موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ يوليو / تموز ٢٠٢٥

مَثل السَّامِري الرَّحيم ومَن قَريبي؟

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الأحَد الخَامس عَشَر من السَّنة: مَثل السَّامِري الرَّحيم ومَن قَريبي؟  (لوقا 10: 25-37)

الأحَد الخَامس عَشَر من السَّنة: مَثل السَّامِري الرَّحيم ومَن قَريبي؟ (لوقا 10: 25-37)

 

النص الإنجيلي (لوقا 10: 25-37)

 

 

25 وإِذا أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ قَد قامَ فقالَ لِيُحرِجَه: ((يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟)) 26 فقالَ له: ((ماذا كُتِبَ في الشَّريعَة؟ كَيفَ تَقرأ؟)) 27 فأَجاب: ((أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ)). 28 فقالَ لَه: ((بِالصَّوابِ أَجَبْتَ. اِعمَلْ هذا تَحْيَ)). 29 فأًرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع: ((ومَن قَريبـي؟)) 30 فأَجابَ يَسوع: ((كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إِلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص. فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت. 31 فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِناً كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى. 32 وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إِلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى. 33 ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، 34 فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه. 35 وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: ((اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي)). 36 فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟)) 37 فقال: ((الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة)). فقالَ لَه يَسوع: ((اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك)).

 

 

المُقَدِّمَةُ

 

قَدَّمَ لوقا الإنجيليُّ فِي إِنجِيلِهِ (لوقا 10: 25–37) مَثَلَ السّامِرِيِّ الرَّحيمِ، الَّذِي يُعَدُّ أَحَدَ أَشهَرِ أَمثالِ يسوعَ وَأَكثَرِها وَاقِعيَّةً، نَظَرًا لِمَا يَحمِلُهُ مِن بُعدٍ إِنسانيٍّ وَروحيٍّ عَميقٍ. فَفِي جَوابِهِ لِمُعَلِّمِ الشَّريعَةِ الَّذِي سَأَلَه: "مَن هو قَريبي؟"، يُعلِنُ يسوعُ مَفهوماً ثَوريًّا لِلأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الحُدودَ الدِّينيَّةَ وَالاجتِماعِيَّةَ وَالقَومِيَّةَ، وَيُبرِزُ أَنَّ القَرابةَ الحَقيقيَّةَ تَتَحَقَّقُ فِي الرَّحمَةِ وَالمُبَادَرَةِ إِلى المُساعَدَةِ وَالعَطاءِ، لا فِي الانتِماءِ الظَّاهِرِ أَوِ المُمارَسَاتِ الطَّقْسِيَّةِ فَقط. ويقول القِدِّيسُ إيرونيموس تعليقًا: "نَحنُ أَقرِباءُ، كُلُّ البَشَرِ أَقرِباءُ لِبَعضِهِمُ البَعض، إِذ لَنا أَبٌ واحِدٌ". فَقَريبي، بِحَسَبِ رُؤيَةِ يسوع، هُو كُلُّ إِنسانٍ يَحتَاجُ إِلى رَحمَةٍ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ العِرقِ أَوِ الجِنسِ أَوِ الدِّينِ أَوِ الانتِماءِ الجُغرافيِّ.

 

وهكذا يُعلِّمُنا الرَّبُّ أَنَّ الدِّينَ الحَقِيقِيَّ لا يَقتَصِرُ عَلى مَعرِفَةِ كَلِمَةِ اللهِ وَأَداءِ العِبادَاتِ، بَل يَتَجَسَّدُ فِي أَعمالِ الرَّحمَةِ وَالاهتِمامِ بِآلامِ الإِنسانِ وَآمالِهِ. فَهُو دَعوَةٌ لِتَجاوُزِ اللَّامُبالاةِ، وَلِجَعلِ الرَّحمَةِ وَالعَطاءِ جَوابًا حَيًّا عَلى حُضُورِ الإِنسانِ المُجروحِ فِي طَريقِنا اليَومِيّ. مِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ البَحثِ فِي وَقائِعِ هَذا النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ، لِكَي نَكتَشِفَ مَعانِيَهُ الرُّوحيَّةَ وَالتَّربَوِيَّةَ، وَنَستَخلِصَ مِنهُ دُرُوسًا وَتَطبيقاتٍ لِحيَاتِنا الرَّعَوِيَّةِ وَالإِنسانيَّةِ فِي الوَاقِعِ المُعَاشِ.

 

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 10: 25-37)

 

25 وإِذا أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ قَد قامَ فقالَ لِيُحرِجَه: يا مُعَلِّم، ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟

 

تُشيرُ عِبَارَةُ "أَحَدُ عُلَماءِ الشَّريعَةِ" فِي النَّصِّ اليونانِيِّ إلى الكَلِمَةِ νομικός (نَامُوسِيٌّ)، وَهِي تَدُلُّ عَلَى أَحَدِ المُخْتَصِّينَ فِي نَسْخِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَتَفْسِيرِهَا وَتَعْلِيمِهَا فِي المَجَامِعِ وَالمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ، وَقَدِ اتَّخَذَ دِرَاسَةَ النَّامُوسِ (أَيِ الكُتُبِ الخَمْسَةِ لِمُوسَى وَشُرُوحِهَا مِهْنَةً لَهُ (راجع لوقا 11: 45). فَالكَتَبَةُ هُم مَن يَهتَمُّونَ بِالكِتَابِ المُقَدَّسِ كُلِّهِ، بِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِن أَسْفَارِ النَّبِيِّينَ وَالمَزَامِيرِ، وَعُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ هُم فِرْقَةٌ مِن الكَتَبَةِ. وَقَد رَأَى لوقا الإِنْجِيلِيُّ فِي عَالِمِ الشَّرِيعَةِ، أَوَّلًا: مُحَارِبًا، ثُمَّ قَلْبًا مُسْتَعِدًّا وَمُحَاوِرًا حَسَنَ التَّأَهُّبِ (لوقا 10: 27–28). أَمَّا متّى الإِنْجِيلِيُّ، فَقَد رَأَى فِيهِ أَنَّهُ "قَرِيبٌ مِن مَلَكُوتِ الله" (متى 22: 35). أَمَّا عِبَارَةُ "قامَ" فَلَا تُشِيرُ إِلَى الاحْتِرَامِ، بَل إِلَى الخُبْثِ، إِذ أَضْمَرَ الشَّرَّ فِي قَلْبِهِ، فَقَد أَرَادَ أَنْ "يُجَرِّبَهُ"، لِيُوقِعَهُ فِي فَخٍّ. وَتُشِيرُ عِبَارَةُ "لِيُحرِجَهُ" (بِاليُونَانِيَّةِ: ἐκπειράζων) إِلَى مَسْعَى الكَاتِبِ لِنَصْبِ فَخٍّ لِيَسُوع، وَقَدِ اسْتُخْدِمَ هَذَا التَّعْبِيرُ نَفْسُهُ فِي وَصْفِ تَجْرِبَةِ إِبْلِيسَ لِلمَسِيحِ (πείραζω لوقا ٤: ٢).  حَمَلَ عَالِمُ الشَّرِيعَةِ صُورَةَ التَّقْوَى وَقَلْبَ إِبْلِيسَ فِي دَاخِلِهِ، لَمْ تَكُنْ نيَّتُه صَافِيَةً، بَلْ كَانَ يَسْعَى إِلَى ٱلْإِيقَاعِ بِيَسُوعَ وَٱلْتَّقْلِيلِ مِنْ شَأْنِهِ. وَإِنَّهَا لَعِبَارَةٌ قَوِيَّةٌ، تُخبِرُنَا أَنَّهُ، وَرَاءَ كَلِمَاتِ عَالِمِ الشَّرِيعَةِ وَدَاخِلَهَا، تَكْمُنُ تَجْرِبَةٌ تُعْطِي صُورَةً كَاذِبَةً عَنِ الرَّبّ؛ وَهِيَ: إِمْكَانِيَّةُ مَحَبَّةِ اللهِ وَخِدْمَتِهِ، دُونَ خِدْمَةِ الأَخِ القَرِيبِ. وَهَذَا مَا يُنَاقِضُ كَلِمَاتِ يَسُوعَ: "إِذَا قالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ الله، وَهو يُبغِضُ أَخَاهُ، كَانَ كَاذِبًا، لأَنَّ الَّذِي لا يُحِبُّ أَخَاهُ، وَهو يَرَاهُ، لا يَستَطِيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ، وَهو لا يَرَاهُ" (1 يوحنّا 4: 20). أَمَّا عِبَارَةُ "ماذا أَعملُ لِأَرِثَ الحيَاةَ الأَبَدِيَّة؟" فَتُشِيرُ إِلَى السُّؤَالِ العَمَلِيِّ الَّذِي طَرَحَهُ عَالِمُ الشَّرِيعَةِ، مُسْتَفْسِرًا مِن يَسُوعَ عَمَّا يَنبَغِي أَنْ يَفعَلَهُ لِيَرِثَ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّة، وَبِالتَّحدِيدِ: مَا هِيَ شُرُوطُ هَذِهِ الوِرَاثَةِ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ جَوْهَرِيٌّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنسَانٍ أَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَهُوَ نَفْسُ السُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ أَحَدُ الوُجَهَاءِ: "أَيُّهَا المُعَلِّمُ الصَّالِح، ماذا أَعمَلُ لِأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟" (لوقا 18: 18). فَهُوَ ٱلسُّؤَالُ نَفْسُهُ ٱلَّذِي ٱعْتَادَ كُلُّ تِلْمِيذٍ أَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى مُعَلِّمِهِ. عَالِمُ الشَّرِيعَةِ يَشْعُرُ بِالعَجْزِ عَنِ البُلُوغِ إِلَى الرَّاحَةِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالتَّمتُّعِ بِالحَيَاةِ الإِلَهِيَّةِ. وَلِذَلِكَ لَم يَقُل: "مَاذَا أَتَعَلَّم؟" أَو "بِمَاذَا أُعَلِّمُ الآخَرِينَ؟" بَل قَالَ: "ماذا أَعمل؟"وَهُوَ سُؤَالٌ يُهِمُّ كُلَّ مُؤمِنٍ بِاللهِ وَبِالحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. وَتُشِيرُ عِبَارَةُ "أَعملُ" إِلَى الوَاقِعِيَّةِ، خَاصَّةً أَنَّ هَذَا الفِعلَ يَتَكَرَّرُ فِي هَذَا المَثَلِ (لوقا 10: 28، 37). أَمَّا عِبَارَةُ "الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ" فَتُشِيرُ إِلَى حَيَاةِ اللهِ وَالمَسِيحِ فِي المُؤمِنِ المَوْلُودِ مِنَ العَلْيَا (راجع يوحنا 3: 3، 5: 24؛ 17: 3). وَهَكَذَا نَجِدُ أَنَّ فِكْرَةَ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ بَدَأَت تَظْهَرُ شَيئًا فَشَيئًا فِي العَهْدِ القَدِيمِ (دانيال ١٢: ٢)، وَقَد تَوَسَّعَت فِي العَهْدِ الجَدِيدِ وَأَصبَحَت مَحْوَرِيَّةً فِي كِرَازَةِ المَسِيحِ وَرُسُلِهِ.

 

