ميلاد القديس يوحنا المعمدان: الشَّاهِدُ الأمين

القدّيسُ يُوحَنَّا بِنُ زكريا وَزَوجَتُهِ أَليصابات، وَالْمُلَقَّبُ بالْمَعمَدان، هوَ القِدّيسُ الوَحيد بالإضافةِ إلى القِدّيسةِ مَريمَ البَتول، مَن تُقيمُ لَهُ الكنيسةُ اِحتِفالًا-قُدَّاسًا في ذِكرَى مِيلادِه! فَبَاقي القِدِّيسين والشُّهداء يُحتَفَلُ بِيَومِ انتِقَالِهِم أو اسْتِشهَادِهم، عَلى أَنّه يَومُ مِيلادِهم في الْمَلَكوت. وَقَد اِنْفَرَدَ الإنجيليُّ لُوقَا بِكتابَةِ أَحدَاثِ مِيلادِ يُوحَنّا، مُنذُ بِشَارَةِ الْمَلاكِ لأبيهِ الكَاهنِ زكريّا (لوقا 5:1-25)، وَحَتّى لَحظَةِ وِلادَتِهِ وَتَرَعرُعِهِ (لُوقَا 57:1-80).

لوقَا البَشير لَم يَضعْ الأحداثَ فَقَط في تَسَلْسُلِها التّاريخي، إنّما أيضًا في سِيَاقِها الّلاهوتي! فَيوحَنّا كَانَ سابِقًا للربِّ، مُعِدًّا وَمُمَهِّدًا لِطَريقِهِ! وفي مِيلادِه أيضًا، تَتَحَقَّقُ النّبوءَةُ الّتي وَرَدَت في سِفرِ النّبيِّ مَلاخي: ﴿هَاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي، فَيُعِدُّ الطّريقَ أَمامي﴾ (ملاخي 1:3).

لَيسَ ذلِكَ فَحسب، بَل إنَّ الْملاكَ الّذي حَمَل البِشَارَةَ بميلادِ يُوحنّا، هو نَفسُه الّذي حَمَلَ البِشارةَ بميلادِ يسوع، وَأَعني الْملاكَ جِبرائِيل! وَهذا يَدلُّ على الارتباطِ الوَثيق والاتّحادِ الْمَتين، الّذي يَجمَعُ بينَ الْمَسيحِ وَيوحنّا، لَيس فَقط بِحُكمِ القَرابةِ البَشريّة، إنَّمَا أَيضًا بِحُكمِ الرّسالَةِ والْمَصير، فَكِلاهُما قُتِلا زورًا وَبهتانًا، في سَبيلِ قَضيّةٍ وَرِسالَةٍ، وَعَلى يَدِ طُغاةٍ وَظالِمين!

يُوحَنَّا الْمَعمَدان، والّذي اسمُهُ يَعني ((الربُّ حَنّان))، يُذَكّرُني بالْمَزمورِ القَائِل: ﴿الرّبُّ حَنّانٌ رَحيم، طويلُ الأناةِ، وَكثيرُ الرَّحمَة﴾ (مزمور 8:102). فَميلادُ يُوحنّا مِن أَبوينِ طَاعِنين في السّنّ، قَد أَشرَفا على الْمَوتِ، لَهوَ دَليلٌ على رَحمةِ اللهِ وَحَنانِهِ وَأَيضًا صَبرِه، الّذي لا يعرِفُ حَدًّا! نَحنُ مَن تَنقُصُنا الرّحمة، نَحنُ مَن يَنْقُصُنا الحَنانُ والعَطفُ الْمُتَبَادَل، نحنُ مَن نَفْتَقِرُ إلى الصّبرِ بَعضُنا على بَعض! فَرحمَتُنا مَحدودَةٌ، وَصَبرُنَا مَشروطٌ وَمُقيَّد!

يوحَنّا الْمَعْمَدان شَخصٌ مُخضرَم، أَي أنَّهُ أَدرَكَ عَهدينِ اثْنَين. فَمِن نَاحيةٍ هو آَخِرُ أَنبياءِ العَهدِ القَديم، عَهدِ الشّريعة، ومِن ناحية أُخرَى هوَ حَلَقَةُ الوَصلِ وَجسرُ الارتِباطِ مع العَهدِ الجديد، عَهدِ النّعمة، الّذي بَدَأَ مع الْمسيحِ وفي الْمَسيح، وَكَانَ يُوحنّا بِدَورِهِ شَاهِدًا لَهُ وَسابِقًا!

