موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يَتمَحور عِيد التّجلي حَولَ شَخص المَسيح والكنيسة الأولى.
أَوَّلًا: أَهمِّيَّةُ التَّجَلِّي لِشَخصِ يَسُوعَ المَسِيح
تُعلِنُ رِوايَةُ التَّجَلِّي حَقيقَةَ يَسُوعَ كَابنِ اللهِ الَّذي طالَ انتِظارُه، فهُوَ «شُعاعُ مَجدِه وصُورَةُ جَوهَرِه" (عِبرانيِّين ١: ٣). فلم يَكُنْ يَسُوعُ مُجرَّدَ واحدٍ مِنَ الأَنبِياءِ، بَلِ ابنَ اللهِ الوَحيدَ الَّذي يَفوقُ سُلطانَهُم وقُوَّتَهم.
إِنَّ التَّجَلِّي يَكشِفُ لاهُوتَ يَسُوعَ المَسِيح وَمَجدَهُ أَكثَرَ بِكَثيرٍ مِمَّا حَدَثَ في قانا الجَليل عِندَ تَحويلِ الماءِ خَمرًا؛ فالتَّجَلِّي هُوَ آيَةٌ داخِلِيَّة، أَمَّا تَحويلُ الماءِ خَمرًا فَهُوَ آيَةٌ خارِجِيَّة. التَّجَلِّي هُوَ وَحيٌ لِمَجدِ ابنِ اللهِ، كَما فَهِمَ التَّلامِيذُ لَمّا «سَقَطوا عَلى وُجوهِهِم، وقَدِ استَولى علَيهِم خَوفٌ شَديد» (متى ١٧: ٦).
إِلَّا أَنَّ هٰذا المَجدَ المَخفيَّ يَنَكِشِفُ كُلِّيًّا في القيامة وفي عودةِ يَسُوعَ في آخِرِ الأَزمِنَة: "فَسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَهُ مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه. الحَقَّ أَقولُ لكُم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِيًا في مَلَكوتِه" (متى ١٦: ٢٧-٢٨).
إِذًا، يُعَدُّ التَّجَلِّي اسْتِباقًا في حياةِ يَسُوعَ عَلى الأَرضِ لِلمَجدِ الَّذي سَيَتَمَتَّعُ بِه بَعدَ موتِه، ويَراهُ تَلاميذُهُ آتِيًا في مَلكوتِه. وهُوَ عَربونُ مَجدِ المَسيحِ الإِلهِيِّ الكامِل الَّذي سَيَظهَرُ في مَجيئِه النِّهائيّ.
ولَيسَ المَجدُ في نَظرِ يَسُوعَ هُروبًا مِنَ الواقِع، بَل نُورًا يُضيءُ طريقَ المَوت. فمَتّى الإِنجِيليُّ رَبَطَ حَدَثَ الآلامِ والتَّجَلِّي بِظَرفٍ زَمَنيٍّ دَقيق: «وبَعدَ سِتَّةِ أَيَّام» (متى ١٧: ١)، فَكانَ التَّجَلِّي جَوابًا مِنَ الآبِ على إِعلانِ يَسُوعَ آلامَه وسَيرِه على دَربِ الجُلجُثَّةِ والقَبرِ الفارِغ. إِنَّهُ خَبَرٌ مُسْبَقٌ عَن القيامة.
ويُؤكِّدُ لوقا أَنَّ الحِوارَ الَّذي دارَ بَينَ يَسُوعَ ومُوسى وإيليّا كانَ حَولَ «رَحيلِ يَسُوعَ» أَي حَولَ آلامِه ومَوتِه وقِيامَتِه (لوقا ٩: ٣١). وهٰكذا رَبَطَ حَدَثَ التَّجَلِّي مُباشَرَةً بِفِصحِ الرَّبِّ، أَي عُبورِه بِالصَّليبِ مِن حياةِ الذُّلِّ إلى حَياةِ المَجد. ولِذٰلكَ تَرفَعُ الكَنيسةُ صَلاتَها في مُقدِّمَةِ عِيدِ التَّجَلِّي: "كانَ التَّجَلِّي لِيُثبِتَ بِشَهادَةِ الشَّريعَةِ والأنبِياءِ أَنَّ على يَسُوعَ المَسيحِ أَن يُعانيَ الآلامَ فيَدخُلَ في مَجدِ القِيامَة".
ثانِيًا: التَّقليدُ المَسيحِيُّ وَالعَلاقَةُ بَينَ التَّجَلِّي وَجَبَلِ سِيناء
يُؤكِّدُ التَّقليدُ الكَنَسيُّ العَلاقَةَ بَينَ جَبَلِ سِيناء وَجَبَلِ التَّجَلِّي:
في سِيناء، لَم يَرَ مُوسى (تثنية ٣٤: ١) وإيليّا (١ ملوك ١٩: ١-١٨) وَجهَ اللهِ، بَل سَمِعا صَوتَه.