26 فقالَ له: ماذا كُتِبَ في الشَّريعَة؟ كَيفَ تَقرأ؟

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "ماذا كُتِبَ في الشَّريعَةِ؟" إِلَى إِجَابَةِ يَسُوعَ بِتَسَاؤُلٍ مُضَادٍّ لِسُؤَالِ عَالِمِ الشَّرِيعَةِ. فَيَرُدُّ يَسُوعُ عَلَى السُّؤَالِ بِسُؤَالٍ، دَاعِيًا إِيَّاهُ لِلبَحْثِ عَن كَلِمَةِ اللهِ فِي الشَّرِيعَةِ لِلوُصُولِ إِلَى الحَيَاةِ. فَٱلْمَعْرِفَةَ ٱلْحَقِيقِيَّةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلشَّرِيعَةِ، أَيْ عَلَى مَا أَعْلَنَهُ ٱللهُ بِشَأْنِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، بَلْ تَتَطَلَّبُ أَيْضًا ٱلْتَفَاعُلَ ٱلشَّخْصِيَّ مَعَ هٰذِهِ ٱلْحَقِيقَةِ، وَٱلِٱنْفِتَاحَ عَلَى ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْمَحَبَّةِ، كَمَا أَظْهَرَهُمَا ٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ فِي مَثَلِ ٱلرَّبِّ. فَٱلشَّرِيعَةُ تُعْطِينَا ٱلْوَصِيَّةَ، وَلٰكِنَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ تَبْدَأُ عِنْدَمَا نَجْسُرُ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلْخِدْمَةِ، حَتَّى لِمَنْ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ نَعْتَبِرُهُ غَرِيبًا أَوْ عَدُوًّا. هٰكَذَا تَصِيرُ ٱلْمَعْرِفَةُ عَمَلًا، وَٱلْإِيمَانُ حَيَاةً، وَتُتَرْجَمُ ٱلْوَصِيَّةُ إِلَى ٱلرَّحْمَةِ ٱلْمُتَجَسِّدَةِ فِي ٱلْعَمَلِ.  وَبِهَذَا يُلزِمُ يَسُوعُ عَالِمَ الشَّرِيعَةِ بِاتِّخَاذِ مَوقِفٍ وَإِعْطَاءِ جَوَابٍ عَلَى مُستَوًى عَمَلِيٍّ، فَصَارَ السَّائِلُ مَسؤولًا! وَفِي هَذَا يُشِيرُ يَسُوعُ إِلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لَيْسَتْ سُؤَالًا يُجِيبُ عَنهُ الآخَرُونَ، بَل عَلَى الإِنْسَانِ نَفْسِهِ أَنْ يُجِيبَ عَنهُ. أَمَّا عِبَارَةُ "الشَّرِيعَةِ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: νόμος، وَفِي العِبْرِيَّةِ: תּוֹרָה (تُورَاه، وَمَعْنَاهَا: "تَعْلِيمٌ")، فَتُشِيرُ إِلَى المَجْمُوعَةِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يُنسَبُهَا تَقْلِيدُ العَهْدِ القَدِيمِ إِلَى مُوسَى النَّبِيِّ. وَاسْتِنَادًا إِلَى هَذَا المَعْنَى التَّقْلِيدِيِّ فِي اليَهُودِيَّةِ، يُطلِقُ العَهْدُ الجَدِيدُ اسْمَ "الشَّرِيعَةِ" عَلَى النِّظَامِ كُلِّهِ الَّذِي كَانَ هَذَا التَّشْرِيعُ يُشَكِّلُ الجُزْءَ الأَسَاسِيَّ فِيهِ (راجع رومة 5: 2)، وَذَلِكَ تَميِيزًا لَهُ عَنْ تَدْبِيرِ النِّعْمَةِ الَّذِي أَسَّسَهُ يَسُوعُ المَسِيحُ (رومة 6: 15؛ يوحنا 1: 17). ومَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ العَهْدَ الجَدِيدَ يَتَحَدَّثُ أَيْضًا عَنْ "شَرِيعَةِ المَسِيحِ" (غَلاطِيَّة 6: 2). وَمِن هَذَا المُنطَلَقِ، يُمَيِّزُ اللَّاهُوتُ المَسِيحِيُّ بَيْنَ العَهْدَيْنِ، فَيُسَمِّيهِمَا: "الشَّرِيعَةَ القَدِيمَةَ" وَ"الشَّرِيعَةَ الجَدِيدَةَ". إِلَّا أَنَّهُ فِي تَغْطِيَةِ مَجْمُوعِ تَارِيخِ الخَلَاصِ، يَعْتَرِفُ، فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ، بِوُجُودِ نِظَامٍ ثَالِثٍ، هُوَ: "الشَّرِيعَةُ الطَّبِيعِيَّةُ" (رومة 2: 14–15)، وَهِيَ شَرِيعَةٌ تَصْلُحُ لِكُلِّ النَّاسِ، الَّذِينَ عَاشُوا أَو يَعِيشُونَ عَلى هَامِشِ الشَّرِيعَتَيْنِ: القَدِيمَةِ وَالجَدِيدَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "كَيفَ تَقرأ؟" فَتُشِيرُ إِلَى سُؤَالٍ اصْطَلَحَ عَلَيهِ الرَّبَّانِيُّونَ عِنْدَمَا كَانُوا يَسْأَلُونَ تَلامِيذَهُمْ عَمَّا قَرَأُوهُ مِن كَلِمَاتِ التَّوْرَاةِ.  وَهٰذَا ٱلسُّؤَالُ يَتَطَلَّبُ فَهْمًا عَمِيقًا لِطَرِيقَةِ ٱلْقِرَاءَةِ: أَيۡ بِأَيِّ قَلْبٍ وَبِأَيِّ نَظْرَةٍ نَتَعَامَلُ مَعَهَا. فَٱلْكَلِمَةُ ٱلْإِلَهِيَّةُ لَيْسَتْ نَصًّا نَقْرَؤُهُ فَقَطْ بِٱلْعَقْلِ، بَلْ هِيَ رِسَالَةٌ نَسْتَقْبِلُهَا بِٱلْقَلْبِ، وَنَظْرَةٌ نَتَأَمَّلُهَا فِي نُورِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. فَكَيْفَ نَقْرَأُ؟ أَبِعُيُونِ ٱلشَّرِيعَةِ ٱلْجَافَّةِ؟ أَمْ بِنَظَرِ ٱلرَّحْمَةِ ٱلَّتِي تَسْكُنُ قَلْبَ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ؟ إِنَّ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ تَطْلُبُ ٱلْإِصْغَاءَ أَكْثَرَ مِمَّا تَطْلُبُ ٱلتَّفَحُّصَ، وَتَحْتَاجُ إِلَى ٱلِٱنْفِتَاحِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلْحِذْقِ. لِذٰلِكَ، مَنْ يَقْرَأُ بِٱلرَّغْبَةِ فِي ٱلْخِدْمَةِ، يَفْهَمُ أَعْمَقَ مِمَّنْ يَقْرَأُ لِيَمْتَحِنَ وَيُحَاجِجَ. وَيُؤَكِّدُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُس: "لَيْسَ مَن يَسْمَعُ كَلِمَةَ ٱللّٰهِ بَلْ مَن يُطِيعُهَا، هُوَ ٱلَّذِي يَفْهَمُهَا." وَبِالمِثْلِ، يَطْرَحُ يَسُوعُ هَذَا السُّؤَالَ لِيُلْزِمَ مُحَاوِرَهُ بِاتِّخَاذِ مَوقِفٍ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ يَسْتَنِدُ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ، وَتَجْسِيدِهَا فِي الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ. ونَحنُ، كَيفَ نَقرأ؟  هَل نَقْرَأُ لِلْمَعْلُومَاتِ فَقَط؟ أَم لِمَعْرِفَةِ المَسِيحِ الَّذِي يَشْفِي طَبِيعَتَنَا وَيَقُودُنَا إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ؟

 

27 فأَجاب: أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ.

 

"عبارة  "فَأَحْبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَكُلِّ نَفْسِكَ، وَكُلِّ قُوَّتِكَ"، تُشِيرُ إِلَى إِجَابَةِ عَالِمِ الشَّرِيعَةِ عَلَى سُؤَالِ يَسُوعَ بِالرُّجُوعِ إِلَى جَوْهَرِ الشَّرِيعَةِ كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ ٱلِٱشْتِرَاعِ  (6: 5) فَقَدْ أَظْهَرَ عَالِمُ الشَّرِيعَةِ بِهَذَا ٱلْجَوَابِ قُوَّةَ إِدْرَاكِهِ خُلاصَةَ ٱلشَّرِيعَةِ، وَبَلَاغَتَهُ فِي ٱلْإِيجَازِ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يَذْكُرَ ٱلْأَوَامِرَ وَٱلنَّوَاهِي تَفْصِيلًا. فَقَدْ بَدَا أَنَّ مَعْرِفَتَهُ لِلشَّرِيعَةِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ نَفْسَهُ. وَقَدْ عَرَفَ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ هَذَا ٱلْجَوَابَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فِيمَا ٱلْتَزَمَ يَسُوعُ بِأَنْ يُجِيبَ عَالِمَ شَرِيعَةٍ آخَرَ كَانَ فِي أُورَشَلِيمَ بِقَوْلِهِ: "أَحْبِبِ ٱلرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَكُلِّ نَفْسِكَ، وَكُلِّ ذِهْنِكَ. تِلْكَ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلْكُبْرَى وَٱلْأُولَى. وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: أَحْبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (متى 22: 37–39). أَمَّا عِبَارَةُ "بِكُلِّ قَلْبِكَ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْعِبْرِيِّ בְּכָל־לְבָבְךָ، تُشِيرُ إِلَى ٱلْقَلْبِ ٱلَّذِي هُوَ مَرْكَزُ ٱلْحَيَاةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَكُلِّ نَفْسِكَ" בְּכָל־נַפְשֶׁךָ، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلنَّفْسِ ٱلَّتِي هِيَ مَرْكَزُ ٱلْإِحْسَاسِ وَٱلتَّأَثُّرِ، وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى فِعْلِ ٱلْعِبَادَةِ.  وَعِبَارَةُ "وَكُلِّ قُوَّتِكَ" تُشِيرُ إِلَى ٱلْقُدْرَةِ ٱلَّتِي هِيَ مَرْكَزُ ٱلْإِرَادَةِ، وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى ٱلطَّاعَةِ وَٱلْخُضُوعِ.  أَمَّا عِبَارَةُ "وَكُلِّ ذِهْنِكَ" فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْفِكْرِ، وَهُوَ مَرْكَزُ ٱلْقُوَّةِ ٱلْعَامِلَةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ٱلتَّأَمُّلِ وَفِعْلِ ٱلْإِيمَانِ ٱلثَّابِتِ وَٱلْعَامِلِ بِٱلْمَحَبَّةِ. وَهَذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ هِيَ مُمْكِنَةٌ بِحَسَبِ تَعْلِيمِ مُوسَى ٱلنَّبِيِّ، لِأَنَّ شَرِيعَةَ إِلهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْضُوعَةٌ فِي "ٱلْقَلْبِ" وَعَلَى "ٱلشَّفَتَيْنِ"، كَمَا جَاءَ فِي ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ: "ٱلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ جِدًّا، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ لِتَعْمَلَ بِهَا" (تثنية 30: 14). مِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّهُ لِنُتَمِّمَ شَرِيعَةَ ٱلرَّبِّ، نَحْنُ مُطَالَبُونَ بِٱلرُّجُوعِ إِلَى ذَوَاتِنَا بِشَكْلٍ أَعْمَقَ، أَي إِلَى قُلُوبِنَا وَشِفَاهِنَا، لِنُجَسِّدَ مَا فِي ٱلْقَلْبِ عَبْرَ ٱلشِّفَاهِ. وَفِي هَذَا ٱلصَّدَدِ يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "فَإِذَا شَهِدْتَ بِفَمِكَ أَنَّ يَسُوعَ رَبٌّ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللَّهَ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ ٱلْأَمْوَاتِ، نِلْتَ ٱلْخَلَاصَ" (رومة 10: 9). أَمَّا عِبَارَةُ "أَحْبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلرُّجُوعِ إِلَى جَوْهَرِ ٱلشَّرِيعَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ ٱلْأَحْبَارِ(19: 18).  وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ ٱللَّهِ وَمَحَبَّةَ ٱلْقَرِيبِ لَيْسَتْ مَوْضُوعًا جَدِيدًا، بَلْ هِيَ قِسْمٌ أَصِيلٌ فِي ٱلْعَهْدِ ٱلْقَدِيمِ، وَرِسَالَةُ يَسُوعَ مُؤَسَّسَةٌ أَوَّلًا عَلَى ٱلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَحَدَّثَ عَنْهَا بِإِفَاضَةٍ (متى 19: 16–22). فَٱلْعَهْدُ ٱلْقَدِيمُ يُمَهِّدُ لِرِسَالَةِ يَسُوعَ، وَٱلْمَحَبَّةُ هِيَ أَسَاسُ ٱلْدِّيَانَةِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ، إِذْ قَالَ ٱلرَّسُولُ يُوحَنَّا: "ٱللَّهُ مَحَبَّةٌ" (1 يوحنا 4: 8). وَإِنَّ رَبْطَ مَحَبَّةِ ٱللَّهِ بِمَحَبَّةِ ٱلْقَرِيبِ يَظْهَرُ فِي سُؤَالِ يُوحَنَّا ٱلرَّسُولِ:"إِذَا قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ ٱللَّهَ، وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، كَانَ كَاذِبًا، لِأَنَّ ٱلَّذِي لَا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ ٱللَّهَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ" (1 يوحنا 4: 20). وَيَظْهَرُ هُنَا كَيْفَ أَنَّ ٱلْعَهْدَ ٱلْقَدِيمَ مَهَّدَ بِٱلْفِعْلِ لِرِسَالَةِ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلَّتِي أَتَى بِهَا ٱلْمَسِيحُ.

 