كَان يُوحنّا يُعَمِّدُ الجموعَ في مياهِ نَهرِ الأرُدُن. والْمعموديّةُ عِندَ اليهود، أَي الاغتِسالُ بالْماء، هي طَقسٌ يُمارَسُ بِغَرَضِ التَّطهيرِ وَتَعبيرًا عَن التَّوبَة. وَفي هَذا كَتبَ داوود قائِلًا: ﴿نَقّني بالزّوفى فَأطهُر، اِغْسِلني فَأفوقَ الثّلجَ بَياضًا﴾ (مزمور 9:51). فَرِسالَةُ يوحنّا في البريّة، كَانَت إيذانًا بِبَدءِ عَهدِ التَّوبَة، اِستعدادًا لِمَجيءِ الْمَسيح، الّذي بِدَورِه اِفتَتَحَ رسالَتَهُ العَلَنَيّة، بِدعوةٍ إلى التّوبة: ﴿تُوبوا، قَد اِقتَرَبَ مَلَكوتُ السَّمَوات﴾ (متّى 17:4).

فَرسَالةُ يُوحنّا هي إِعدادٌ لِرسالةِ الْمَسيح. وَرِسالَةُ الكَنيسة هي امتِدادٌ أَصيلٌ لِرسالةِ الْمَسيح. وَهَكَذا يكونُ يُوحنّا الشّخصَ الّذي يَربِطُ الكنيسةَ، أي شَعبَ العهدِ الجديد، مَع شعبِ العَهدِ القديم وَأَنبيائِه أيضًا!

يكتُب القدّيس أوغسطينوس عَن ميلادِ يوحنّا الْمعمدان قائِلًا: ((يوحنّا وُلِدَ من امرأةٍ عَجوزٍ عاقِر، والْمسيحُ وُلِدَ من فَتَاةٍ شابّة عَذراء! خَبَرُ ميلادِ يُوحنّا قُوبِلَ بِعدمِ الإيمانِ والتّصديق مِن جانِب زكريّا أبيه. بَينَما مِيلادِ الْمَسيح تَمَّ بالتّصديقِ والإيمان! يوحنّا كَانَ الحدَّ الفَاصِل بينَ العَهدَين، وهو ما أشارَ الربُّ إليه حين قَال: ﴿دامَ عَهدُ الشّريعةِ والأنبياءِ حتّى يُوحنّا﴾ (لوقا 16:16). فَهوَ مِن نَاحيةٍ مُمثِّلٌ للعهدِ القديم، وُمُبشّرٌ بالجَديدِ مِن نَاحيةٍ أُخرى!

صَمَتَ زَكَريّا وَفَقَدَ النُّطقَ حَتّى وِلادَةِ يُوحنّا، الّذي أَعادَ إليهِ الكَلامَ بولادَتِه! إنّ النُّطقَ قَد أُعيدَ إليهِ بِسببِ وِلادَةِ ذَلكَ الّذي سَيكونُ الصّوت! لأنّهم كَانوا يَسأَلون يُوحنّا، بَشيرَ الرّبّ: ﴿مَن أَنْتَ؟﴾ (يوحنّا 19:1)، فَأَجَابَ: ﴿أَنا صَوتُ مُنَادٍ في البريّة﴾ (يوحنّا 23:1).

إنّ الصّوتَ هُوَ يُوحنّا، في حين أنَّ الربَّ يَسوعَ هُو الكَلِمَة: ﴿في البَدءِ كَانَ الكَلِمَة﴾ (يوحنّا 1:1) يُوحَنّا هوَ الصّوتُ إلى وَقتٍ فَقَط! أَمَّا الرّبُّ يَسوعُ الْمَسيح فَهوَ الكَلِمَةُ، في البَدءِ وإلى الأزل))

القدّيس أوغسطينوس (354 - 430)، العظة 293 عن ولادة يوحنّا المعمدان.