موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النَّص الإنْجيلي (لوقا 10: 38-42)
38 وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا. 39 وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه. 40 وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: ((يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني)) 41 فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، 42 مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها)).
مُقَدِّمَةٌ
يُولِي لوقا الإِنجيليُّ ٱهْتِمَامًا خَاصًّا بِٱلْمُهَمَّشِينَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلاجْتِمَاعِيَّةِ فِي فِلَسْطِينَ، كَالنِّسَاءِ. فَيَصِفُ فِي إِنْجِيلِهِ (لوقا 10: 38–42) ضِيَافَةَ مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيَسُوعَ، وَٱسْتِقْبَالَهُمَا لَهُ كَصَدِيقٍ لِلْأُسْرَةِ: "مَرْثَا" ٱلْعَامِلَةُ، ٱلْمُنْصَرِفَةُ إِلَى ٱلْخِدْمَةِ، وَ"مَرْيَمُ" ٱلْمُتَأَمِّلَةُ، ٱلْجَالِسَةُ عِندَ قَدَمَيْ يَسُوعَ مِثْلَ ٱلتِّلْمِيذِ.
وَمِنْ خِلَالِهِمَا، يَدْعُونَا يَسُوعُ إِلَى ٱلرُّجُوعِ، فِي ٱلصَّلَاةِ وَٱلْعَمَلِ. فَهُنَاكَ ثَرْوَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُوَفِّرَهَا ٱلْمَسِيحُ لِحَيَاتِنَا، عِنْدَمَا نُرَحِّبُ بِهِ وَنَسْتَقْبِلُهُ فِي ٱلصَّلَاةِ وَٱلْعَمَلِ. فَهَلْ نَسِيرُ عَلَى خُطَى مَرْيَمَ وَمَرْثَا فِي ٱلضِّيَافَةِ نَحْوَ ٱلْجَمِيعِ (رومة 12: 13؛ 13: 8)؟ وَهَلْ تَتَمَيَّزُ حَيَاتُنَا بِفَضِيلَةِ ضِيَافَةِ يَسُوعَ وَٱسْتِقْبَالِهِ؟ مِنْ هُنَا تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ ٱلْبَحْثِ فِي وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ وَتَطْبِيقَاتِهِ.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 38-42)
38 وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا
تُشِيرُ ْعِبَارَةُ "سَائِرُونَ" إِلَى يَسُوعَ وَتَلَامِيذِهِ فِي مَسِيرَتِهِمْ نَحْوَ أُورَشَلِيمَ، وَذٰلِكَ تَمَامًا كَمَا أَشَارَ لُوقَا فِي بَدَايَةِ قِسْمِ "رِحْلَةِ يَسُوعَ."وَلَمَّا حَانَتْ أَيَّامُ ٱرْتِفَاعِهِ، عَزَمَ عَلَى ٱلِٱتِّجَاهِ إِلَى أُورَشَلِيمَ" (لوقا 9: 51. فَهِيَ رِحْلَةُ ٱلصَّلِيبِ، وَكُلُّ حَدَثٍ فِيهَا يَكْشِفُ بُعْدًا جَدِيدًا فِي مَعْرِفَةِ هُوِيَّةِ ٱلْمَسِيحِ وَرِسَالَتِهِ. عبارة "قَرْيَةً" فيُرَجَّحُ أَنَّهَا "بَيْتُ عَنْيَا"، كَمَا ذَكَرَ يُوحَنَّا: "كَانَ رَجُلٌ مَرِيضًا، وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا، مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا" (يوحنّا 11: 1). بَيْتُ عَنْيَا هُوَ ٱسْمٌ آرَامِيٌّ: בֵּית־הִינִי، وَيَعْنِي: "بَيْتُ ٱلْبُؤْسِ" أَوْ "بَيْتُ ٱلْبَائِسِ". تَقَعُ عَلَى سَفْحِ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ مِنَ ٱلْجِهَةِ ٱلْجَنُوبِيَّةِ ٱلشَّرْقِيَّةِ، عَلَى بُعْدِ 3٫2 كيلومترات مِنْ أُورَشَلِيمَ، عَلَى طَرِيقِ ٱلْقُدْسِ–أَرِيحَا. وَتُدْعَى ٱلْيَوْمَ "ٱلْعَازَرِيَّة" نِسْبَةً إِلَى لِعَازَرَ أَخِي مَرْيَمَ وَمَرْثَا. فِي هٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ: أَقَامَ يَسُوعُ مَيْتًا، وَهُوَ لِعَازَرُ (يوحنّا 11: 44)، وَفِيهَا دَهَنَتْ مَرْيَمُ رِجْلَيْهِ بِٱلطِّيبِ (يوحنّا 12: 3)، وَفِيهَا كَانَ يَقْضِي لَيَالِيهِ فِي أَيَّامِهِ ٱلْأَخِيرَةِ (مرقس 11: 11). "دَخَلَ قَرْيَةً" تُشِيرُ هذِهِ العِبَارَةُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَهُوَ ٱسْمٌ آرَامِيٌّ مَعْنَاهُ: "بَيْتُ ٱلْبُؤْسِ" أَوْ "بَيْتُ ٱلْبَائِسِ". وَهِيَ قَرْيَةٌ صَغِيرَةٌ تَقَعُ عَلَى ٱلسُّفُوحِ ٱلْجَنُوبِيَّةِ ٱلشَّرْقِيَّةِ لِجَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، عَلَى بُعْدِ نَحْوَ 3.2 كيلومتر مِنْ أُورَشَلِيم. وَتُدْعَى ٱلْيَوْمَ ٱلْعِيزَرِيَّةَ، نِسْبَةً إِلَى لِعَازَر، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَكَمَةٍ صَخْرِيَّةٍ وَعِرَةِ ٱلْمَسَالِكِ. كَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَلاسِيَّمَا فِي أَيَّامِهِ ٱلْأَخِيرَةِ. وَكَمْ مِنَ ٱلْحَوَادِثِ ٱلْهَامَّةِ جَرَتْ فِيهَا بَيْنَ ٱلرَّبِّ وَلِعَازَرَ وَأُخْتَيْهِ، ٱلَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ فِي هٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ: (متى 17: 21، 6: 26، مرقس6: 26، 11: 11-12، يوحنا 1: 11-12)، وَلا يَزَالُ قَبْرُ لِعَازَرَ وَخَرَابَاتُ بَيْتِهِ مَوْجُودَيْنِ حَتَّى ٱلْيَوْمِ. وَأَمَّا ٱلْقَبْرُ فَهُوَ مَنْحُوتٌ فِي ٱلصَّخْرِ، لَهُ مَدْخَلٌ يُقَدَّرُ عُلُوُّهُ بِـ 1٫214 م، وَعَرْضُهُ ٠٫6096 م، وَيَحْوِي 27 دَرَجَةً تُفْضِي إِلَى غُرْفَةٍ تَبْلُغُ مِسَاحَتُهَا 2:7م ²، وَفِيهَا أربعة نَوَاوِيسَ. وَكُلَّمَا دَخَلَ ٱلرَّبُّ بَيْتَ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَاتَهُ، كَانَ ذٰلِكَ إِيذَانًا بِبِدَايَةٍ جَدِيدَةٍ. فَقَدْ يُقَامُ مَيْتٌ مِنَ ٱلْقَبْرِ، كَمَا أَقَامَ يَسُوعُ لِعَازَرَ. إِنَّهُ حَيْثُمَا يَحِلُّ ٱلرَّبُّ، تَبْدَأُ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ، وَتُشْرِقُ نِعْمَةُ ٱلْقِيَامَةِ. وعبارة "فَأَضَافَتْهُ" تُشِيرُ إِلَى فَضِيلَةٍ مِحْوَرِيَّةٍ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ، هِيَ ٱلضِّيَافَةُ، وَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ خِدْمَةٍ، بَلْ عَلامَةُ إِيمَانٍ وَمَحَبَّةٍ. فِي كَثِيرٍ مِنَ ٱلنُّصُوصِ ٱلْكِتَابِيَّةِ، يُشَبَّهُ مَلَكُوتُ ٱللَّهِ بِوَلِيمَةٍ (لوقا 14: 15). وَيُوصِي بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "وُدُّوا ٱلضِّيَافَةَ" (رومة 12: 13)، وَيَقُولُ فِي ٱلْعِبْرَانِيِّينَ: "فِيهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلَائِكَةً وَهُمْ لَا يَدْرُونَ" (عب 13: 2، راجع تكوين 18: 1–5). فَٱلضِّيَافَةُ فِي ٱلْمَفْهُومِ ٱلْمَسِيحِيِّ هِيَ: تَرْحِيبٌ بِٱلْمَسِيحِ نَفْسِهِ (متى 25: 35–40)، وَٱسْتِقْبَالٌ لَهُ فِي ٱلْإِخْوَةِ وَٱلْقُدَّاسِ ٱلْإِلَهِيِّ (لوقا 24: 29–30)، وَتَحَقُّقٌ لِعُضْوِيَّةِ ٱلضَّيْفِ فِي ٱلْعَائِلَةِ ٱلرُّوحِيَّةِ (أفسس 2: 19). عبارة "مَرْثَا" فِي ٱلْيُونَانِيَّةِ Μάρθα، وَفْقَ ٱلْأَصْلِ ٱلْآرَامِيِّ מָרְתָא، وَمَعْنَاهَا "ٱلسَّيِّدَةُ" أَوْ "رَبَّةُ ٱلْبَيْتِ". هِيَ أُخْتُ لِعَازَرَ وَمَرْيَمَ (يوحنّا 11: 1)، وَتُذْكَرُ أَوَّلًا دَائِمًا، مِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا الأُخْتُ ٱلْكُبْرَى. تُجَسِّدُ ٱلْخِدْمَةَ وَٱلنَّشَاطَ، وَهِيَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ، يُحِبُّهَا ٱلْمَسِيحُ (يوحنّا 11: 5). وَعَلَى ٱلرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا تَشْتَكِي إِلَى يَسُوعَ بِكُلِّ صِدْقٍ، فَإِنَّهَا لَا تُدْرِكُ أَنَّهُ "ٱلنَّصِيبُ ٱلصَّالِحُ" (لوقا 10: 42)، وَأَنَّ ٱلْكَلِمَةَ تَسْبِقُ ٱلْخِدْمَةَ. وَفِي يُوحَنَّا 11: 27، تَقُولُ مَرْثَا: "أَنَا قَدْ آمَنتُ أَنَّكَ ٱلْمَسِيحُ، ٱبْنُ ٱللَّهِ، ٱلْآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ" – وَهُوَ ٱعْتِرَافٌ إِيمَانِيٌّ يَرْقَى إِلَى مَا قَالَهُ بُطْرُسُ (متّى 16: 16).