أَمّا في التَّجَلِّي، فَشَهِدا وَجهَ يَسُوعَ المُشِعَّ كالشَّمس (متى ١٧: ٢).
كما تُذكِّرُنا الخِيام بِآياتِ اللهِ في صَحراءِ سِيناء خِلالَ خُروجِ بَني إِسرائيل مِن مِصر، ويُرافِقُ الظهورَ الإِلَهيَّ دَومًا الخَوفُ والغَمام كعَلامةٍ لِحُضورِ الله.
ويَظهَرُ مِن هُنا أَنَّ التَّجَلِّي هُوَ إِتمامٌ لِتَجلِّي العَهدِ القَديم، حَيثُ يُقيمُ المَسيحُ العَهدَ الجَديدَ بِدَمِه. وهُكذا شَهِدَ مُوسى، مُمَثِّلًا الشَّريعَة، وإيليّا، مُمَثِّلًا الأنبِياء، لِلمَسيحِ ابنِ اللهِ، وأَعلَنا أَنَّ كُلَّ العَهدِ القَديمِ قَد أُعِدَّ لِمَجيئِه.
ثالثًا: أَهمِّيَّةُ التَّجَلِّي لِلكنيسةِ الأُولى
لَيسَ حَدَثُ التَّجَلِّي أَمرًا بالِغَ الأَهمِّيَّةِ لِشَخصِ المَسيحِ فَحَسْب، بَل أَيضًا لِلتَّلامِيذ. فَقَد لَعِبَتِ الحادِثَةُ دَورًا مُهِمًّا في تَدرِيبِهِمِ الرُّوحِيِّ لِتَقبُّلِ مُعَلِّمِهِم يَسُوعَ المَسيح، الَّذي أَعلَنَ لَهُم أَنَّه «يَنبَغي أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدَةً مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، ويُقتَلَ ويَقومَ في اليَومِ الثَّالِث» (متى ١٦: ٢١).
فَـدُخولُ يَسُوعَ فِي مَجدِهِ (لوقا ٢٤: ٢٦) يَقتَضِي اجتِيَازَ الصَّليب في أُورَشَليم. ولِذٰلك «مَضى يَسُوعُ بِبُطرُسَ ويَعقوبَ وأَخيهِ يُوحَنّا فانفَرَدَ بِهِم» (متى ١٧: ١)، وَتَجَلَّى أمامَهُم (متى ١٧: ٢). فَقَد ظَهَرَ لَهُم موسى وإيليّا (متى ١٧: ٣)، وظَلَّلَهُم غَمامٌ نَيِّر (متى ١٧: ٥)، وَسُمِعَ صَوتُ الآبِ يَطلُبُ مِنهُم أَن يَسمَعوا لابنِهِ الحَبيب (متى ١٧: ٥). ثُمَّ دَنا يَسُوعُ ولَمَسَهُم قائلًا لَهُم: «قُوموا ولا تَخافوا» (متى ١٧: ٧). ولَمّا رَفَعوا أَعيُنَهُم «لَم يَرَوا إِلّا يَسُوعَ وَحدَه» (متى ١٧: ٨). هٰذا التَّدرُّجُ الرُّوحِيُّ كانَ تَهيِئَةً لِلتَّلامِيذِ لِيَفهَموا أَنَّ المَجدَ يَمرُّ عَبرَ الصَّليب، وأَنَّ مَسيرةَ الخَوفِ تَنتَهي في الحُضورِ المُعَزِّي لِلمَسيح.
رابعًا : أَثَرُ التَّجَلِّي فِي الكَنيسَةِ الأُولى
تَركَ حَدَثُ التَّجَلِّي أَثَرًا بالِغًا في الكَنيسَةِ الأُولى، كَما يُؤَكِّدُ بُطرُسُ الرَّسول: "قد أَطلَعْناكم على قُدرَةِ رَبِّنا يَسُوعَ المَسيح وعلى مَجيئِه، لا اتِّباعًا مِنَّا لِخُرافاتٍ سُوفِسْطائيَّة، بَل لأَنَّنا عايَنَّا جَلالَه. فَقَد نالَ مِنَ اللهِ الآبِ إِكرامًا ومَجدًا، إِذ جاءَه مِنَ المَجدِ-جَلَّ جَلالُه- صَوتٌ يَقول: ((هٰذا هو ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت)). وذاكَ الصَّوتُ قد سَمِعناه آتِيًا مِنَ السَّماءِ، إِذ كُنَّا مَعَهُ على الجَبَلِ المُقَدَّس» (٢ بطرس ١: ١٦-١٨).
فَكَانَ لِلتَّجَلِّي أَثَرٌ عَظيمٌ في:
1. تَثبِيتِ إيمانِ الرُّسُل أَنَّ المَسيحَ هُوَ ابنُ اللهِ.
2. إِكمَالِ الشَّريعَةِ والأنبِياءِ فِي شَخصِ يَسُوعَ.
3. التَّشجِيعِ على سَماعِ كَلِمَةِ الله الَّذي أَعلَن: «لهُ اسمَعوا».
