موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الرابع من زمن السنة (ج)
مُقدّمة
في عرضنا التقديمي لهذا المقال، من خلالل سلسلتنا الكتابيّة فيما بين العهديّن، والّذي تتوازي فيه قرائتنا لنص من سفر النبي اشعيا (6: 1-8) مع نص بالعهد الجديد بحسب لُوقا (5: 1- 11)، حيث يروي هذا المقطع أوّل لقاء بين الله والنبي من خلال ظهور إلهيّ خاص. ففي العهد الأوّل يتلقى النبي اشعيا في هذا اللقاء رسالة إلهيّة إلى شعب الله. يروي هذا النص، الّذي يقدم كل خصائص الظهور الإلهي، بعض التفاصيل عن العرش الإلهيّ، الهيكل، الكروبيم، الدخان. مما يوحي لنا بأنّها قصة لقاء الإنسان بالله بوصف خاص من خلال الحوار وسنتعرف على نتائج هذا اللقاء. وهكذا، وبتوجيه من النص الإشعيائي، نجد أنفسنا أيضاً نقرأ نصًا لُوقاويًا تتوازي فيه أيضًا علاقة لقاء بين الإنسان والله. ولكن الآن يتم هذا اللقاء من خلال شخص يسوع المسيح. والآن من خلاله يستطيع كلّ إنسان أنّ يلتقي بقداسة الله الحيّة، الّتي شعر اشعيا أمامها بأنّه ضائع وخاطيء.
على ضوء هذا النص يروي لوقا (5: 1- 11)، وبعد أن قدّم لنا الإنجيلي يسوع من خلال أقواله وأعماله (راج 4: 14-30؛ 4: 31-44)، يروي لنا لقاء يسوع مع التلاميذ الأوائل. وهكذا ففي هذا المقطع الّذي نتعمق فيه نجد نوعاً من إستجابة التلميذ للقاء يسوع المعلم من جانب، وإستجابة النبيّ لرسالة الله الّذي يحمل لنا كلمة الله الّتي ننتظرها كشعب ينتمي للرّبّ. مدعويّن من خلال هذا المقال أنّ نبحث عن مدى إستجابتنا كتلاميذ من دانب وأنّ نقدم للرّبّ كلّ مخاوفنا الّتي تعوق مسيرتنا للقاء به. متتبعين لأقدام يسوع بحسب النص اللوُقاويّ والإنتظار الإلهي للقائي وللقائك، بحسب نص اشعيا بالعهد الأوّل. كِلّا النصيّين يشير إلى لقاء شخصي بالرّبّ لـمّن يصير له تلميذً. وسنتعرف على أنّ هناك بعض الـملامح الّتي ينبغي على كلّاً منا التحلّي بها ليلتقي حقيقة بالله وأهمها التحرر من الخوف.
1. أصغرية الإنسان أمام الله (اش 6: 1- 8)
من أهم النبؤات الكبري والّتي تحمل رسائل تحوي الرجاء وأخرى الدينونة وعلى مدى ثلاث قرون تمت كتابتها هي نبؤة اشعيا. لدينا بهذا المقطع اللقاء الأوّل بين النبي والله العليّ بالهيكل حيث يصف بشكل تفصيلي هذا اللقاء الّذي سيصير نقطة إنطلاق لمزيد من اللقاءات الّتي لن تنتهي بين النبي الإنسان والرّبّ إذ يصف ما يراه قائلاً: «في السَّنَةِ الَّتي ماتَ فيها المَلِكُ عُزِّيَّا، رأيتُ السَّيِّدَ جالساً على عَرشٍ عالٍ رَفيع، وأَذْيالُه تَملأُ الهَيكَل. مِن فَوقِه سَرافونَ قائمون، سِتَّةُ أَجنِحَةٍ لِكُلِّ واحِد، بِاثنَينِ يَستُرُ وَجهَه وباثنَينِ يَستُرُ رِجلَيه وباثنَينِ يَطير. وكانَ هذا يُنادي ذاكَ ويَقول: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه". فتَزَعزَعَت أُسُسُ الأَعْتابِ مِن صَوتِ الـمُنادي، وإمتَلأَ البَيتُ دُخاناً» (اش 6: 1- 4). من خلال لقب "السّيّد الجالس على العرش" وهو ما يعني الملك يصف النبي هذا اللقاء المهيب والأوّل بشكل إحتفالي حيث الملائكة تحيطه