39 وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إلى كَلامِه.
"مَرْيَمُ": فِي ٱلْيُونَانِيَّةِ: Μαρία، وَهُوَ ٱسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ ٱلْعِبْرِيَّةِ מִרְיָם، وَيَحْمِلُ مَعَانِيَ عِدَّةً، مِثْلَ: "ٱلرَّائِيَة"، "ٱلسَّيِّدَة"، أَوْ "ٱلْعِصْيَان". أَمَّا فِي ٱللُّغَةِ ٱلْمِصْرِيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ، فَيَعْنِي ٱلِٱسْمُ: "ٱلْمَحْبُوبَة". هِيَ أُخْتُ مَرْثَا وَلِعَازَر (يوحنّا 11: 1–5)، وَتَلْمِيذَةُ ٱلرَّبِّ ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِندَ قَدَمَيْهِ مِرَارًا (لوقا 10: 39؛ يوحنّا 11: 32؛ 12: 3)، إِذْ كَانَتْ تُفَضِّلُ ٱلْإِصْغَاءَ لِكَلِمَاتِ يَسُوعَ عَلَى ٱلِٱنْشِغَالِ بِٱلْخِدْمَةِ فِي ٱلْبَيْتِ. وَلِهٰذَا قَالَ عَنْهَا يَسُوعُ: "فَقَدِ ٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 10: 42). عِنْدَ مَوْتِ لِعَازَرَ، نَرَاهَا فِي ٱلْبَيْتِ، يُحِيطُ بِهَا ٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ جَاءُوا يُعَزُّونَهَا (يوحنّا 11: 19–20، 45). وَلَمَّا شَاهَدَ يَسُوعُ بُكَاءَهَا، تَأَثَّرَ وَبَكَى (يوحنّا 11: 28–35). وَقَبْلَ مَوْتِ يَسُوعَ بِبِضْعَةِ أَيَّامٍ، خِلَالَ وَلِيمَةٍ فِي بَيْتِ عَنْيَا، صَبَّتْ مَرْيَمُ ٱلطِّيبَ عَلَى قَدَمَيْ يَسُوعَ فِي بَيْتِ أَخِيهَا لِعَازَرَ (يوحنّا 12: 1–3). وَيُقَالُ إِنَّ ٱمْرَأَةً (بِدُونِ ذِكْرِ ٱسْمِهَا) سَكَبَتِ ٱلطِّيبَ عَلَى رَأْسِهِ فِي بَيْتِ سِمْعَانَ ٱلْأَبْرَصِ فِي بَيْتِ عَنْيَا، وَيُرَجَّحُ أَنْ تَكُونَ ٱلْحَادِثَتَانِ وَاحِدَةً، وَقَدْ وَقَعَتَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ أَثْنَاءَ إِقَامَةِ ٱلْمَسِيحِ فِي بَيْتِ لِعَازَرَ. وَرُبَّمَا كَانَتْ مَرْيَمُ نَفْسُهَا هِيَ ٱلَّتِي سَكَبَتِ ٱلطِّيبَ عَلَى رَأْسِهِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْهِ أَيْضًا. أَمَّا عِبَارَةُ "مَرْيَمُ، جَلَسَتْ عِندَ قَدَمَيْهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى مَوْقِفِ ٱلتِّلْمِيذِ (أَعْمَالُ ٱلرُّسُلِ 22: 3)، فَمَعْنَى ٱلْجُلُوسِ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ هُوَ: ٱلتَّتَلْمُذُ وَٱلْإِصْغَاءُ لِلتَّعْلِيمِ. فَقَدِ اتَّخَذَتْ قَرَارًا حُرًّا، وَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيِ يَسُوعَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْ أَنَّ الْخَيْرَ الْحَقِيقِيَّ يَكْمُنُ لَهَا هُنَاكَ. وَقَدْ جَاءَ فِي يُوحَنَّا 12: 3: "تَنَاوَلَتْ حُقَّةَ طِيبٍ مِنَ ٱلنَّارَدينِ ٱلْخَالِصِ ٱلْغَالِي ٱلثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، ثُمَّ مَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِهَا. فَعَبِقَ ٱلْبَيْتُ بِٱلطِّيبِ". وَأَمَّا عِبَارَةُ "تَسْتَمِعُ إِلَى كَلاَمِهِ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: ἤκουεν، وَفِي ٱلْعِبْرِيَّةِ: שְׁמַע، وَمَعْنَاهَا: "ٱلْفَهْمُ وَٱلطَّاعَة". وَهٰذِهِ ٱلْكَلِمَةُ هِيَ جَوْهَرُ وَصِيَّةِ ٱلْإِيمَانِ فِي ٱلشَّعْبِ ٱلْيَهُودِيِّ: "ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: إِنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَنَا، رَبٌّ وَاحِدٌ" (تثنية ٱلِاشْتِرَاعِ 6: 4). وَقَدْ حَثَّ ٱلأَنْبِيَاءُ ٱلشَّعْبَ عَلَى ٱلِٱسْتِمَاعِ لِصَوْتِ ٱللَّهِ، وَوَبَّخُوهُ عَلَى رَفْضِ كَلِمَةِ ٱللَّهِ وَعَدَمِ ٱلْعَمَلِ بِهَا (أشعيا 6: 9–11، إرميا 6: 10). كَذٰلِكَ دَعَا ٱلْآبُ ٱلسَّمَاوِيُّ ٱلشَّعْبَ إِلَى ٱلِٱسْتِمَاعِ لِٱبْنِهِ ٱلْحَبِيبِ، فَقَالَ: "هٰذَا هُوَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي عَنْهُ رَضِيتُ، فَلَهُ ٱسْمَعُوا" (متّى 17: 5).
