موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في هذه الحَلقة الثّانية والأخيرة، نواصل قراءتنا في محتوى الإرشاد الرّسوليّ الأوّل للبابا لاوُن الرَّابع عشر «لقد أَحبَبتُكَ»، الذي وَقَّعَ عليه في الـ4 من أكتوبر/تشرين الأوّل من هذا العام الجاري؛ ومِن ثمَّ نُشِر في الـ9 من أكتوبر/تشرين الأوّل المنصرم. وهو يتمحور حول "محبّة الفقراء"، أو "المحبّة نحو الفقراء"، أو "اهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء" ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 1-3).
يؤكّد البابا لاوُن الرَّابع عشر، ومعه البابا فرنسيس والكنيسة برُمّتها أيضًا، أنّ «حالة الفقراء صرخة تمتدّ على تاريخ البشريّة، ولا تكفّ عن مخاطبة حياتنا ومجتمعاتنا والأنظمة السّياسيّة والاقتصاديّة، والكنيسة أيضًا وليس آخرًا. على وجوه الفقراء الجريحة نرى مطبوعة آلام الأبرياء، ومن ثمَّ آلام المسيح نفسه. وفي الوقت نفسه، لعلَّه من الأدقّ أن نتكلّم على الوجوه الكثيرة للفقراء والفقر، لأنّه ظاهرة ولها أوجه عديدة، في الواقع، ثَمّة أشكال عديدة للفقر: فقر من لا يملك وسائل العيش المادّيّ، وفقر من هو مُهمّش في المجتمع ولا يملك الوسيلة التي تمكّنه من التّعبير عن كرامته وقدراته، والفقر الأخلاقيّ والرّوحيّ، والفقر الثّقافيّ، وفقر من هو في حالة ضعف أو هشاشة فرديّة أو اجتماعيّة، وفقر من لا حقوق له، ولا مكان، ولا حرّيّة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 9).
ثالثًا: "المسيّا الفقير" و"مسيّا الفقراء ومن أجل الفقراء"
يتمحور الفصلُ الثّاني من الإرشاد الرّسوليّ الجديد للبابا لاوُن الرّابع عشر، حول الله –المحبّة الرّحيمة– الذي يختارنا نحن الفقراء ويفضّلنا. وبالطّبع، "تفضيل" الله للفقراء والضّعفاء والمهمّشين والمظلومين، لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال إقصاء أحد أو تمييزه حيال آخرين؛ وإنّما يُظهِر هذا التّفضيل "عمل الله الذي يميل بعطف تجاه فقر وضعف البشريّة بأسرها". إنّه «من أجل أن يشاركنا حدود طبيعتنا الإنسانيّة وضعفنا، صار هو نفسه فقيرًا، ووُلد في الجسد مثلنا، وعرفناه طفلًا صغيرًا في مذود، ثمّ حمل أقصى الإهانة على الصّليب، حيث شاركنا فقرنا الجذريّ، أي الموت. ومن هنا يتّضح جيّدًا لماذا يمكننا أن نتكلّم لاهوتيًّا ونقول إنّ الله اختار الفقراء، وهو تعبير وُلد في سياق قارّة أمريكا اللاتينيّة، لا سيّما في اجتماع بويبلا (Puebla)، ثمّ صار جزءًا من تعليم الكنيسة فيما بعد» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 16).
انطلاقًا مِن هذا كلّه، ومِن صفحات الكِتاب المقدَّس أيضًا، نفهم أنّ الله تعالى صديقٌ للفقراء ومُحرِّرٌ وملجأٌ حصينٌ لهم، وفي قلبه المحبّ الرّحيم يوجد مكانٌ مفضّل للفقراء. ويتّضح هذا جليًّا عبر "المسيّا الفقير" و"مسيّا الفقراء ومن أجل الفقراء" ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 18-23). فيسوعُ النّاصريّ، «في تجسّده، "تَجَرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد، وصارَ على مِثالِ البَشَر، وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2، 7)، وفي تلك الصّورة حمل لنا الخلاص. إنّه فقر جذريّ، قائم على رسالته في كشف الوجه الحقيقيّ لمحبّة الله (راجع يوحنّا 1، 18؛ 1 يوحنّا 4، 9). لذلك، قال القدّيس بولس، في إحدى عباراته البليغة: "فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8، 9)» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 18).