4. مُعايَنَةِ عَربونِ مَجدِ الأبرار، الَّذي سيُعطَى لِكُلِّ مَن يَتَّحِدُ بالمَسيحِ القائِم.
بهذا، نَفهمُ أَنَّ التَّجَلِّي لَم يَكُنْ حَدَثًا عابِرًا، بَل حَدَثًا تأسيسيًّا فِي حياةِ الكَنيسةِ الأُولى، إذ عَبَرَ بِالتَّلامِيذِ مِن ظُلمَةِ الخَوفِ إلى نُورِ الإِيمانِ والرَّجاءِ، ومِن هَولِ الصَّليبِ إلى رَجاءِ القيامةِ والمَجد.
أ) تَثبِيتُ إِيمانِ الرُّسُل
عَرَفَ التَّلامِيذُ أَنَّ يَسُوعَ سَيَصعَدُ إِلى أُورَشَليم لِيَتَأَلَّم: "بَدأَ يَسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلامًا شَديدةً مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، ويُقتَلَ ويَقومَ في اليَومِ الثَّالِث" (متى ١٦: ٢١). فَأَرادَ يَسوعُ أَن يُهَيِّئَ الطَّريقَ نَحوَ جَسْمَانِيَّة والجُلجُثَّة وَالآلامِ وَالمَوت، فَأَظهَرَ سِرَّ شَخصِهِ أَمامَ تَلامِيذِه المُختارين، مُتَجَلِّيًا فِي لاهُوتِهِ مِن خِلالِ ثِيابِهِ المُتَلَألِئَة وَوَجهِهِ المُشِعِّ بِنُورٍ سَماوِيّ. إِذِ انفَرَدَ يَسوعُ بِتَلامِيذِه لِيُرِيَهُم أَنَّ طَريقَ الآلامِ هِيَ طَريقُ المَجد. ويَعلِّقُ القدِّيسُ أَفرام السُّريانيّ قائِلًا: "صَعِدَ بِهِم إِلى جَبَلٍ عالٍ لِيُظهِرَ لَهُم أَمجَادَ لاهُوتِه، فَلا يَتعثَّروا فِيهِ عِندَما يَرَونَهُ فِي الآلامِ الَّتي قَبِلَها بِإِرادَتِهِ، والَّتي احتَمَلَها بِالجَسَدِ مِن أَجلِنا".
أَمَّا الباحِثُ الدُّكتور كامبِل مورجان فَيُعلِّقُ قائِلًا: "إِنَّ ما رآهُ التَّلامِيذُ لَم يَكُن بَهاءَ اللاهُوتِ بَل مَجدَ النَّاسُوتِ الكامِلِ الَّذي هو بلا خَطيئَة. وكانَ الرَّبُّ في تِلكَ اللَّحظَةِ مُستَعِدًّا لِلرُّجوعِ إِلى السَّماءِ بِدونِ المَوت، لأَنَّ المَوتَ نَتيجَةُ الخَطيئَة، وكانَ هو بِلا خَطيئَة. وَلٰكِنَّهُ لِلمَرَّةِ الثَّانِيَة وَلَّى ظَهرَهُ لِلسَّماءِ لِيَشتَرِكَ كإِنسانٍ فَأَكمَلَ في سِرِّ المَوتِ البَشَريّ".
إِذًا، يُبَيِّنُ التَّجَلِّي لِلتَّلامِيذ أَنَّ سِرَّ المَسيحِ لا يَكمُنُ فِي المَجدِ فَحَسْب، بَل أَيضًا فِي الآلامِ وَالمَوت. فَـيَسُوعُ يَدخُلُ إِلى المَجدِ مُرورًا بِالمَوت، ويَجرُّ الإِنسانيَّةَ كُلَّها خَلفَه. ولِذٰلكَ فَالتَّجَلِّي يُسْنِدُ الإِنسانَ فِي حَملِهِ الصَّليبَ وَالشَّهادَةِ لِلسَّيِّدِ المَسيح.
أَظهَرَ يَسُوعُ مَجدَهُ كَأَوَّلِ صُورَةٍ عَن مَجدِ القِيامَة. فَشَعَرَ بُطرُسُ في أَعماقِهِ أَنَّهُ أَمامَ حَدَثٍ عَظيم، فَقال: "يا رَبّ، حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فَإِن شِئتَ نَصَبتُ ههُنا ثَلاثَ خِيَم: واحِدَةً لَكَ، وواحِدَةً لِموسى، وواحِدَةً لِإيليَّا" (متى ١٧: ٤). بَدا لِبُطرُسَ وَكَأَنَّ مَلكوتَ اللهِ قَد حَلَّ بِشَكلٍ نِهائِيٍّ عَلَى الأَرض. وَلَكِنَّهُ كَانَ قَد عاتَبَ يَسوعَ مِن قَبلُ لَمّا "بَدَأَ يُعَلِّمُهُم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيهِ أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدَة، وأَن يُرفَضَ مِنَ الشُّيوخِ وعُظماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يَقومَ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّام" (مرقس ٨: ٣١).