40 وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: ((يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني))
عِبَارَةُ "مَشغُولَةً بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنَ ٱلْخِدْمَةِ": فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: περιεσπᾶτο، وَمَعْنَاهَا: "مُنْهَمِكَةٌ" أَوْ "مُرْتَبِكَةٌ" وَمُتَشَتِّتَةٌ. تُشِيرُ هٰذِهِ ٱلْعِبَارَةُ إِلَى مَرْثَا، ٱلَّتِي لَمْ تَرَ فِي يَسُوعَ صَدِيقًا فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا مُعَلِّمًا رَبَّانِيًّا وَنَبِيًّا مُكَرَّمًا، فَأَرَادَتْ أَنْ تُكْرِمَهُ بِٱسْتِقْبَالٍ مَادِّيٍّ فَاخِرٍ. ٱنْهَمَكَتْ فِي ٱلْخِدْمَةِ وَٱرْتَبَكَتْ فِي تَفَاصِيلِ ٱلإِعْدَادِ، لِكَيْ تُهَيِّئَ مَائِدَةً تَلِيقُ بِضَيْفِهَا ٱلْجَلِيلِ، مِمَّا شَغَلَهَا عَنِ ٱلْجُلُوسِ مَعَهُ وَٱلِٱسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. فَقَدْ انْشَغَلَتْ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ شَتَّتَتْ ذِهْنَهَا، فَلَمْ تَعُدْ هِيَ مَنْ يُدِيرُ مَا تَفْعَلُ، بَلْ أَصْبَحَتْ خَاضِعَةً لِمَا تَفْرِضُهُ عَلَيْهَا الْمَهَامُّ وَالِانْشِغَالَاتُ. لذلك مَا بَدَا فِي ٱلظَّاهِرِ تَقْوًى وَضِيَافَةً، أَخْفَى تَوَتُّرًا دَاخِلِيًّا، إِذْ إِنَّ مَرْثَا، بِٱنْدِفَاعِهَا فِي ٱلْخِدْمَةِ، ٱبْتَعَدَتْ عَنْ جَوْهَرِ ٱلْحُضُورِ ٱلْإِلَهِيِّ ٱلْجَالِسِ فِي بَيْتِهَا. عِبَارَةُ "فَأَقْبَلَتْ": تُفِيدُ ٱلْعِبَارَةُ حَرَكَةً مُبَاغِتَةً وَمُنْفَعِلَةً، فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى ٱلِٱنْفِعَالِ ٱلْعَصَبِيِّ لِمَرْثَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذٰلِكَ تَذَمُّرُهَا وَشَكْوَاهَا: "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟". تُفِيدُ ٱلْعِبَارَةُ عَدَمَ تَمَالُكِ مَرْثَا نَفْسَهَا، فَقَدْ وَجَّهَتِ ٱللَّوْمَ إِلَى يَسُوعَ نَفْسِهِ، وَبِشَكْلٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، نَهَرَتْ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِٱرْتِبَاكِهَا، وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ مَرْيَمَ أَنْ تُسَاعِدَهَا. وَغَايَتُهَا فِي ذٰلِكَ كَانَتِ ٱلِٱهْتِمَامَ بِإِعْدَادِ مَا يَلِيقُ بِرَبِّهَا. وَقَدْ أَصَابَتْ مَرْثَا فِي أَنْ ذَكَرَتْ هُمُومَهَا لِلرَّبِّ، كَمَا قَالَ ٱلرَّسُولُ بُطْرُسُ: "أَلْقُوا عَلَيْهِ جَمِيعَ هَمِّكُمْ، فَإِنَّهُ يُعْنَى بِكُمْ" (1 بطرس 5: 7). على الرّغم من كرمِ مرثا في استقبالِ يسوع، كانت نقطةُ ضعفِها في أنّها انشغلت بخدمتِه عن البقاءِ معه، ففضّلت العملَ له على الجلوسِ عند قدمَيه. "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي؟" تُشِيرُ إِلَى شُعُورِ مَرْثَا بِالْوَحْدَةِ. إِنَّهَا تَشْتَكِي مِنْ أَنَّهَا تُرِكَتْ وَحِيدَةً فِي الْخِدْمَةِ، وَتَشْعُرُ أَنَّهُ لَا أَحَدَ، حَتَّى الرَّبُّ نَفْسَهُ، يَهْتَمُّ بِهَا. هٰذَا النِّدَاءُ نَسْمَعُهُ فِي قُلُوبِ كَثِيرِينَ الْيَوْمَ، وَخُصُوصًا مِمَّنْ يَخْدِمُونَ فِي خِدْمَاتٍ صَعْبَةٍ أَوْ فِي وَاقِعٍ يُرْهِقُهُم بِالْأَعْبَاءِ وَالْمَهَامِّ. فَكَمْ مِنْ مَرَّةٍ نَشْعُرُ أَنَّنَا وَحِيدُونَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَرَانَا أَوْ يُقَدِّرُ مَا نَقُومُ بِهِ؟ نَصْرُخُ مِثْلَ مَرْثَا: "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي؟ وَلَكِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ، بِلُطْفِهِ وَحَنَانِهِ، يُجِيبُنَا كَمَا أَجَابَ مَرْثَا، لِيُظْهِرَ لَنَا أَنَّهُ مَعَنَا، وَيَرَانَا، وَيَهْتَمُّ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا نَظُنُّ. إِنَّهُ يَدْعُونَا لِنُرَتِّبَ أَوْلَوِيَّاتِنَا، وَلِنَضَعَ جُلُوسَنَا عِنْدَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ، حَتَّى تَكُونَ خِدْمَتُنَا نَابِعَةً مِنَ الشَّرَكَةِ مَعَهُ، لَا مِنِ الْوِحْدَةِ أَوِ التَّوَتُّرِ. "أُخْتِي تَرَكَتْنِي": تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ فِي ٱلْبِدَايَةِ تُسَاعِدُ مَرْثَا فِي أَعْمَالِ ٱلْبَيْتِ، ثُمَّ جَلَسَتْ عِندَ قَدَمَيْ يَسُوعَ لِتُصْغِيَ إِلَى كَلِمَاتِهِ، فَنَسِيَتْ أَعْمَالَهَا وَٱلْوَاجِبَ تُجَاهَ أُخْتِهَا وَٱلضَّيْفِ. فَكَأَنَّ هُنَاكَ مُشْكِلَةً فِي تَقَاسُمِ ٱلْوَاجِبَاتِ، وَٱلْإِقْرَارُ مِنْ مَرْيَمَ بِٱحْتِيَاجَاتِ مَرْثَا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مُسَلَّمًا بِهِ. فَعِنْدَمَا يَغِيبُ الْجَوْهَرُ، تَضْمَحِلُّ رُوحُ الشَّرِكَةِ، وَيَبْدَأُ الإِنْسَانُ فِي النَّظَرِ إِلَى الآخَرِ، حَتَّى أَقْرَبِ الْمُقَرَّبِينَ، عَلَى أَنَّهُ مُنَافِسٌ أَوْ خَصْمٌ يَسْلُبُهُ شَيْئًا مَا. لَمْ تَحْتَفِظْ مَرْثَا بِشَكْوَاهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ عَبَّرَتْ عَنْهَا بِصِدْقٍ أَمَامَ يَسُوعَ. هٰذِهِ الْمُبَادَرَةُ تُمَثِّلُ خُطْوَةً أُولَى عَلَى طَرِيقِ الشِّفَاءِ. "فَمُرْهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي": تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَرْثَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِـمَرْيَمَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى ٱلْعَمَلِ إِلَّا بِإِذْنِ يَسُوعَ وَأَمْرِهِ. فَصَارَ ٱلْخَادِمُ يُمْلِي عَلَى ٱلرَّبِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ، فِي تَقْدِيرٍ خَفِيٍّ أَنَّ ٱلْخِدْمَةَ أَهَمُّ مِنَ ٱلْكَلِمَةِ. إِنَّ مَرْثَا تَتَّخِذُ مَكَانَ الْمُعَلِّمِ، فَهِيَ لَا تَكْتَفِي بِعَدَمِ الإِصْغَاءِ، بَلْ تُبَادِرُ إِلَى تَعْلِيمِ الرَّبِّ نَفْسِهِ، فَتُخْبِرُهُ مَاذَا يَقُولُ، وَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ: "فَمُرْهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي"! وَيُعلق ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ: "مَا عَابَ يَسُوعُ عَلَى مَرْثَا خِدْمَتَهَا، بَلِ ٱضْطِرَابَ قَلْبِهَا." فَـمَرْثَا لَيْسَتْ شَخْصًا غَرِيبًا عَنَّا، بَلْ هِيَ تَسْكُنُ فِينَا جَمِيعًا: تَسْكُنُ فِي ٱلْكَاهِنِ ٱلْمُنْشَغِلِ بِٱلْبَرَامِجِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلصَّلَاةِ، فِي ٱلْخَادِمَةِ أَوِ ٱلْمَسْؤُولِ ٱلْمَهُوْسِ بِٱلتَّرْتِيبِ عَلَى حِسَابِ ٱلرُّوحِ، فِي ٱلْمُكَرَّسِ ٱلَّذِي يَغْرَقُ فِي ٱلْوَاجِبَاتِ وَيَنْسَى ٱلْوُقُوفَ عِنْدَ قَدَمَيِ ٱلرَّبِّ. فَكَمْ مِنْ مَرْثَا تَسْكُنُ كَنَائِسَنَا؟ تَخْدِمُ وَتَكِدُّ، وَلٰكِنْ بِقَلَقٍ وَتَذَمُّرٍ، لَا بِسَلَامِ مَرْيَمَ وَصَمْتِهَا.
41 فأَجابَها الرَبُّ: ((مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة،
"مَرْثَا، مَرْثَا": يُكَرِّرُ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ ٱسْمَ مَرْثَا، وَهٰذَا ٱلتَّكْرَارُ يُضْفِي عَلَى ٱلْكَلَامِ نَبْرَةً مِنَ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْعَطْفِ، فَهُوَ تَوْبِيخُ ٱلصَّدِيقِ، لَا تَوْبِيخُ ٱلدَّيَّانِ. وَقَدِ ٱسْتَخْدَمَ ٱلْمَسِيحُ نَفْسَ ٱلْأُسْلُوبِ مَعَ غَيْرِه: "سِمْعَانُ، سِمْعَانُ" (لوقا 22: 31)، وَ"شَاوُلُ، شَاوُلُ" (أعمال الرُّسُل 9: 4). فَلَا شَيْءَ يُسَكِّنُ قَلْبَ ٱلْمُضْطَرِبِ مِثْلَ أَنْ يُنَادِيَهُ ٱلرَّبُّ بِٱسْمِهِ، وَفِي ذٰلِكَ ٱلتَّكْرَارِ تَنْبِيهٌ إِلَى أَهَمِّيَّةِ ٱلْكَلَامِ ٱلَّذِي سَيَتْلُوهُ. "مرثا تتكلّم فقط… وصوتُها يَعلو، أمّا صوتُ يسوع، فلا يُسمَعُ إلّا بعدَ أن يُنصِتَ لصوتِ قلبِها المضطرب! "إِنَّكِ فِي هَمٍّ وَٱرْتِبَاكٍ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ": فِي هٰذِهِ ٱلْعِبَارَةِ يُوَبِّخُ ٱلْمَسِيحُ مَرْثَا، لَيْسَ عَلَى خِدْمَتِهَا فِي ذَاتِهَا، بَلْ عَلَى ٱنْشِغَالِهَا ٱلْمُفْرِطِ وَٱرْتِبَاكِهَا فِي تَفَاصِيلِ ٱلْخِدْمَةِ، مِمَّا حَجَبَهَا عَنْ جَوْهَرِ ٱلِّلِقَاءِ مَعَ ٱلرَّبِّ. فَلَمْ تَعُدِ ٱلْخِدْمَةُ تَجَلِّيًا لِلْمَحَبَّةِ، بَلْ عِبْئًا وَمَصْدَرَ تَذَمُّرٍ وَشَكْوَى. وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قَالَ ٱلرَّبُّ لِتَلَامِيذِهِ: "لَا يُهِمَّكُم لِلْعَيْشِ مَا تَأْكُلُونَ، وَلَا لِلْجَسَدِ مَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَعْظَمَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَعْظَمَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟" (متى 6: 25). َٱلْمَسِيحُ يُبْدِي ٱهْتِمَامَهُ بِٱلْأَوْلَوِيَّاتِ، وَيَدْعُو مَرْثَا إِلَى تَجْدِيدِ نَظْرَتِهَا، لِتَرَى فِي حُضُورِهِ كَأَوَّلِيَّةٍ، وَفِي كَلِمَتِهِ كَمَصْدَرٍ لِلسَّلَامِ. إِنَّ نِدَاءَ يَسُوعَ: "مَرْثَا، مَرْثَا" هُوَ نِدَاءٌ مَفْعَمٌ بِٱلْحَنَانِ، مُوَجَّهٌ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ يَعِيشَانِ فِي هَمٍّ وَٱرْتِبَاكٍ. يَسُوعُ لَا يَلُومُ مَرْثَا عَلَى خِدْمَتِهَا، بَلْ لِأَنَّهَا غَفَلَتْ عَنْ جَوْهَرِ ٱلْحُضُورِ. إِنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ نُقْصِيَ ٱلْعَمَلَ، بَلْ أَنْ نُدْخِلَ فِيهِ رُوحَ ٱلْإِصْغَاءِ؛ أَنْ نَبْدَأَ مِنهُ، لَا مِنْ أَنْفُسِنَا؛ أَنْ نَنْطَلِقَ مِنْ حُضُورِهِ، لَا مِنْ هُمُومِنَا. فَٱلْحَيَاةُ ٱلْمَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ سِبَاقَ وَاجِبَاتٍ، بَلْ لِقَاءَ مَحَبَّةٍ؛ لَيْسَتْ سَعْيًا لِإِرْضَاءِ ٱلْآخَرِينَ، بَلْ ثَبَاتًا فِي وَجْهِ يَسُوعَ. فَهَلْ نَسْمَحُ لَهُ أَنْ يُنَادِينَا بِٱسْمِنَا، وَيُعِيدَ تَرْتِيبَ فَوْضَانَا بِسَلَامِهِ؟
42 مع أَنَّ الحاجَةَ إلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها)).
