موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

مفهومُ "الأخوّة" عند البابا فرنسيس (2)

بقلم :
د. أشرف ناجح عبد الملاك - كولومبيا
البابا فرنسيس وشيخ الأهر الإمام أحمد الطيب

البابا فرنسيس وشيخ الأهر الإمام أحمد الطيب

 

مُقدّمة

 

في هذا المقال الثّاني (ضمن سلسلة مقالات «مفهوم "الأخوّة" عند البابا فرنسيس»)، نتناول مفهوم "الأخوّة" في فكر البابا فرنسيس، من خلال الدّعوة لإعادة قراءة «وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة" من أجل السّلام العالمي والعيش المشترك»– الّتي وقّع عليها قداسة البابا وشيخ الأزهَر أحمد الطيب، في العاصمة الإماراتيّة أبوظبي، في فبراير 2019–، في ضوء الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة" (3 سبتمبر 2020).

 

1) البابا فرنسيس والإمام أحمد الطّيب و«وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"»

 

لقد أشار البابا فرنسيس، في رسالته العامّة الأخيرة، صراحةً وعدّة مرات (راجع البنود 5، 29، 131، 136، 192، 275، 283، 285)، إلى شيخ الأزهَر أحمد الطيب و«وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"». وبالإضافة للحديث المستمرّ والمشترك عن مَعنى "الأخوّة" كما جاء في وثيقة أبوظبي، ينعت البابا الكاثوليكيّ لقاءه بالإمام المسلم بـ"اللّقاء الأخويّ"، والّذي يتذكّره بفرح (راجع بند 285). وليس هذا فحسب، بل يقول قداسة البابا: «الذي شجّعني بشكل خاص في كتابة هذه الرسالة، إنما هو شخص الإمام أحمد الطيب الذي التقيت به في أبو ظبي» (بند 5).

 

لذا، فللبلوغ إلى فهم جيّد لرسالة البابا العامّة في ما يتعلّق بـ"الأخوّة المنفتحة" (راجع بند 6) و"الأخوّة العالميّة الشّاملة" (راجع بنود 9، 106، 110، 142، 173، 176، 276، 286)، يتعيّن علينا إعادة التّفكير في «وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"» المشتركة، فهي تتعرّض لمفهوم "الأخوّة" انطلاقًا من الأديان المختلفة، ولا سيّما المسيحيّة والإسلام. وكبرهان على هذه النّقطة الجوهريّة، يكفي أن نتذكّر عنوان الفصل الثّامن والأخير من الرّسالة العامّة: "الأديان في خدمة الأخوّة في العالم"، ولا سيّما البنود 271-285. إذًا، فالتّساؤل المحوريّ لهذا المقال الثّاني هو التّالي: ما هو مفهوم "الأخوّة" في فكر البابا فرنسيس وَفقا لـ«وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"» في ضوء الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا التّساؤل، دعونا نتعرّض– بشكل موجز– لما تعتقده وتعلّمه الكنيسةُ الكاثوليكيّة بشأن المسلمين والإسلام و"إله الإسلام". 

 

2) الكنيسةُ الكاثوليكيّة وعلاقتها بالمسلمين والإسلام

 

يذكّرنا المجمعُ الفاتيكانيّ الثّاني (١٩٦٢-١٩٦٥) بموقف الكنيسة الكاثوليكيّة تجاه المسلمين والإسلام و"إله الإسلام"، فيقول: «تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي، القيّوم، الرحمن القدير، فاطر السماوات والأرض الذي كلّم الناس. إنهم يجتهدون في التسليم بكلّ نفوسهم لأحكام الله وإن خفيت مقاصده، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه. وبرغم أنهم لا يعترفون بيسوع إلهًا فإنهم يكرّمونه نبيًّا ويكرّمون أمّه العذراء مريم ويذكرونها في خشوع. ثُمَّ إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس عندما يبعثون أحياء، من أجل هذا يقدّرون الحياة الأدبيّة ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم. ولئن كان عبر الزمان قد وقعت منازعات وعداوات بين المسيحيّين والمسلمين، فإن المجمع يهيب بالجميع أن ينسوا الماضي، وأن يجعلوا، باجتهاد صادق، سبيلًا للتفاهم فيما بينهم، وأن يتماسكوا، من أجل جميع الناس، على حماية وتعزيز العدالة الاجتماعيّة والقيم الأدبيّة والسلام والحرية» (وثيقة "في عصرنا"، تصريح حول "علاقة الكنيسة بالدّيانات غير المسيحيّة"، بند 3).