لَكِنَّ التَّلامِيذَ لَم يُصَدِّقوا مَا سَمِعوا عَن مَأساةِ الصَّليبِ وَمَوتِ مُعَلِّمِهِم. فَزَجَرَ يَسوعُ بُطرُسَ وَقالَ لَهُ: "انسَحِبْ وَرائي يا شَيطان! فَإِنَّكَ لِي حَجَرُ عَثرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ اللهِ بَل أَفكارُ البَشَر" (متى ١٦: ٢٣). وهُنا يُبَيِّنُ يَسوعُ الحَقيقَةَ العَميقَةَ: " (يوحنّا ١٢: ٢٤).
فَالتَّجَلِّي هُوَ تَهيِئَةٌ لِلتَّلامِيذ لِيَتبَعوا يَسُوعَ عَلَى دَربِ الجُلجُثَّة وَرُؤيَةِ القَبرِ الفارِغ. وَيَقولُ أَفرامُ السُّريانيّ: "صَعِدَ بِهِم إِلى جَبَلٍ لِيُظهِرَ لَهُم مَلكوتَهُ قَبلَما يَشهَدوا آلامَهُ وَمَوتَه، فَيَرَونَ مَجدَهُ قَبلَ عارِه". وهٰكَذا ثَبَّتَ حَدَثُ التَّجَلِّي إِيمانَ التَّلامِيذ؛ فَلَولا ذٰلِك لَتَزَعزَعوا بَعدَ إِعلاناتِ يَسوعَ عَن صَليبِهِ (لوقا ٩: ٣١-٣٤). وَثَبَّتَ اللهُ إِيمانَهُم بقولِهِ: "هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى ١٧: ٥). فَقَوَّى إِيمانَهُم بِيَسوعَ إِلهًا بِقولِهِ: «هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ»، ومُعَلِّمًا بِقولِهِ: «فلَهُ اسمَعوا». وفي الواقِع بَعدَ انتِهاءِ الرُّؤيَا بَقِيَ الإِيمان: "فَرفَعوا أَنظارَهم، فلَم يَرَوا إِلّا يَسوعَ وَحدَه" (متى ١٧: ٨). إِذًا، التَّجَلِّي كَانَ عَربونًا لِلقِيامَة وَتَثبِيتًا لِإِيمانِ الرُّسُل، بَينَ نُورِ المَجدِ وظُلمَةِ الصَّليب، ليَفهَموا أَنَّ طَريقَ المَجدِ يَمُرُّ ضَرورَةً بِطَريقِ الجُلجُثَّة.
ب) تَتْمِيمُ الشَّريعَةِ وَالأَنبِياءِ
إِنَّ فِكرَةَ المَسيحِ المُتَأَلِّم لَم تَكُنْ مُناقِضَةً لِإِعلانِ العَهدِ القَديم، بَل مُطابِقَةً تَمامًا لِشَهادَةِ الشَّريعَةِ وَالأَنبِياءِ الَّذينَ مَثَّلَهُم موسى وَإيليّا. فالنَّاموسُ وَالأَنبِياءُ قَد تَنَبَّأوا بِآلامِ السَّيِّدِ المَسيح، كَما جَاءَ في الإِنجِيل: "وبَدَأَ يَسوعُ مِن مُوسى وَجَميعِ الأَنبِياءِ يُفَسِّرُ لَهما في جَميعِ الكُتُبِ ما يَختَصُّ بِه" (لوقا ٢٤: ٢٧).
آلامُ يَسوعَ كانَت بِمَشيئَةِ الآب، كَما أَعلَنَ أَشعيا: " هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه، مُختاريَ الَّذي رَضِيَت عَنهُ نَفسي"(أشعيا ٤٢: ١). فَما حَدَثَ على جَبَلِ طابور هُوَ امتِدادٌ جَديدٌ لِما حَدَثَ على جَبَلِ سِيناء، لَكِنَّهُ يَختَلِفُ في أَنَّ اللهَ صارَ مَنظورًا فِي شَخصِ يَسوعَ.
موسى وإيليّا شَاهِدان. إِنَّ ظُهورَ مُوسى وَإيليّا مَعَ يَسوعَ هُوَ تَأييدٌ لِرسالَتِهِ بصفَتِهِ المَسيحَ الَّذي يُتَمِّمُ شَريعَةَ اللهِ وَأَقولَ الأَنبِياءِ وَوُعودَهُم النُّبُوِيَّة.
موسى يُمَثِّلُ الشَّريعَة، وَقَد تَنَبَّأَ عَن مَجيءِ نَبِيٍّ عَظيم: "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِن بَينِكَ، مِن إِخوَتِكَ مِثلِي، فلَهُ تَسمَعون" (تثنية ١٨: ١٥).