"ٱلْحَاجَةَ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ": فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ: ἑνὸς δέ ἐστιν χρεία، وَمَعْنَاهَا: "لٰكِنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى وَاحِدٍ". تُفَسَّرُ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى ٱلْمُسْتَوَى ٱلْحَرْفِيِّ: يُرَجَّحُ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ قَدْرٍ قَلِيلٍ مِنَ ٱلطَّعَامِ، إِذْ إِنَّ يَسُوعَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَائِدَةٍ زَاخِرَةٍ، بَلْ إِلَى طَعَامٍ بَسِيطٍ. عَلَى ٱلْمُسْتَوَى ٱلْمَعْنَى ٱلرُّوحِيِّ، فَـ"ٱلْوَاحِدُ" هُنَا يُرْمَزُ بِهِ إِلَى ٱللَّهِ ٱلْأَحَدِ، أَوْ إِلَى ٱلْمَسِيحِ نَفْسِهِ، وَإِلَى كَلِمَتِهِ ٱلَّتِي تُغَذِّي ٱلنَّفْسَ. ٱلْحَاجَةُ ٱلْحَقِيقِيَّةُ لِلْإِنْسَانِ هِيَ ٱلْإِصْغَاءُ لِصَوْتِ ٱلرَّبِّ، وَٱلِٱهْتِمَامُ بِخَلَاصِ ٱلنَّفْسِ . وٱلْخَلَاصُ عَطِيَّةٌ إِلٰهِيَّةٌ مَجَّانِيَّةٌ، لَا يُقَابَلُ بِثَمَنٍ، وَلَا يُكْتَسَبُ بِٱسْتِحْقَاقٍ، بَلْ يُوهَبُ مِنَ ٱللَّهِ بِنِعْمَتِهِ، وَيُفِيضُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِ بِمَحَبَّةٍ خَالِصَةٍ، لِكَيْ يَحْيَا فِي نُورِهِ إِلَى ٱلْأَبَدِ. ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ": تُشِيرُ إِلَى ٱخْتِيَارِ مَرْيَمَ لِلنَّصِيبِ ٱلَّذِي لَا يَبْلَى، أَيْ: ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ. وَقَدْ أَكَّدَ يَسُوعُ فِي ٱلتَّجْرِبَةِ: "لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللَّهِ" (متّى 4: 4). فَكَلِمَةُ ٱلرَّبِّ تُطْعِمُ ٱلرُّوحَ، وَتُثَبِّتُ ٱلْإِيمَانَ، وَتُقَدِّسُ ٱلْقَلْبَ. يرى القديس أوغسطينوس أنَّ مرثا تُمثّل الحياة النشيطة، بينما مريم ترمز إلى الحياة التأمّليّة. ويقول:"مريم كانت ترتاح عند قدمي الكلمة الأزليّة، أمّا مرثا فكانت تقلق بشأن ما هو فانٍ ومؤقّت. الأولى اختارت النصيب الأفضل لأنّه أبديّ، أما الثانية فانشغلت بما لا يدوم. إِنَّ دَعْوَةَ ٱلرَّبِّ لَيْسَتْ إِلَى ٱلتَّخَلِّي عَنِ ٱلْخِدْمَةِ، بَلْ إِلَى تَرْتِيبِ ٱلْأَوْلَوِيَّاتِ. فَـيَسُوعُ لَا يُوَبِّخُ مَرْثَا لِأَنَّهَا تَخْدِمُ، بَلْ لِأَنَّ ٱلْخِدْمَةَ شَغَلَتْهَا عَنِ ٱلْإِصْغَاءِ. فَـ"ٱلْكَلِمَةُ" يَجِبُ أَنْ تَسْبِقَ ٱلْعَمَلَ، وَ"ٱلصَّلَاةُ" أَنْ تَكُونَ نَبْعَ ٱلْخِدْمَةِ. لَا يَتَدَخَّلُ الرَّبُّ لِيَأْخُذَ مَكَانَ مَرْثَا فِي إِدَارَةِ الْخِلَافِ الْعَائِلِيِّ، بَلْ يُوَجِّهُهَا نَحْوَ الطَّرِيقِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى السَّلَامِ الْحَقِيقِيِّ، سَلَامِ الْقَلْبِ الْقَائِمِ عَلَى التَّرْتِيبِ الصَّحِيحِ لِلْأَوْلَوِيَّاتِ، وَعَلَى الإِصْغَاءِ لِلْكَلِمَةِ قَبْلَ كَثْرَةِ الْخِدْمَةِ. لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا": تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا ٱخْتَارَتْهُ مَرْيَمُ هُوَ مِيرَاثٌ أَبَدِيٌّ لَا يُنْزَعُ، فَهُوَ لَا يَزُولُ بِٱلْمَوْتِ وَلَا يُسْلَبُ بِٱلزَّمَانِ. فَمَنْ يَخْتَارُ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ، تَدُومُ فِيهِ هٰذِهِ ٱلْمَحَبَّةُ، وَتُثَبِّتُ قَلْبَهُ، هُنَا عَلَى ٱلْأَرْضِ وَفِي ٱلسَّمَاءِ. أَمَّا ٱلْأَطْعِمَةُ وَٱلْمَادِّيَّاتُ، فَهِيَ زَائِلَةٌ: إِمَّا نَتْرُكُهَا بِٱلْمَوْتِ، أَوْ هِيَ تَزُولُ مِنَّا فِي ٱلْحَيَاةِ. دعوة يسوع إلينا: "لَا تَهْتَمُّوا لِلنَّفْسِ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلَا لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ... بَلِ ٱطْلُبُوا مَلَكُوتَ ٱللَّهِ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (لوقا 12: 22، 31). فَــٱلْخُدْمَةُ لَا تَكُونُ عَائِقًا إِذَا ٱنْطَلَقَتْ مِنَ ٱلْكَلِمَةِ، وَأَفْضَلُ طَرِيقٍ لِلْعَمَلِ، هُوَ ٱلْإِصْغَاءُ إِلَى صَوْتِ ٱلْمَسِيحِ ٱلْقُدُّوسِ.
ثَانِيًا: تَطْبِيقُ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 38–42)
ٱنْطِلَاقًا مِنْ هٰذِهِ ٱلْمُلَاحَظَاتِ ٱلْوَجِيزَةِ حَوْلَ وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلْإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 38–42)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ ٱسْتِقْبَالِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا لِيَسُوعَ فِي بَيْتِهِمَا.
فَـمَرْيَمُ ٱسْتَقْبَلَتْهُ بِٱلِٱصْغَاءِ إِلَيْهِ، فَأَصْبَحَتْ مِثَالًا لِمَنْ يَتَفَرَّغُونَ لِسَمَاعِ كَلِمَةِ ٱللَّهِ، وَيَضَعُونَهَا فِي قَلْبِهِمْ كَـ"نَصِيبٍ أَفْضَلَ".
وَأَمَّا مَرْثَا، فَقَدْ ٱسْتَقْبَلَتْهُ بِٱلضِّيَافَةِ وَٱلْخِدْمَةِ، فَأَصْبَحَتْ مِثَالًا لِلَّذِينَ يُخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ بِـخِدْمَةِ ٱلْإِخْوَةِ.
