٱلْحَيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ ٱلَّتِي سَمَّرَهَا ٱلْمَسِيحُ بِصَلِيبِهِ وَجَرَّدَهَا مِنْ سُلْطَانِهَا عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَهِيَ تُظْهِرُ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ صَارَ مِثْلَنَا فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيئَةِ." ٱلْحَيَّةُ ٱلنُّحَاسِيَّةُ لَهَا بُعْدٌ تَارِيخِيٌّ أَيْضًا: فَفِي مَنَاجِمِ "عَرَبَة" كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ ٱلنُّحَاسَ فِي ٱلْقَرْنِ ٱلثَّالِثِ عَشَرَ قَبْلَ ٱلْمِيلَادِ، وَقَدْ عُثِرَ فِي مَدِينَةِ "تِمْنَة" (فِي ٱلنَّقَبِ) عَلَى حَيَّاتٍ نُحَاسِيَّةٍ صَغِيرَةٍ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ ٱلْحَيَّاتِ ٱلسَّامَّةِ. وَيُفَسِّرُ سِفْرُ ٱلْحِكْمَةِ حَادِثَةَ ٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ بِمَعْنَى ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْخَلَاصِ: "كَانَتْ لَهُمْ عَلَامَةُ خَلَاصٍ تُذَكِّرُهُمْ وَصِيَّةَ شَرِيعَتِكَ، فَكَانَ ٱلْمُلْتَفِتُ إِلَيْهَا يَخْلُصُ لَا بِذٰلِكَ ٱلَّذِي كَانَ يَرَاهُ بَلْ بِكَ يَا مُخَلِّصَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ" (ٱلْحِكْمَةُ 16: 6-10). إِذًا لَمْ يَكُنْ لِلْحَيَّةِ قُوَّةٌ فِي ذَاتِهَا، بَلْ كَانَتْ عَلَامَةً تُشِيرُ إِلَى ٱللَّهِ، شَافِي ٱلنُّفُوسِ وَٱلْأَجْسَادِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَفْرَامُ ٱلسُّرْيَانِي: "كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا أَنَّ ٱلثُّعْبَانَ ٱلَّذِي قَادَ آدَمَ إِلَى ٱلْمَوْتِ، هُوَ نَفْسُهُ يَقُودُهُمْ نَحْوَ ٱلْهَلَاكِ. لِذَا عَلَّقَ مُوسَى ٱلثُّعْبَانَ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ حَتَّى يُذَكِّرَهُمْ بِشَجَرَةِ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ. وَٱلَّذِينَ نَظَرُوا إِلَيْهِ تَابُوا وَنَدِمُوا عَلَى خَطَايَاهُمْ، فَخَلَصُوا، لَا بِفَضْلِ ٱلثُّعْبَانِ بَلْ بِفَضْلِ ٱلتَّوْبَةِ." ٱحْتَفَظَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ فِي تَرْحَالِهِمْ بِٱلْبَرِّيَّةِ، ثُمَّ جَاءُوا بِهَا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلْمُقَدَّسَةِ. لَكِنْ مَعَ مُرُورِ ٱلزَّمَنِ ٱتَّخَذُوهَا وَثَنًا وَعَبَدُوهَا، فَقَامَ ٱلْمَلِكُ حَزَقِيَّا بِتَحْطِيمِهَا: "حَطَّمَ ٱلْحَيَّةَ ٱلنُّحَاسِيَّةَ ٱلَّتِي صَنَعَهَا مُوسَى، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُوقِدُونَ لَهَا" (2 مُلُوك 18: 4). مِنْ هُنَا نَفْهَمُ أَنَّ ٱلْحَيَّةَ ٱلنُّحَاسِيَّةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا رَمْزًا مُؤَقَّتًا، يُشِيرُ إِلَى يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي "مَتَى رُفِعَ" عَلَى ٱلصَّلِيبِ جَذَبَ إِلَيْهِ ٱلْجَمِيعَ (يُوحَنَّا 12: 32)، وَصَارَ هُوَ ٱلطَّبِيبَ ٱلْحَقِيقِيَّ، وَدَوَاءَ ٱلْخَلَاصِ مِنْ لَدَغَاتِ ٱلْخَطِيئَةِ وَٱلْمَوْتِ.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلْبَرِّيَّةِ" إِلَى بَرِّيَّةِ "فَارَانَ"، جَنُوبَ جَبَلِ هُورٍ تُجَاهَ جِبَالِ أَدُومَ (عَدَد 10: 12؛ 12: 16؛ 13: 3-26). وَفِي هٰذَا ٱلْمَكَانِ رُفِعَتِ ٱلْحَيَّةُ ٱلنُّحَاسِيَّةُ عَلَى ٱلسَّارِيَةِ لِتَكُونَ عَلَامَةَ خَلَاصٍ لِلشَّعْبِ.

 

أَمَّا عِبَارَةُ "فَكَذٰلِكَ يَجِبُ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلضَّرُورَةِ ٱلْخَلَاصِيَّةِ، أَيْ وُجُوبِ إِيفَاءِ مُتَطَلَّبَاتِ شَرِيعَةِ ٱللَّهِ وَعَدْلِهِ، بِحَسَبِ قَضَاءِ ٱللَّهِ ٱلْأَزَلِيِّ وَنُبُوءَاتِ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ. يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "لِيُظْهِرَ بِرَّهُ فِي ٱلزَّمَنِ ٱلْحَاضِرِ فَيَكُونَ هُوَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَن كَانَ مِنْ أَهْلِ ٱلْإِيمَانِ بِيَسُوعَ" (رُومَة 3: 26). وَيُضِيفُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "يَسُوعُ ٱلَّذِي فِي صُورَةِ ٱللَّهِ لَمْ يَعْتَبِرْ مُسَاوَاتَهُ لِلَّهِ غَنِيمَةً، بَلْ تَجَرَّدَ مِنْ ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ ٱلْعَبْدِ… وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، مَوْتِ ٱلصَّلِيبِ. لِذٰلِكَ رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَى ٱلْعُلَى" (فِيلِبِّي 2: 5-9). وَيُؤَكِّدُ صَاحِبُ ٱلرِّسَالَةِ إِلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ: "مَا مِنْ مَغْفِرَةٍ بِغَيْرِ إِرَاقَةِ دَمٍ" (عِبْرَانِيِّينَ 9: 22). كَانَ نِيقُودِيمُسُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُرْفَعَ ٱلْمَسِيحُ عَلَى عَرْشٍ مَلَكِيٍّ فِي ٱلِٱحْتِفَالِ وَٱلْقُوَّةِ وَٱلْمَجْدِ، لٰكِنَّ ٱلْمَسِيحَ صَرَّحَ لَهُ بِمُفَاجَأَةٍ وَمُفَادُهَا: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ أَوَّلًا عَلَى صَلِيبِ ٱلْعَارِ، ثُمَّ بِذٰلِكَ يُرْفَعُ مَلِكًا وَمُخَلِّصًا عَلَى عَرْشِ ٱلْمَجْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ (أَعْمَال 4: 30).