28 فقالَ لَه: بِالصَّوابِ أَجَبْتَ. اِعمَلْ هذا تَحْيَ.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ" إِلَى مُوَافَقَةِ يَسُوعَ ٱلْإِيجَابِيَّةِ لِعَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ، إِذْ وَجَدَ فِيهِ مُحَاوِرًا حَسَنَ ٱلتَّأَهُّبِ، بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ هَدَفَ عَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ كَانَ أَنْ يُجَرِّبَ يَسُوعَ. وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَصُدَّهُ يَسُوعُ، بَلْ مَدَحَهُ قَائِلًا: "بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ". وَإِجَابَةُ عَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ قَادَتْ يَسُوعَ لِلتَّرْكِيزِ عَلَى مَضْمُونِ ٱلشَّرِيعَةِ، ٱلَّتِي تَتَعَلَّقُ بِأَبْعَادِ ٱلْإِنْسَانِ ٱلْعَمِيقَةِ: ٱلْقَلْبِ، وَٱلرَّغْبَةِ، وَٱلْعَقْلِ، كَمَا وَرَدَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ ٱلِٱشْتِرَاعِ (30: 10–14).. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱعْمَلْ هذَا تَحْيَ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ ٱلْعَمَلَ عَلَى هَذَا ٱلْأُسْلُوبِ يُشَكِّلُ عَلاَمَةً عَلَى نَيْلِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ، لِأَنَّ مَنْ يُحِبُّ ٱللهَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُحِبُّ قَرِيبَهُ كَنَفْسِهِ، يَكُونُ مِمَّنْ نَشَأَتْ فِي قَلْبِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ. وَقَدْ خَاطَبَ يَسُوعُ عَالِمَ ٱلشَّرِيعَةِ بِكَلِمَاتِ ٱلشَّرِيعَةِ، تَمْهِيدًا لِكَلِمَاتِ ٱلْإِنْجِيلِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "فَصَارَتِ ٱلشَّرِيعَةُ لَنَا حَارِسًا يَقُودُنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ لِنُبَرَّرَ بِٱلْإِيمَانِ" (غَلاطِيَّة 3: 24).  وَفِي ٱلْوَاقِعِ، فَإِنَّ حَيَاةَ ٱلْإِيمَانِ تَتَكَوَّنُ مِنَ ٱلْمُمَارَسَةِ ٱلْمُسْتَمِرَّةِ لِأَعْمَالِ ٱلْمَحَبَّةِ، وَلَا تَبْقَى عَلَى مُسْتَوَى ٱلْكَلَامِ. وَمِنْ هذَا ٱلْمَنْطَلَقِ، تُرَكِّزُ وَصِيَّةُ ٱلشَّرِيعَةِ عَلَى مَبْدَإِ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْكِيَانِيَّةِ، أَيِ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْعَامِلَةِ، أَو ٱلْإِيمَانِ ٱلْعَامِلِ بِٱلْمَحَبَّةِ، وَهَذَا هُوَ ٱلْعَمَلُ ٱلْأَسَاسِيُّ ٱلَّذِي يُسَاعِدُ عَلَى خَلَاصِ ٱلْإِنْسَانِ وَنَيْلِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ. وَنَجِدُ جَوَابًا مُمَاثِلًا، حِينَ سَأَلُوا ٱلْمَسِيحَ: "مَاذَا نَعْمَلُ لِنَقُومَ بِأَعْمَالِ ٱلله؟" فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: "عَمَلُ ٱللهِ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمَنْ أَرْسَلَ" (يوحنا 6: 28–29). وَ"ٱلْمَحَبَّةُ هِيَ كَمَالُ ٱلشَّرِيعَةِ (رومة 13: 10). فَٱلمَسِيحِيَّةُ لَيْسَتْ أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ خَارِجِيَّةً فَقَطْ، بَلْ هِيَ عَلَاقَةٌ دَاخِلِيَّةٌ حَيَّةٌ بِٱللَّهِ، تَنْبُعُ مِنَ ٱلْقَلْبِ وَتَمْتَدُّ إِلَى ٱلْآخَرِينَ. وَفِي هٰذَا ٱلسِّيَاقِ، يَقُولُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ: "ٱلإِيمَانُ ٱلْعَامِلُ بِٱلْمَحَبَّةِ" (غَلَاطِيَةَ ٥: ٦)، فَٱلْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ شُعُورًا لَحْظِيًّا، بَلْ قَرَارٌ يَوْمِيٌّ بِٱلتَّقَدُّمِ نَحْوَ ٱلْآخَرِ، وَخِدْمَتِهِ، وَغُفْرَانِهِ، وَإِعَانَتِهِ.

 

29 فأًرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع: ومَن قَريبـي؟

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَه" إِلَى ٱلْكَاتِبِ ٱلَّذِي أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَه، أَو بِٱلْأَحْرَى أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ بِٱلْخَيْرِ، وَٱلطَّهَارَةِ مِنَ ٱلْمَعَاصِي وَٱلرَّذَائِلِ، وَيَمْدَحَهَا، وَكَأَنَّهُ يُمَنُّ عَلَى ٱللَّهِ. فَيَقُولُ: "إِنَّنِي حَفِظْتُ ٱلْوَصَايَا"، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ جَادٌّ فِي بَحْثِهِ. يُحَاوِلُ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ أَنْ يُجَرِّبَ يَسُوعَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُحَاوِلُ تَبْرِيرَ نَفْسِهِ. إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ سُؤَالٍ يُمْنَحُ فِيهِ ٱلْيَقِينُ بِأَنَّهُ بَارٌّ وَمُبَرَّرٌ. أَمَّا عِبَارَةُ "وَمَنْ قَرِيبِي؟"، فَتُشِيرُ إِلَى سُؤَالٍ حَوْلَ هُوِيَّةِ ٱلْقَرِيبِ، لِأَنَّ آراءَ ٱلْعُلَمَاءِ فِي ذٰلِكَ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً جِدًّا. فَعَلَى ٱلأَرْجَحِ، كَانَ يَقْتصرُ لَفْظَ "ٱلْقَرِيبِ" عَلَى "أَخِيهِ" ٱلْإِسْرَائِيلِيِّ، وَبِٱلتَّحْدِيدِ عُضْوٍ مِنْ شَعْبِهِ (خُرُوج 20: 16–17). فَـ"ٱلْقَرِيبُ"، بِحَسَبِ تَعْلِيمِ آبَاءِ ٱلْيَهُودِ، كَانَ هُوَ ٱلْيَهُودِيَّ فَقَط. وَهُنَا يَجِبُ أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ تَعْلِيمِ ٱلتَّوْرَاةِ وَتَفْسِيرِ هٰذِهِ ٱلتَّعَالِيمِ عِنْدَ آبَاءِ ٱلْيَهُودِ. فَقَدْ كَانَ ٱلْيَهُودُ مُتَعَصِّبِينَ لِجِنْسِهِمْ وَقَوْمِيَّتِهِمْ، فَٱعْتَبَرُوا أَنَّهُمْ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ يُبْغِضُ بَقِيَّةَ ٱلشُّعُوبِ، وَيُسَمُّونَ غَيْرَهُم "كِلَابًا"، وَلَا يَعْتَرِفُونَ حَتَّى بِٱلسَّامِرِيِّينَ، مَعَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبٍ يَهُودِيٍّ، لِأَنَّهُمْ ٱعْتَبَرُوهُمْ غُرَبَاءَ ٱلْجِنْسِ. فَقَرِيبُ ٱلْيَهُودِيِّ كَانَ ٱلْيَهُودِيَّ فَقَط، وَبَقِيَّةُ ٱلنَّاسِ يُعْتَبَرُونَ أَعْدَاءَ لَهُ. وَلِذٰلِكَ، يَسْأَلُ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ قَائِلًا: "وَمَنْ قَرِيبِي؟"، وَلٰكِنَّ غَايَتَهُ ٱلْحَقِيقِيَّةَ هِيَ أَنْ يَجُرَّ يَسُوعَ إِلَى نِقَاشَاتٍ لَا تَنْتَهِي، وَلَيْسَتْ ذَاتَ فَائِدَةٍ عَمَلِيَّةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "قَرِيبِي"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ πλησίον، وَفِي ٱللُّغَةِ ٱلْعِبْرِيَّةِ (רֵעִי)، فَمَعْنَاهَا "ٱلنَّسِيبُ أَوِ ٱلْجَارُ"، وَتُشِيرُ إِلَى فِكْرَةِ ٱلْمُشَارَكَةِ وَٱلْمُعَاشَرَةِ. وَفِي ٱللَّحْظَةِ ٱلَّتِي يَتِمُّ فِيهَا ٱلِٱلْتِقَاءُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، يُصْبِحُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَرِيبًا لِلآخَرِ، بِغَضِّ ٱلنَّظَرِ عَنْ ٱلْقَرَابَةِ ٱلْجَسَدِيَّةِ، أَوْ عَنْ ٱلْتَّصَوُّرَاتِ ٱلْمُسْبَقَةِ. وَإِنْ كَانَ أُفُقُ ٱلشَّرِيعَةِ لَمْ يَتَعَدَّ قَطُّ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ فَٱلْقَرِيبُ هُوَ ٱلْأَخُ أَوِ ٱلنَّسِيبُ (خُرُوج 18: 7)، أَوِ ٱلصَّدِيقُ (أمثال 27: 9)، أَوْ عُضْوٌ فِي ٱلشَّعْبِ ٱلْإِسْرَائِيلِيِّ (خروج 2: 13) – إِلَّا أَنَّ يَسُوعَ وَسَّعَ دَائِرَةَ ٱلْقَرِيبِ، فَجَعَلَهُ كُلَّ إِنْسَانٍ وَاقِعٍ فِي شِدَّةٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَدُوًّا. فَهٰذَا ٱلْإِنْسَانُ ٱلْمُتَأَلِّمُ يُصْبِحُ نِدَاءً إِلَيَّ لِأُصْبِحَ قَرِيبًا لَهُ، لِأَنَّ ٱللهَ نَفْسَهُ أَصْبَحَ قَرِيبًا لِلْإِنْسَانِ (خُرُوج 33: 11)، وَخُصُوصًا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، كَمَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ بُولُسَ ٱلرَّسُولِ: "إِنَّ ٱلْكَلَامَ بِٱلْقُرْبِ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ" (رومة 10: 8).

 

30 فأَجابَ يَسوع: كانَ رَجُلٌ نازِلاً مِن أُورَشَليم إلى أَريحا، فوقَعَ بِأَيدي اللُّصوص. فعَرَّوهُ وانهالوا علَيهِ بِالضَّرْب. ثمَّ مَضَوا وقد تَركوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيْت.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "أَجَابَ يَسُوعُ" إِلَى رَدِّ يَسُوعَ غَيْرِ ٱلْمُبَاشِرِ عَلَى سُؤَالِ عَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ، دَاعِيًا إِيَّاهُ إِلَى ٱلْإِجَابَةِ بِنَفْسِهِ، بِٱلْبَحْثِ فِي ٱلشَّرِيعَةِ ٱلَّتِي هُوَ مُعَلِّمُهَا، وَذٰلِكَ عَنْ طَرِيقِ ضَرْبِ مَثَلٍ. وَلَيْسَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ تَشْبِيهًا فَقَط، بَلْ مِثَالًا يُصَوِّرُ لَنَا مَوْقِفًا يُقْتَدَى بِهِ. وَمِنَ ٱلْمُرَجَّحِ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْ وَاقِعِ ٱلْحَيَاةِ، لِأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ لِيُعَرِّضَ ٱلْكَاهِنَ وَٱللَّاوِيَّ لِتُهْمَةِ قَسَاوَةِ ٱلْقَلْبِ لَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَادِثَةٌ تُبَرِّرُ هٰذَا ٱلِٱتِّهَامَوَٱلْمَثَلُ ٱلَّذِي ضَرَبَهُ يَسُوعُ هُوَ تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ وَحَقِيقِيٌّ لِشَرِيعَةِ ٱلْمَحَبَّةِأَمَّا عِبَارَةُ "رَجُلٌ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἄνθρωπος (مَعْنَاهَا: إِنْسَانٌ)، فَتُشِيرُ إِلَى إِنْسَانٍ دُونَ ٱلْإِشَارَةِ إِلَى هُوِيَّتِهِ، أَوْ قَوْمِيَّتِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ ٱتِّجَاهَاتِهِ، وَمَبَادِئِهِ، إِذْ لَدَيْهِ حُقُوقٌ وَوَاجِبَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ نَحْوَ إِخْوَتِهِ ٱلْبَشَرِ، لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ إِنْسَانٌ. وَيَرَى ٱلْبَعْضُ أَنَّهُ يُرْمِزُ إِلَى آدَمَ، وَبِالتَّالِي إِلَى ٱلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ سَاوِيرُسُ قَائِلًا: "لَمْ يَقُلْ مُخَلِّصُنَا: أُنَاسٌ كَانُوا نَازِلِينَ، بَلْ قَالَ: إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلًا. إِنَّ ٱلْمَسْأَلَةَ تَخُصُّ ٱلْبَشَرِيَّةَ جَمْعَاءَ".  أَمَّا عِبَارَةُ "نَازِلًا مِنْ أُورَشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱنْحِدَارِ ٱلطَّرِيقِ بِحَوَالِي 1000 مِتْرٍ عَلَى مَسَافَةٍ تُقَارِبُ 25 كِيلُومِتْرًا، مِنْ قِمَّةِ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ فِي أُورَشَلِيمَ، وَحَتَّى غَرْبِ نَهْرِ ٱلْأُرْدُنِّ، عَلَى مَسَافَةِ 8 كِيلُومِتْرَاتٍ. وَتَسْتَغْرِقُ هٰذِهِ ٱلطَّرِيقُ نَحْوَ سَبْعِ سَاعَاتٍ مَشْيًا عَلَى ٱلْأَقْدَامِ، وَتَمُرُّ فِي مَمَرَّاتٍ ضَيِّقَةٍ، وَتَكْثُرُ فِيهَا ٱلْكُهُوفُ وَقُطَّاعُ ٱلطُّرُقِ، حَتَّى إِنَّهَا سُمِّيَت "ٱلطَّرِيقَ ٱلْحَمْرَاءَ" أَو "ٱلدَّمَوِيَّةَ".  وَأَرِيحَا هِيَ مَدِينَةُ ٱللَّعْنَةِ (يَشُوع 6: 26)، وَتُرْمِزُ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلْمَلْعُونَةِ بِسَبَبِ ٱلْخَطِيئَةِ (تَكْوِين 3: 17)، فَهِيَ رَمْزٌ لِلشَّرِّ، فِي حِينِ أَنَّ أُورَشَلِيمَ هِيَ رَمْزٌ لِلْفِرْدَوْسِ وَلِلسَّعَادَةِ ٱلَّتِي تَأْتِي مِنَ ٱلْعَلَاءِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُورَشَلِيمَ" فَتُشِيرُ إِلَى مَكَانِ ٱلسَّلَامِ مَعَ ٱللَّهِ وَٱلْحَيَاةِ مَعَهُ. وَبِسَبَبِ خَطِيئَةِ آدَمَ، نَزَلَ مِنْ "أُورَشَلِيمَ". أَمَّا عِبَارَةُ "أَرِيحَا"، فَبِٱلْعِبْرِيَّةِ (יְרִיחוֹ)، وَمَعْنَاهَا "مَدِينَةُ ٱلْقَمَرِ" أَو "مَكَانُ ٱلرَّوَائِحِ ٱلْعَطِرَةِ"، وَتُشِيرُ إِلَى أَرْضِ ٱلشَّقَاءِ ٱلَّتِي نَزَلَ إِلَيْهَا آدَمُ. وَفِي عَهْدِ ٱلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ، كَانَتْ فِرْقَةٌ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ تَسْكُنُ أَرِيحَا، وَكَانُوا يُسَافِرُونَ كَثِيرًا فِي هٰذِهِ ٱلطَّرِيقِ بَيْنَ أُورَشَلِيمَ وَأَرِيحَا (لوقا 10: 30–31). فِي أَرِيحَا، أَعَادَ يَسُوعُ ٱلْبَصَرَ إِلَى بَرْطِيمَاوُسُ ٱلْأَعْمَى (مرقس 10: 46)، وَزَارَ بَيْتَ زَكَّا ٱلْعَشَّارِ (لوقا 19: 1–10).  أَمَّا عِبَارَةُ "فَوَقَعَ بِأَيْدِي ٱللُّصُوصِ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ ٱلرَّجُلَ سَقَطَ فِي بَيْنَ أَشْرَارٍ يَكْمُنُونَ فِي ٱلْكُهُوفِ وَٱلْوِدْيَانِ، وَيُهَدِّدُونَ حَيَاةَ ٱلْمُسَافِرِينَ.  "فَعَرَّوْهُ" تُظْهِرُ قَسَاوَتَهُمْ، إِذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِسَرِقَتِهِ، بَلْ جَرَّدُوهُ مِنْ ثِيَابِهِ، فَأَفْقَدُوهُ كَرَامَتَهُ. "ٱنْهَالُوا عَلَيْهِ بِٱلضَّرْبِ" تُفِيدُ بِأَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ بِعُنْفٍ، لِيَمْنَعُوهُ مِنَ ٱلْمُقَاوَمَةِ، وَحَتَّى لَا يُتَابِعَهُمْ. "ثُمَّ مَضَوْا" تُشِيرُ إِلَى لَا مُبَالَاتِهِمْ بِمَوْتِهِ أَوْ حَيَاتِهِ. عبارة "بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ " تُظْهِرُ أَنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ كَانَ فِي حَالَةٍ مُحْتَضَرَةٍ: حَيٌّ جَسَدِيًّا، وَلٰكِنْ عَاجِزٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُسَاعِدُهُ، وَإِلَّا فَٱلْمَوْتُ مَحْتُومٌ.