وَبِذٰلِكَ يُقَدِّمُ لَنَا ٱلنَّصُّ نَمُوذَجَيْنِ مُتَكَامِلَيْنِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلرُّوحِيَّةِ: ٱلْجُلُوسُ عِندَ قَدَمَي ٱلرَّبِّ لِتَلَقِّي كَلِمَتِهِ، وَخِدْمَتُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ وَفِي ٱلْأَخُوَّةِ. فَلَا غِنَى لِلْمُؤْمِنِ عَنْ كِلْتَا ٱلْقَامَتَيْنِ: ٱلْإِصْغَاءِ وَٱلْخِدْمَةِ، بَيْدَ أَنَّ ٱلْأُولَى تَكُونُ أَسَاسًا لِلثَّانِيَةِ.
1) مَرْيَمُ وَفَن ٱلِٱسْتِمَاعُ لِكَلِمَةِ ٱللَّهِ
مَرْيَمُ" ٱسْمٌ عِبْرِيٌّ: מִרְיָם، وَيَحْمِلُ مَعَانِيَ عِدَّةً، مِنْهَا: "ٱلرَّائِيَةُ"، "ٱلسَّيِّدَةُ"، "ٱلْعِصْيَانُ"، وَفِي ٱلْمِصْرِيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ: "ٱلْمَحْبُوبَةُ". هِيَ أُخْتُ لِعَازَرَ وَمَرْثَا، مِنْ سُكَّانِ بَيْتِ عَنْيَا (يوحنّا 11: 1)، وَهِيَ ٱلَّتِي دَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ بِٱلطِّيبِ فِي بَيْتِ عَنْيَا قُبَيْلَ آلَامِهِ بِأُسْبُوعٍ (يوحنّا 12: 1–3)، وَأَدْرَكَتْ سِرَّ دَفْنِهِ وَقِيَامَتِهِ (مرقس 14: 8).
كَانَتْ مَرْيَمُ حَسَّاسَةً وَتَأَمُّلِيَّةً، ذَاتَ قَلْبٍ يُحِبُّ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ، وَدَخَلَتْ فِي شَرِكَةِ ٱلْحَيَاةِ مَعَهُ، إِذْ كَانَتْ تَجْلِسُ عِندَ قَدَمَيْهِ لِتَسْتَمِعَ إِلَى كَلِمَاتِهِ، عَلَى مِثَالِ ٱلتِّلْمِيذِ فِي ٱلتَّقْلِيدِ ٱلْيَهُودِيِّ ٱلْقَدِيمِ (لوقا 8: 35). فَـٱلْجُلُوسُ يُسَهِّلُ ٱلْإِصْغَاءَ، وَقَدْ جَلَسَتْ مَرْيَمُ صَامِتَةً، تُصْغِي بِكُلِّيَّتِهَا إِلَى كَلِمَةِ ٱلْمُعَلِّمِ، وَرَبَطَتْ كِيَانَهَا بِهِ.
لَمْ تَكُنْ مَرْيَمُ مُنْشَغِلَةً بِمَا تُقَدِّمُهُ مِنْ ضِيَافَةٍ، بَلْ بِـيَسُوعَ نَفْسِهِ، لَا تُرِيدُ أَنْ يَشْتَتَ ٱنْتِبَاهَهَا أَيُّ شَيْءٍ سِوَاهُ، فَقَدْ رَكَّزَتْ عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَمْ يُغْدِقْ يَسُوعُ عَلَيْهَا عَطَايَا أَكْثَرَ مِنْ مَرْثَا، بَلْ هِيَ ٱلَّتِي ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ، بِـقَرَارٍ حُرٍّ وَوَاعٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس بِقَوْلِهِ: "كُونِي كَمَرْيَمَ، تُفَضِّلِينَ طَعَامَ ٱلنَّفْسِ عَلَى طَعَامِ ٱلْجَسَدِ. ٱتْرُكِي أَخَوَاتِكِ يَجْرِينَ هُنَا وَهُنَاكَ لِيُدَبِّرْنَ بِلِيَاقَةٍ كَيْفَ يَسْتَضِفْنَ ٱلْمَسِيحَ، أَمَّا أَنْتِ، فَإِذْ تَتْرُكِينَ ثِقْلَ ٱلْعَالَمِ، ٱجْلِسِي عِندَ قَدَمَيْ ٱلرَّبِّ، وَقُولِي لَهُ: 'وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أُرْخِهِ'" (نشيد الأنشاد 3: 4). وَكَذٰلِكَ، لَمْ يَتْرُكِ ٱلرُّسُلُ كَلِمَةَ ٱللَّهِ لِيَخْدِمُوا ٱلْمَوَائِدَ (أعمال الرسل 6: 2).
وَقَدْ شَهِدَ ٱلرَّبُّ لِـمَرْيَمَ أَنَّهَا قَدِ ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ (لوقا 10: 41–42)، فَٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ، وَهٰذَا ٱلنَّصِيبُ هُوَ: ٱلْحَيَاةُ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. كَانَ ٱلْمَسِيحُ لَهَا ٱلْهَدَفَ ٱلْأَسْمَى، وَهٰذَا هُوَ "ٱلْأَمْرُ ٱلْوَاحِدُ" ٱلَّذِي لَمَّحَ إِلَيْهِ يَسُوعُ، وَٱلَّذِي نَحْنُ بِٱلْحَقِيقَةِ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، أَلَا وَهُوَ: قَلْبٌ مُتَفَرِّدٌ، مُكَرَّسٌ، يَجْعَلُ ٱلْمَسِيحَ هَدَفَهُ ٱلْأَوَّلَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَخِدْمَةٍ. وَمِنْ هُنَا تَنْبَعُ أَهَمِّيَّةُ ٱلْإِصْغَاءِ لِكَلِمَةِ ٱللَّهِ، لِكَيْ يَسْتَمِعَ ٱللَّهُ إِلَيْنَا.
أ) ٱلْإِنْسَانُ يَسْتَمِعُ إِلَى ٱللَّهِ
يُعْتَبَرُ حُسْنُ ٱلضِّيَافَةِ مِنْ سِمَاتِ ٱلِٱسْتِمَاعِ، وَنَرَاهُ بِوُضُوحٍ فِي تِلْكَ ٱلْخِدْمَةِ ٱلَّتِي قَامَتْ بِهَا مَرْيَمُ، إِذْ لَا تُوجَدُ ضِيَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ دُونَ ٱلِٱسْتِمَاعِ لِلضَّيْفِ. وَأَهَمُّ ضِيَافَةٍ هِيَ: ٱلْحُضُورُ أَمَامَ ٱلْمُعَلِّمِ بِرُوحِ ٱلتِّلْمِيذِ. قَامَتْ مَرْيَمُ بِدَوْرِ ٱلتِّلْمِيذَةِ، وَفَتَحَتْ مَجَالًا جَدِيدًا لِلضِّيَافَةِ مِنْ خِلَالِ ٱلْإِصْغَاءِ وَٱلْجُلُوسِ عِندَ قَدَمَيْ ٱلْمُعَلِّمِ: "فَقَدِ ٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 10: 42). فَمَا هُوَ "ٱلنَّصِيبُ ٱلْأَفْضَلُ" ٱلَّذِي ٱخْتَارَتْهُ مَرْيَمُ؟ إِنَّهُ ٱلِٱسْتِمَاعُ إِلَى يَسُوعَ، ٱلَّذِي يُشْبِهُ ٱلِٱسْتِمَاعَ إِلَى ٱلشَّرِيعَةِ! ٱلْوَحْيُ يَقُومُ عَلَى إِلْقَاءِ كَلِمَةِ ٱللَّهِ لِلْإِنْسَانِ، وَيَنْتُجُ ٱلْإِيمَانُ عَنْ ٱلسَّمَاعِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "كَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ؟ ... فَٱلْإِيمَانُ إِذًا مِنَ ٱلسَّمَاعِ" (رومة 10: 17). وَلَمْ يَتَرَدَّدْ مُوسَى ٱلنَّبِيُّ فِي تَشْجِيعِ ٱلشَّعْبِ عَلَى ٱلسَّمَاعِ بِقَوْلِهِ: "ٱسْمَعُوا" (سِفْرُ ٱلتَّثْنِيَةِ). وَكَذٰلِكَ عَامُوسُ ٱلنَّبِيُّ (عاموس 3: 1)، وَإِرْمِيَا ٱلنَّبِيُّ (إرميا 7: 2).
وَفِي ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، يُرَدِّدُ يَسُوعُ ٱلْكَلِمَةَ نَفْسَهَا: "ٱسْمَعُوا!" (مرقس 4: 3). فَـسَمَاعُ كَلِمَةِ ٱللَّهِ (بِٱلْعِبْرِيَّةِ: שְׁמַע) لَا يَعْنِي ٱلِٱسْتِمَاعَ بِٱلْأُذُنِ فَحَسْب، بَلْ يَتَضَمَّنُ فَتْحَ ٱلْقَلْبِ لَهَا، كَمَا فَعَلَ ٱلرَّبُّ مَعَ لِيدِيَّةَ فِي فِيلِبِّي: "كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَيْنَا ٱمْرَأَةٌ تَعْبُدُ ٱللَّهَ، ٱسْمُهَا لِيدِيَّة... فَفَتَحَ ٱلرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا يَقُولُ بُولُسُ" (أعمال 16: 14).