 

عِبَارَةُ "ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ" هِيَ لَقَبٌ لَاهُوتِيٌّ لِيَسُوعَ، بِهِ:

"تُفْتَحِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَلَى ٱلْأَرْضِ" (أِشَعْيَا 63: 19؛ يُوحَنَّا 1: 51).

يَصِيرُ ٱلِٱتِّصَالُ بِٱللَّهِ حَقِيقَةً دَائِمَةً.

هُوَ ٱلسَّبِيلُ لِنَيْلِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ (يُوحَنَّا 6: 27).

هُوَ ٱلَّذِي يُلَاقِي ٱلْإِنْسَانَ لِيَجْمَعَ شَمْلَ ٱلْبَشَرِ وَيَرْفَعَهُمْ إِلَى ٱلْمُشَارَكَةِ فِي حَيَاةِ ٱللَّهِ (يُوحَنَّا 9: 35).

هُوَ أَيْضًا ٱلدَّيَّانُ ٱلْأَعْظَمُ كَمَا فِي رُؤْيَا دَانِيآل (دَانِيآل 7: 13).

 

"يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ" تَشِيرُ هَذِهِ ٱلْعِبَارَةُ إِلَى يَسُوعَ بَيْنَ ٱلصَّلِيبِ وَٱلْمَجْدِ:

1. مَوْتُ يَسُوعَ عَلَى ٱلصَّلِيبِ حَيْثُ يُرْفَعُ جَسَدِيًّا عَلَيْهِ.

2. رَفْعُهُ فِي مَجْدِ ٱلْقِيَامَةِ، لِيُقَدِّمَ ٱلْخَلَاصَ لِلْبَشَرِيَّةِ (أَعْمَال 4: 30-31).

 

وَقَدْ تَنَبَّأَ أِشَعْيَا بِذٰلِكَ: "كَشَفَ ٱلرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ عَلَى عُيُونِ جَمِيعِ ٱلْأُمَمِ، فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ ٱلْأَرْضِ خَلَاصَ إِلٰهِنا" (أِشَعْيَا 52: 10). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ: "هُنَاكَ كَانَ ٱلْمُعَلَّقُ نُحَاسًا بِشَكْلِ حَيَّةٍ، أَمَّا هُنَا فَٱلْمُعَلَّقُ هُوَ جَسَدُ ٱلسَّيِّدِ ٱلْمَسِيحِ. وَهٰذَا يُوَازِي قَوْلَ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ: "هُوَذَا حَمَلُ ٱللَّهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ ٱلْعَالَمِ" (يُوحَنَّا 1: 29).

 

فِعْلُ "رَفَعَ" عَلَى ٱلصَّلِيبِ هُوَ فِي آنٍ وَاحِدٍ:

عَلَامَةُ ٱرْتِفَاعِ يَسُوعَ فِي ٱلْأَلَمِ وَٱلْعَارِ (يُوحَنَّا 8: 28-30).

سَبِيلُ ٱرْتِفَاعِهِ فِي ٱلْمَجْدِ، حَيْثُ قَالَ: "وَأَنَا إِذَا رُفِعْتُ مِنَ ٱلْأَرْضِ جَذَبْتُ إِلَيَّ ٱلنَّاسَ أَجْمَعِينَ" (يُوحَنَّا 12: 32-33).  تَقَبَّلَ يَسُوعُ ٱلْمَوْتَ بِرِضًى كَوَسِيلَةٍ لِإِتْمَامِ ٱلْفِدَاءِ، فَصَارَ مَا فَعَلَهُ مُوسَى رَمْزًا نَبَوِيًّا: جَعَلَ ٱللَّهُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُعَلَّقَ عَلَى ٱلصَّلِيبِ حَيَّةَ ٱلْحَيَاةِ. وَنَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ بِٱلْإِيمَانِ إِلَى ٱلْمَسِيحِ ٱلْمَرْفُوعِ تَكْفِي لِلشِّفَاءِ وَٱلْخَلَاصِ. قَدْ مَجَّدَ يَسُوعُ ٱلْآبَ بِطَاعَتِهِ فِي ٱلْخِدْمَةِ ٱلْمُتَوَاضِعَةِ حَتَّى ٱلْمَوْتِ، فَأَشْرَكَهُ ٱلْآبُ فِي مَجْدِهِ ٱلْأَبَدِيِّ بِٱلْقِيَامَةِ (يُوحَنَّا 13: 31-32). وَخُلَاصَةُ ٱلْقَوْلِ: أَعْلَنَ يَسُوعُ لِنِيقُودِيمُسَ أَنَّ مَحَبَّةَ ٱللَّهِ لِلْعَالَمِ تَتَجَلَّى بِخَلَاصِ ٱلنَّاسِ، لَا بِرَفْعِ ٱبْنِهِ عَلَى عَرْشِ ٱلْمَجْدِ ٱلْأَرْضِيِّ، بَلْ عَلَى خَشَبَةِ ٱلصَّلِيبِ، وَمِنْ خِلَالِ آلَامِهِ وَمَوْتِهِ.