 

وعلى خطى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، عاد البابا فرنسيس مؤخّرًا، في إرشاده الرّسوليّ "فرح الإنجيل" (2013)، للحديث عن علاقة الكنيسة الكاثوليكيّة والكاثوليك بـ"المؤمنين المسلمين" الحاضرين "في عدة بلدانٍ ذاتِ تقليدٍ مسيحيّ"، وعن إيمانهم، وكُتبهم المقدَّسة، وإكرامهم ليسوع المسيح ومريم العذراء، وصلواتهم، والتزامهم الأخلاقيّ ومعاملاتهم (راجع بند 252)، وكذلك عن "الحوار مع الإسلام" الّذي يتوجّب إزاءه التّنشئة على التّأصُّل في "الهُويّة" وعلى التّعرُّف على "قيَم الآخرين" (راجع بند 253)، وعن مسألة "خلاص غير المسيحيّين" (راجع بند 254). ومن ناحية أخرى، قد شجّع قداسة البابا، في وثيقته "الخضراء"، أعني الرّسالة العامّة "كُنْ مُسَبَّحًا" (2015)، جميعَ الأديان، ومن بينها المسيحيّة والإسلام، إلى الحوار فيما بينها في ما يتعلّق بـ"الإيكولوجيّة المتكاملة الشّاملة" و"الأزمة الإيكولوجيّة"؛ وطالب بالتّجاوب مع المشاكل البيئيّة، والتّعاون مع العلوم والحركات الإيكولوجيّة في البحث عن حلول لها، وكذلك على تربيّة وروحانيّة إيكولوجيتيْن أيضًا. فيقول البابا: «إن أغلبية سكان الأرض يعلنون أنهم مؤمنون، وهذا ينبغي أن يدفع الأديان للدخول في حوار فيما بينها يهدف إلى العناية بالطبيعة، والدفاع عن الفقراء، وبناء شبكة من الاحترام والأخوة» (بند 201).

 

وعلاوةً على التّعبيرات الحبريّة العمليّة، تؤكّد هذه التّعاليم والتّصريحات الكنسيّة كلّها على قبول الكنيسة الكاثوليكيّة للمسلمين والإسلام و"إله الإسلام"، واحترامهم وتقديرهم؛ وأيضًا أنّنا جميعنا –كمسيحيّين ومسلمين– إخوة أمام الله الواحد الأحد وأمام العالم بأسره. ومن جهة أخرى، تشير أيضًا إلى أمر في غاية الأهمّيّة: إنّ مفهوم "الأخوّة" له أيضًا خلفيّة وجذور دينيّة ينطلق منها ونحوها. وهذا هو بالتّحديد ما دفع البابا فرنسيس إلى تناول مفهوم "الأخوّة" انطلاقًا من الأديان المختلفة، بواسطة إعادة قراءة «وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"».

 

وبالطّبع، لا يعني هذا أنّ مفهوم "الأخوّة" وممارستها يقتصران على أتْباع الأديان فحسب، وإنّما يؤكّد مرة أخرى على أنّ الأديان عينها –ومن بينها المسيحيّة والإسلام–، من خلال تعاليمها ومماراستها، يمكنها أن تدفع البشريّة جمعاء وترافقها نحو "الأخوّة المنفتحة" و"الأخوّة العالميّة الشّاملة". ففي الواقع، يمكن للأديان والمؤمنين، عبر خبرة الإيمان والكنوز الرّوحيّة والحكمة الّتي نَمَت عبر القرون، أن يساهموا في بناء وتعزيز الأخوّة بين البشر أجمعين، وفي الدّفاع عن العدالة في المجتمع. فيقول البابا فرنسيس، في رسالته العامّة: «يجب أن يكون هناك مجال لتفكير يأتي من خلفية دينية تجمع قرونًا من الخبرة والحكمة. في الواقع، "النصوص الدينية الكلاسيكية يمكنها أن تقدّم تفسيرًا لجميع العصور، ولها قوّة تعليل" ولكن في الواقع "يحطُّ من قدرها قِصَرُ فهم العقلانيات"» (بند 275).