وَسَمَاعُ كَلِمَةِ ٱللَّهِ يَتَطَلَّبُ أَيْضًا ٱلْعَمَلَ بِهَا، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "مَثَلُ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي هٰذَا فَيَعْمَلُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى ٱلصَّخْرِ" (متى 7: 24). وَهٰذِهِ هِيَ طَاعَةُ ٱلْإِيمَانِ، كَمَا كَتَبَ بُولُسُ:"بِهِ نِلْنَا ٱلنِّعْمَةَ بِأَنْ نَكُونَ رُسُلًا، فَنَهْدِيَ إِلَى طَاعَةِ ٱلْإِيمَانِ جَمِيعَ ٱلْأُمَمِ ٱلْوَثَنِيَّةِ، إِكْرَامًا لِٱسْمِهِ" (رومة 1: 5). عِنْدَمَا لَا يُرِيدُ ٱلْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ، يَقَعُ فِي مَأْسَاةٍ: "مَنْ لَا يَسْمَعْ لِكَلَامِي، أُطَالِبْهُ بِهِ" (تثنية 18: 16، 19). فَهُوَ يُغْلِقُ أُذُنَهُ وَقَلْبَهُ، كَمَا وَبَّخَهُم إِسْتِفَانُوسُ: "أَنْتُمْ تُقَاوِمُونَ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ" (أعمال 7: 51). وَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ: "لِمَاذَا لَا تَفْهَمُونَ مَا أَقُولُ؟ لِأَنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ ٱلِٱسْتِمَاعَ إِلَى كَلَامِي... مَنْ كَانَ مِنَ ٱللَّهِ ٱسْتَمَعَ إِلَى كَلَامِ ٱللَّهِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَسْتَمِعُونَ، فَأَنْتُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱللَّهِ" (يوحنّا 8: 43، 47).
ٱللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ مَنْ يَفْتَحُ أُذْنَ تِلْمِيذِهِ، كَمَا فِي أَشْعِيَا: "ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ فَتَحَ أُذُنِي" (أشعيا 50: 5)، لِكَيْ يُطِيعَ، كَمَا فِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ: "قُلْتُ: هَئَنَذَا جِئْتُ... لِأَعْمَلَ مَرْضَاتَكَ يَا إِلَهِي" (مزمور 40: 7–8). وَلِذٰلِكَ، عِنْدَ مَجِيءِ ٱلْمَسِيحِ، يَفْهَمُ ٱلشَّعْبُ كَلِمَةَ ٱللَّهِ وَيُطِيعُهَا (متى 11: 5)، وَيُنَادِي صَوْتُ ٱلسَّمَاءِ:
"هٰذَا هُوَ ٱبْنِيَ ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي عَنْهُ رَضِيتُ، فَلَهُ ٱسْمَعُوا" (متى 17: 5). وَكَانَتْ مَرْيَمُ، أُمُّ يَسُوعَ، نَمُوذَجًا فِي سَمَاعِ كَلِمَةِ ٱللَّهِ وَحِفْظِهَا، كَمَا فِي ٱلْوَقْتِ ٱلَّذِي كَانَتْ فِيهِ تَتَأَمَّلُ فِي قَلْبِهَا: "كَانَتْ مَرْيَمُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هٰذِهِ ٱلْأُمُورِ، وَتَتَأَمَّلُهَا فِي قَلْبِهَا" (لوقا 2: 19)، فَٱسْتَحَقَّتِ ٱلطُّوبَى مِنْ فَمِ ٱبْنِهَا: "طُوبَى لِمَنْ يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱللَّهِ وَيَحْفَظُهَا" (لوقا 11: 28).
ب) ٱللَّهُ يَسْتَمِعُ إِلَى ٱلْإِنْسَانِ
عِندَمَا يَسْتَمِعُ ٱلْإِنْسَانُ لِكَلِمَةِ ٱللَّهِ، يَسْتَمِعُ ٱللَّهُ بِدَوْرِهِ لِلْإِنْسَانِ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُ. فَـٱللَّهُ يَسْمَعُ لِلصِّدِّيقِينَ، وَلِـمَنْ يَتَّقُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذٰلِكَ ٱلرَّجُلُ ٱلْأَعْمَى ٱلَّذِي شَفَاهُ يَسُوعُ: "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِلْخَاطِئِينَ، بَلْ يَسْتَجِيبُ لِمَنِ ٱتَّقَاهُ وَعَمِلَ بِمَشِيئَتِهِ" (يوحنّا 9: 31). كَذٰلِكَ، يَسْتَجِيبُ ٱللَّهُ لِمَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مُوَافِقًا لِمَشِيئَتِهِ، كَمَا يُعَلِّمُنَا يُوحَنَّا ٱلرَّسُولُ: "وَٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا بِهِ هِيَ أَنَّهُ إِذَا سَأَلْنَاهُ شَيْئًا مُوَافِقًا لِمَشِيئَتِهِ، ٱسْتَجَابَ لَنَا" (1 يوحنّا 5: 14).
وَلِأَنَّ ٱلْآبَ يَسْتَجِيبُ دَائِمًا لِٱبْنِهِ ٱلْحَبِيبِ، فَإِنَّ صَلَاةَ ٱلْمُؤْمِنِ تَمُرُّ دَائِمًا عَبْرَ يَسُوعَ وَفِيهِ، كَمَا قَالَ: "عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي دَائِمًا" (يوحنّا 11: 42).فَبِٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، يَفْتَحُ ٱللَّهُ أُذُنَهُ لِنَا، وَفِيهِ نَجِدُ طَرِيقَ ٱلصَّلَاةِ وَٱلِٱسْتِجَابَةِ.
1) مَرْثا: وَفَن الْخِدْمَةِ
"مَرْثا": ٱسْمٌ آرَامِيٌّ «מָרְתָא»، يَعْنِي «رَبَّةُ ٱلْبَيْتِ». هِيَ أُخْتُ لِعَازَرَ وَمَرْيَمَ، عُرِفَتْ بِعَمَلِيَّتِهَا وَنَشَاطِهَا وَأَمَانَتِهَا فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِ ٱلْبَيْتِ وَٱسْتِقْبَالِ ٱلضُّيُوفِ، خُصُوصًا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ.
أ – خِدْمَةٌ مُلْتَهِبَةٌ وَلَكِنْ مُرْتَبِكَةٌ
كَانَتْ مَرْثا تَتَحَمَّسُ لِخِدْمَةِ يَسُوعَ حَمَاسًا بَالِغًا: "فَٱرْتَبَكَتْ فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ" (لوقا 10: 40)، فَتَذَمَّرَتْ عَلَى أُخْتِهَا لِتَرْكِهَا وَحْدَهَا. هٰذَا ٱلتَّوَتُّرُ يُنَاقِضُ تَعْلِيمَ ٱلرَّبِّ: "هٰكَذَا أَنْتُمْ، إِذَا فَعَلْتُمْ جَمِيعَ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، فَقُولُوا: نَحْنُ خَدَمٌ لَا خَيْرَ فِيهِم، مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْعَلَهُ فَعَلْنَاهُ" (لوقا 17: 10).
ب – ٱلْخِدْمَةُ فِي رُوحِ ٱلْمَحَبَّةِ
ٱلْخِدْمَةُ فِي ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ تَدُلُّ عَلَى خُضُوعِ ٱلْإِنْسَانِ لِلَّهِ، وَهٰذَا ٱلْخُضُوعُ يُحَرِّرُهُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْخَطِيئَةِ (يوحنّا 8: 34). "إِنَّ ٱلطَّاعَةَ خَيْرٌ مِنَ ٱلذَّبِيحَةِ" (1 صموئيل 15: 22). "كُلَّمَا صَنَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذٰلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هٰؤُلَاءِ ٱلصِّغَارِ فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ" (متّى 25: 35–40).
ج – يَسُوعُ، ٱلْخَادِمُ ٱلْأَعْظَمُ
جَاءَ يَسُوعُ لِيَكْشِفَ مَجْدَ ٱلْخِدْمَةِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ: "ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدُمَ وَيَفْدِيَ بِنَفْسِهِ جَمَاعَةَ ٱلنَّاسِ" (مرقس 10: 45). هٰكَذَا يَرْفَعُ ٱلْخِدْمَةَ إِلَى مَنْزِلَةِ ٱلْحُبِّ ٱلْبَاذِلِ.
د – ٱلْخِدْمَةُ وَٱلْأَمْرُ ٱلْوَاحِدُ"
ٱمْتَلَأَتْ مَرْثا هُمُومًا وَٱضْطِرَابًا لِأَنَّهَا أَغْفَلَتْ "ٱلْأَمْرَ ٱلْوَاحِدَ" (أي يَسُوعَ نَفْسَهُ). فَوَجَّهَهَا ٱلرَّبُّ لِتَجْعَلَ مِنْهُ نَصِيبَهَا وَحَاجَتَهَا ٱلْوَحِيدَةَ: "مَنْ لِي فِي ٱلسَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ عَلَى ٱلْأَرْضِ لَا أَهْوَى شَيْئًا" (مزمور 73: 25).
هـ – خِدْمَةُ ٱلْكَلِمَةِ فِي حُرِّيَّةِ ٱلْأَبْنَاءِ
"أَمَّا نَحْنُ، فَنُوَاظِبُ عَلَى ٱلصَّلَاةِ وَخِدْمَةِ ٱلْكَلِمَةِ" (أعمال 6: 4). ٱلْمُؤْمِنُونَ يَخْدِمُونَ بِلَا رُوحِ عُبُودِيَّةٍ، بَلْ كَأَبْنَاءٍ أَحِبَّاءَ: "لَا أَدْعُوكُمْ خَدَمًا بَعْدَ ٱلْيَوْم... بَلْ دَعَوْتُكُمْ أَحِبَّائِي" (يوحنّا 15: 15).