إيليّا يُمَثِّلُ الأَنبِياءَ، وَقَد أَعلَنُوا مَجيءَ المَسيح: "هاءَنَذا أُرسِلُ إِلَيكم إيليّا النَّبِيّ قَبلَ أَن يَأتيَ يَومُ الرَّبِّ العَظيمُ الرَّهِيب" (ملاخي ٤: ٥).
وهَكَذا جاءَ مُوسى وَإيليّا نِيابَةً عَن رِجالِ العَهدِ القَديم، يُشارِكانِ رِجالَ العَهدِ الجَديد فَرحَهُم بِالمَسيحِ المُخلِّص الَّذي طالَ انتِظارُه. ويُعلِّقُ القدِّيسُ مار أفرام السُّرياني قائِلًا: "لقدِ امتلأَ الأَنبِياءُ بَهجَة، وأَيضًا التَّلامِيذُ بِصُعودِهِم عَلَى الجَبَل. فَرِحَ الأَنبِياءُ لأَنَّهُم شاهَدوا تَأنُّسَه، وابتهَجَ التَّلامِيذُ لأَنَّهُم رَأوا مَجدَ لاهُوتِه الَّذي لَم يَكونوا بَعدُ قَد عَرَفوه".
كَمَا أَعطى صَوتُ اللهِ مِنَ الغَمامِ على جَبَلِ سِيناء السُّلطانَ لِلشَّريعَة (خُروج ١٩: ٩)، هكَذا أَضفى صَوتُ اللهِ على جَبَلِ التَّجَلِّي سُلطانًا على أَقولِ يَسوعَ: "هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى ١٧: ٥). فَقَد دَلَّ الصَّوتُ السَّماوِيّ عَلَى أَنَّ يَسوعَ هُوَ الكَلِمَةُ بَينَ موسى وَإيليّا، الَّذي يَجِبُ أَن يَسمَعَهُ الشَّعبُ. وهُوَ الَّذي جاءَ لِيُكمِلَ عَمَلَ الشَّريعَة (موسى) وَالنُّبُوءَات (إيليّا)، فَيُنشِئَ عَهدًا جَديدًا، عَهدَ المَلكوت. وهكَذا أَكَّدَ ظُهورُ مُوسى أَعظَمِ المُشَرِّعين، وَإيليّا أَعظَمِ الأَنبِياءِ، وَسَماعُ صَوتِ الآبِ في التَّجَلِّي، أَنَّ يَسوعَ المَسيحَ يُحَقِّقُ التَّاريخَ وَيَكتَمِلُ التَّاريخُ فيه. إذن، التجلّي لم يكن مجرّد رؤية سماوية، بل كان إعلانًا أن المسيح هو ملء الشريعة والأنبياء، وبدايتهما ونهايتهما في آنٍ واحد، فهو العهد الجديد الحيّ الذي يفتح باب الملكوت.
ج) تَشجِيعٌ عَلَى سَماعِ كَلِمَةِ الله
أَعطى الصَّوتُ الآتي مِنَ الغَمامِ المَعنى الأَساسِيَّ لِلتَّجَلِّي: "وإِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلَهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يَقول: هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى ١٧: ٥). المَطلوبُ، إذًا، هُوَ السَّماعُ لِيَسوعَ كابنِ اللهِ الَّذي لِكَلِماتِهِ قُوَّةُ اللهِ وسُلطانُه. فَعَلى التَّلامِيذِ أَن يُصغُوا لَهُ كَما كَانَ هُوَ يَسوعُ يُصغِي لِصَوتِ أَبيهِ السَّماوِيّ.
أَمّا هُم فَكانُوا يَميلونَ أَن يَسمَعوا لأَفكارِهِم وَرَغَباتِهِم الخاصَّة: ماذا يُريدونَ أَن يَفعَلوا لأَنفُسِهِم، أَو ماذا يُريدونَ أَن يَفعَلَ لَهُم الرَّبّ. أَمّا يَسوعُ فَكَانَ يَسمَعُ ماذا يُريدُ أَبوُهُ السَّماوِيُّ أَن يَفعَلَ.
التَّلامِيذُ كَانوا يَستَمِعونَ إِلى المَسيحِ الرَّبّ، ولَكِن لَيسَ بِحَسَبِ أَفكارِه، بَل بِحَسَبِ أَفكارِهِم البَشَرِيَّة البَعيدَة كُلَّ البُعدِ عَن مَقصِدِ الله. كَانوا يَذهَبونَ مَعَ السَّيِّدِ المَسيح، ولَكِن لَيسوا فِي السَّيِّدِ المَسيح. كَانوا يَسمَعونه، ولَكِن لَم يَتَفَكَّروا مِثلَه. فَجاءَ تَشجِيعُ صَوتِ الآبِ لَهُم أَن يَسْمَعوا لابنِهِ: "هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى ١٧: ٥).
كَلِمَةُ الله هي الطَّريقُ إِلى المَلكوت. يَسوعُ يَعيشُ كَلِمَةَ الله، ويُتَمِّمُ كُلَّ نُبُوءَةٍ وَكُلَّ وَحيٍ إِلَهيّ. فَهُوَ مُكمِّلُ العَهد وَمَحورُ تاريخِ الخَلاص، وَقَد قالَ عَن نَفسِهِ: "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضِي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلّا بي" (يوحنّا ١٤: ٦).
