موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ سبتمبر / أيلول ٢٠١٥

معدن الانسان وجوهره

بقلم :
الأب رائد أبو ساحلية - فلسطين

لا أخفيكم بأن نص هذا الأحد من أصعب النصوص التي حاولت التأمل بها واخذت وقتاً طويلاً لأفهم كُنه ما أراد يسوع من هذا الكلام الغريب العجيب: فقد ابتدأ بكلام يوحنا الذي منع واحداً كان يطرد الشياطين باسم يسوع لأنه ليس من جماعة التلاميذ.. فزجره يسوع وقال له: «لاَ تَمْنَعُوهُ لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً"، ليصل الى النتيجة: "لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". لا بل يُبسِّط يسوع الأمور لدرجة أن من يسقي ولو كأس ماء - بنيِّةٍ صافيةٍ = بمحبة- لأحد اخوتي هؤلاء الصغار باسمي فإن أجره لا يضيع، أي أن كلَّ عملٍ ولو كان بسيطاً له قيمة عظيمة اذا كان بنية صادقة ونابعاً من القلب.. وبقدر مدحه لمن يفعل الخير فإن يسوع يتشدد مع من يُسبِّب العِثار والشك لدرجة أنه يقول: "فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ".. كما أنه يتشدد مع من يفعل الشر بيده أو برجله أو بعينه لدرجة أنه يفضل أن يقطعها أو يقلعها اذا كانت سبباً للشك والعثار لأنها قد تؤدي الى الهلاك في نار جهنم الَّتِي لاَ تُطْفَأُ" ويكرر ثلاث مرات "حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ". وينهي بتشبهي "الملح" و"النار" أي أن الانسان يجب أن يحفظ نفسه من الفساد كما تُحفَظ الذبيحة بالملح بل يكون له طعماً ومفعولاً "كالملح الذي يملح". وكذلك الذهب يُمحص بالنار التي تُطهِّر من الشوائب وتظهر المعدن نقياً وتعطيه قيمةً وثمناً. وهنا نصل بالفعل إلى جوهر هذا التعليم: معدن الانسان وجوهره أن يكون طاهراً نقياً باراً صالحاً خالياً من أي نجاسة وشائبة كما قال السيد: "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟" وهذا صدى لما قاله في مكان آخر: "أنتم ملح الارض، فاذا فسد الملح فأي شيء يملحه!" لذلك ينهي يسوع بهذه التوصية: "لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً». نستنتج مما سبق مبادئ أساسية في الحياة الانسانية: علينا أن نختار ونقرر ونأخذ موقف وقد أقول بأن يكون هذا الموقف جذرياً وليس هناك حلول وسطى أو منطقة وسطى أو بنية "يا أسود يا أبيض"، "نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك من الشرير"، إما مع المسيح وإما ضد المسيح، إما مع الله وإما ضد الله، مع الخير أو مع الشر، إما نجمع أم نفرق.. وهذا يعني أن يكون لدينا مبادئ أخلاقية ثابتة مكينة نبني عليها حياتنا فلا نتأرجح بحسب الظروف "كيف ما شاحت لاحت" ونتقلب "كل يوم شكل" أو نتوجهن "قدامك شكل ووراك شكل" أو نكون بلا موقف "معهم معهم عليهم عليهم"..! كما علينا أن نختار حياة النعمة أو الخطيئة، الحياة الدنيا أو حياة الآخرة، أن نشكك الاخرين في أيمانهم ونكون حجر عثرة لهم أم نعطي المثل الصالح ونشهد لإيماننا بأعمالنا الصالحة.. أي أن نكون قدوة حسنة ومثالاً طيباً.. فماذا نفضل هذه الحياة الفانية أم الحياة الباقية، الثواب الابدي ام العقاب الابدي.. وكل هذا نقرره من الآن ويبدأ على الأرض.. والمهم قبل كل شيء هو معدن الانسان أي جوهره في ذاته وداخله وقلبه وقيمه وأخلاقه وتربيته انطلاقاً من مبدأ "الكينونة" وليس "الصيرورة" فقط، فالمهم مَن أنتَ "to be"؟ وليس فقط ماذا تفعل “to do”، لأن العمل يتبع الكيان “agitur seguitur esse”، فإذا كنتَ طيباً ستثمر ثمراً طيباً واذا كنتَ شريراً ستثمر ثمراً شريراً.. إذن علينا أن نشتغل على أنفسنا من الداخل لا بل أن نعيش في باطننا ونكون صادقين مع أنفسنا والا سنكون فقط ممثلين ومهرجين لا بل متصنعين ودجالين.. وهذا ما قصده يسوع بأن نحفظ أنفسنا من الفساد لئلا "تطلع ريحتنا" كالذبيحة التي "تُفطِّس" إن لم تُملح أو تُحفظ في الثلاجة. ويركز يسوع على مبدأ "النية تسبق العمل" أو "أنما الاعمال بالنيات" وهو مرتبط بضمير الإنسان وخفاياه الباطنية التي يجب أن تقوده الى العمل الصالح، رغم الصراع القائم لا بل المحتدم بين ما نخفي وما نظهر، ما نريد وما نعمل، الغاية والوسيلة، الرغبة والامكانية وكأنه "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" وبفعل العوامل والظروف الخارجية التي قد لا نستطيع التحكم بها وتعاكس رغبتنا ونويانا، أو بفعل عوامل داخلية كما يقول بولس الرسول: "الخير الذي أريد أن أفعله لا أفعله والشر الذي لا أريده إياه أفعل" وهذا دليل على الخطيئة أي أن طبيعتنا البشرية ضعيفة ومجروحة وتحتاج الى جهد شخصي من جهة ولكن إلى نعمة الله من جهة أخرى "تكفيك نعمتي ففي الضعف تبدو كمال قوتي". وأخيراً وليس آخراً، يريد منا يسوع أن نتصالح مع أنفسنا لنتصالح مع اخوتنا عندما يقول: "لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً». أي أن السلام الداخلي يؤدي الى السلام الخارجي تماماً كما قال يعقوب بأن الحروب والمنازعات والخصومات تأتي من أعضائكم التي تتعارك في داخلكم ومن شهواتكم التي تسيطر عليكم.. فلنبدأ اذن من أنفسنا "قلبنا" وسنرى كيف نُحسِنُ معاملة اخوتنا! السيد المسيح اليوم يضعنا على المحك ويُخيِّرنا: "إني خيرتكم فاختاروا، ما بين الجنة والنار، ما بين الموت اشراراً، أو حياة الاخيار، اختاروا الخير لا الشر، لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، فجبنٌ ألا تختاروا". الاب رائـد أبو ساحلية مدير عام كاريتاس القدس