 

31 فاتَّفَقَ أَنَّ كاهِناً كانَ نازِلاً في ذلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَاتَّفَقَ" إِلَى عَدَمِ وُجُودِ قَصْدٍ مُسْبَقٍ أَدَّى إِلَى ٱلْاِعْتِنَاءِ بِٱلْجَرِيحِ؛ فَٱللِّقَاءُ حَدَثَ بِٱلصُّدْفَةِ، بِلَا تَرْتِيبٍ مُسْبَقٍ. أَمَّا "كَاهِنًا" (فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἱερεύς، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ ٱلِاسْمِ ٱلْعِبْرِيِّ כּהֵן)، فَتُشِيرُ إِلَى خَادِمِ ٱلدِّينِ ٱلْمُخَصَّصِ لِتَقْدِيمِ ٱلذَّبَائِحِ وَتَقْرِيبِ ٱلْخُبْزِ. وَكَانَ كُلُّ ذَكَرٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ كَاهِنًا (2 أَخْبَار 26: 18)، بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِ أَيُّ عَيْبٍ أَوْ تَشْوِيهٍ جَسَدِيٍّ. وَكَانَ ٱلْبِكْرُ فَقَط هُوَ ٱلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَاهِنًا عَظِيمًا. وَقَسَّمَ دَاوُدُ ٱلْكَهَنَةَ إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِرْقَةً: سِتَّ عَشْرَةَ مِنْ عَائِلَةِ أَلِعَازَار، وَثَمَانٍ مِنْ عَائِلَةِ إِيثَامَار (1 أَخْبَار 24: 4). وَكَانَتْ هٰذِهِ ٱلْفِرَقُ تُبَاشِرُ وَظَائِفَهَا بِٱلتَّنَاوُبِ، تُبَدَّلُ كُلَّ سَبْتٍ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ فِرْقَةٍ أَنْ تَخْدِمَ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلسَّنَةِ. وَيَبْدُو أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ ٱلسَّبْيِ حَدَثَ ٱخْتِلَافٌ فِي أَمْرِ هٰذِهِ ٱلْفِرَقِ، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا عَادَ مَعَ زَرُبَّابِل 4289 كَاهِنًا، كَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَرْبَعِ فِرَقٍ فَقَط (عَزْرَا 2: 36–39؛ نَحِمْيَا 7: 39–42). وَكَانَتْ وَاجِبَاتُ ٱلْكَهَنَةِ تَشْمَلُ: ٱلذَّبَائِحَ ٱلْيَوْمِيَّةَ وَٱلْأُسْبُوعِيَّةَ وَٱلشَّهْرِيَّةَ وَٱلسَّنَوِيَّةَ؛ ٱلْمُسَاهَمَةَ فِي ٱلِٱحْتِفَالَاتِ وَٱلتَّطْهِيرِ؛ ٱلْعِنَايَةَ بِٱلْآنِيَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ وَٱلنَّارِ وَٱلْمَنَارَةِ ٱلذَّهَبِيَّةِ وَأَثَاثِ ٱلْمَقْدِسِ؛ ٱلضَّرْبَ بِٱلْأَبْوَاقِ، وَحَمْلَ تَابُوتِ ٱلْعَهْدِ؛ ٱلْقَضَاءَ فِي دَعَاوِي ٱلْغَيْرَةِ؛ تَقْدِيرَ ٱلْمَالِ لِلٱفْتِدَاءِ، وَفَحْصَ ٱلْبُرْصِ؛ تَفْسِيرَ ٱلنَّامُوسِ لِلشَّعْبِ، وَٱسْتِشَارَةَ ٱللَّهِ بِٱلْأُورِيمِ وَٱلتُّمِّيمِ (خُرُوج 28: 30؛ عَزْرَا 2: 63).

وَمَعَ ذٰلِكَ، فَٱلْكِتَابُ ٱلْمُقَدَّسُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا أَهْمَلُوا هٰذِهِ ٱلْوَاجِبَاتِ (2 أَخْبَار 17: 7–10). وَكَانَتْ أَرِيحَا مَقَامًا لِكَثِيرٍ مِنَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱللَّاوِيِّينَ حِينَ فَرَاغِهِمْ مِنْ خِدْمَةِ ٱلْهَيْكَلِ. فَٱلْكَاهِنُ فِي ٱلْمَثَلِ، يُمَثِّلُ ٱلْمُشْرِفَ عَلَى تَقْدِيمِ ٱلْقَرَابِينِ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَيُرْمِزُ إِلَى ٱلشَّرِيعَةِ فِي تَارِيخِ ٱلْخَلَاصِ.  أَمَّا عِبَارَةُ "فَرَآهُ فَمَالَ عَنْهُ وَمَضَى"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ ٱلْكَاهِنَ تَعَامَلَ مَعَ ٱلرَّجُلِ ٱلْمَجْرُوحِ كَمُشْكِلَةٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا، إِذْ لَمْ يَرَ رَابِطًا بَيْنَ ٱلدِّينِ وَٱلْخِدْمَةِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ. فَكَانَ ٱلدِّينُ فِي نَظَرِهِ مُجَرَّدَ طُقُوسٍ وَمَرَاسِيمَ، وَلَمْ تَكُنِ ٱلرَّحْمَةُ جُزْءًا مِنْ مَفْهُومِهِ لِعِبَادَةِ ٱللَّهِ. وَيُرْمِزُ ٱلْكَاهِنُ إِلَى ٱلشَّرِيعَةِ، وَٱلشَّرِيعَةُ – وَإِنْ كَانَتْ تُظْهِرُ لِي خَطِيئَتِيفَهِيَ لَا تُشْفِي جُرُوحِي، بَلْ تُظْهِرُ حَاجَتِي إِلَى ٱلرَّحْمَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَالَ عَنْهُ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἀντιπαρῆλθεν، وَمَعْنَاهَا: جَازَ مُقَابِلَهُ، أَيْ قَامَ بِـ"حَرَكَةٍ ٱلْتِفَافِيَّةٍ"، لِيَتَجَنَّبَ ٱلْإِنْسَانَ ٱلْمَلْقَى عَلَى ٱلْأَرْضِ. وَٱلْأَسْبَابُ ٱلْمُحْتَمَلَةُ: أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ مَوْعِدِهِ؛ أَنْ لَا يُكَلِّفَ نَفْسَهُ مَشَقَّةً أَوْ نَفَقَةً؛ أَنْ يَتَجَنَّبَ ٱلنَّجَاسَةَ ٱلطَّقْسِيَّةَ إِنْ كَانَ ٱلْجَرِيحُ مَيِّتًا؛ أَنْ يَتَّقِي ٱلشُّبْهَاتِ لِئَلَّا يُتَّهَمَ بِجِرْمٍ لَمْ يَرْتَكِبْهُ. وَهُوَ فِي ذٰلِكَ نَسِيَ قَوْلَ ٱللَّهِ: "فَإِنِّي أُرِيدُ ٱلرَّحْمَةَ لَا ٱلذَّبِيحَةَ" (هُوشَع 6: 6).

لَمْ يَرْتَكِبِ ٱلْكَاهِنُ شَرًّا، وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ خَيْرًا. ٱكْتَفَى بِٱللَّامُبَالَاةِ، وَهٰذِهِ فِي ٱلْحَقِيقَةِ أَحَدُ أَشْكَالِ ٱلْخَطِيئَةِ ٱلْمُقَنَّعَةِ. فَتَجَنُّبُ ٱلشَّرِّ لَا يَكْفِي، إِذْ يَدْعُونَا ٱلرَّبُّ لِفِعْلِ ٱلْخَيْرِ، وَ"مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ خَيْرًا وَلَا يَعْمَلْ، تُحْسَبْ لَهُ خَطّيئةٌ" (يَعقُوب 4: 17). يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ بَاسِيلِ ٱلْكَبِيرُ:"إِذَا كَانَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُعِينَ، فَتَمْتَنِعُ، فَأَنْتَ تَفْتَرِي عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ. وَإِذَا قَابَلْتَ ٱلْمُحْتَاجَ بِلَا فِعْلٍ، فَصَمْتُكَ هُوَ صَوْتُ ٱلرَّفْضِ." إِنَّ ٱلْمَثَلَ يَضَعُنَا أَمَامَ مِرْآةٍ لِنَرَى فِيهَا أَنْفُسَنَا: هَلْ نَسِيرُ فِي طَرِيقِنَا مُبْتَعِدِينَ عَنْ جِرَاحِ ٱلْآخَرِينَ؟ أَمْ نَتَوَقَّفُ، نَنْحَنِي، وَنَمْدُدُ أَيْدِينَا، حَتَّى لِمَنْ لَا يُشْبِهُنَا؟

 