 

15  لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "لِتَكُونَ بِهِ" إِلَى يَسُوعَ ٱلَّذِي سَوْفَ يَتَأَلَّمُ وَيَمُوتُ. فَمَوْتُهُ لَمْ يُصَمَّمْ بِإِرَادَةِ ٱلْإِنْسَانِ، بَلْ بِمَحَبَّةِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ ذَبِيحَةً شَامِلَةً عَنِ ٱلْعَالَمِ. فَٱلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي يَهَبُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.

 

"ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ": تُشِيرُ إِلَى مَعْنَى ٱلْمَلَكُوتِ عِنْدَ يُوحَنَّا. يُفَضِّلُ يُوحَنَّا ٱلْإِنْجِيلِيُّ أَنْ يَتَحَدَّثَ عَنِ "ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ" بَدَلًا مِنْ "مَلَكُوتِ ٱللَّهِ". وَهِيَ لَيْسَتْ حَيَاةً تُخْتَبَرُ فَقَطْ بَعْدَ ٱلْمَوْتِ، بَلْ تَبْدَأُ مُنْذُ ٱلْآنَ عَلَى ٱلْأَرْضِ كَحَيَاةِ صَدَاقَةٍ مَعَ ٱللَّهِ وَتَسْتَمِرُّ إِلَى ٱلْأَبَدِ. يَقُولُ ٱلرَّسُولُ يُوحَنَّا: "نُبَشِّرُكُم بِتِلْكَ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ ٱلَّتِي كَانَتْ لَدَى ٱلْآبِ فَتَجَلَّتْ لَنَا… لِتَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا مُشَارَكَةٌ مَعَنَا، وَمُشَارَكَتُنَا هِيَ مُشَارَكَةٌ مَعَ ٱلْآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ" (1 يُوحَنَّا 1: 2-3).

 

هَذِهِ ٱلْحَيَاةُ هِيَ فِي جَوْهَرِهَا "حَيَاةُ ٱللَّهِ" (أَفَسُس 4: 18)، وَقَدْ تَجَسَّدَتْ فِي شَخْصِ ٱلْمَسِيحِ ٱلْقَائِلِ: "أَنَا ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ" (يُوحَنَّا 14: 6). وَيَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ غِرِيغُورِيُوس ٱلنِّيصِيّ: "إِنَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ هِيَ رُؤْيَةُ ٱللَّهِ. وَإِذَا كَانَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلْحَيَاةَ، فَمَنْ لَا يَرَاهُ، لَا يَرَى ٱلْحَيَاةَ أَيْضًا."

 

عِبَارَةُ "لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" تُبْرِزُ شُمُولِيَّةَ ٱلْخَلَاصِ: فَهُوَ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ بِلَا ٱسْتِثْنَاءٍ. هِبَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ مُقَدَّمَةٌ لِكُلِّ ٱلْمُؤْمِنِينَ كَضَمَانٍ أَكِيدٍ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَحْيَوْنَ إِلَى ٱلْأَبَدِ. ٱلْإِيمَانُ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ تَصْدِيقٍ عَقْلِيٍّ بِوُجُودِ ٱلْمَسِيحِ أَوْ بِمَوْتِهِ، بَلْ هُوَ قَبُولٌ شَخْصِيٌّ بِٱلْقَلْبِ وَٱلْإِرَادَةِ لِيَسُوعَ مُخَلِّصًا، وَتَسْلِيمُ ٱلنَّفْسِ لَهُ. كَمَا قَالَ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ لِسَجَّانِ فِيلِبِّي: "آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ تَنَلِ ٱلْخَلَاصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ" (أَعْمَال 16: 31). كَمَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى شِفَاءِ ٱلَّذِينَ لُدِغُوا مِنَ ٱلْحَيَّاتِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ إِلَّا بِٱلنَّظَرِ إِلَى ٱلْحَيَّةِ ٱلنُّحَاسِيَّةِ (عَدَد 21: 9)، كَذٰلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى نَوَالِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ إِلَّا بِٱلْإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ ٱلْمُعَلَّقِ عَلَى ٱلصَّلِيبِ. فَنَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ بِٱلْإِيمَانِ إِلَى ٱلْمَسِيحِ ٱلْمَصْلُوبِ تَكْفِي لِتَكُونَ وَسِيلَةَ شِفَاءٍ وَضَمَانَةً لِلْخَلَاصِ وَٱلْحَيَاةِ. هَكَذَا يَرْبِطُ يُوحَنَّا بَيْنَ ٱلْإِيمَانِ وَٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ: فَٱلصَّلِيبُ لَيْسَ فَقَطْ مَكَانَ مَوْتِ يَسُوعَ، بَلْ هُوَ ٱلْمَنْبَعُ ٱلَّذِي يَفِيضُ بِٱلْحَيَاةِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ.

 

16  فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة

 

تَشيرُ عِبارةُ "اللهَ أَحبَّ العالَمَ" إِلى مُبادَرةِ الله، فَهُوَ إِلهُ مَحبَّة، إِلهٌ وأَبٌ في آنٍ واحِد. لَقَد أَحبَّ اللهُ البَشَريَّةَ حُبًّا فائِقًا وبلَغَ حُبُّهُ أَقصى الحُدود، فالحُبُّ هُوَ مَصدَرُ الخَلاص. دَفَعَ حُبُّ الآبِ السَّماويِّ أَن يُعطِيَ العالَمَ أَعَزَّ ما عِندَه: ابنَهُ الوَحيدَ يَسوعَ المَسيح. يَقولُ يُوحَنَّا الرَّسول: "ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هُوَ أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَهُ الوَحيدَ إِلى العالَم لِنَحْيا بِه… هُوَ أَحبَّنا فَأَرسَلَ ابنَهُ كَفَّارَةً لِخَطايانا" (1 يُو 4: 9-10). ويُعلِّقُ القِدّيسُ أُوغُسطينُوس: "يُحِبُّ الرَّبُّ كُلَّ واحِدٍ مِنَّا وكأَنَّهُ لَيسَ هُناكَ مَن يُحِبُّهُ سِواه."