إِنَّنَا لا نَقدِرُ أَن نَنطَلِقَ إِلى المَلكوتِ لِنَرى المَجدَ الإِلَهيَّ إِلّا مِن خِلالِ كَلِمَةِ الله المَكتوبَة وَكَلِمَةِ اللهِ المُتَجَسِّدَة. ولِذٰلكَ شَجَّعَ الصَّوتُ الإِلَهيُّ الرُّسُلَ أَن يَسمَعوا لِيَسوعَ المَسيح، وَأَن يَقرَؤوا الشَّريعَةَ وَالأَنبِياءَ فِي ضَوءِ «الابنِ الحَبيب»، الَّذي هُوَ قاعدَةُ النَّاموسِ الجَديد وَمَركَزُ تاريخِ الخَلاصِ والكِتابِ المُقَدَّس.
فَقَد بَعَثَت حادِثَةُ جَبَلِ التَّجَلِّي الرَّجاءَ فِي قُلوبِ التَّلامِيذ، حَتّى ولَو لَم يَفهَموا كُلَّ ما حَدَث. جَعَلَتهُم شُهودًا لِلمَسيح، وَالشّاهِدُ هُوَ الَّذي يَرى ثُمَّ يُعلِن. فَعَلى الجَبَلِ شاهَدوا مَجدَه، فَصاروا شُهودًا لَه: بُطرُسُ وَيَعقوبُ وَيُوحَنّا، ثُمَّ بِامتِدادِهِم جَميعُ التَّلامِيذِ.
وكَما حَدَثَ فِي جَبَلِ سِيناء عِندَما أَعطى اللهُ الشَّريعَةَ لِلشَّعبِ بِوَاسِطَةِ موسى (خُروج ١٩: ٩)، هكَذا فِي جَبَلِ التَّجَلِّي طَلَبَ اللهُ مِنَ التَّلامِيذِ، مُمَثِّلينَ شَعبَ اللهِ الجَديد، أَن يَسمَعوا كَلامَ يَسو"َ، «الابنِ الحَبيب" فِي الأَزمِنَةِ الأَخيرَة. ويُذَكِّرُنا هٰذا الصَّوتُ الآتي مِنَ الغَمامِ بِذلِكَ الصَّوتِ السَّماوِيّ عِندَ مَعمُودِيَّةِ يَسوعَ:
"أَنتَ ابنِيَ الحَبيبُ، عَنكَ رَضِيت" (مرقس ١: ١١). فَقَد حَثَّ اللهُ التَّلامِيذَ على أَهمِّيَّةِ الاستِماعِ لابنِهِ يَسوع، خُصوصًا عِندَما كانَ يَتَكلَّمُ عَن آلامِهِ المُقبِلَة، مُحَقِّقًا نُبُوءَةَ مُوسى: "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثلِي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتِكَ، فلَهُ تَسمَعون" (تثنية ١٨: ١٥). ولَكِنَّ بُطرُسَ لَم يَكُن بَعدُ مُستَعِدًّا أَن يَفعَلَ ذٰلِكَ، بَل "َعَلَ يُعاتِبُهُ فيَقول: حاشَ لَكَ يا رَبّ! لَن يُصيبَكَ هذا" (متى ١٦: ٢٢). فَهل نَغْرَقُ نَحنُ أَيضًا فِي الشَّكِّ مِثلَ بُطرُسَ أَم نُصغِي لِكلامِ الابنِ الحَبيب، كَما يُعلِنُهُ الآبُ بِصَوتٍ لا يَدَعُ مَجالًا لِلشَّكّ: "هٰذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضِيت، فلَهُ اسمَعوا"(متى ١٧: ٥). هكذا، يعلّمنا التجلّي أن المسيحية ليست رؤية عابرة للمجد، بل مسيرة إصغاء متواصل لكلمة الابن، لأن السماع الحقيقي يفتح أمام المؤمن طريق الملكوت، ويجعله شاهدًا لمجد المسيح في هذا العالم.
د) شُعورٌ مُسبَقٌ لِمَجدِ الأبرار
إِنَّ يَسوعَ الَّذي تَجَلَّى على الجَبَلِ وَشَعَّ مِنهُ النُّورُ لَيسَ المَسيحَ الإِلَهَ فَحَسْب، بَل المَسيحَ الإِنسانَ أَيضًا. فَهُوَ صُورَةُ الله وَصُورَةُ الإِنسان. وَلِذٰلِكَ يَقولُ بُولُسُ الرَّسُول: "ونَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صُورَةَ مَجدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفَةٍ كَما في مِرآة، فَنَتَحَوَّلُ إِلى تِلكَ الصُّورَة، وَنَزدادُ مَجدًا على مَجد، وَهٰذا مِن فَضلِ الرَّبِّ الَّذي هُوَ روح" (٢ قورنتس ٣: ١٨).