إنّه حقًّا "المسيّا الفقير"، الذي اتّسمت حياته برُمّتها، مِن ميلاده إلى مماته مرورًا بحياته العلنيّة ورسالته الرّحيمة المتعلّقة بـ"ملكوت الله"، بالفقر الجذريّ؛ ولكنّه "مسيّا الفقراء ومن أجل الفقراء" أيضًا. «الإنجيل يبيِّن أنّ هذا الفقر كان يشمل كلّ جوانب حياة يسوع [...] وهو في نفس حالة الإقصاء التي تميِّز الفقراء، المستبعدين من المجتمع. يسوع هو وَحيُ الامتياز الإلهيّ للفقراء. وقد أتى هو إلى العالم ليس فقط "مسيحًا فقيرًا"، بل أيضًا ليكون "مسيح الفقراء والمسيح من أجل الفقراء"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 19). «إذًا، يتّضح أنّ "مِن إيماننا بيسوعَ المسيح الذي افتقر، والذي هو دائمًا قريبٌ من الفقراء والمنبوذين، ينجم اهتمامُنا بالنّموّ الكامل لأشدِّ المنبوذين في المجتمع"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 23).
يتعلّق الأمر، إذًا، بمركزيّة الرّبّ يسوع –المسيّا– فيما يتعلّق بالفقر والفقراء؛ بمعنى أنّنا نرى وَجهَ المسيح في الفقراء والمساكين، ونلمس جسده فيهم، ونختبر حضوره فيهم ومعهم. فـ«في الفقراء، يريد الله أن يقول لنا شيئًا» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 5). و«على وجوه الفقراء الجريحة نرى مطبوعة آلام الأبرياء، ومن ثمَّ آلام المسيح نفسه» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 9). «ليس الفقير إنسانًا للمساعدة فقط، بل هو حضور أسراريّ للرّبّ يسوع» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 44). وقد «رأت الكنيسة دائمًا في المهاجرين حضورًا حيًّا للرّبّ يسوع الذي سيقول في يوم الدّينونة للذين عن يمينه: "كُنتُ غَريبًا فآويتُموني" (متّى 25، 35)» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 73). إنّ نماذج القدّيسين والقدّيسات المتنوّعة «تعلّمنا أنّ خدمة الفقراء ليست عملًا نقوم به من الأعلى نحو الأدنى، بل هو لقاء بين متساوين، حيث نرى المسيح ونسجد له. ذكّرنا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّ "هناك حضورًا خاصًّا للمسيح في الشّخص الفقير، الذي يُلزم الكنيسة أن تقوم بخيار تفضيليّ من أجلهم"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 79).
إنّه، وفقًا للكاردينال "جاكومو ليركارو"، في مداخلته التّاريخيّة في الـ6 من ديسمبر/كانون الأوّل لعام 1962، أثناء انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، «سرُّ المسيح في الفقراء [...] و"هو ليس أيّ موضوع، بل هو، بمعنى ما، الموضوع الوحيد للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني بأكمله"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 84)؛ إذ إنّ، وفقًا للبابا بولس السّادس، «"الفقير هو ممثّل المسيح" [...] كلّ فقير يعكس صورة المسيح» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 85). فهو «الفقير مثلهم والمُستبعد بينهم» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 100). ولذا، فقد «أعلن الأساقفة في ميديلين (Medellin) اختيارهم التّفضيليّ للفقراء: "أحبّ المسيح مخلّصنا الفقراء، وليس هذا فقط، بل "بما أنّه كان غنيًّا، صار فقيرًا" وعاش في الفقر، وركّز رسالته على إعلان تحريرهم وأسّس كنيسته علامةً لهذا الفقر بين النّاس. [...] فقر الإخوة الكثيرين يدعو إلى العدل والتّضامن والشّهادة والالتزام والجُهد والتَّغلُّب، لكي تتحقّق بشكل كامل الرّسالة الخلاصيّة التي أوكلها المسيح إلينا"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 90).