من كل مكان بل وتترنم بإعلان قداسته وهذه الكلمات هي ما نرتلها في كلّ ذبيحة إلهيّة، إعلانًا لقداسة الله العلي. هذا المجد يملأ الهيكل بل يشعر بأنّه في حالة تفوق الطبيعة إذ لا توجد أرض تحت قدميه من عظمة وقوة هذا التجلي الإلهيّ. وفي ذات الوقت أمام هذا المجد يعترف النبي بحقيقة ذاته مُعلنًا: «وَيلٌ لي، قد هَلَكتُ لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين، وأَنا مُقيمٌ بَينَ شَعبٍ نَجسِ الشِّفاه، وقَد رَأَت عَينايَ المَلِكَ رَبَّ القُوَّات". فطارَ إِلَيَّ أَحَدُ السَّرافين، وبِيَدِه جَمرَةٌ أَخَذَها بِمِلقَطٍ مِنَ المَذبَح ومَسَّ بِها فَمي وقال: "ها أَن هذه قد مَسَّت شَفَتَيكَ، فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت خَطيئَتُكَ"» (اش 6: 5- 7). بالمقارنة بالمجد الإلهي نجد هناك نجاسة بشريّة سواء خاصة بالنبيّ أم عامة بالشعب كله. وحين يعترف برؤيته لرّبّ القوّات ويعيش حدث اللقاء الأوّل بالكامل بما يشير لخوفه، فما من بشر يرى الرّبّ ويبقى حيًا. إلّا إنه في هذه اللحظة بالتحديد تأتي مبادرة إلهيّة لتحرر من هذا الخوف وهذا الإعتقاد الخاطئ عن الرّبّ معلنًا التبرّير وإزالة نجاسته. وهنا تأتي المفاجأة إذ سمع قبلاً وها هو يأخذ مكانه في الحوار مع العلي: «وسَمِعتُ صَوتَ السَّيِّدِ قائلاً: "مَن أُرسِل، ومَن يَنطَلِقُ لنا؟" فقُلتُ: "هاءَنذا فأَرسِلْني"» (اش 6: 8). بناء على دعوة السّيّد بالنداء للنبيّ، بعد تحرره من النجاسة والإثم، ها هو يقدم ذاته مستعداً ليكون من الآن فصاعداً رسولاً للعليّ "صوت الله" وسط شعبه حاملاً رسالته الخلّاصيّة الّتي ستدوم في فترات العزاء وفترات التوبة والتأنيب والسبي والتحرر أيضًا.
2. قوة كلمة الله (لو 5: 1- 11)
يبدأ لوقا برواية هذا الحدث مفتتحًا إياه بتعبير فريد من نوعه قائلاً: «ازْدَحَمَ الـجَمعُ علَيهِ [يسوع] لِسَماعِ كَلِمَةِ الله، وهُوَ قائمٌ على شاطِئِ بُحَيْرَةِ جِنَّاسَرِت» (لو 5: 1). يشير لوقا باستخدامه هذا التعبير إلى أنّ محور لقائنا بالرّبّ هو هذا الواقع بالتحديد وهوأن يتمّ إعلان كلمة الله. إن لقاءنا كبشر بيسوع هو لقاءنا بكلمة الله،كما سيعلنه يوحنّا الإنجيلي بلفظ «الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا» (يو 1: 14أ). حتى حياتنا نحن كتلاميذ ليسوع، ستصير كحياة التلاميذ الأوائل الّذين ظهروا للمرة الأوّلى في هذا المقطع بحسب إنجيل لوقا، إذ ترتبط حياتهم إرتباطًا وثيقًا بكلمة الله سواء الـمنطوقة أم الـمنقولة من خلال يسوع.
إن إدراج الإنجيلي، هذه الإشارة القوية إلى الكلمة الإلهيّة، في المقطع الّذي يروي فيه الإنجيلي دعوة التلاميذ الأوائل، يتحدث عن إحدى خصائصها الأساسيّة. حيث يتأكد إنّ كلمة الله هي دائما دعوة للقاء الله بي وبك. كلمة لا تتركنا كما كنا من قبل، ولكن إذا إستقبلناها حقيقة، فلها من القوة لتقودنا إلى مكان آخر. نعم ستتأخذنا إلى حياة العلن، وتجعلنا كبطرس مختلفين منذ اللحظة الّتي سبقت اللقاء. وسوف نرى هذه الخاصية للكلمة بشكل أفضل في ختام هذا النص.