فَالتَّجَلِّي هُوَ دُخولٌ بِالنَّفسِ إِلى تَذوُّقِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة، لِتَرى يَسوعَ قادِمًا فِي مَلكوتِه، مُعلِنًا أَمجَادَهُ الإِلَهيَّة وَهِيَ بَعدُ فِي الجَسَد. وهُوَ نَوعٌ مِنَ الشُّعورِ المُسبَقِ لِلمَجد في حَياةِ يَسوعَ على الأَرض، المَجدُ الَّذي أَنبَأَ أَنَّ الأَبرارَ سَيَتَمَتَّعونَ بِه فِي آخِرِ الأَزمِنَةِ فِي مَلكوتِ الآب:"حِينَئِذٍ يُشرِقُ الأَبرارُ كالشَّمسِ في مَلكوتِ أَبيهِم" (متى ١٣: ٤٣). فَقَد "عايَنوا مَجدَه" (لوقا ٩: ٣٢)، فَالتَّجَلِّي يُضيءُ النُّورَ على مَصيرِ الإِنسانِ البارّ.
أَكَّدَ حَدَثُ التَّجَلِّي هٰذا الشُّعورَ المُسبَقَ لِمَجدِ الأَبرارِ وَمَصيرِهِم، وَذٰلِكَ بِارتِباطِهِ بِـ عيدِ المَظال. فَعيدُ المَظال هُوَ ثالِثُ الأَعيادِ السَّنَوِيَّةِ الكُبرى، الَّتي كانَ يَجِبُ فيها عَلى كُلِّ ذَكَرٍ في إِسرائيلَ أَن يَتراءى أَمامَ الرَّبِّ (تثنية ١٦: ١٦). ويُعرَفُ بِالعِبرانيَّة "سُكُّوت" (הַסֻּכּוֹת)، وَاشتُقَّ الاسمُ مِن عادتِهِم أَن يَسكُنوا فِي مَظالّ أَثناءَ مُدَّةِ العِبادَة: "تُقيمونَ في الأَكْواخِ سَبعَةَ أَيّام"(الأَحبار ٢٣: ٤٠).
وكانَ هٰذا العيدُ مُرتَبِطًا بِذِكرى تَاريخيَّة، وَهِيَ إِقامَةُ بَني إِسرائيلَ فِي المَظالّ فِي البَريَّة (عَدَد ٢٩: ١٢-٣٨).
أَمّا فِي العَهدِ الجَديدِ فَقَد تَحَقَّقَ هٰذا العيدُ فِي صُورَةٍ أَكمَل وَأَعمَق عِندَما تَجَلَّى السَّيِّدُ المَسيحُ على جَبَلِ طابور أَمامَ ثَلاثَةٍ مِن تَلامِيذِه. فَلَمّا رَأى بُطرُسُ المَسيحَ فِي بَهائِه، وَمَعَهُ مُوسى وَإيليّا، أَدرَكَ أَنَّ الحَصادَ الحَقيقيَّ قَد تَمَّ، فَاشتهى أَن يُقيمَ عيدَ مَظالّ لا يَنقَطِع، فَقالَ لِلسَّيِّدِ: "يا رَبّ، حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فَإِن شِئتَ نَصَبتُ ههُنا ثَلاثَ خِيَم" (متى ١٧: ٤).
لَكِنَّ السَّيِّدَ المَسيحَ أَرسَلَ لَهُم مَظلَّةً سَماوِيَّة، وَهِيَ "سَحابَةٌ مُنِيرَةٌ ظَلَّلَتهُم" (متى ١٧: ٥)، لِيَسحَبَ قُلوبَهُم إِلى الأَزمِنَةِ الأَخيرَة، حِينَ يَأتي على السَّحابِ لا لِيُقيمَ مَظالَّ أَرضِيَّة، بَل لِيُدخِلَهُم إِلى حِضنِ الآب. وقد دَعا رَبُّ المَجدِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة "المَظالَّ الأَبَدِيَّة"(لوقا ١٦: ٩).