 

عِبارةُ "العالَم" تُشيرُ إِلى جَميعِ الأُمَم، لا إِلى اليَهودِ وَحدَهم كما تَصَوَّرَ نِيقوديمُس. فالمَسيحُ مُخَلِّصُ الجَميع. يَقولُ بُولُسُ الرَّسول: "اللهَ كانَ في المَسيحِ مُصالِحًا لِلعالَم" (2 قور 5: 19). وعِلَّةُ العَطيَّةِ لَيسَت مَحبَّةَ العالَمِ لله، بَل مَحبَّةَ اللهِ لِلعالَم.

 

عِبارةُ "جادَ بابنِهِ الوَحيد" تُشيرُ إِلى أَنَّ اللهَ الَّذي بَذَلَ ابنَهُ الكَلِمَةَ بِالطَّبيعَةِ لا بِالتَّبَنِّي، لأَنَّ الابنَ مَولودٌ مِنَ الآبِ بِطَريقَةٍ جَوهَرِيَّة: "إِلهٌ حَقٌّ مِن إِلهٍ حَقٍّ" كما في قانونِ الإِيمان. يَقولُ القِدّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "جادَ بابنِهِ الوَحيد، لا بِخادِمٍ، ولا بِمَلاكٍ، ولا بِرَئيسِ مَلائِكَة. لا يُظهِرُ أَحَدٌ اهتمامًا بابنِهِ كما يُظهِرُ اللهُ نَحوَ عَبيدِهِ." إِذَن، يَسوعُ المَسيحُ هُوَ عَطيَّةُ اللهِ الَّتي لا تُوصَف: "فالشُّكرُ للهِ على عَطائِهِ الَّذي لا يُوصَف" (2 قور 9: 15).

 

قَد تَكونُ مَحرَقَةُ إِبراهيمَ أَوحَت بِهذا الكَلام: "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إِلى أَرضِ مورِيَّا وأَصعِدْهُ هُناكَ مُحرَقَةً" (تك 22: 2). فَما لَم يَقبَلهُ اللهُ مِن إِبراهيم، قَبِلهُ لِنَفسِه: بَذَلَ ابنَهُ مِن أَجلِ خَلاصِ العالَم. يَتَساءَلُ الأُسقُفُ ثيودورُس المِصِّيصِي: كَيفَ "جادَ اللهُ بابنِهِ الوَحيد"؟ ويُجيبُ بِأَنَّ إِنسانيَّةَ المَسيحِ وأُلوهيَّتَه، باتِّحادِهِما، تُكوِّنانِ كِيانًا واحِدًا. فَالاِبنُ سَمّى نَفسَه "ابنَ الله" (يو 3: 16) وابن الإِنسان" (يو 3: 14). وبِما أَنَّ المَسيحَ شَبيهٌ بِنا في كُلِّ شَيءٍ ما عَدا الخَطيئَة، فَقَد حَمَلَ في جَسَدِهِ آلامَنا لِيَمنَحَنا حَياةَ الله.

 

ويُؤَكِّدُ المَجمَعُ الفاتيكانيُّ الثّاني: "بِتَجَسُّدِهِ اتَّحَدَ ابنُ اللهِ نَوعًا ما بِكُلِّ إِنسان… وصارَ حَقًّا واحِدًا مِنَّا شَبيهًا بِنا في كُلِّ شَيءٍ ما عَدا الخَطيئَة" (الكَنيسَةُ في عالَمِ اليَوم، 22). هُرَ بَذلُ اللهِ في أَقصى مُستَوَياتِهِ على الصَّليب. بَذَلَ يَسوعُ حَياتَهُ عَنَّا، وبهذا البَذلِ عَبَّرَ عَن حُبِّهِ الأَبَدِيِّ لَنا. وحُبُّ اللهِ لَنا يُعلِّمُنا أَن نُحِبَّ نَحنُ أَيضًا وأَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ الآخَرين. البَذلُ على الصَّليبِ هُوَ قِمَّةُ المَحبَّة. بِهَذا، تُصبِحُ عِبارةُ "اللهُ أَحبَّ العالَم" لَيسَت مُجرَّدَ إِعلانٍ عاطِفِيٍّ، بَل قَلبَ الإِنجيل: إِنَّ اللهَ أَحبَّنا أَوَّلًا، فَأَعطانا ابنَهُ الوَحيد، لِكَي نَنالَ فيهِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة.

 

عِبارةُ "لِكَي لا يَهلِكَ": تُشيرُ إِلى أَنَّ يَسوعَ الَّذي هُوَ الكَفّارَةُ عَن خَطايا العالَم. يَقولُ القِدّيسُ يُوحَنّا الإِنجيلِيّ:
"
يا بَنيَّ، أَكتُبُ إِلَيكُم بِهَذا لِئلّا تُخطِئوا. لَنا شَفيعٌ عِندَ الآب، يَسوعُ المَسيحُ البارّ، إِنَّهُ كَفّارَةٌ لِخَطايانا" (1 يُو 2: 1-2). ويُضيفُ بُولُسُ الرَّسول: "ذلِكَ الَّذي جَعَلَهُ اللهُ كَفّارَةً في دَمِهِ بِالإِيمان" (رو 3: 25). فَيَسوعُ هُوَ الحَمَلُ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم، ويَومُ الكَفّارَةِ الَّذي أَعلَنَهُ اللهُ في القَديم يَجِدُ كَمالَهُ في المَسيح، ويَبقَى فَعّالًا إِلى أَن يَبلُغَ العالَمُ نِهايَتَه.

 

تُشيرُ عِبارةُ "الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ": إِلى عَطيَّةِ المَسيح، وهِيَ "حَياةُ الله" (أَف 4: 18)، تِلكَ الحَياةُ المُتَجَسِّدَةُ في المَسيحِ القائِل: "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يو 14: 6). هذِهِ الحَياةُ تُعطى الآنَ بِالإِيمانِ لِكُلِّ المُؤمِنين:

لا مَوتَ فيها ولا مَرَض.

لا عَدُوَّ فيها ولا شَرَّ ولا خَطيئَة.

بَل سَعادَةٌ وقَداسَةٌ دائِمَةٌ في السَّماءِ.