32 وكَذلِكَ وصلَ لاوِيٌّ إلى المَكان، فَرآهُ فمَالَ عَنهُ ومَضى.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "لاوِيٌّ" (فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ Λευίτης، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ ٱلِٱسْمِ ٱلْعِبْرِيِّ לֵוִי، وَمَعْنَاهُ: مُقْتَرِنٌ) إِلَى أَحَدِ أَبْنَاءِ لاوِي، وَهُم مُسَاعِدُو بَنِي هَارُونَ. وَكَانَ ٱللَّاوِيُّونَ هُمُ ٱلرِّجَالَ ٱلَّذِينَ يُعْهَدُ إِلَيْهِمْ خِدْمَةُ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلْمُحَافَظَةُ عَلَى ٱلطَّهَارَةِ ٱلشَّرْعِيَّةِ. فَإِنْ مَسَّ مَيِّتًا، أَصْبَحَ نَجِسًا، وَأُبْعِدَ عَنِ ٱلْخِدْمَةِ. وَكَانَ ٱللَّاوِيُّونَ مُتَوَسِّطِينَ بَيْنَ ٱلشَّعْبِ وَٱلْكَهَنَةِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا ذَبَائِحَ، أَوْ يُحْرِقُوا بَخُورًا، أَوْ يَرَوْا ٱلْأَشْيَاءَ ٱلْمُقَدَّسَةَ إِلَّا وَهِيَ مُغَطَّاةٌ (عَدَد 4: 5). وَكَانَتْ مِنْ وَاجِبَاتِهِمْ أَنْ يَحْمِلُوا خَيْمَةَ ٱلِٱجْتِمَاعِ عِنْدَ ٱلرَّحِيلِ، وَيَنْصِبُوهَا عِنْدَ ٱلْإِقَامَةِ. وَيَبْدَأُونَ فِي ٱلْخِدْمَةِ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلْخَامِسَةِ وَٱلْعِشْرِينَ (عَدَد 8: 24)، وَيُعْتَبَرُونَ مُؤَهَّلِينَ تَمَامًا فِي ٱلسَّنِ ٱلثَّلَاثِينَ (عَدَد 4: 3؛ 1 أَخْبَار 23: 3-5). وَفِي زَمَنِ دَاوُد، بَدَأُوا ٱلْخِدْمَةَ فِي سِنِّ ٱلْعِشْرِينَ (2 أَخْبَار 31: 17؛ عَزْرَا 3: 8). وَكَانَ عَلَيْهِمْ ٱلِٱنْسِحَابُ مِنَ ٱلْخِدْمَةِ عِنْدَ بُلُوغِ ٱلْخَمْسِينَ، وَلٰكِنْ يُسْمَحُ لَهُمْ بِٱلِٱسْتِمْرَارِ فِي ٱلْمُسَاعَدَةِ. وَيَرْتَدُونَ مَلَابِسَ رَسْمِيَّةً خَاصَّةً أَثْنَاءَ ٱلْخِدْمَةِ (2 أَخْبَار 5: 12). فِي زَمَنِ دَاوُد، قُسِّمَ ٱللَّاوِيُّونَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُسَاعِدُو ٱلْكَهَنَةِ فِي ٱلْمَقْدِس، ٱلْقُضَاةُ وَٱلْكُتَّابُ، ٱلْبَوَّابُونَ، ٱلْمُوسِيقِيُّونَ. وَكَانَ كُلُّ قِسْمٍ، مَا عَدَا ٱلثَّانِي، يَتَفَرَّعُ إِلَى 24 فِرْقَةً لِلتَّنَاوُبِ عَلَى ٱلْخِدْمَةِ (1 أَخْبَار 24–26؛ عَزْرَا 6: 18؛ نَحِمْيَا 13: 5). وَعِنْدَمَا ٱنْحَلَّتِ ٱلْمَمْلَكَةُ ٱلشِّمَالِيَّةُ، هَجَرَهَا بَعْضُ ٱللَّاوِيِّينَ وَٱلْكَهَنَةِ، وَنَزَحُوا إِلَى يَهُوذَا وَأُورَشَلِيمَ (2 أَخْبَار 11: 13-15). فَلَمَّا رَأَى ٱللَّاوِيُّ ٱلرَّجُلَ ٱلْجَرِيحَ يَئِنُّ وَيَتَلَوَّى بَيْنَ ٱلْحَيَاةِ وَٱلْمَوْتِ، تَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَسَّ مَيِّتًا أَصْبَحَ نَجِسًا وَيُبْعَدُ عَنِ ٱلْخِدْمَةِ. وَيُرْمِزُ ٱللَّاوِيُّ إِلَى ٱلْأَنْبِيَاءِ، ٱلَّذِينَ يَقُومُ عَمَلُهُمْ بِتَوْبِيخِ ٱلضَّمِيرِ حَتَّى يَتُوبَ ٱلْخَاطِئُ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَرَآهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى وُقُوفِ ٱللَّاوِيِّ عَلَى وَاقِعِ ٱلْجَرِيحِ، وَحَاجَتِهِ ٱلشَّدِيدَةِ إِلَى ٱلْمُسَاعَدَةِ وَٱلْإِسْعَافِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَمَالَ عَنْهُ وَمَضَى"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ ٱللَّاوِيَّ تَعَامَلَ مَعَ ٱلرَّجُلِ كَمَوْضُوعِ نَجَاسَةٍ، وَفَضَّلَ ٱلِٱنْسِحَابَ بِٱلتَّحَايُلِ عَلَى ٱلْحَقِّ، فَٱلْإِهْمَالُ فِي ٱلْمُسَاعَدَةِ حَرَمَ ٱلْإِنْسَانَ مِنْ فُرْصَةِ ٱلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ ٱلْحَيَاةِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ سَاوِيرُسُ ٱلْأَنْطَاكِيُّ: "كَثِيرًا مَا تَظُنُّ عَنْ جَهْلٍ أَنَّ ٱلَّذِي يُشْتَرِكُ مَعَكَ فِي دِيَانَتِكَ أَوْ جِنْسِيَّتِكَ هُوَ قَرِيبُكَ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إِنَّ ٱلَّذِي يُشْتَرِكُ فِي نَفْسِ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلْبَشَرِيَّةِ هُوَ قَرِيبُكَ..." "وَكَمَا رَأَيْتَ ٱلَّذِي كَانَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُعْتَزًّا بِٱلْمَلَابِسِ ٱلْكَهَنُوتِيَّةِ، وَٱلَّذِي كَانَ يَفْتَخِرُ بِتَسْمِيَتِهِ لاوِيًّا... لَمْ يُفَكِّرْ أَنَّ ذَاكَ ٱلْمُغَطَّى بِٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱلْمَطْرُوحَ عَلَى ٱلْأَرْضِ، وَٱلْمُشْرِفَ عَلَى ٱلْمَوْتِ، كَانَ إِنْسَانًا!" نَحْنُ – كَمْ مِنْ أَشْخَاصٍ يَضَعُهُمُ ٱللَّهُ فِي طَرِيقِنَا؟ نَرَاهُمْ مُتَأَلِّمِينَ، مَكْسُورِينَ، جَرْحَى فِي نَفْسِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ، وَلٰكِنَّنَا نُدِيرُ وَجْهَنَا، وَنُكَمِّلُ طَرِيقَنَا كَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُن... هَلْ نَخَافُ "ٱلنَّجَاسَةَ" ٱلِٱجْتِمَاعِيَّةَ أَوِ ٱلطَّقْسِيَّةَ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ ٱلْقَرِيبِ؟ هَلْ نَخْتَبِئُ خَلْفَ ٱلتَّدَيُّنِ وَٱلْمَظَاهِرِ، وَنَهْرُبُ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ؟ إِنَّ مَثَلَ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ يَدْعُونَا لِنُدْرِكَ أَنَّ ٱلْقَرِيبَ لَيْسَ مَنْ يَشْتَرِكُ مَعَنَا فِي ٱلدِّينِ، بَلِ ٱلْإِنْسَانَ ٱلَّذِي يُصَادِفُنَا وَيَحْتَاجُ إِلَيْنَا. كَانَ ٱللاَّوِيُّ، ٱبْنُ ٱلْهَيْكَلِ وَخَادِمُ ٱلطُّقُوسِ يَعْرِفَ ٱلشَّرِيعَةَ، وَلٰكِنَّهُ فَشِل فِي تَجْسِيدِهَا فِي ٱلْحَيَاةِ. َلَمْ يَكُنِ ٱلْعِبَادَةُ وَٱلْعِلْمُ وَحْدَهُمَا كَافِيَيْنِ لِإِلْهَامِ ٱلرَّحْمَةِ.

 

33 ووَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "وَصَلَ" إِلَى نُزُولِ ٱلسَّامِرِيِّ إِلَى ٱلطَّرِيقِ، وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ أُورَشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا كَمَا فَعَلَ ٱلْكَاهِنُ وَٱللَّاوِيُّ، بَلْ نَزَلَ إِلَى ٱلرَّجُلِ ٱلْجَرِيحِ بِقَصْدِ ٱلْعِنَايَةِ بِهِ وَٱلسَّهَرِ عَلَيْهِ، بِغَضِّ ٱلنَّظَرِ عَنِ ٱلْمَخَاطِرِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سَامِرِيٌّ" (بِٱلْعِبْرِيَّةِ שׁמְרוֹנִי، وَمَعْنَاهَا: "حَارِسٌ") فَتُشِيرُ إِلَى أَحَدِ ٱلسَّامِرِيِّينَ، ٱلَّذِينَ كَانَ ٱلْيَهُودُ يَتَجَنَّبُونَ ٱلِٱتِّصَالَ بِهِمْ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُمْ بِسَبَبِ فَسَادِ أَصْلِهِمْ وَٱخْتِلَافِ أَفْكَارِهِمُ ٱلدِّينِيَّةِ (لوقا 9: 52–55). وَزَادَتِ ٱلْكَرَاهِيَةُ بَعْدَ مُصَاهَرَةِ مَنَسَّى ٱبْنِ ٱلْكَاهِنِ ٱلْأَعْظَمِ فِي أُورَشَلِيمَ، لِٱبْنَةِ ٱلْحَاكِمِ ٱلْبَابِلِيِّ سَنَبَلَّاط، وَطَرْدِ نَحِمْيَا لِمَنَسَّى. ذَكَرَ ٱلْمَسِيحُ هٰذَا ٱلسَّامِرِيَّ لَيْسَ لِيُكَرِّمَ ٱلسَّامِرِيِّينَ، أَوْ لِيَسْتَهْزِئَ بِٱلْكَهَنَةِ وَٱللَّاوِيِّينَ، بَلْ لِيُعَلِّمَ أَنَّ ٱلسَّامِرِيَّ هُوَ مَنْ أَطَاعَ شَرِيعَةَ ٱلْمَحَبَّةِ بِصِدْقٍ، أَفْضَلَ مِنْ خَادِمِ ٱلدِّينِ ٱلَّذِي يُخَالِفُهَا. أَمَّا عِبَارَةُ "مُسَافِرٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى رَجُلٍ كَانَ فِي ٱلْأَرْضِ لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ، كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُرُورِيٌّ، وَيَرْمِزُ هُنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ فِي لِقَائِهِ مَعَ تِلْمِيذَي عِمَّاوُس (لوقا 24: 18).  أَمَّا عِبَارَةُ "وَرَآهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى مُشَاهَدَةِ ٱلسَّامِرِيِّ لِلْمُتَأَلِّمِ، ٱلَّذِي هُوَ بِأَمَسِّ ٱلْحَاجَةِ إِلَى ٱلْمُسَاعَدَةِ.  ٱلسَّامِرِيُّ رَأَى، كَمَا رَأَى ٱلْكَاهِنُ وَٱللَّاوِيُّ، وَلٰكِنَّهُ رَأَى بِعَيْنِ ٱلرَّحْمَةِ. لَمْ تَكُنْ رُؤْيَتُهُ مُرُورًا بَصَرِيًّا، بَلْ نَظَرَ إِلَى ٱلْإِنْسَانِ ٱلْمَجْرُوحِ كَقَرِيبٍ، كَأَخٍ، كَكُتْلَةِ أَلَمٍ تَسْتَغِيثُ. هُنَاكَ فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ مَنْ يَنْظُرُ وَيَمْضِي، وَمَنْ يَنْظُرُ وَيَنْحَنِي. ٱلْأُوْلَى نَظْرَةُ عَيْنٍ، وَٱلثَّانِيَةُ نَظْرَةُ قَلْبٍ. فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ نَسْتَعِيدَ بَصِيرَةَ ٱلرَّحْمَةِ، وَأَنْ نَدْرُبَ عُيُونَنَا عَلَى ٱلشَّفَقَةِ، وَقُلُوبَنَا عَلَى ٱلْعَطَاءِ.  وَفِي هٰذَا ٱلصَّدَدِ يُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ مَنْصُور دِي بُول قَائِلًا: "إِذْ نَظَرْتُمْ إِلَى ٱلآخَرِينَ فِي ضَوْءِ ٱلْإِيمَانِ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ فِيهِمْ أَبْنَاءَ ٱللَّهِ، ٱلَّذِي ٱخْتَارَ هُوَ نَفْسُهُ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا مُتَأَلِّمًا... فَٱلْمَحَبَّةُ تُغْلِقُ ٱلْعَيْنَ، وَتَفْتَحُ ٱلذِّرَاعَيْنِ." أَمَّا عِبَارَةُ "فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ"، فَفِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ ἐσπλαγχνίσθη، وَمَعْنَاهَا: شُعُورٌ نَابِعٌ مِنَ ٱلْأَحْشَاءِ، أَيْ مَصْدَرُ ٱلْحُبِّ وَٱلْحَنَانِ فِي ٱلثَّقَافَةِ ٱلْيَهُودِيَّةِ. وَهِيَ تُرَادِفُ تَعْبِيرَ: إِحْسَاسٌ غَرِيزِيٌّ نَابِعٌ مِنَ ٱلْأَعْمَاقِ. لَمْ يَكْتَفِ ٱلسَّامِرِيُّ بِرُؤْيَةِ ٱلْجَرِيحِ، بَلْ تَحَلَّى بِٱلرَّحْمَةِ وَٱلْعَطْفِ، لَيْسَ بِدَافِعِ ٱلِٱنْتِمَاءِ إِلَى دِينٍ، بَلْ بِٱسْمِ ٱلِٱنْتِمَاءِ إِلَى ٱلْبَشَرِيَّةِ نَفْسِهَا. فَهُوَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَجْتَازَ ذٰلِكَ ٱلْإِنْسَانَ ٱلْمَجْرُوحَ دُونَ تَقْدِيمِ ٱلْمُسَاعَدَةِ، لا لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا، بَلْ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُهَا. فَقَدْ وَجَدَ زَمِيلًا لَهُ فِي ٱلْإِنْسَانِيَّةِ.  هٰذَا هُوَ ٱلْمَعْنَى ٱلْحَقِيقِيُّ لِلرَّحْمَةِ وَٱلْحَنَانِ. فَٱلسَّامِرِيُّ تَعَامَلَ مَعَ ٱلْجَرِيحِ كَإِنْسَانٍ، يَسْتَحِقُّ ٱلْحُبَّ وَٱلرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عِنْدَ حُدُودِ ٱلْوَطَنِ أَوِ ٱلدِّينِ أَوِ ٱلْجِنْسِ. فَبَيْنَمَا لَمْ يَسْتَطِعِ "ٱلْإِيمَانُ" أَنْ يُحَرِّكَ ٱلْكَاهِنَ وَٱللَّاوِيَّ، ٱلسَّامِرِيُّ فَهِمَ مَنْ هُوَ ٱلْقَرِيبُ. وَمِنْ هُنَا، يُرْمَزُ ٱلسَّامِرِيُّ (أَيْ ٱلْحَارِسُ) إِلَى ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ يَعْنِي "ٱلْحَارِسُ"، كَمَا فِي ٱلْمَزْمُورِ: "إِنَّ حَارِسَ إِسْرَائِيلَ لَا يَغْفُو وَلَا يَنَامُ" (مزمور 121: 4). هٰذَا هُوَ ٱلتَّحَوُّلُ ٱلْجَوْهَرِيُّ: أَنْ نَرَى ٱلْآخَرَ لَا بِعَيْنِ ٱلْهُوِيَّةِ، بَلْ بِعَيْنِ ٱلرَّحْمَةِ. نَحْنُ أَيْضًا "مُسَافِرُونَ" فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ: هَلْ نَمُرُّ بِجِوَارِ ٱلْمُتَأَلِّمِينَ وَ"نَمْضِي"؟ أَمْ نَقْتَرِبُ مِنْهُمْ وَنُصْبِحُ "قَرِيبَهُمْ" كَمَا فَعَلَ ٱلْمَسِيحُ مَعَنَا؟ ٱلسَّامِرِيُّ هُوَ أَيٌّ مِنَّا حِينَ يَشْهَدُ بِٱلْمَحَبَّةِ لَا بِٱلدِّينِ، حِينَ تَكُونُ ٱلرَّحْمَةُ أَقْوَى مِنَ ٱلتَّقَالِيدِ، وَٱلْحَنَانُ أَقْوَى مِنَ ٱلتَّمْيِيزِ.