مَجدُ الأَبرار فِي الدَّهرِ الآتي. إِنَّ المَجدَ يُمنَحُ لِلأَبرارِ فِي العالَمِ الآتي، كَما صَرَّحَ بُولُسُ الرَّسُول: "وعَظناكم وشَدَّدناكم وناشَدناكم أَن تَسيروا سيرةً جَديرةً بِاللهِ الَّذي يَدعوكم إِلى مَلكوتِه وَمَجدِه" (١ تسالونيقي ٢: ١٢). فَالأَبرارُ يَحمِلونَ فِيهم بُذورَ المَجدِ الآتي، حَيثُ يَنالونَ جَسَدًا مُمَجَّدًا: "الَّذي سَيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير، فيَجعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِه المَجيد، بِما لَهُ مِن قُدرَةٍ يُخضِعُ بِها لِنَفسِه كُلَّ شَي" (فيليبي ٣: ٢١). أَلَم يَكُنِ التَّجَلِّي صُورَةً مِن هٰذا المَلكوتِ السِّرِّي، حَيثُ يَتَجَلّى مَجدُ الرَّبِّ فِي البَشَرِيَّة؟ فَكَيْفَ نَحلُمُ بِفَرحِ الفِصحِ دُونَ أَن نَعبُرَ دَربَ الصَّليبِ وَطَريقَ الآلام؟ إِذن، التَّجَلِّي هُوَ عَربونُ المَجدِ الأَبَدِيّ الَّذي سَيُعطى لِلأَبرار، وَوَعدٌ قَطعَهُ اللهُ بِأَنَّ النُّورَ الَّذي شَعَّ مِن وَجهِ يَسوعَ عَلَى الجَبَل، سَيُشرِقُ فِي وُجوهِ كُلِّ مُؤمِنٍ يَتَّحِدُ بِالمَسيحِ وَيَثبُتُ مَعَهُ حَتّى النِّهايَة.
الخُلاصَة
ارتَبَطَ التَّجَلِّي بِأَحداثِ الصَّليبِ وَالقِيامَة، ولَكِن لَم يَكُن مُمكِنًا لِلتَّلامِيذِ أَن يَتَقَبَّلوا آلامَ السَّيِّدِ المَسيح وَيُدرِكوا سِرَّ قِيامَتِه، ما لَم يُهَيِّئْهُم يَسوعُ بِنَحوٍ خَاصٍّ، مِن خِلالِ ثَلاثَةٍ مِنهُم، فِي حَدَثِ التَّجَلِّي.
فَكَمَا كانَتِ المَعمُودِيَّة عَلى عَتبَةِ حَياةِ يَسوعَ العَلنِيَّة، كَذٰلِكَ كانَ التَّجَلِّي عَلى عَتبَةِ فِصحه. فَبِمَعمُودِيَّةِ يَسوعَ "ظَهَرَ سِرُّ تَجَدُّدِنا الأَوَّل"، أَي مَعمُودِيَّتُنا؛ أَمَّا التَّجَلِّي فَهُوَ "سِرُّ التَّجَدُّدِ الثَّانِي"، أَي قِيامَتُنا الخَاصَّة، كَما يَقولُ توما الأكويني.
فَمُنذُ الآنَ نَشتَرِكُ فِي قِيامَةِ الرَّبِّ بِالرُّوحِ القُدُس، الَّذي يَفعَلُ فِي أَسرارِ جَسَدِ المَسيح. إِنَّ التَّجَلِّي يُمَكِّنُنا مِن أَن نَستَمتِعَ مُسبَقًا بِـ مَجيءِ المَسيحِ المَجيد، الَّذي: "سَيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير، فيَجعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِه المَجيد" (فليبي ٣: ٢١). ولَكِنَّهُ يُذَكِّرُنا أَيضًا أَنَّه: "يَجِبُ علَينا أَن نَجتازَ مَضايِقَ كَثِيرَة لِنَدخُلَ مَلكوتَ الله"(أَعمالُ الرُّسُل ١٤: ٢٢).
فَلا يُمكِنُ لِلمُؤمِنِ أَن يَرتَفِعَ عَلى جَبَلِ التَّجَلِّي لِيَرى بَهاءَ السَّيِّد، ما لَم يَقبَل صَليبَهُ وَيَدخُل مَعَهُ فِي آلامِه. عِندَها فَقَط يَختَبِرُ قُوَّةَ قِيامَتِهِ فِيه، وَيُعلِنُ الرَّبُّ أَمجَادَهُ لَهُ. بهذا، يُصبِح التجلّي عربون القيامة والملكوت، وتذكيرًا دائمًا بأن لا مجد بلا صليب، ولا قيامة بلا آلام، ولا نور بلا عبور في درب الجلجلة.
دُعاء
أيُّها الآبُ السَّماوِي،
مِن تَجَلِّي ابنِكَ يَسوعَ المَسيحِ عَلى الجَبَل،
استَطاعَ تَلامِيذُهُ أَن يُشاهِدوا مَجدَه،
لِكَي يَفهَموا، إِذا ما رَأَوهُ مَصلوبًا،
أَن يُبَشِّروا العالَمَ أَنَّهُ حَقًّا ابنُكَ الحَبيبُ، مُخَلِّصُ العالَم.
دَعنا نَصعَدْ مَعَهُ عَلى الجَبَل،
فَنُصغِي لِكَلِمَتِهِ،
فَيَثبُتَ إِيمانُنا بِه رَبًّا وَإِلَهًا وَمُخَلِّصًا.
وَهَبْنا أَن نُعايِنَ مَجدَهُ،
ذاكَ المَجدُ الَّذي:
«سَيُغَيِّرُ هَيئَةَ جَسَدِنا الحَقير،
فَيَجعَلُهُ عَلى صُورَةِ جَسَدِهِ المَجيد» (فليبي ٣: ٢١).
آمين.