بإيجازٍ شديد، «التّمييز الرّوحي الذي عبّرت عنه وثيقة مجلس الأساقفة في أباريسيدا (Aparecida) إنّما هو عطيّة أساسيّة لمسيرة الكنيسة الجامعة، حيث أوضح الأساقفة في أمريكا اللاتينيّة أنّ خيار الكنيسة التّفضيليّ للفقراء "متأصِّل في الإيمان بشخص المسيح: الله صار فقيرًا من أجلنا، لكي يُغنينا بفقره"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 99). ولذ، فـ«يجب أن نشعر بأهمّيّة دعوة الجميع للدخول في نهر النّور والحياة هذا الذي يرى المسيح في وجه المحتاجين والمتألّمين» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 103). و«لا يستطيع المسيحيّ أن ينظر إلى الفقراء على أنّهم مجرّد مشكلة اجتماعيّة: إنّهم "مسألة عائليّة". إنّهم "مِنَّا". ولا يمكن أن تقتصر العلاقة معهم على نشاط أو وظيفة في الكنيسة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 104). وهكذا، إن كان الفقراءُ بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين "جسدَ المسيح نفسه"، «لم يَعُدْ يكفي مجرّد إعلان عقيدة تجسّد الله بصورة عامّة. فلكي ندخل حقًّا في هذا السّرّ، يجب أن ندرك أنّ الرّبّ صار إنسانًا يجوع، ويعطش، ويمرض، ويُسجَن. "إنّ كنيسة فقيرة تهتمّ بالفقراء تبدأ فتتحرّك نحو جسد المسيح. فإذا توجّهنا نحو جسد المسيح، بدأنا نفهم بعض الشّيء، بدأنا نفهم ما هو فقر الرّبّ يسوع هذا. وهذا ليس سهلًا"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 110).
رابعًا: "كنيسةٌ فقيرة" و"كنيسةُ الفقراء ومن أجل الفقراء ومع الفقراء"
في منتصف الإرشاد الرّسوليّ الجديد، وفي القسم الأطول منه أيضًا، يأتي الفصلُ الثّالث الذي يدور حول "كنيسةٍ للفقراء" ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 35-81). إنّها رغبةُ البابا فرنسيس، منذ بدايات حَبريّته، أيضًا: «كم أتمنّى أن تكون كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء!» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 35).
منذ القرون الأُولى وعصر آباء الكنيسة، ولا سيّما بفضل شهادة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ وأسقف إزمير بوليكاربس، «نرى أنّ الكنيسة تظهر أُمًّا للفقراء، ومكانًا للتّرحيب والعدالة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 39). وعلى هذا النّحو، «الحضور المسيحيّ إلى جانب المرضى يكشف أنّ الخلاص ليس فكرة تجريديّة، بل عمل ملموس. وفي تضميد الجراح، تُعلن الكنيسة أنّ ملكوت الله يبدأ مع أشدِّ النّاس ضعفًا [...] عندما تجثو الكنيسة إلى جانب أبرص، أو طفل يعاني من سوء التّغذية، أو محتضر مجهول الاسم، فإنّها تحقّق أعمق ما في دعوتها: أن تحبّ الرّبّ يسوع حيثما يكون في أشدّ حالات التشوّه» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 52). و«عندما تنحني الكنيسة لتكسر القيود الجديدة التي تكبّل الفقراء، فإنّها تصير علامة فصحيّة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 61). «الكنيسة مثل الأمّ، تسير مع السّائرين. حيث العالم يرى تهديدات، هي ترى في الجميع أبناء، وحيث تُبنى الجدران، هي تبني الجسور. هي تعلم أنّ إعلانها للإنجيل يكون صادقًا فقط عندما ترافقه أعمال مودّة وقبول، وأنّ في كلّ مهاجر مرفوض، المسيح نفسه هو الذي يقرع على أبواب الجماعة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 75). و«عندما تنحني الكنيسة لتهتمّ بالفقراء، فإنّها تكون في أسمى مواقفها» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 79).