 

34 فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَدَنا مِنهُ" إِلَى ٱقْتِرَابِ ٱلسَّامِرِيِّ مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلْجَرِيحِ، بِقُبُولِهِ ٱلْآلَامَ مَعَهُ، وَسَكْبِ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَصَارَ قَرِيبَهُ بِٱلْحُبِّ لا بِٱلْقَرَابَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "ضَمَدَ جِرَاحَهُ"، فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ ٱلسَّامِرِيَّ رَبَطَ جُرُوحَ ٱلرَّجُلِ بِأَشْلَاءِ مِنْ ثِيَابِهِ، فَقَدَّمَ لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ.  أَمَّا عِبَارَةُ "صَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلطِّبِّ ٱلْقَدِيمِ فِي مُعَالَجَةِ ٱلْجُرُوحِ، لِقَطْعِ جِرْيَانِ ٱلدَّمِ وَتَسْكِينِ ٱلْأَلَمِ. فَـٱلزَّيْتُ: لِـتَلْيِينِ ٱلْجُرُوحِ وَتَخْفِيفِ حِدَّةِ ٱلْأَلَمِ (أشعيا 1: 6).  وَٱلْخَمْرُ: لِـتَعْقِيمِ ٱلْجُرُوحِ، وَقَتْلِ ٱلْمِيكْرُوبَاتِ، وَإِزَالَةِ ٱلِٱلْتِهَابَاتِ.  يَقُولُ ٱلطَّبِيبُ ٱلْيُونَانِيُّ أَبُقْرَاط (460–370 ق.م): "بَعْدَ غَمْسِ نَوْعٍ مِنْ وَرَقِ ٱلشَّجَرِ فِي ٱلنَّبِيذِ وَٱلزَّيْتِ، تُوضَعُ عَلَى ٱلْجُرُوحِ مَعَ رَبْطِهَا" (الجروح 23، 3). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: "ٱلسَّامِرِيُّ ٱلصَّالِحُ لَمْ يَعْبُرْ تَارِكًا ٱلْإِنْسَانَ ٱلَّذِي أَلْقَاهُ ٱللُّصُوصُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، بَلْ ضَمَّدَ جِرَاحَاتِهِ بِزَيْتٍ وَخَمْرٍ. صَبَّ عَلَيْهِ أَوَّلًا زَيْتًا لِتَلْطِيفِ أَلَمِهِ، وَأَتْكَأَهُ عَلَى صَدْرِهِ، أَيِ ٱحْتَمَلَ كُلَّ خَطَايَاهُ، هٰكَذَا لَمْ يَحْتَقِرْ يَسُوعُ ٱلرَّاعِي خَرُوفَهُ ٱلضَّالَّ". أَمَّا عِبَارَةُ "حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى نَقْلِ ٱلْجَرِيحِ مِنْ جَانِبِ ٱلطَّرِيقِ إِلَى ٱلْفُنْدُقِ عَبْرَ دَابَّةِ ٱلسَّامِرِيِّ، بَيْنَمَا ٱلسَّامِرِيُّ يَمْشِي وَيُقَاسِي تَعَبًا شَدِيدًا، مُمْسِكًا بِهِ لِيَقِيهِ ٱلسُّقُوطَ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلصَّخْرِيَّةِ ٱلْمُنْحَدِرَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "فُنْدُقٍ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْخَانِ، وَيُرَجَّحُ أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ٱلْخَانِ ٱلْأَحْمَرِ، ٱلَّذِي أُخِذَ ٱسْمُهُ مِنَ ٱللَّوْنِ ٱلْأَحْمَرِ ٱلْمُسْتَخْرَجِ مِنْ حَجَرِ ٱلْجِيرِ ٱلْمَكْسُوِّ بِـأُكْسِيدِ ٱلْحَدِيدِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عُثْمَانِيٌّ مِنَ ٱلْقَرْنِ ٱلسَّادِسِ عَشَرَ. وَكَانَ ٱلْخَانُ مَرْكَزًا لِلتُّجَّارِ، عَلَى ٱلطَّرِيقِ ٱلْقَدِيمِ بَيْنَ ٱلضِّفَّتَيْنِ، وَعُرِفَ سَابِقًا بِـ"مَارْ أَفْتِيمْيُوس"، نِسْبَةً إِلَى ٱلرَّاهِبِ ٱلَّذِي أَسَّسَهُ. وَيُعَلِّقُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس قَائِلًا: "ٱلْفُنْدُقُ يُرْمِزُ إِلَى ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّتِي تَسْتَقْبِلُ ٱلْجَمِيعَ، وَلَا تَرْفُضُ أَحَدًا، إِذْ يَدْعُو يَسُوعُ ٱلْكُلَّ: 'تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُرْهَقِينَ وَٱلْمُثْقَلِينَ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ'" (متى 11: 28). أَمَّا عِبَارَةُ "ٱعْتَنَى بِأَمْرِهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى خِدْمَةِ ٱلسَّامِرِيِّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ: فَقَدْ أَوْصَلَهُ إِلَى ٱلْفُنْدُقِ، وَقَدَّمَ لَهُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَيُعَلِّقُ غِبْطَةُ ٱلْبَطْرِيَرْكِ بِييرْ بَاتِيسْتَا فِي عِظَتِهِ: "يَقُومُ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ بِحَرَكَاتٍ شِبْهِ لِيتُورْجِيَّةٍ، تُجْعِلُهُ يَنْحَنِي أَمَامَ ٱلْإِنْسَانِ ٱلْمَرِيضِ ٱلْمَجْرُوحِ، كَمَا نَنْحَنِي فِي ٱللِّيتُورْجِيَّا أَمَامَ ٱللَّهِ... وَيُقَدِّمُ ٱلزَّيْتَ وَٱلْخَمْرَ كَـ"تَقَادِمَ"، وَيُشْرِكُ ٱلْكَنِيسَةَ (ٱلْفُنْدُقَ) فِي قِصَّةِ ٱلرَّحْمَةِ، وَيَعِدُ بِٱلْعَوْدَةِ". (عظة الأحد الخامس عشر من زمن السنة (ج). لَمْ يَنْشَغِلِ ٱلسَّامِرِيُّ بِٱلَّذِينَ ٱرْتَكَبُوا ٱلِٱعْتِدَاءَ، وَلَا بِإِدَانَةِ ٱلَّذِينَ مَرُّوا قَبْلَهُ دُونَ أَنْ يُحَرِّكُوا سَاكِنًا. لَمْ يَسْأَلْ: مَنْ هُوَ ٱلْمُذْنِبُ؟ وَلَا: لِمَاذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ أَحَدٌ؟ بَلْ رَكَّزَ كُلَّ ٱنْتِبَاهِهِ عَلَى ٱلْإِنْسَانِ ٱلْمَجْرُوحِ أَمَامَهُ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِٱلشَّفَقَةِ، بَلْ قَامَ بِمَسِيرَةِ رَحْمَةٍ كَامِلَةٍ: ٱقْتَرَبَ مِنَ ٱلْجَرِيحِ (كَسَرَ حَاجِزَ ٱلْخَوْفِ وَٱلدِّينِ). ضَمَّدَ جِرَاحَهُ (وَاجَهَ ٱلْأَلَمَ وَلَمْ يَهْرُبْ مِنْهُ).  صَبَّ زَيْتًا وَخَمْرًا (قَدَّمَ مَا يُشْفِي، لَا مَا يُدِينُ).  حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ (َأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ رَاحَةِ ٱلْآخَرِ). أَوْصَلَهُ إِلَى ٱلْفُنْدُقِ (أَعَادَهُ إِلَى جَمَاعَةِ ٱلْحَيَاةِ – ٱلْكَنِيسَةِ). ٱعْتَنَى بِهِ (لَمْ يَتْرُكْهُ بَعْدَ أُولَى لَمْسَةٍ). أعْطاه مِن وقْته. هٰذِهِ هِيَ لِيتُورْجِيَّا ٱلرَّحْمَةِ ٱلَّتِي يَدْعُونَا ٱلْمَسِيحُ لِنَعِيشَهَا مَعَ كُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِنَا جَرِيحًا: فِي ٱلْجَسَدِ، أَوِ ٱلنَّفْسِ، أَوِ ٱلْكَرَامَةِ. إِنَّهُ مَثَلُ ٱلْمُبَادَرَةِ ٱلْإِلَهِيَّةِ، حَيْثُ ٱلرَّحْمَةُ لَا تَبْقَى فِي ٱلْعَاطِفَةِ بَلْ تَتَجَسَّدُ فِي ٱلْفِعْلِ، وَلَا تَكْتَفِي بِٱلْكَلِمَاتِ بَلْ تَمْتَدُّ إِلَى ٱلْجُرْحِ، وَتَتَحَمَّلُ كُلَّ تَبِعَاتِ ٱلْخِدْمَةِ. فَهَلْ نَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ، فِي عَالَمٍ مُمْتَلِئٍ بِٱلْأَلَمِ وَٱلتَّجَاهُلِ، أَنْ نَسِيرَ فِي "مَسِيرَةِ ٱلرَّحْمَةِ" هٰذِهِ؟

 

35 وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي.

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "دِينَارَيْنِ" (فِي ٱلْأَصْلِ ٱلْيُونَانِيِّ δηνάριον، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أَصْلٍ لَاتِينِيٍّ denarius، وَمَعْنَاهُ: "عَشَرَة"، لِأَنَّ هٰذِهِ ٱلْعُمْلَةَ كَانَتْ تُسَاوِي أَصْلًا عَشْرَةَ آسَاتٍ رُومَانِيَّةٍ) إِلَى عُمْلَةٍ رُومَانِيَّةٍ مِنَ ٱلْفِضَّةِ، كَانَ وَزْنُهَا فِي ٱلْعَصْرِ ٱلرُّومَانِيِّ ثَلَاثَةَ غْرَامَاتٍ. وَكَانَ ٱلدِّينَارُ أُجْرَةَ ٱلْعَامِلِ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ (متى 20: 3)، وَكَانَ عَلَى ٱلْيَهُودِ أَنْ يَتَعَامَلُوا بِهٰذِهِ ٱلْعُمْلَةِ عِنْدَ دَفْعِ ٱلْجِزْيَةِ لِرُومَا (متى 22: 19). أَمَّا رَقْمُ 2، فَيَرْمِزُ إِلَى ٱلْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُعْلِنَ فِي وَصِيَّتَيْنِ: مَحَبَّةِ ٱللَّهِ وَمَحَبَّةِ ٱلْقَرِيبِ، وَلِأَنَّهُ يُوَحِّدُ ٱلِاثْنَيْنِ فِي وَاحِدٍ، كَمَا يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس. وَكَأَنَّ ٱلسَّيِّدَ ٱلْمَسِيحَ قَدْ تَرَكَ فِي كَنِيسَتِهِ كَنْزَ ٱلْمَحَبَّةِ ٱلْإِلَهِيَّةِ، بِهِ نُحِبُّ ٱللَّهَ وَٱلنَّاسَ. وَرَأَى بَعْضُ ٱلْآبَاءِ فِي ٱلدِّنَارَيْنِ رَمْزًا إِلَى ٱلتَّلَامِيذِ وَٱلرُّسُلِ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْكَنِيسَةِ لِحِسَابِ ٱلسَّيِّدِ، أَوْ إِلَى ٱلْكِتَابِ ٱلْمُقَدَّسِ بِعَهْدَيْهِ. وَيَرَى ٱلْقِدِّيسُ إِيرِينِيؤُس أَنَّ ٱلدِّنَارَيْنِ يُرْمِزَانِ إِلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، ٱلَّذِي وُهِبَ لِلْكَنِيسَةِ، لِيَنْقُشَ عَلَى ٱلنَّفْسِ كِتَابَةَ ٱلْآبِ وَٱلِٱبْنِ، فَتَصِيرَ هِيَ عُمْلَةَ ٱللَّهِ، وَدِينَارَهُ. قَدْ بَذَلَ ٱلسَّامِرِيُّ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ٱلْمِيلِ ٱلثَّانِي، مُنَفِّذًا ٱلْوَصِيَّةَ: "وَمَنْ سَخَّرَكَ أَنْ تَسِيرَ مَعَهُ مِيلًا وَاحِدًا، فَسِرْ مَعَهُ مِيلَيْنِ" (متى 5: 41). وَرَأَى آبَاءُ ٱلْكَنِيسَةِ فِي ٱلسَّامِرِيِّ يَسُوعَ، طَبِيبَ ٱلْمَرْضَى (أَيْ ٱلْخُطَاةِ)، ٱلَّذِي يَعْتَنِي بِجِرَاحِهِمْ، وَيَقُودُهُمْ إِلَى ٱلْفُنْدُقِ (ٱلْكَنِيسَةِ)، فَيُسَلِّمُهُمْ مُعَافَيْنَ إِلَى ٱللَّهِ ٱلْآبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُؤَدِّيهِ أَنَا إِلَيْكَ عِندَ عَوْدَتِي"، فَتُشِيرُ إِلَى ضَمِيرِ ٱلْمُتَكَلِّمِ، وَٱلْمَعْنَى: "أَنَا بِنَفْسِي سَأُوفِيكَ، لَا ٱلرَّجُلُ ٱلْمُصَابُ".  فَٱلسَّامِرِيُّ تَوَقَّعَ أَنْ يَرْجِعَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا أَنْفَقَ، بَلْ وَعَدَ صَاحِبَ ٱلْفُنْدُقِ بِأَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى كُلِّ مَا يُنْفِقُهُ فَوْقَ ذٰلِكَ. فَـٱعْتَنَى بِهِ فِي حُضُورِهِ وَغِيَابِهِ، وَبِهٰذِهِ ٱلطَّرِيقَةِ صَارَ عَدُوُّهُ قَرِيبَهُ. وَهٰكَذَا، ٱلنُّقُودُ ٱلَّتِي كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِ ٱلرَّجُلِ بِيَدِ ٱللُّصُوصِ، تُصْبِحُ سَبَبَ خَلَاصِهِ بِيَدِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ. فَلَيْسَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ تَشْبِيهًا، بَلْ مِثَالًا يُصَوِّرُ لَنَا مَوْقِفًا يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يُجْتَنَبُ. وَٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ هُوَ يَسُوعُ نَفْسُهُ، ٱلَّذِي يَعُودُ. ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْحَقِيقِيَّةُ لَا تُقَاسُ بِٱلْكَلِمَاتِ، بَلْ بِٱلنَّفَقَةِ. فَقَدْ قَدَّمَ ٱلسَّامِرِيُّ مَا لَدَيْهِ: وَقْتَهُ، دَابَّتَهُ، مَالَهُ، قَلْبَهُ، حُضُورَهُ، وَرُجُوعَهُ. وَهَا هُوَ يَسُوعُ يَفْعَلُ ٱلْأَمْرَ نَفْسَهُ مَعَنَا: لَا يَتْرُكُنَا مَجْرُوحِينَ عَلَى قَارِعَةِ ٱلْحَيَاةِ؛ بَلْ يَنْزِلُ إِلَيْنَا؛ وَيَضُمِّدُ جِرَاحَنَا؛ وَيَعْهَدُ بِنَا لِلْكَنِيسَةِ؛ وَيَعِدُ بِٱلرُّجُوعِ. أَفَلَا نَكُونُ نَحْنُ "قَرِيبًا" لِكُلِّ مَنْ يَطْرَحُهُ ٱلْعَالَمُ فِي ٱلشَّارِعِ؟