  

3) "الأخوّة المنفتحة" و"الأخوّة العالميّة الشّاملة":

ما بين «وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"» والرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"

 

ونرغب الآن في تقديم إجابة للتساؤل الّذي طرحناه سابقًا: ما هو مفهوم "الأخوّة" في فكر البابا فرنسيس وَفقا لـ«وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة"» في ضوء الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"؟ فدعونا نقدّم، من خلال الوثائق عينها، الخطوط العريضة المتعلّقة بمفهوم "الأخوّة المنفتحة" و"الأخوّة العالميّة الشّاملة" انطلاقًا من الخلفيّة والجذور الدّينيّة.

 

أ) الأخوّةُ والإيمان بـ"الله الخالق والأب"

 

«طالما أوليت اهتمامًا للقضايا المتعلّقة بالأخوّة والصداقة الاجتماعية. وقد أشرت إليها مرارًا وتكرارًا خلال السنوات الماضية، وفي أماكن مختلفة. وأردت أن أجمع في هذه الرسالة العامّة العديد من تلك المداخلات وأن أضعها في سياق تفكير أوسع. علاوةً على ذلك، إذا كان مصدر إلهامي في كتابة الرسالة العامة كن مسبّحا أخي برثلماوس، البطريرك الأرثوذكسي الذي دافع بقوّة عن رعاية الخلق، فالذي شجّعني بشكل خاص في كتابة هذه الرسالة، إنما هو شخص الإمام أحمد الطيب الذي التقيت به في أبو ظبي، كي نذكّر العالم أنّ الله "خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم. لم يكن مجرّد عمل دبلوماسي بل كان عمليّة تفكير حقّقناها عبر الحوار والعمل المشترك. هذه الرسالة العامّة تجمع وتعرض القضايا الرئيسية التي طرحناها في تلك الوثيقة التي وقّعناها معًا. كما جمعتُ فيها، بلغتي الخاصّة، العديد من الرسائل والمستندات مع تأمّلات تلقّيتها من العديد من الأشخاص والمجموعات حول العالم« (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 5).

 

«نعتبر نحن المؤمنون أنه بدون الانفتاح على أبي الجميع، لن تكون هناك دوافع قويّة وثابتة للدعوة إلى الأخوّة. ولنا القناعة بأنه "لا يمكننا أن نعيش بسلام فيما بيننا إلاّ بواسطة هذا الوعي لكوننا أبناء ولسنا أيتامًا". لأنّ "العقل وحده قادر على قبول المساواة بين البشر وإرساء تعايش مدنيّ بينهم، لكنه لم يستطع تأسيس الأخوّة"» (بند 272).

 

ب) الأخوّةُ و"القِيَم الرُّوحِيَّة والشُّعُور بالمَسؤُوليَّةِ"

 

«إننا وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، لا نتجاهل التقدّم الإيجابي الذي حدث في العلوم والتكنولوجيا والطبّ والصناعة والرفاهية، وخاصّة في البلدان المتقدّمة. "فإنَّا -مع ذلك- نُسجِّلُ أنَّ هذه القَفزات التاريخيَّةَ الكُبرى والمَحمُودةَ تَراجَعَتْ معها الأخلاقُ الضَّابِطةُ للتصرُّفاتِ الدوليَّةِ، وتَراجَعَتِ القِيَمُ الرُّوحِيَّةُ والشُّعُورُ بالمَسؤُوليَّةِ؛ ممَّا أسهَمَ في نَشْرِ شُعُورٍ عامٍّ بالإحباطِ والعُزْلَةِ واليَأْسِ، [...]. وهناك أماكنُ أُخرَى يَجرِي إعدادُها لمَزيدٍ من الانفجارِ وتكديسِ السِّلاح وجَلْبِ الذَّخائرِ، في وَضْعٍ عالَمِيٍّ تُسيطِرُ عليه الضَّبابيَّةُ وخَيْبَةُ الأملِ والخوفُ من المُستَقبَلِ، وتَتحكَّمُ فيه المَصالحُ الماديَّةُ الضيِّقة". ونشير أيضًا إلى "الأزماتِ السياسيَّةَ الطاحنةَ، والظُّلمَ وافتِقادَ عَدالةِ التوزيعِ للثرواتِ الطبيعيَّة [...] وأمامَ هذه الأزمات التي تجعَلُ مَلايينَ الأطفالِ يَمُوتُونَ جُوعًا، وتَتحَوَّلُ أجسادُهم -من شِدَّةِ الفقرِ والجوعِ- إلى ما يُشبِهُ الهَيَاكِلَ العَظميَّةَ الباليةَ، يَسُودُ صمتٌ عالميٌّ غيرُ مقبولٍ". إزاء هذا المشهد، وعلى الرغم من أننا منجذبون إلى الكثير من التقدّم، إلّا أننا لا نرى مسارًا إنسانيًا حقًا» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 29).