باختصار: يَجْمَعُ ٱلنَّصُّ ٱلْإِنْجِيلِيُّ بَيْنَ صَمْتِ مَرْيَمَ ٱلَّذِي يَرْتَوِي مِنَ ٱلْكَلِمَةِ، وَنَشَاطِ مَرْثا ٱلَّذِي يَتَجَلَّى فِي ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْعَامِلَةِ. وَلْيَكُنْ يَسُوعُ هُوَ "ٱلْأَمْرُ ٱلْوَاحِدُ" ٱلَّذِي يُنَظِّمُ هُمُومَنَا، فَتُصْبِحَ خِدْمَتُنَا تَدْفُقًا حُرًّا مِنْ حُضُورِهِ فِينَا.
2) حُكْمُ يَسُوعَ: صِلَةٌ بين الخدمة والاستماع لَا مُفَاضَلَة
جُعِلَ يَسُوعُ حَكَمًا بَيْنَ مَرْيَمَ وَمَرْثَا بِطَلَبٍ مِنْ مَرْثَا نَفْسِهَا. فَمَاذَا سَيَخْتَارُ؟ ٱلْخِدْمَةَ أَمِ ٱلِٱسْتِمَاعَ؟
ٱلْعَمَلَ أَمِ ٱلصَّلَاةَ؟ جَاءَ جَوَابُ يَسُوعَ كَأَنَّهُ لُغْزٌ. فَقَدِ ٱخْتَارَتْ مَرْثَا أُمُورًا كَثِيرَةً، ٱخْتَارَتِ ٱلْكَمِّيَّةَ، أَمَّا مَرْيَمُ فَٱخْتَارَتْ مَا هُوَ فَرِيدٌ، وَهٰذَا الْفَرِيدُ هُوَ "ٱلْأَمْرُ ٱلضَّرُورِيُّ ٱلْوَاحِدُ"، ٱلَّذِي سَمَّاهُ ٱلرَّبُّ "ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ" (τὴν ἀγαθὴν μερίδα في الأصل اليوناني). ٱلنَّصُّ لَا يُقَابِلُ بَيْنَ ٱلْأُخْتَيْنِ لِيَقُولَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَلَا يُعَارِضُ بَيْنَ خِيَارٍ صَالِحٍ وَخِيَارٍ أَفْضَلَ، بَلِ ٱلْوَاقِعُ هُوَ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا دُعِيَتَا إِلَى ٱخْتِيَارٍ وَاحِدٍ: ٱخْتِيَارِ يَسُوعَ نَفْسِهِ. لَمْ يُغْدِقِ يَسُوعُ عَلَى مَرْيَمَ عَطَايَا أَكْثَرَ مِنْ مَرْثَا، بَلْ مَرْيَمُ هِيَ مَنْ ٱخْتَارَتْ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ بِـقَرَارٍ حُرٍّ وَوَاعٍ، وَهُوَ: ٱلِٱصْغَاءُ إِلَى كَلِمَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلدُّخُولُ فِي شَرِكَةِ حَيَاةٍ مَعَهُ.نَصِيبٌ لَا يُنْزَعُ: قَالَ يَسُوعُ: "لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (لوقا 10: 42). لِأَنَّ عَذُوبَةَ ٱلْحَقِّ أَبَدِيَّةٌ. نَصِيبُ مَرْيَمَ لَا يُنْزَعُ مِنْهَا، بَلْ يَزْدَادُ فِي هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ، وَيَكْتَمِلُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْأُخْرَى. أَمَّا نَصِيبُ مَرْثَا، فَهُوَ وَاجِبَاتٌ زَمَنِيَّةٌ، يُمْكِنُ أَنْ تُنْزَعَ مِنْهَا بِٱلزَّمَنِ، أَوْ بِٱلضَّعْفِ، أَوْ بِٱلْمَوْتِ. فَـٱلْخَيْرُ ٱلْأَعْظَمُ لَا يَكْمُنُ فِي ٱلْأَعْمَالِ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنْ فِي ٱلشَّرِكَةِ مَعَ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ «ٱلْأَمْرُ ٱلْوَاحِدُ» ٱلَّذِي لَا يُنْزَعُ.
لَا تَوْبِيخَ، بَلْ دَعْوَةٌ لِتَرْتِيبِ ٱلْأَوْلَوِيَّاتِ. لَمْ يُوَبِّخْ يَسُوعُ مَرْثَا عَلَى ٱهْتِمَامِهَا بِٱلضِّيَافَةِ، وَلَا عَلَى خِدْمَتِهَا، بَلْ كَانَ يُرَشِّدُهَا لِتَرْتِيبِ أَوْلَوِيَّاتِهَا، لِئَلَّا تَنْشَغِلَ عَنْهُ فِي غَمْرَةِ خِدْمَتِهَا. كَمَا فَعَلَ مَعَ تِلْمِيذَيْ عِمْوَاس، حَاوَلَ يَسُوعُ أَنْ يُنِيرَ ذِهْنَ مَرْثَا، وَيَحْمِلَهَا عَلَى ٱلصَّبْرِ، لِتَنْمُوَ فِي نِعْمَةِ ٱلْإِيمَانِ، وَتُدْرِكَ أَنَّ ٱلْأَهَمَّ هُوَ ٱلْمَثُولُ أَمَامَ كَلِمَةِ ٱللَّهِ وَٱسْتِقْبَالُهُ كَضَيْفٍ وَسَيِّدٍ فِي آنٍ. مطلوب تَوَازُنُ ٱلصَّلَاةِ وَٱلْخِدْمَةِ: ٱلْقَاعِدَةُ ٱلذَّهَبِيَّةُ . "صَلِّ وَٱعْمَل" — قَاعِدَةٌ ذَهَبِيَّةٌ بَنَى عَلَيْهَا ٱلرُّهْبَانُ حَيَاتَهُمْ. فَـٱلْمُؤْمِنُ ٱلْحَقِيقِيُّ يَجْمَعُ فِي نَفْسِهِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا: لَا عَمَلَ بِدُونِ صَلَاةٍ وَشَرِكَةٍ. وَلَا صَلَاةَ صَادِقَةً بِدُونِ مَحَبَّةٍ فَاعِلَةٍ. قِيلَ: "لَقَدْ خَدَمْتُ كَثِيرًا بَيْتَ ٱلرَّبِّ، فَمَتَى أَخْدِمُ رَبَّ ٱلْبَيْتِ؟ (أحد آباء الكنيسة). فَـٱلْمَطْلُوبُ: أَنْ نَخْدِمَ، وَلٰكِنْ دُونَ أَنْ نَنْشَغِلَ عَنْهُ، وَأَنْ نُصَلِّي، وَلٰكِنْ دُونَ أَنْ نَتَخَلَّى عَنِ ٱلْخِدْمَةِ.
مَنْ يَسِرْ فِي ٱلْعَمَلِ بِلَا شَرِكَةٍ، كَمَا فَعَلَتْ مَرْثَا، يُصَابُ بِٱلْقَلَقِ، وَٱلِاضْطِرَابِ، وَٱلتَّذَمُّرِ، وَٱلْغِيرَةِ، وَٱلشُّعُورِ بِٱلنَّقْصِ، بَلْ وَحَتَّى بِلَوْمِ ٱلرَّبِّ نَفْسِهِ. أَمَّا مَنْ يَدْخُلُ فِي شَرِكَةٍ حَيَّةٍ مَعَ ٱلرَّبِّ، فَـإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ فِي ٱلسَّلَامِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ: "لَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنَّا رُوحَ ٱلرَّبِّ ٱلْحَيِّ وَٱلسَّاكِنَ فِينَا". كَمَا يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "فَمَنْ يَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيقٌ أَمِ ٱضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟" (رومة 8: 35).
كَثِيرًا مَا نُشْبِهُ مَرْثَا، نَرْكُضُ مِنْ مُهِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَنَظُنُّ أَنَّ حُبَّنَا لَكَ يُقَاسُ بِمَا نُنْجِزُهُ، لَا بِمَا نُصْغِي إِلَيْهِ. عَلِّمْنَا، يَا رَبُّ، أَنْ نَخْتَارَ "ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ" ٱلَّذِي لَا يُنْتَزَعُ، فَنَخْدِمَكَ لَا بِتَعَبٍ وَقَلَقٍ، بَلْ بِحُضُورٍ هَادِئٍ، نَابِعٍ مِنَ ٱللِّقَاءِ بِكَ.
خُلاصَة
يُقَدِّمُ لَنَا إِنْجِيلُ لُوقَا مَشْهَدًا إِنسَانِيًّا وَرُوحِيًّا عَمِيقًا فِي بَيْتِ مَرْثَا وَمَرْيَمَ: إِحْدَى ٱلْأُخْتَيْنِ مُنْشَغِلَةٌ بِٱلْخِدْمَةِ، وَٱلْأُخْرَى مُنْصِتَةٌ عِنْدَ قَدَمَيْ ٱلْكَلِمَةِ ٱلْحَيَّةِ. لَا يُدِينُ يَسُوعُ ٱلْعَمَلَ، وَلَا يَحْتَقِرُ ٱلْجُهْدَ، بَلْ يُعِيدُ تَرْتِيبَ ٱلْأَوْلَوِيَّاتِ. فَلَيْسَ ٱلْمُهِمَّ فَقَطْ أَنْ نَخْدِمَهُ بِأَيْدِينَا، بَلْ أَنْ نَفْتَحَ لَهُ قُلُوبَنَا أَوَّلًا.