 

36 فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟

 

تُشِيرُ عِبَارَةُ "فمَن كانَ في رَأيِكَ" إِلَى توجيه يَسُوعُ إِلَى عَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ سُؤَالًا جَدِيدًا، يُقَلِّبُ فِيهِ مَنْطِقَ ٱلسُّؤَالِ ٱلْأَوَّلِ. فَلَمْ يَعُدِ ٱلسُّؤَالُ: "مَنْ قَرِيبِي؟"، وَهُوَ سُؤَالٌ قَدْ يُخْفِي وَرَاءَهُ ٱلْتِفَافًا عَلَى ٱلْوَصِيَّةِ، أَوْ تَحَدِيدًا ضَيِّقًا لِدَائِرَةِ ٱلْمَسْؤُولِيَّةِ، بَلْ صَارَ ٱلسُّؤَالُ: "فَمَنْ كَانَ فِي رَأْيِكَ، مِنْ هَٰؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةِ، قَرِيبَ ٱلَّذِي وَقَعَ بِيَدِ ٱللُّصُوصِ . إِنَّهُ تَحْوِيلٌ عَجِيبٌ لِزَاوِيَةِ ٱلنَّظَرِ: فَٱلْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ فِي "تَعْرِيفِ ٱلْقَرِيبِ"، بَلْ فِي "أَنْ أَصِيرَ أَنَا قَرِيبًا" لِكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى ٱلرَّحْمَةِ. فَٱلْمُحِبُّ لَا يَسْأَلُ: مَا هِيَ ٱلْحُدُودُ؟ بَلْ: مَا هِيَ ٱلْفُرْصَةُ؟ يُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُس عَلَى ذٰلِكَ قَائِلًا: "لَيْسَ ٱلْقَرِيبُ مَنْ تَجِدُهُ أَمَامَكَ، بَلْ أَنْتَ ٱلَّذِي تُصِرُّ قَرِيبًا لِكُلِّ مَنْ تَحْنُو عَلَيْهِ."  دَعْوَةِ يَسُوعَ لِعَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ لِلتَّفْكِيرِ فِي ٱلْقُرْبِ مِنَ ٱلْآخَرِينَ، وَكَأَنَّ يَسُوعَ يَقُولُ لَهُ: "وَأَنْتَ، هَلْ أَنْتَ قَرِيبٌ لِمَنْ؟". فَـٱلْمُشْكِلَةُ ٱلَّتِي أَكَّدَهَا يَسُوعُ فِي إِتْمَامِ وَصِيَّةِ ٱلْمَحَبَّةِ، لَا تَتَعَلَّقُ كَثِيرًا بِمَنْ هُوَ قَرِيبِي، بَقَدْرِ مَا تَتَعَلَّقُ بِـ:"هَلْ نَحْنُ أَقْرِبَاءُ لِلْآخَرِينَ؟". وَقَدْ أَضَافَ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ عُنْصُرًا إِضَافِيًّا حَاسِمًا فِي ٱلْجَوَابِ: "ٱلَّذِي عَامَلَهُ بِٱلرَّحْمَةِ" (لوقا 10: 37).  أَمَّا عِبَارَةُ "مِن هٰؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلْكَاهِنِ وَٱللَّاوِيِّ وَٱلسَّامِرِيِّ: فَـٱلْكَاهِنُ وَٱللَّاوِيُّ عَرَفَا ٱلشَّرِيعَةَ وَعَلَّمَاهَا لِلنَّاسِ، وَلٰكِنَّهُمَا لَمْ يَعْمَلَا بِمُقْتَضَاهَا؛ أَمَّا ٱلسَّامِرِيُّ، فَـعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، بِلَا مَعْرِفَةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، بَلْ بِمَحَبَّةٍ وَرَحْمَةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "قَرِيبٌ"، فَتُشِيرُ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَيِّ إِنْسَانٍ، يَحْتَاجُ إِلَى رَحْمَةِ ٱللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَيُعَلِّمُنَا هٰذَا ٱلْمَثَلُ أَنْ نَحْسِبَ كُلَّ ٱلنَّاسِ أَقْرِبَاءَ لَنَا، بِغَضِّ ٱلنَّظَرِ عَنِ ٱلدِّينِ وَٱلْعِرْقِ وَٱلْجِنْسِ وَٱلْقَوْمِيَّةِ، وَأَنْ نُحِبَّ ٱلْجَمِيعَ، وَأَنْ نُظْهِرَ مَحَبَّتَنَا بِأَعْمَالِنَا وَقْتَ ٱلْحَاجَةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱللُّصُوصِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ٱلَّذِينَ يَسْرِقُونَ عَلَانِيَةً وَبِوُضُوحٍ، عَلَى عَكْسِ ٱلسَّارِقِينَ ٱلَّذِينَ يَسْرِقُونَ فِي ٱلْخَفَاءِ. وَٱللُّصُوصُ هُنَا رَمْزٌ لِلْقُوَى ٱلْعُدْوَانِيَّةِ ضِدَّ ٱلْإِنْسَانِ، أَيْ: إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَأَتْبَاعُهُ، ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ هَلَاكَ ٱلْإِنْسَانِ جَسَدًا وَرُوحًا. إِنَّهُ مَثَلٌ يُوقِظُ ٱلضَّمِيرَ، لَا مُجَرَّدُ سَرْدٍ أَخْلَاقِيٍّ.
لَيْسَ ٱلسُّؤَالُ: "مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟" بَلْ: هَلْ أَنَا أَعِيشُ كَمَنْ هُوَ قَرِيبٌ؟ هَلْ أَتَحَرَّكُ بِٱلرَّحْمَةِ؟ هَلْ أَرَى فِي كُلِّ جَرِيحٍ، أَخًا لِلْمَسِيحِ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "إِذًا ٱذْهَبْ، وَٱعْمَلْ أَنْتَ أَيْضًا مِثْلَ ذٰلِكَ" (لُوقَا 10: 37). فَمَنْ يَسْمَعْ هٰذَا ٱلْمَثَلَ وَيَمْضِ دُونَ أَنْ "يَذْهَبَ وَيَعْمَلَ"، لَمْ يَفْهَمْهُ بَعْدُ.

 

37 فقال: الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة. فقالَ لَه يَسوع: اذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك

 

تُشيرُ عِبارةُ "ٱلَّذِي عَامَلَهُ بِٱلرَّحْمَةِ" إِلى جوابِ عالِمِ الشَّريعةِ، الَّذي لَم يَنطِقْ بِٱسْمِ "ٱلسَّامِرِيِّ"، بَل أشارَ إِلَيهِ بِٱلرَّحْمَةِ، مُكتَفِيًا بِقَولِهِ: "ٱلَّذِي عَامَلَهُ بِٱلرَّحْمَةِ". وتَكرَّرَ لَفْظُ "رَحْمَةٍ" فِي ٱلرِّوَايَةِ سِتَّ مَرَّاتٍ، فٱلرَّحمَةُ هِيَ جَوهَرُ ٱلمِثَالِ ٱلَّذِي ضَرَبَهُ ٱلسَّيِّدُ ٱلمَسِيح. أَظهَرَ ٱللهُ نَفسَهُ رَحيمًا تُجَاهَ إِسرَائِيلَ وَٱلبَشَرِيَّةِ (لوقا 1: 50–78)، فَإِنَّ يَسُوعَ نَفسَهُ، حَسَبَ إنجيل لوقا، هُوَ تَجَسُّدُ رَحمَةِ ٱللهِ، كَمَا قِيلَ فِي ٱلكِتَابِ: "ٱلرَّبُّ ٱلرَّبُّ، إِلَهٌ رَحيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلأَنَاةِ، كَثِيرُ ٱلرَّحمَةِ وَٱلوَفَاءِ" (خروج 34: 6). فٱلقَرِيبُ هُوَ كُلُّ إِنسَانٍ يَقتَرِبُ مِنَ ٱلآخَرِينَ بِمَحَبَّةٍ، حَتَّى لَو كَانَ مِنَ ٱلغُرَبَاءِ أَوِ ٱلأَعدَاءِ. وَبِذَلكَ، تَجَاوَزَ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ نَظْرَتَهُ ٱلضَّيِّقَةَ، ٱلَّتِي كَانَت تَحصُرُ ٱلقَرِيبَ فِي أَعضَاءِ شَعبِهِ فَقَط. وَمِن هٰذَا ٱلمُنطَلَقِ، تَتَلَاشَى أَمَامَ ٱلإِنجِيلِ كُلُّ أَنَانِيَّةٍ وَٱحْتِكَارٍ دِينِيٍّ، فَأَصبَحَ ٱلقَرِيبُ هُوَ ٱلإِنسَانُ ٱلجَرِيحُ، وَٱلسَّامِرِيُّ ٱلَّذِي هُوَ رَمزٌ لِلمَسِيحِ. فَكَمَا أَشفَقَ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلصَّالِحُ عَلَى مَنْ وَقَعَ بَينَ ٱللُّصُوصِ، هَكَذَا يَشفِقُ يَسُوعُ عَلَى ٱلإِنسَانِ ٱلخَاطِئِ، فَيَشفِي ٱلجِرَاحَ ٱلَّتِي تُصِيبُ ٱلنَّفسَ: "هُوَ ٱلَّذِي أَخَذَ أَسقَامَنَا وَحَمَلَ أَمرَاضَنَا" (متّى 8: 17)). فَيَتَوَجَّبُ عَلَينَا أَن نَقتَدِيَ بِهِ، كَمَا جَاءَ فِي تَعلِيمِ يُوحَنَّا ٱلرَّسُول: "وَإِنَّمَا عَرَفنَا ٱلمَحَبَّةَ بِأَنَّ ذَاكَ قَد بَذَلَ نَفسَهُ فِي سَبِيلِنَا.  فَعَلَينَا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفُوسَنَا فِي سَبِيلِ إِخوَتِنَا. مَن كَانَت لَهُ خَيرَاتُ ٱلدُّنيَا، وَرَأَى بِأَخِيهِ حَاجَةً، فَأَغلَقَ أَحشَاءَهُ دُونَ أَخِيهِ، فَكَيْفَ تَقِيمُ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلله؟ يَا بَنِيَّ، لَا تَكُنْ مَحَبَّتُنَا بِٱلكَلَامِ وَلَا بِٱللِّسَانِ، بَلْ بِٱلعَمَلِ وَٱلحَقِّ" يُوحَنَّا 3: 16–18). وَهَكَذَا تَحَوَّلَ سُؤَالُهُ مِن: "مَن هُوَ قَرِيبِي؟" إِلَى: "كَيْفَ أَكُونُ أَنَا قَرِيبًا لِكُلِّ إِنسَان؟". فَٱلمَحَبَّةُ لَيسَت شُعُورًا فَقَط، بَل هِيَ أَفعَالُ رَحمَةٍ مَلمُوسَةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ: "ٱذْهَبْ فَٱعْمَلْ أَنتَ أَيضًا مِثلَ ذٰلِكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى غَايَةِ ٱلمَسِيحِ مِنَ ٱلمَثَلِ: فَٱلقَرِيبُ ٱلمُحْتَاجُ يَجِبُ أَن يَكُونَ مَوضِعَ حُبِّنَا وَٱهتِمَامِنَا. فَأَمرَ يَسُوعُ عَالِمَ ٱلشَّرِيعَةِ أَن يَفعَلَ كَمَا فَعَلَ ٱلسَّامِرِيُّ لِلجَرِيحِ، لِأَنَّهُ بِذَٰلِكَ يَعمَلُ بِمُقتَضَى شَرِيعَةِ ٱلمَحَبَّةِ. وَبِٱلتَّالِي، يَدعُونَا ٱلسَّيِّدُ لِلٱقْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَّا، وَهُوَ مَعَنَا، إِذ تَجَسَّدَ كَمَا جَاءَ فِي ٱلإِنجِيلِ: "ٱلكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا فَسَكَنَ بَينَنَا" (يُوحَنَّا 1: 14). إِنَّ حُضُورَ يَسُوعَ قَرِيبٌ جِدًّا مِنَ ٱلإِنسَانِ، يَكشِفُ رَحمَةَ ٱلآبِ وَيَفتَحُ لَنَا ٱلطَّرِيقَ إِلَى ٱلحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ. وَبِنَاءً عَلَى تَوصِيَةِ يَسُوعَ، أَسَّسَتِ ٱلكَنِيسَةُ ٱلمُستَشفَيَاتِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لِبَثِّ بُشرَى ٱلخَلَاصِ مِن خِلَالِ أَعمَالِ ٱلرَّحمَةِ ٱلجَسَدِيَّةِ وَٱلرُّوحِيَّةِ.  فَمِنْ أُشْبِهُ أَنَا؟ مِنْ هَؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةِ ٱلمَذكُورِينَ فِي ٱلمَثَلِ؟ فَهٰكَذَا يَدْعُونَا ٱلْمَسِيحُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْ نَظْرَةِ ٱلْقَانُونِ، إِلَى فِعْلِ ٱلرَّحْمَةِ؛ مِنْ تَفْسِيرِ ٱلنُّصُوصِ، إِلَى ٱلْتِزَامِ ٱلْحَيَاةِ.