 

إِنَّها شَرِكَةٌ أَبَدِيَّةٌ مَعَ الله، ووِراثَةٌ لِمَجدِهِ وغِناهُ السَّماوِيّ. لَم يُرسِلِ اللهُ ابنَهُ إِلى العالَم لِيُدينَ العالَم، بَل لِيُخَلِّصَ بِهِ العالَم (يو 3: 17). اللهُ هُوَ إِلهُ الخَلاص، لا يُريدُ مَوتَ الخاطِئ بَل أَن يَحيا ويَتوب. على الصَّليب أَعلَنَ الآبُ مَحبَّتَهُ لِكُلِّ البَشَرِيَّةِ بِبَذلِ ابنِهِ الوَحيد، لِكَي يَتَمَتَّعَ العالَمُ بِالحَياةِ الأَبَدِيَّة. تارِيخُ اللهِ مَعَ البَشَرِ هُوَ تارِيخُ مَحبَّةٍ وخَلاص. هذِهِ الآيَةُ هِيَ بِمَثابَةِ الإِنجيلِ كُلِّهِ في صيغَةٍ مُصَغَّرَة:

المَحبَّة: "اللهُ أَحبَّ العالَم"

العَطيَّة: "جادَ بابنِهِ الوَحيد"

الغايَة: "لِكَيلا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِهِ"

الثَّمرَة: "الحَياةُ الأَبَدِيَّة".

 

17  فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم"

 

تُشيرُ عِبارةُ "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَهُ إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم" إِلى الهَدَفِ مِن تَجَسُّدِ المَسيح: لَم يَأتِ لِلدَّينونَةِ بَل لِلخَلاص. هذِهِ الحَقيقَةُ تَكَرَّرَت أَكثَرَ مِن خَمسينَ مَرَّةً في إِنجيلِ يُوحَنّا، لِلتَّأكيدِ أَنَّ تارِيخَ اللهِ مَعَ البَشَرِ هُوَ تارِيخُ خَلاص، لا تارِيخَ دَينونَة. كانَ مِنَ العَدلِ أَن يُدانَ العالَمُ على خَطاياها، لَكِنَّ اللهَ اختارَ أَن يُظهِرَ رَحمَتَهُ، فَأَرسَلَ ابنَهُ لا لِيَقضيَ على العالَمِ بَل لِيُخَلِّصَهُ. وهُنا يُصرِّحُ بُولُسُ الرَّسول: "الَّذي لَم يَضَنَّ بابنِهِ نَفسِه، بَل أَسلَمَهُ إِلى المَوتِ مِن أَجلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا مَعَهُ كُلَّ شَيء؟" (رو 8: 32).

 

لِلمَسيحِ مَجيئان:

المَجيءُ الأَوَّل: غايَتُهُ الخَلاصُ والفِداء.

المَجيءُ الثّاني: غايَتُهُ الدَّينونَةُ لِلأَشرارِ وغَيرِ المُؤمِنين (أَع 17: 31).

 

وهذا يُذَكِّرُنا بِقولِ حِزقِيال: "لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بَل أَن يَرجِعَ عَن طَريقِهِ فيَحْيا" (حز 33: 11).

 

أَمَّا العِبارَةُ "لِيُخَلَّصَ بِهِ العالَم" فَتُظهِرُ أَنَّ خَلاصَ العالَمِ لا يَتِمُّ تِلقائيًّا، بَل يَقتَضِي تَجاوُبًا حُرًّا مَع عَطيَّةِ الله. فاللهُ لا يُريدُ مَوتَ الخاطِئ، بَل خَلاصَه. لِذلِكَ قالَ يُوحَنّا عَنِ السّامِرِيّينَ بَعدَ لِقائِهِم يَسوع: "عَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقًّا" (يو 4: 42). الخَلاصُ هُوَ عَرضٌ إِلهِيٌّ عامّ، لَكِنَّهُ يَتَطَلَّبُ الإِيمان. ومَن لا يُؤمِن يَظَلُّ خارِجَ دائِرَةِ الخَلاص، لا لأَنَّ المَسيحَ أَتى لِيَدينهُ، بَل لأَنَّهُ رَفَضَ الحُبَّ والإِيمان. فَثَمَرَةُ خَلاصِ المَسيحِ لَيسَت فَقَط رَفعَ الحُكمِ عَنَّا، بَل هِيَ تَحريرٌ مِن عُبودِيَّةِ الخَطيئَة: "إِنَّ إِنسَانَنا القَديمَ قَد صُلِبَ مَعَهُ، لِيَزولَ هذَا البَشَرُ الخاطِئُ، فَلا نَظَلَّ عَبيدًا للخَطيئَةِ" (رو 6: 6). لَكِنَّ الكارِثَةَ الكُبرى لِلبَشَرِيَّةِ لَيسَتِ الخَطيئَةَ نَفسَها بِقَدرِ ما هِيَ الجَهلُ بِالخَلاص: أَن يَعيشَ الإِنسانُ وكَأَنَّهُ لَم يُخَلَّص بَعد، أَو لا يُؤمِنُ بِأَنَّ الغُفرانَ قَد أُعطِيَ لَه. ومِن هُنا تَأتي مَسؤُوليَّةُ الإِنسان. يَقولُ أَحَدُ مُفَسِّري الكِتابِ المُقدَّس: "لَم يَأتِ المَسيحُ لِكَي يُصلَب، بَل أَتى ونَحنُ الَّذينَ صَلَبناهُ. لِذلِكَ نَتحَمَّلُ كامِلَ مَسؤُوليَّةِ هذِهِ الجَريمَةِ البَشِعَة." وهَكَذا نُدرِكُ أَنَّ الدَّينونَةَ الحَقيقِيَّةَ لَيسَت مِنَ اللهِ بَل مِن مَوقِفِ الإِنسانِ تُجاهَ مَحبَّةِ الله. فمَن يُؤمِن يَخرُج مِن دائِرَةِ الدَّينونَة، أَمَّا مَن يَرفُض فَيَدينُ نَفسَهُ بِنَفسِه.