 

ج) الأخوّةُ و"مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ"

 

«أمّا بالنسبة للذين وصلوا منذ فترة طويلة وينتمون إلى النسيج الاجتماعي، فمن المهمّ تطبيق مفهوم "المواطنة"، الذي "يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح ’الأقليَّاتِ‘ الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم«. (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 131).

 

د) الأخوّةُ و"العلاقة بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ"

 

«مع فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الشريف، الدكتور أحمد الطيب، وسّعنا أفق نظرنا، وذكّرنا "أنَّ العلاقةَ بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ هي ضَرُورةٌ قُصوَى لكِلَيْهما، لا يُمكِنُ الاستعاضةُ عنها أو تَجاهُلُها، ليَغتَنِيَ كلاهما من الحَضارةِ الأُخرى عَبْرَ التَّبادُلِ وحوارِ الثقافاتِ؛ فبإمكانِ الغَرْبِ أن يَجِدَ في حَضارةِ الشرقِ ما يُعالِجُ به بعضَ أمراضِه الرُّوحيَّةِ والدِّينيَّةِ التي نتَجَتْ عن طُغيانِ الجانبِ الماديِّ، كما بإمكانِ الشرق أن يَجِدَ في حضارةِ الغربِ كثيرًا ممَّا يُساعِدُ على انتِشالِه من حالاتِ الضعفِ والفُرقةِ والصِّراعِ والتَّراجُعِ العلميِّ والتقنيِّ والثقافيِّ. ومن المهمِّ التأكيدُ على ضَرُورةِ الانتباهِ للفَوَارقِ الدِّينيَّةِ والثقافيَّةِ والتاريخيَّةِ التي تَدخُلُ عُنْصرًا أساسيًّا في تكوينِ شخصيَّةِ الإنسانِ الشرقيِّ، وثقافتِه وحضارتِه، والتأكيدُ على أهميَّةِ العمَلِ على تَرسِيخِ الحقوقِ الإنسانيَّةِ العامَّةِ المُشترَكةِ، بما يُسهِمُ في ضَمانِ حياةٍ كريمةٍ لجميعِ البَشَرِ في الشَّرْقِ والغَرْبِ بعيدًا عن سياسةِ الكَيْلِ بمِكيالَيْنِ"» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 136).

 

هـ) الأخوّةُ و"ثقافة التَّسامُحِ والتّعايُش والسَّلام"

 

«وفي هذا السياق، أودّ أن أذكّر أننا، مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب نطالب، "صُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ". وعندما تَزرع سياسةٌ معيّنة الكراهيةَ أو الخوفَ تجاه الدول الأخرى باسم مصلحة بلدها، فمن الضروري أن نهتمّ ونتفاعل في الوقت المناسب ونصحّح المسار على الفور» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 192).

 

و) الأخوّةُ و"الأخلاق الدِّينيَّة" و"النّصوص الدّينيّة الكلاسيكيّة"

 

«وتجدر الإشارة إلى أن "أهمَّ أسبابِ أزمةِ العالمِ اليَوْمَ يَعُودُ إلى تَغيِيبِ الضميرِ الإنسانيِّ وإقصاءِ الأخلاقِ الدِّينيَّةِ، وكذلك استِدعاءُ النَّزْعَةِ الفرديَّةِ والفَلْسَفاتِ المادِّيَّةِ، التي تُؤَلِّهُ الإنسانَ، وتَضَعُ القِيَمَ المادِّيَّةَ الدُّنيويَّةَ مَوْضِعَ المَبادِئِ العُلْيَا والمُتسامِية". لا يمكننا أن نقبل بألّا يكون هناك رأي في النقاش العام إلّا رأي الأقوياء والعلماء فقط. بل يجب أن يكون هناك مجال لتفكير يأتي من خلفية دينية تجمع قرونًا من الخبرة والحكمة. في الواقع، "النصوص الدينية الكلاسيكية يمكنها أن تقدّم تفسيرًا لجميع العصور، ولها قوّة تعليل" ولكن في الواقع "يحطُّ من قدرها قِصَرُ فهم العقلانيات"» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 275).