إنّ "عصر تعليم الكنيسة الاجتماعيّ"، بدايةً من الرّسالة البابويّة العامّة «في الشّؤون الجديدة» للبابا لاوُن الثّالث عشر (1891)، ومرورًا بالرّسالة البابويّة العامّة «أمّ ومعلّمة» للبابا يوحنّا الثّالث والعشرين (1961)، ودَورات وجَلَسَات ووثائق المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني (1962-1965)، والرّسالة البابويّة العامّة «تقدُّم الشّعوب» للبابا بولس السّادس (1967)، ووثائق البابا يوحنّا بولس الثّاني (مثلًا، الرّسالتَيْن البابويّتَيْن العامّتَيْن «الاهتمام بالشّأن الاجتماعيّ» و«العمل الإنسانيّ»، والرّسالة البابويّة العامّة «المحبّة في الحقيقة» للبابا بندكتس السّادس عشر، ووصولًا إلى تعاليم البابا فرنسيس، لخيرُ بيانٍ وبرهانٍ وشاهدٍ على هذا كلّه ("لقد أَحبَبتُكَ"، بنود 82-89). فـ«السُّلطة التّعليميّة في المئة وخمسين سنة الأخيرة قدّمت كنزًا حقيقيًّا من التّعاليم الخاصّة بالفقراء. وقد جعل أساقفة روما من أنفسهم صوتًا للوعي الجديد الذي خضع لتمحيص التّمييز الكنسيّ» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 83). ويتعلّق الأمر، وفقًا للكاردينال "جاكومو ليركارو"، بـ«سرّ الكنيسة أمّ الفقراء» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 84)؛ ووفقًا للبابا بولس السّادس، بـ«العلاقة الجوهريّة بين الكنيسة والفقراء» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 85).
وليس هذا فحسب، بل مواقف ومؤتمرات مجالس الأساقفة الوطنيّة والإقليميّة عامّةً، ومواقف ومؤتمرات مجلس أساقفة أمريكا اللّاتينيّة والكريبي خاصّةً، شاهدةٌ على "إعادة التّفكير في علاقة الكنيسة بالفقراء"، و"تعاطف الكنيسة مع الفقراء ومشاركتها الفعّالة في خلاصهم". فـ«قلب الكنيسة نفسها هو الذي تحرّك أمام الفقراء الكثيرين الذين كانوا يعانون من البطالة، ونقص العمل، والأجور غير العادلة، وكانوا مضطرّين لأن يعيشوا في ظروف بائسة. كان استشهاد القدّيس أوسكار روميرو، رئيس أساقفة سان سلفادور، شهادة وإرشادًا حيًّا معًا للكنيسة. أحسّ بمأساة الغالبيّة العظمى من مؤمنيه، كما لو أنّها مأساته، وجعلهم محور اهتمامه الرّعوي. مجالس أساقفة أمريكا اللاتينيّة في ميديلين (Medellin) وبويبلا (Puebla) وسانتو دومينغو (Santo Domingo) وأباريسيدا (Aparecida) تشكّل محطّات هامّة للكنيسة بأكملها أيضًا» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 89).
ومِن ثمَّ، «أكّد الأساقفة بقوّة أنّ الكنيسة، لكي تكون أمينة كلّ الأمانة لدعوتها، لم يكن عليها فقط أن تشارك الفقراء محنتهم، بل أن تقف إلى جانبهم وتعمل بنشاط من أجل دعمهم الكامل. أكّد مجلس أساقفة بويبلا (Puebla)، أمام البؤس المتفاقم في أمريكا اللاتينيّة، على قرار مجلس أساقفة ميديلين (Medellin) مع خيار صريح ونبويّ لصالح الفقراء، ووصف هيكليّات الظّلم بأنّها "خطيئة اجتماعيّة» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 90).