 

هذِهِ الآيَةُ هِيَ إِنجيلٌ مُصَغَّر:

مَحبَّةُ الله = "اللهُ لَم يُرسِلِ ابنَهُ لِيَدين"

هَدَفُ الإِرسال = "بَل لِيُخَلِّصَ بِهِ العالَم"

شَرطُ الخَلاص = الإِيمانُ بِيَسوعَ المَسيح.

 

إِنَّها دَعوَةٌ مَفتوحَة: اللهُ لا يُريدُ مَوتَ أَحَد، بَل حَياةَ كُلِّ واحِدٍ في المَسيح، مُخَلِّصِ العالَمِ حَقًّا.

 

 

ثانِيًا: تَطبيقاتُ النَّصِّ الإِنجيلِيِّ (يُوحَنّا 3: 14-17)

 

بَعدَ دِراسَةٍ مُوجَزَةٍ عَن وِقائِعِ النَّصِّ الإِنجيلِيِّ، يُمكِنُ أَن نَستَنتِجَ أَنَّ النَّصَّ يَتَمحْوَرُ حَولَ الصَّليبِ مَجدًا لِلمَسيحِ المَصلوبِ، وَالصَّليبِ مَجدًا لِلمَسيحيِّين:

 

أَوَّلًا: الصَّليبُ مَجدٌ لِلمَسيحِ المَصلوب.

 

تتناول النقاط التالية كيف إن الصليب هو مجد للمسيح المصلوب

 

1. ابنُ الإِنسانِ النّازِلُ مِنَ السَّماءِ: يَربُطُ يُوحَنّا لَقبَ "ابنِ الإِنسان" بِنُبوءَةِ دانيال (دا 7: 13–14)، مُشيرًا إِلى أَصلِ يَسوعَ السَّماوِيِّ وبُنُوَّتِهِ الإِلهِيَّة. السَّماءُ هِيَ وَطنُهُ الحَقيقِيّ، واللهُ هُوَ بِيئَتُهُ الأَصِيلَة. نُزولُهُ يَعني المُبادَرَةَ الإِلهِيَّةَ لِتَجَسُّدِهِ لِأَجلِ خَلاصِ البَشَر. "فما مِن أَحَدٍ يَصعَدُ إِلى السَّماءِ إِلَّا الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ وهُوَ ابنُ الإِنسان" (الآيَة 13).

 

2. الحَيَّةُ النُّحاسِيَّةُ ورَمزُ الصَّليب: "الحَيَّةُ النُّحاسِيَّة" (عَدَد 21: 8-9) رَمزٌ لِلشِّفاء: مَن نَظَرَ إِلَيها بِإِيمان شُفِيَ مِن لَسعَةِ المَوت. هَكَذا يَسوعُ، المَرفوعُ على الصَّليب، يُشفي البَشَرِيَّةَ مِن لَسعَةِ الخَطيئَةِ القاتِلَة. فالصَّليبُ تَحوَّلَ مِن أَداةِ عارٍ لِلصّوصِ إِلى أَداةِ خَلاصٍ ومَجد، إِذ يَقولُ: "وأَنا إِذا ارتَفَعتُ عَنِ الأَرضِ جَذَبتُ إِلَيَّ النّاسَ أَجمَعين" (يو 12: 32). "وكَما رَفَعَ مُوسى الحَيَّةَ في البَرِّيَّة فكذلِكَ يَجِبُ أَن يُرفَعَ ابنُ الإِنسان".

 

3. الصَّليبُ مَكانُ التَّمجيد (الآيات 14–15؛ 13: 31–32): فِعلُ "رَفَعَ" عِندَ يُوحَنّا لَهُ مَعنًى مُزدَوَج: الارتِفاعُ على الصَّليب، والارتِفاعُ في مَجدِ القِيامَةِ والصُّعود. في الصَّليبِ ومِنهُ وبهِ جَوهَرُ خَلاصِنا: لَولا الصَّليبُ لَما جَرى الدَّمُ والماءُ مِن جَنبِ المَسيح (يو 19: 34). الصَّليبُ هَزَمَ المَوتَ وفَتَحَ أَبوابَ الحَياة.

 

4. الصليب والحَياةُ الأَبَدِيَّة: الإِيمانُ بِالمَصلوبِ يَقودُ إِلى الحَياةِ الأَبَدِيَّة: "لِتَكونَ بِهِ الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن". الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ هِيَ حَياةُ اللهِ نَفسِه (أَف 4: 18)، تَجَسَّدَت في المَسيح (يو 14: 6)، وتُعطى الآنَ لِلمُؤمِنينَ عَربونًا لِلحَياةِ الأَبَدِيَّةِ الكامِلَة. هِيَ لَيسَتِ امتِدادًا لِلحَياةِ الأَرضِيَّةِ البائِسَة، بَل مُشارَكَةٌ في حَياةِ الله، خالِيَةٌ مِنَ المَوتِ والشَّرِّ والخَطيئَة.

 

5. الصَّليبُ قَلبُ الإِنجيل: "فَإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّهُ جادَ بابنِهِ الوَحيدِ لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِهِ بَل تَكونَ لَهُ الحَياةُ الأَبَدِيَّة" (الآيَة 16). هذِهِ الآيَةُ هِيَ إِنجيلٌ مُختَصَر: الحُبّ العَطيَّة الخَلاص الحَياة. اللهُ أَحبَّ لا لأَنَّ العالَمَ أَحبَّهُ، بَل بِمُبادَرَةٍ مَجّانِيَّة. الآبُ قَدَّمَ أَثمَنَ ما لَدَيه، ابنَهُ الوَحيد، كما أَوحى إِلَيهِ مِثالُ إِسحاق (تك 22).

 

6. غايَةُ الإِرسال الصليب: "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَهُ إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بَل لِيُخَلَّصَ بِهِ العالَم" (الآيَة 17). مَجيءُ المَسيحِ الأَوَّلُ هُوَ لِلخَلاص، أَمَّا المَجيءُ الثّاني فَسَيَكونُ لِلدَّينونَة. اللهُ هُوَ إِلهُ الخَلاص، لا يُريدُ مَوتَ الخاطِئ بَل أَن يَحيا (حز 33: 11). وقَد شَهِدَ السّامِرِيُّونَ أَنَّ المَسيحَ "مُخَلِّصُ العالَمِ حَقًّا" (يو 4: 42).