 

ز) الأخوّةُ و"عبادة الله الصّادقة والمتواضعة" و"المعتقدات الدّينيّة"

 

«إنّ عبادة الله الصادقة والمتواضعة "لا تؤدّي إلى التمييز والكراهية والعنف، بل إلى احترام قدسيّة الحياة، واحترام كرامة الآخرين وحرّيتهم، والالتزام المحبّ تجاه الجميع". في الواقع "مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1 يو 4، 8). ولهذا السبب فإن "الإرهابَ البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجًا للدِّين - حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه - بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتَّعالِي؛ لذا يجبُ وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّةِ بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلاميِّ لها، واعتبارُ ذلك من الجَرائِمِ الدوليَّةِ التي تُهدِّدُ الأَمْنَ والسِّلْمَ العالميَّين، ويجب إدانةُ ذلك التَّطرُّفِ بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه". فالمعتقدات الدينية فيما يتعلّق بالمعنى المقدّس للحياة البشرية تسمح لنا بـ"الاعتراف بالقيم الجوهرية للإنسانية المشتركة، وباسم هذه القيم، يمكننا ولا بد لنا من أن نتعاون، ونبني ونتحاور، ونغفر وننمو، فنسمح لمختلف الأصوات بأن تلحّن نشيدًا نبيلًا ومتناغمًا، بدل صرخات متعصبّة من الكراهية"» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 283).

 

ح) الأخوّةُ و"السّلام والعدالة" و"ثقافة الحوارِ"

 

«في ذلك اللقاء الأخويّ الذي أتذكّره بفرح، مع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، أعلنّا "-وبحَزمٍ- أنَّ الأديانَ لم تَكُنْ أبَدًا بَرِيدًا للحُرُوبِ أو باعثةً لمَشاعِرِ الكَراهِيةِ والعداءِ والتعصُّبِ، أو مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ، فهذه المَآسِي حَصِيلَةُ الانحِرافِ عن التعاليمِ الدِّينِيَّة، ونتيجةُ استِغلالِ الأديانِ في السِّياسَةِ، وكذا تأويلاتُ طائفةٍ من رِجالاتِ الدِّينِ -في بعض مَراحِلِ التاريخِ- ممَّن وظَّف بعضُهم الشُّعُورَ الدِّينيَّ [...] أنَّ الله [..] في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه". ولذا فأريد أن أستأنف هنا الدعوة التي أطلقناها معًا إلى السلام والعدالة والأخوّة» (الرّسالة العامّة "جميعنا إخوة"، بند 285).

 

«باسمِ اللهِ وباسمِ كُلِّ ما سَبَقَ، يُعلِنُ الأزهَرُ الشريفُ -ومِن حَوْلِه المُسلِمُونَ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها- والكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ -ومِن حولِها الكاثوليك من الشَّرقِ والغَرْبِ- تَبنِّي ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا. إنَّنا نحن -المُؤمِنين باللهِ وبلِقائِه وبحِسابِه- ومن مُنطَلَقِ مَسؤُوليَّتِنا الدِّينيَّةِ والأدَبيَّةِ، وعَبْرَ هذه الوثيقةِ، نُطالِبُ أنفُسَنا وقادَةَ العالَمِ، وصُنَّاعَ السِّياساتِ الدَّولِيَّةِ والاقتصادِ العالَمِيِّ، بالعمَلِ جدِّيًّا على نَشْرِ ثقافةِ التَّسامُحِ والتعايُشِ والسَّلامِ، والتدخُّلِ فَوْرًا لإيقافِ سَيْلِ الدِّماءِ البَرِيئةِ، ووَقْفِ ما يَشهَدُه العالَمُ حاليًّا من حُرُوبٍ وصِراعاتٍ وتَراجُعٍ مناخِيٍّ وانحِدارٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ. ونَتَوجَّهُ للمُفكِّرينَ والفَلاسِفةِ ورِجالِ الدِّينِ والفَنَّانِينَ والإعلاميِّين والمُبدِعِينَ في كُلِّ مكانٍ ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان [...] إنَّ هذه الوثيقةَ، إذ تَعتَمِدُ كُلَّ ما سبَقَها من وَثائِقَ عالَمِيَّةٍ نَبَّهَتْ إلى أهميَّةِ دَوْرِ الأديانِ في بِناءِ السَّلامِ العالميِّ، فإنَّها تُؤكِّدُ الآتي: [...] - أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ، وكلُّ محاولةٍ للتعرُّضِ لِدُورِ العبادةِ، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجيرِ أو التهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدوليَّةِ» («وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة" من أجل السّلام العالمي والعيش المشترك»).