إشارة الإنجيلي إلى قوة الكلمة الإلهيّة والّتي ليست بجديدة في سياق الكتابات اليهوديّة حيث يتعين علينا أنّ نؤكد على سمة نموذجيّة لهذا النص هي أنّ الجمع البسيط ينتظر كلمة الله. وهو يصير نموذجًا لنا في قدرته لتمييز هويّة يسوع الحقّة كابن الله. يذهب الجمع إلى يسوع ليسمعوا كلمة الله، فيُعتَبر بذلك شاهدًا مُوثوقًا لهذه الكلمة. هنا والآن، يخرج الجمع على شواطئ بحر الجليل أتيًا وراء يسوع ليستمع إلى تلك الكلمة الّتي يعلنها حيث إنها تمتّ (راج لو 4) كما فسرنا بمقالنا السابق. بدأ لوقا هذا النص في إطار أساسيّ ولكنه كثيف للغايّة. نحن جميعًا مندهشيّن بطريقة ما بهذا التعبير، الّذي جذب إنتباهنا حتمًا. يقول أحد مفسري الكتاب المقدس مُعلقًا على هذا المقطع بأنّ هذا التعبير [كلمة الله] مألوف وغامض مثل وجه شخص محبوب أو لوحة لرسام عظيم؛ من الصعب التعليق عليه.
3. لقاء المعلم بالتلميذ (لو 5: 2- 11)
يستمر لوقا في سرده حيث يروي بعد إنصراف الجمع بأنّ «فرَكِبَ إِحْدى السَّفينَتَين وكانَت لِسِمعان، فسأَلَه أَن يُبعِدَ قَليلاً عنِ البَرّ. ثُمَّ جَلَسَ يُعَلِّمُ الـجُموعَ مِنَ السَّفينَة» (لو 5: 3) صعود يسوع إلى سفينة بطرس، وجلس حيث يشير إلى دوره التلعيميّ في منصب المعلم، ومن السفينة بدأ يُعلّم الجموع. ولكن بالتحديد يشير إلى إستمرارية تعليم يسوع ولم نعلم بالتحديد عظة يسوع للجمع الّتي تحويّ تعليمه.
في مرحلة تاليّة نسمع الحوار الّذي يدعو يسوع الصيادين وخاصة لبطرس قائلاً: «سِرْ في العُرْض، وأَرسِلوا شِباكَكُم لِلصَّيد» (لو 5: 4). نجد أنّ كلمة رجل من الريف بالناصرة، تدعو الصياديّن الماهرين بكفرناحوم للذهاب للعمق وإلقاء شباكهم. طلب يسوع يبدو سخيفًا، ومن المؤكد إنّه سيؤدي إلى الفشل بالنسبة لأولئك الّذين يقبلونه. ولكن في هذا السياق السخيف إلى حد ما، جاءت إستجابة بطرس: «يا مُعَلِّم، تَعِبْنا طَوالَ اللَّيلِ ولَم نُصِبْ شَيئاً، ولكِنِّي بِناءً على قَولِكَ أُرسِلُ الشِّباكَ» (لو 5: 5). هذه هي أوّل صفة من صفات التلميذ، طاعة الكلمة الّتي قد نظن إنها تخالف المنطق الدنيوي للنجاح والربح، اتباع منطق مختلف وهو منطق الإنجيل! ومع ذلك فإن الطاعة لكلمة تبدو وكأنها محكوم عليها بالفشل تدهشنا إذ تحقق نجاح عظيم.
صورة الكلمة أمام حقيقة الصيد العجيب تحمل ثمارًا غير متوقعة وغير منتظرة، يكتشف سمعان بطرس، الإنسان، نفسه بقوله: «فلَمَّا رأَى سِمعانُ بُطرُسُ ذَلِكَ، اِرتَمى عِندَ رُكبَتَي يَسوعَ وقال: "يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ"» (لو 5: 8). مثل اشعيا في حضرة الله. يكتشف أنّ الله حاضر أمامه ويلتقي به. بطرس الإنسان يكتشف فرديته وصغره بل خطيئته أمام الله. وهنا يكمن المعنى الحقيقي لخطيئتنا، فهي لا تنشأ عن جُهدنا الطوعيّ من أجل الكمال وخلاص الّذات، بل تُولد من اللقاء بالله. إن لقاءنا بالله يتم بعد إختبارنا أزمة عميقة، وهي أزمة حقيقية، إلّا إنها تصير فيما بعد بداية حياة جديدة، وبداية تغيير باطني وجوهري لحياة الإنسان.