 

7. خِيارُ الإِيمانِ والدَّينونَة: الإِيمانُ بِيَسوعَ هُوَ الحَدُّ الفاصِلُ بَينَ الخَلاصِ والدَّينونَة. مَن يُؤمِن لا يُدان، ومَن يَرفُضُ الإِيمانَ يَدِينُ نَفسَهُ بِنَفسِه. الدَّينونَةُ تَكمُنُ في رَفضِ النُّور (المَسيح) وتَفضِيلِ الظَّلام (الخَطيئَة). إِذَن، الإِنسانُ مَسؤولٌ عَن مَصيرِهِ: إِمّا أَن يَنجَذِبَ إِلى نُورِ الصَّليبِ أَو يَختارَ البَقاءَ في ظَلامِ الخَطيئَة (الآيات 18–21).

 

خُلاصَةُ القَول: حِوارُ يَسوعَ مَعَ نِيقوديمُس يُظهِرُ أَنَّ الصَّليبَ هُوَ مَكانُ التَّمجيدِ والفِداء، الإِيمانُ أَو الرَّفضُ أَمامَ الصَّليبِ يُحَدِّدُ مَصيرَ الإِنسان. وهَكَذا يَقِفُ كُلُّ إِنسانٍ اليَومَ أَمامَ الخِيارِ ذاتِه: إِمّا أَن يُؤمِنَ بِالمَصلوبِ ويَجِدَ الحَياة، أَو يَرفُضَ النُّورَ ويَحكُمَ على نَفسِه.

 

 

ثانِيًا: الصَّليبُ مَجدٌ لِلمَسيحيِّين

 

لا بُدَّ مِن مُوازَنَةٍ بَينَ نَظرَةِ العالَمِ إِلى الصَّليبِ كَـ "عَثرَةٍ وحَماقَة"، وبَينَ إِيمانِ المَسيحيِّينَ بِالصَّليبِ كَـ "مَجدٍ وقُوَّةٍ وحِكمَةِ الله".

 

1. الصَّليبُ عَثرَةٌ وحَماقَةٌ لِلعالَم

 

يَقولُ بُولُس: "إِنَّنا نُنادي بِمَسيحٍ مَصلوب، فَهُوَ قُدرَةُ اللهِ وحِكمَةُ الله" (1 قور 1: 23).

 

كانَ الصَّليبُ عَثرَةً لِليَهود، إِذ لا يَتَصَوَّرونَ أَن يَأتيَ الفِداءُ مِن إِنسانٍ مَحكومٍ علَيهِ بِالمَوتِ ومُعَلَّقٍ على خَشبَة (تث 21: 22-23؛ غل 3: 13). بَل يَرَونَهُ نَجاسَةً يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنها سَريعًا (يو 19: 31).

 

وكانَ الصَّليبُ حَماقَةً لِلوثنِيِّين، إِذ كَيفَ يَكونُ الخَلاصُ عَبرَ وَسيلَةِ العَذابِ المُخَصَّصَةِ لِلعَبيد، مَوتِ العارِ والذُّل (فل 2: 8؛ عب 12: 2)؟

 

2. الصَّليبُ قُوَّةُ اللهِ وحِكمَتُه

 

في نَظرِ المَسيحيِّين، الصَّليبُ هُوَ قُوَّةُ اللهِ وحِكمَتُه (1 قور 1: 24).  ظَهَرَت حِكمَةُ اللهِ في أَنَّ يَسوعَ المُعَلَّقَ كَمَلعون، صارَ سَبَبَ البِرِّ والقَداسَةِ والفِداء (غل 3: 13؛ 1 قور 1: 31).

 

ظَهَرَت قُوَّةُ اللهِ في جَسَدِ المَسيحِ المَصلوب، إِذ بِهِ:

- دانَ الخَطيئَةَ في الجَسَد (رو 8: 3).

- جَرَّدَ أَصحابَ الرِّئاسَةِ والسُّلطة (كو 2: 14-15).

- صالَحَ الكائِناتِ كُلَّها بِدَمِ صَليبِهِ (كو 1: 20).

- وأَقامَ السَّلامَ والوَحدَةَ بَينَ الشُّعوب (أَف 2: 14-18).

 

3. الصَّليبُ في حَياةِ المُؤمِن

 

بِالصَّليبِ، يُصلَبُ الإِنسانُ القَديمُ ويُحرَّرُ مِن عُبودِيَّةِ الخَطيئَة (رو 6: 6).

 

المُؤمِنُ يَتَأَمَّلُ في مِثالِ المَسيحِ الَّذي حَمَلَ خَطايانا في جَسَدِهِ على خَشبَة (1 بط 2: 21-24)، فيَعرِضُ عَن خَطيئَتِهِ ويَحيا لِلبِرّ.


حِكمَةُ الصَّليبِ تُغيِّرُ فِكرَ المُؤمِن، فيَتَعلَّمُ التَّواضُعَ والطّاعَةَ حَتّى المَوت (فل 2: 1-8). مَعَ بُولُس، يَفتَخِرُ المَسيحيُّ قائِلًا: "أَمَّا أَنا فَمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلّا بِصَليبِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيح، الَّذي بِهِ قَد صُلِبَ العالَمُ لي وأَنا صُلِبتُ لِلعالَم" (غل 6: 14).

 

إِزاءَ الصُّعوبات، حَثَّ يُوحَنّا الرَّسولُ المُؤمِنينَ على "الصَّبرِ وعلى التِزامِ أَمانَةِ القِدّيسين" حَتّى المَوت (رؤيا 13: 10). وتَقومُ هذِهِ الأَمانَةُ في أَساسِها على الإِيمانِ بِقِيامَةِ الرَّبّ؛ فَمَن يَستَطيعُ أَن يَقولَ: "كُنتُ مَيتًا وهاءَنذا حَيٌّ أَبَدَ الدُّهور" (1: 18).