ومِن جهةٍ أُخرى، ووفقًا لوثيقة "دائرة عقيدة الإيمان" ("مجمع عقيدة الإيمان" سابقًا) بعنوان «تعليمات بشأن جوانب معيّنة من "لاهوت التّحرير"» (1984)، «المدافعون عن "الأرثوذكسيّة" [التّعليم القويم] يُتَّهَمون أحيانًا بالسّلبيّة أو التّساهل أو التّواطؤ المذنب تجاه أوضاع الظّلم التي لا تطاق، والأنظمة السّياسيّة التي تحافظ على هذه الأوضاع. إنّ التّوبة الرّوحيّة، والمحبّة الشّديدة لله والقريب، والغَيرة من أجل العدل والسّلام، والحسّ الإنجيليّ تجاه الفقراء والفقر، هي أمور مطلوبة من الجميع، وخاصّة من الرّعاة والمسؤولين. الاهتمام بنقاوة الإيمان يجب ألّا ينفصل عن الاهتمام بإعطاء جواب، بحياة لاهوتيّة متكاملة، لشهادة فعّالة لخدمة القريب، وبطريقة خاصّة جدًّا للفقير والمظلوم» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 98).
وبعبارة وجيزةٍ، «إنّ قلب الكنيسة، بطبيعته، متضامن مع الفقراء والمستبعدين والمهمّشين، ومع الذين يُعتَبَرون "مرفوضين" في المجتمع. إنّ الفقراء هم في قلب الكنيسة، وهم جزء من "الإيمان بالمسيح الذي صار فقيرًا وظلَّ دائمًا قريبًا من الفقراء والمستبعدين، ومن هذا ينجم الاهتمام بالتّنمية المتكاملة للمتروكين ولأكثر النّاس تهميشًا في المجتمعات". في قلب كلّ مؤمن توجد "الحاجة إلى الإصغاء إلى الصّراخ النّاجم من نفس عمل النّعمة المحرِّر في كلّ واحد منّا، ومن ثمّ ليست العناية بالفقير رسالة مخصّصة للبعض فقط"» ("لقد أَحبَبتُكَ"، بند 111).
خُلاصةٌ
يُعَدُّ هذا الإرشاد الرّسوليّ الجديد ("لقد أَحبَبتُكَ") وثيقةً كَنسيّةً وحَبريّةً مندرجةً ضمن وثائق تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، الذي انطلق بدوره في العصر الحديث منذ وثيقة «في الشّؤون الجديدة» (1891) للبابا لاوُن الثّالث عشر، وممتد حتّى يومنا هذا. ومِن خلال هذه الوثيقة الجديدة، تتّضح جليًّا عَظَمةُ الكنيسة الكاثوليكيّة في تاريخها، ومسيرتها، وخدمتها، وتعاليمها، ومؤسّساتها، ورهبانيّاتها الرّجاليّة والنّسائيّة، ومُبادراتها الرّوحيّة والاجتماعيّة.
وأخيرًا، تُذكِّرنا القراءةُ المتأمّلةُ لهذا الإرشاد الرّسوليّ الجديد بالأقوال الإنجيليّة الخالدة عن الفقر والفقراء، ولا سيّما التّطويبات والنّصوص البُوليسيّة: «طوبى لِفُقَراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات» (متّى 5: 3)؛ «طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله» (لو 6: 20)؛ «فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ ٱفتَقَرَ لِأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه» (2 قور 8: 9)؛ «ولَمَّا عَرَف يَعْقوبُ وصَخْرُ ويُوحَنَّا، وهُم يُحسَبون أَعمِدَةَ الكَنيسة، ما وُهِبَ لي مِن نِعمَة، مَدُّوا إِلَيَّ وإِلى بَرنابا يُمنى المُشاركة، فنَذهَبُ نَحنُ إِلى الوَثَنِيِّين وهم إِلى المَخْتونين، بِشَرطٍ واحِدٍ وهو أَن نَتَذَكَّرَ الفُقَراء، وهٰذا ما ٱجتَهَدتُ أَن أَقومَ بِه» (غل 2: 9-10).