4. التحرر من الخوف (اش 6: 1- 8؛ لو 5: 10)
من خلال لقاء النبي مع الله بحسب اشعيا، والّذي يتجدد من خلال الإستماع إلى كلمة يسوع لدى لوقا، حيث تأتي إمكانية حياة جديدة وإمكانية ثمار جديدة في كلّ مَن يلتقي حقيقة بالرّبّ. مما يؤكد بإنّ مكان فشلنا وهزيمتنا البشريين، إذا سكنته كلمة الله، يصبح مكانًا للحياة والوفرة. إنّه الّليل، ليل أزمتنا وإختبار فشلنا الماديّ والروحيّ، حيث تعرف النبي على نجاسته ولم يتمكن التلاميذ من إصطياد شيئًا، وعبثًا تعب كلّا منهما في ممارسة كل مهارات حرفتهم، إلّا إنه من خلال إستجابتهم للصوت الإلهي، سواء إستجابة النبي مما أدى إلى إرساله لذويّه حاملاً رسالة إلهيّة. على هذا المنوال، باستجابة التلاميذ للفتة مجنونة في ظاهرها، لكنها متجذرة في كلمة يسوع، أدت إلى صيد وفير.
بالنسبة للقاء النبي بالله، مثل لقاء بطرس بيسوع يصيرا كليهما لقاء مع الكلمة ومن هنا تأتي إستجابتهما لدعوة العليّ. يمكننا أنّ نعود إذن إلى ما نوهنا عنه في البداية عن مميزات اللقاء مع الله ومع كلمته، كلّ لقاء حقيقي بالرّبّ يؤثر فينا ويصبح دعوة ورسالة. عندما يتم التواصل بها بالكلمة فهي تصير دعوتنا بالحياة. ولكن الكلمة لا تدعو الإنسان إلى أنّ يصبح شخصاً آخر ولا تدعو المرء منا بترك تاريخه، كمثال بطرس، فهو من صّيّاداً للسمك، سيصبح صياداً للبشر. إنّ الكلمة تدعونا إلى التوقف والاستمرار في ذات الوقت، فالإنسان مدعو إلى النمو من خلال التغيير. وأيضًا مدعوين كما نحن، بقدراتنا وحدودنا ودوافعنا ورغباتنا الخاصة للإنتقال من عدم اليقين إلى الثقة إذ في واقع الأمر لايتم إلغاء حياتنا بل تتحوّل بقدرة الكلمة الإلهيّة إلى لمس نجاستنا وسماعنا يهمس في آذان كلّا منا قائلاً: «لا تَخَفْ! سَتَكونُ بَعدَ اليَومِ لِلبَشَرِ صَيَّاداً» (لو 5: 10).
خلّاصة
من خلال لقاء اشعيا الأوّل بالرّبّ (اش 6: 1- 8)، وقبوله لمس شفاه علامة للتحرر لبدء تبليغ رسالة إلهيّة للشعب مما جعل خوف النبي من نجاسته لا يمنعه إذ أتت طهارة الله وغمرت شفاهه الّتي ستعلن كلمته فيما بعد. هكذا في لقاء يسوع الأوّل بتلاميذه الأوّائل بحسب لوقا (5: 1- 11)، نجد إنّه تمّ نزع خوفه من قبل الرّبّ ممهداً لرسالة مستقبليّة تحمل مواصفات عمله وهي الصّيد ولكن ليس للسمك، سوف يتوجب على بطرس، بناء على دعوة يسوع أنّ يستمر في كونه "صيادًا" ولكن "صيادًا للبشر الأحياء" وهذا ما يعبر عنه الفعل الّذي يستخدمه لوقا من اليوناني فهو يشير إلى أُناس أحياء، أي مَن يقبلون الخلاص.
من دعاه بقوّة الكلمة يدعوه ليصبح حاملاً للحياة، وينشر الحياة، لأنّه سيحمل نفس الكلمة الّتي سمعها وإختبرها وتحول بسماعها. ولهذا السبب على وجه التحديد، فإن ّكل مّن يقبل الكلمة، سوف يضطر إلى التعبير، مثل يسوع، عن العلاقة الحيّة والمثاليّة القائمة بين النبيّ وإلهه.