ومِن ثَمَّ، الإِيمانُ الفِصحيُّ هُوَ الَّذي سَيُعلِنُ أَيضًا: "هَذا هُوَ الِانتِصارُ الَّذي غَلَبَ العالَم: إِنَّهُ إِيمانُنا" (5: 4). ويَومَ يَنتَهي دَورُ الإِيمانِ، "سَنَرى اللهَ كَما هُوَ" (1 يُو 3: 2). فَنَحنُ جَميعًا مَدعوُّونَ مَعَ نِيقوديمُسَ إِلى أَن نَقومَ بِاختِبارِ حُبِّ المَسيحِ المَجّانِيِّ، وَذلِكَ بِأَن نَعرِضَ أَنفُسَنا لِنَظرَةِ المَسيحِ المَرفوعِ على الصَّليبِ مِن أَجلِ خَلاصِنا وشِفائِنا.

 

 

الخُلاصَة

 

بَعدَ أَن كَشَفَ يَسوعُ عَنِ الحَياةِ الجَديدَةِ مِن خِلالِ الخَمرَةِ الجَديدَةِ في عُرسِ قانا الجَليل (يُوحَنّا 2: 1-12) وَهَيكَلٍ جَديد (يُوحَنّا 2: 13-22)، كانَ لا بُدَّ مِنَ الكَشفِ عَنِ الإِنسانِ الجَديد، وَذلِكَ في حِوارٍ مَعَ نِيقوديمُس. وقَد جَذَبَ هذَا الحِوارُ كَثيرينَ مِن غَيرِ المُؤمِنينَ إِلى الإِيمانِ المَسيحيّ. إِذ مِن خِلالِ هذَا الحِوارِ يَتَعرَّفُ الإِنسانُ على الإِمكانِيّاتِ الجَديدَةِ المَوهوبَةِ لَه. إِنَّ اللهَ في مَحبَّتِهِ لِلجَميعِ لا يَترُكُ النّاسَ الَّذينَ نَعتَبِرُهُم بَعيدِي المَنالِ ولا يُمكِنُ الوُصولُ إِلَيهِم، إِنَّما يَعمَلُ على تَغييرِهِم. ويُؤَكِّدُ الحِوارُ أَنَّ العِلاجَ مُتَوَفِّر، ويَقومُ بِالنَّظرِ بِإِيمانٍ إِلى ابنِ الإِنسانِ المَرفوعِ على الصَّليب.

 

ويَستَخدِمُ يَسوعُ صُورَةً مَأخوذَةً مِن سِفرِ العَدَد (21: 4-9) حَيثُ يَرفَعُ موسى الحَيَّةَ النُّحاسِيَّةَ على سَارِيَة: "فَكُلُّ مَن لُدِغَ ونَظَرَ إِلَيها يَحيا". تُصوِّرُ هذِهِ الصُّورَةُ واقِعَنا كَمَخلوقاتٍ مَرضَى، وهذَا المَرَضُ جِدِّيٌّ إِلى حَدٍّ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلى المَوت، وبِالتَّحديدِ فُقدانَ الحَياةِ الأَبَدِيَّة. ومَعَ ذلِكَ فَإِنَّ هذِهِ الصُّورَةَ تُؤَكِّدُ أَنَّ العِلاجَ مُتَوَفِّر، وأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنَ النَّظرِ إِلى ابنِ الإِنسانِ المَرفوعِ على الصَّليب: لَيسَ هُناكَ عِلاجٌ آخَر، سِوى هذَا.

 

ويُرَكِّزُ يُوحَنّا الإِنجيلِيُّ على هذَا الإِيمانِ طالِبًا مِن قُرّائِهِ أَن يُشارِكوهُ فيهِ بِأَنَّ "يَسوعَ هُوَ المَسيحُ، ابنُ الله" (20: 31)، وعلى أَن يَصيروا أَبنَاءَ اللهِ بِفَضلِ الإِيمانِ "بِالكَلِمَةِ" المُتَجَسِّدِ المُتَأَلِّمِ مِن أَجلِنا على الصَّليب (1: 9-14). وإِنَّ اختِيارَ الإِيمانِ يَظَلُّ مُمكِنًا خِلالَ شَهادَةِ يُوحَنّا الرّاهِنَة (1 يُوحَنّا 1: 2-3)، وَشَهادَةِ بُولُسَ الرَّسول (روما 8: 31-39).

 

إِنَّ الدَّعوَةَ اليَومَ مُوَجَّهَةٌ إِلَينا جَميعًا:

أَن نَرفَعَ نَظَرَنا عَن هُمومِ الأَرضِ ونُثَبِّتَهُ على المَسيحِ المَصلوب.

 أَن نَختَبِرَ مَحبَّتَهُ الشّافِيَة، فَنَسمَحَ لَها أَن تُغَيِّرَ قُلوبَنا.

 أَن نَشهَدَ لِلعالَمِ بِأَنَّ خَلاصَنا لَيسَ في قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ أَو حِكمَةٍ أَرضِيَّة، بَل في المَسيحِ المَصلوبِ القائِمِ مِن بَينِ الأَموات. فَلنَستَجِبِ اليَومَ لِدَعوَةِ يُوحَنّا الإِنجيلِيِّ، ولِنُرَدِّدْ مَعَ إِيمانِ الكَنيسَة: "يَسوعُ هُوَ المَسيحُ، ابنُ الله"، حَتّى تَكونَ لَنا الحَياةُ بِاسمِهِ.

 

 

دُعاء

 

أَظهِرْ لَنا، يا رَبُّ، سِرَّ الصَّليب، فَنَكشِفَ مِن خِلالِهِ حَقيقَتَكَ، ونَرى في وَجهِ يَسوعَ المَصلوبِ مَحبَّةَ الآب. أَعِنَّا أَلَّا نَخافَ مِنَ الصَّليب، بَل أَن نَعتَرِفَ بِأَنَّنا خُطاةٌ بِحاجَةٍ إِلى الخَلاصِ مِن خِلالِ المَصلوب. نَسجُدُ لَكَ، أَيُّهَا المَسيح، ونُمَجِّدُكَ، لأَنَّكَ بِصَليبِكَ المُقَدَّسِ خَلَّصتَ العالَم. بِالمَسيحِ رَبِّنا. آمين.