مَرْثَا تُمَثِّلُ ٱلْعَمَلَ ٱلرَّسُولِيَّ، وَٱلْخِدْمَةَ ٱلْيَوْمِيَّةَ، وَٱلِٱنْشِغَالَ بِأُمُورِ ٱلْبَيْتِ وَٱلضِّيَافَةِ وَٱلرِّعَايَةِ. مَرْيَمُ تُمَثِّلُ ٱلْحَيَاةَ ٱلتَّأَمُّلِيَّةَ، وَٱلْإِصْغَاءَ لِكَلِمَةِ ٱللهِ، وَٱلْجُلُوسَ فِي حَضْرَتِهِ، وَٱلِٱنْجِذَابَ إِلَى ٱلْحَقِّ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَا يَرْفُضُ أَحَدًا مِنْهُمَا، بَلْ يُلْفِتُ نَظَرَ مَرْثَا إِلَى أَنَّ ٱلْهَمَّ ٱلْمُفْرِطَ وَٱلتَّشَتُّتَ قَدْ يَسْرِقَانِ مِنْهَا بَهْجَةَ ٱلْحُضُورِ، وَيَدْعُوهَا إِلَى أَنْ تَبْدَأَ مِنَ ٱلدَّاخِلِ، مِنَ "ٱلنَّصِيبِ ٱلْأَفْضَلِ" ٱلَّذِي لَا يُنْتَزَعُ.
وَضَّحَ ٱلنَّصُّ ٱلْإِنْجِيلِيُّ ٱلْعَلَاقَةَ ٱلْقَائِمَةَ بَيْنَ ٱلصَّلَاةِ وَٱلْعَمَلِ، بَيْنَ ٱلْمُنَاجَاةِ وَٱلْخِدْمَةِ، مُبَيِّنًا أُسُسَ ٱلْخِدْمَةِ وَمَفْهُومَهَا ٱلْحَقِيقِيَّ. فَإِنَّنَا نَتَعَرَّفُ عَلَى يَسُوعَ مِنْ خِلَالِ ٱلصَّلَاةِ وَٱلْعَمَلِ، عَلَى مِثَالِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا: نَتَعَرَّفُ عَلَيْهِ حِينَ نَخْدِمُ ٱلْإِخْوَةَ، كَمَا صَنَعَتْ مَرْثَا، وَنُنَاجِيهِ حِينَ نَجْلِسُ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، كَمَا صَنَعَتْ مَرْيَمُ.
فَقَدْ أَحَبَّ يَسُوعُ مَرْثَا ٱلَّتِي ٱسْتَقْبَلَتْهُ، وَأَحَبَّ مَرْيَمَ ٱلَّتِي ٱسْتَمَعَتْ إِلَيْهِ. وَعَلَى مَرْيَمَ أَنْ تَتَعَلَّمَ كَيْفَ تَسْتَقْبِلَهُ، وَعَلَى مَرْثَا أَنْ تَعْرِفَ كَيْفَ تَجْلِسَ لِتَسْتَمِعَ إِلَيْهِ. فَٱلصَّلَاةُ تَقُودُنَا إِلَى ٱلْعَمَلِ، وَٱلْعَمَلُ يَنْبُعُ مِنَ ٱلصَّلَاةِ. ذٰلِكَ هُوَ ٱلنَّصِيبُ ٱلْأَفْضَلُ، ٱلَّذِي لَنْ يُنْتَزَعَ مِنَّا.
وَيُؤَكِّدُ لَنَا إِنْجِيلُ ٱلْيَوْمِ أَنَّ ٱللهَ دَائِمًا يَزُورُ ٱلْبَشَرَ، كَمَا فَعَلَ مَعَ مَرْيَمَ وَمَرْثَا. إِنَّهُ يَزُورُنَا فِي وَجْهِ ٱلزَّائِرِ، وَٱلْمَحْتَاجِ، وَٱلضَّعِيفِ، وَٱلْمَظْلُومِ، وَٱلْمَرِيضِ، وَٱلْمَحْزُونِ. فَمَنْ سَاعَدَ قَرِيبَهُ، لَقِيَ ٱللهَ؛ وَمَنْ أَحَبَّ أَخَاهُ، أَحَبَّ ٱللهَ فِي ٱلْوَقْتِ ذَاتِهِ.
مَرْثَا مِثَالٌ لَنَا فِي ٱلضِّيَافَةِ، وَٱلضِّيَافَةُ شَهَادَةُ إِيمَانٍ. فَٱلْمَسِيحُ سَيُعْلِنُ فِي سَاعَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلطَّابِعَ ٱلسِّرِّيَّ لِهٰذِهِ ٱلضِّيَافَةِ، فَهِيَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ ٱلْمَحَبَّةِ. فِي ٱلضَّيْفِ، ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ هُوَ ٱلَّذِي نَقْبَلُهُ أَوْ نَرْفُضُهُ (متى 25: 35–43).
فَمِنَ ٱلضَّرُورِيِّ أَنْ نَرَى فِي كُلِّ مَنْ يَقْرَعُ بَابَنَا: ٱبْنَ ٱللهِ ٱلَّذِي يَأْتِي لِيُغْمِرَنَا بِٱلنِّعَمِ، وَيَجْعَلَ لَنَا مَقَامًا لَدَيْهِ (يوحنّا 14: 23). وَفِي ٱلْمَجِيءِ ٱلثَّانِي، سَيَكْشِفُ ٱلسَّيِّدُ سِرَّ ٱلضِّيَافَةِ، فَيُقَلِّبُ ٱلْأَدْوَارَ: «يَتَمَنْطَقُ وَيُقَدِّمُ ٱلْخِدْمَةَ عَلَى ٱلْمَائِدَةِ» (لوقا 12: 37؛ رؤيا 3: 20).
مَرْيَمُ هِيَ مِثَالُ حَيَاةِ ٱلصَّلَاةِ وَٱلتَّأَمُّلِ. فَقَدْ جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ ٱلرَّبِّ، وَأَصْغَتْ إِلَى كَلِمَاتِهِ، وَٱخْتَارَتِ ٱلْأَمْرَ ٱلْوَاحِدَ ٱلضَّرُورِيَّ: ٱلتَّعَلُّقَ بِيَسُوعَ وَدُخُولَ ٱلشَّرِكَةِ مَعَهُ. إِنَّهُ جَوْهَرُ ٱلْخِدْمَةِ، وَٱلْمَصْدَرُ ٱلَّذِي نَسْتَمِدُّ مِنْهُ قُوَّتَنَا، وَنُطَهِّرُ بِهِ ٱلْعَالَمَ.
فِي عَالَمٍ سَرِيعِ ٱلْوَتِيرَةِ، مُمْتَلِئٍ بِٱلْمَهَامِّ وَٱلِٱنْشِغَالَاتِ، نَسْهُو نَحْنُ أَيْضًا، وَنُسْتَدْرَجُ لِنَكُونَ مِثْلَ مَرْثَا: نَخْدِمُ كَثِيرًا، نَرْكُضُ كَثِيرًا، وَنُصَلِّي قَلِيلًا. لٰكِنَّ ٱلرَّبَّ يُذَكِّرُنَا: ٱلصَّلَاةُ لَيْسَتْ هُرُوبًا مِنَ ٱلْوَاجِبِ، بَلْ هِيَ ٱلْقُوَّةُ ٱلَّتِي تَجْعَلُ ٱلْعَمَلَ مُثْمِرًا، وَٱلْقَلْبَ هَادِئًا، وَٱلْخِدْمَةَ نَابِعَةً مِنْ ٱلْحُبِّ لَا مِنَ ٱلِٱضْطِرَابِ. ٱلْمَطْلُوبُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَرْثَا وَمَرْيَمَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ: أَنْ نَخْدِمَ، وَلَكِنْ بِرُوحِ ٱلْإِصْغَاءِ. أَنْ نَعْمَلَ، وَلَكِنْ يَكُونَ مِنْبَعُنَا ٱلصَّلَاةُ. أَنْ نَسْتَقْبِلَ يَسُوعَ، وَلَكِنْ لَا نَنْسَى ٱلْجُلُوسَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. فِي هٰذَا ٱلِٱتِّحَادِ بَيْنَ ٱلصَّلَاةِ وَٱلْعَمَلِ، نَجِدُ ٱلنَّصِيبَ ٱلْأَفْضَلَ، ٱلَّذِي لَا يُنْتَزَعُ مِنَّا، وَبِهِ نُصْبِحُ لِلعَالَمِ شُهُودًا لِحُضُورِ ٱللهِ وَمَجْدِهِ فِي خِدْمَتِنَا وَصَمْتِنَا، فِي ٱلرِّعَايَةِ وَفِي ٱلتَّأَمُّلِ، فِي ٱلْحَرَكَةِ وَفِي ٱلثَّبَاتِ.
دُعَاء
يَا يَسُوع،
عَلِّمْنَا أَنْ نَخْتَارَ نَصِيبَ مَرْيَمَ،
فَنُصْغِيَ إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ نَخْدِمَكَ،
وَنُحِبَّكَ فِي ٱلصَّلَاةِ لِنَرَاكَ فِي كُلِّ مَنْ نَخْدِمُهُ.
ٱجْعَلْ مِنْ حَيَاتِنَا صَلَاةً عَامِلَةً،
وَعَمَلًا نَابِعًا مِنَ ٱلصَّلَاةِ،
كَيْ يَكُونَ قَلْبُنَا لَكَ،
وَأَيْدِينَا لِأَجْلِ إِخْوَتِنَا. آمِين.