 

 

ثانِيًا: تَطْبِيقَاتُ ٱلنَّصِّ ٱلإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 25–37)

 

ٱنْطِلاقًا مِنْ هٰذِهِ ٱلمُلَاحَظَاتِ حَوْلَ وَقَائِعِ ٱلنَّصِّ ٱلإِنْجِيلِيِّ (لوقا 10: 25–37)، نَسْتَنتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ سُؤَالَيْنِ: مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟ وكَيْفَ أَكُونُ قَرِيبًا لِكُلِّ إِنسَانٍ؟

 

١) مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟

 

بِمَا أَنَّ عَالِمَ ٱلشَّرِيعَةِ يَعرِفُ ٱلوَصَايَا، خَاصَّةً وَصِيَّةَ مَحَبَّةِ ٱللهِ وَٱلقَرِيبِ، طَلَبَ مِنهُ يَسُوعُ أَنْ يَعمَلَ بِهَا لِيَنَالَ ٱلحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ: "ٱعمَلْ هٰذَا تَحْيَ (لوقا 10: 28)، أَيْ ٱعمَلْ مَا تَعلَمُهُ مِنْ وَصِيَّةِ مَحَبَّةِ ٱللهِ وَمَحَبَّةِ ٱلقَرِيبِ. وَلَكِنَّهُ أَجَابَ أَنَّهُ لَا يَعلَمُ مَنْ هُوَ هٰذَا ٱلقَرِيبُ، مُستَفسِرًا: "مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟" (لوقا 10: 29).

 

ٱتَّخَذَ ٱلعَالَمُ ٱليَهُودِيُّ، مِنْ خِلَالِ قِصَّةِ "ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ"، مَوَاقِفَ مُتَبَايِنَةً حَولَ ٱلقَرِيبِ ٱلَّذِي يُمَثِّلُ ٱلرَّجُلَ ٱلجَرِيحَ:

 

ٱلقَرِيبُ، بِمَفهُومِ ٱللُّصُوصِ، هُوَ شَخصٌ يَسرِقُونَهُ وَيَنهَبُونَهُ. وَتَقومُ فَلسَفَتُهُم عَلَى: "مَا هُوَ لِقَرِيبِي هُوَ لِي، وَسَآخُذُهُ."

 

أَمَّا ٱلقَرِيبُ، بِمَفهُومِ ٱلكَاهِنِ، فَهُوَ مُشكِلَةٌ يَجِبُ تَجَنُّبُهَا.  فَقَد رَأَى ٱلرَّجُلَ ٱلجَرِيحَ، ثُمَّ تَرَكَهُ بِحُجَّةِ أَنَّ مُسَاعَدَتَهُ لَيسَت مِن شَأنِهِ، وَلَا مِن مَهَمَّتِهِ. فَـمَهَمَّتُهُ، بِٱعتِقَادِهِ، تَكمُنُ فِي تَقدِيمِ ٱلذَّبَائِحِ لِلهِ فِي ٱلهَيكَلِ. وَنَسِيَ ٱلإِنسَانَ ٱلجَرِيحَ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَد أَتَمَّ وَاجِبَهُ ٱلدِّينِيَّ، وَتَنَاسَى كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ عَلَى لِسَانِ ٱلنَّبِيِّ هُوشَع: "فَإِنَّمَا أُرِيدُ ٱلرَّحمَةَ" (هوشع 6: 6).

 

أَمَّا ٱلقَرِيبُ بِمَفهُومِ ٱللَّاوِيِّ، فَهُوَ نَجِسٌ، وَعَلَيهِ، فَإِذَا مَسَّ مَيْتًا أَصبَحَ نَجِسًا، وَبِٱلتَّالِي يُبعَدُ عَن خِدمَةِ ٱلهَيكَلِ.

 

أَمَّا ٱلقَرِيبُ بِمَفهُومِ صَاحِبِ ٱلفُندُقِ، فَهُوَ نَزِيلٌ عَلَيهِ أَنْ يَخْدِمَهُ مُقَابِلَ أُجرَةٍ. وَٱختِصَارًا، تَقُومُ فَلسَفَةُ ٱلكَاهِنِ وَٱللَّاوِيِّ عَلَى: "مَا هُوَ مَعِي هُوَ لِي، وَسَأَحتَفِظُ بِهِ، وَلَيسَ لِلقَرِيبِ."

 

أَمَّا ٱلقَرِيبُ بِمَفهُومِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ، فَهُوَ ٱلإِنسَانُ ٱلَّذِي يَستَحِقُّ ٱلمَحَبَّةَ وَٱلعِنَايَةَ، وَٱلَّذِي هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى ٱلشَّفَقَةِ وَٱلمُسَاعَدَةِ. لِذٰلِكَ غَيَّرَ مَشرُوعَ سَفَرِهِ، وَتَرْجَمَ مَحَبَّتَهُ أَوْ شَفَقَتَهُ بِأَعمَالِ ٱلرَّحمَةِ ٱلتَّالِيَةِ: دَنَا مِنَ ٱلإِنسَانِ ٱلجَرِيحِ، وَضَمَّدَ جِرَاحَهُ، وَصَبَّ عَلَيهَا خَمرًا وَزَيتًا (حَسَبَ ٱلطِّبِّ ٱلقَدِيمِ)، وَحَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى ٱلفُندُقِ، وَٱعتَنَى بِأَمرِهِ. لَمْ يَجْتَزِ ٱلرَّجُلَ ٱلجَرِيحَ، بَلْ حَنَا عَلَيهِ وَشَفَاهُ.

 

قَد أَظهَرَ لَنَا يَسُوعُ أَنَّ ٱلقَرَابَةَ لَا تَقِفُ عِندَ حُدُودِ ٱلدَّمِ، وَلٰكِنَّهَا تَقُومُ عَلَى تَنفِيذِ وَصِيَّةِ ٱلمَحَبَّةِ وَٱلرَّحمَةِ، وَهٰذِهِ هِيَ ٱلعِبَادَةُ ٱلصَّحِيحَةُ (هوشع 6: 6). وَيُعَلِّقُ ٱلقِدِّيسُ سَاوِيرُس ٱلأَنطَاكِي بِقَولِهِ: "إِنَّ ٱلَّذِي يَشتَرِكُ فِي نَفسِ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلبَشَرِيَّةِ هُوَ قَرِيبُكَ، وَلَيسَ فَقَط مَنْ يَشتَرِكُ مَعَكَ فِي دِيَانَتِكَ أَوْ جِنسِيَّتِكَ." هٰذَا ٱلسَّامِرِيُّ عَرَفَ ٱلطَّبِيعَةَ ٱلبَشَرِيَّةَ، وَفَهِمَ مَنْ هُوَ ٱلقَرِيبُ. فَأَخَذَ ٱلمُبَادَرَةَ "دَنَا مِنهُ"، وَجَعَلَ مِن نَفسِهِ قَرِيبًا لَهُ. وَلَمْ يَخفْ فِي تِلكَ ٱلفَترَةِ مِنَ ٱللُّصُوصِ ٱلَّذِينَ رُبَّمَا يُفَاجِئُونَهُ وَيَسلُبُونَ أَموَالَهُ، وَيُحَاوِلُونَ قَتلَهُ كَمَا فَعَلُوا مَعَ هٰذَا ٱلمَغدُورِ. إِنَّ عَمَلَ ٱلرَّحمَةِ يُعطِي لِلإِنسَانِ شَجَاعَةً، وَيُبْعِدُ عَنهُ ٱلخَوفَ. وَٱختِصَارًا، تَقُومُ فَلسَفَةُ ٱلسَّامِرِيِّ عَلَى: "مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ، وَأُرِيدُكَ مُشَارَكَتِي بِهِ."

 

وَهُنَا نَسْأَلُ: مَا ٱلفَائِدَةُ مِنَ ٱلقَرَابَةِ ٱلدَّمَوِيَّةِ أَوِ ٱلطَّائِفِيَّةِ أَوِ ٱلدِّينِيَّةِ فِي غِيَابِ ٱلمَحَبَّةِ؟  ٱلقَرِيبُ هُوَ مَنْ نَذْهَبُ إِلَيهِ وَنَصْنَعُ مَعَهُ ٱلرَّحمَةَ، أَيْ كُلُّ إِنسَانٍ نَشْعُرُ بِإِمكَانِيَّتِنَا أَنْ نَتَّجِهَ إِلَيهِ كَمَا فَعَلَ هٰذَا ٱلسَّامِرِيُّ. وَهُوَ كُلُّ إِنسَانٍ يَضَعُهُ ٱللهُ فِي طَرِيقِنَا، "كَانَ مَنْ كَانْ."

 

يَسُوعُ ٱلمَسِيحُ هُوَ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلأَعْظَمُ، ٱلَّذِي لَمْ يُذكَرِ ٱسمُهُ بِصَرَاحَةٍ فِي هٰذَا ٱلمَثَلِ، وَلٰكِنْ دَعَاهُ يُوحَنَّا ٱلإِنجِيلِيُّ سَامِرِيًّا (يوحنا ٨: ٤٨).  فَهُوَ ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي جَعَلَ مِن نَفسِهِ إِنسَانًا، وَنَزَلَ إِلَى ٱلطَّرِيقِ، لِكَيْ يُسَاعِدَ هٰذَا ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي أَصبَحَ بَينَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، مُقَدِّمًا كُلَّ شِفَاءٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلقِدِّيسُ كِلِيمَنْضُوس قَائِلًا: "مَنْ يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ هٰذَا ٱلقَرِيبُ، إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلمُخَلِّصُ نَفسُهُ؟ وَمَنْ أَشفَقَ عَلَينَا وَعَمِلَ مِنْ أَجلِنَا أَكثَرَ مِنهُ؟ إِنَّهُ ٱلطَّبِيبُ ٱلوَحِيدُ ٱلَّذِي سَكَبَ عَلَى جِرَاحِ نُفُوسِنَا نَبِيذَ دَمِهِ، وَزَيتَ شَفَقَتِهِ وَمَحبَّتِهِ." يَسُوعُ هُوَ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ، ٱلَّذِي أَتَى كَيْ يُخَلِّصَ ٱلإِنسَانَ ٱلسَّاقِطَ، وَمِنْ أَجلِ إِعَادَةِ ٱلكَرَامَةِ ٱلمَفْقُودَةِ إِلَيهِ، كَمَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ ٱلنَّبِيِّ أَشْعِيَا: "هُوَ ٱلَّذِي أَخَذَ أَسْقَامَنَا، وَحَمَلَ أَمرَاضَنَا" (متى 8: 17).

 

يَسُوعُ هُوَ السَّامِرِيُّ الرَّحِيمُ، الَّذِي نَزَلَ إِلَيْنَا لِكَيْ يَحْمِلَنَا مِنْ جَدِيدٍ إِلَى أُورَشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ. لَقَدْ ضَمَّدَ جِرَاحَنَا وَٱعْتَنَى بِنَا، كَمَا يَصِفُ بُولُسُ ٱلرَّسُولُ قُرْبَ ٱللَّهِ مِنَّا فِي يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: "هُوَ صُورَةُ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَا يُرَى وَبِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ" (قُولُسِّي 1: 15). إِنَّهُ نَزَلَ لِكَيْ يَقْتَرِبَ مِنَ ٱلْإِنْسَانِ، فَتَحَنَّنَ عَلَى ٱلْبَشَرِيَّةِ ٱلْجَرِيحَةِ، وَقَدَّمَ لَهَا ٱلْمُؤَازَرَةَ بِتَعَالِيمِهِ، وَنِعَمِهِ، وَمَوْتِهِ عَلَى ٱلصَّلِيبِ، وَقِيَامَتِهِ ٱلْمَجِيدَةِ، وَأَعَادَ إِلَيْهَا ٱلْحَيَاةَ ٱلْإِلَهِيَّةَ، وَعَافِيَتَهَا ٱلرُّوحِيَّةَ ٱلَّتِي فَقَدَتْهَا بِٱلْخَطِيئَةِ.

 

إِنْ كَانَ ٱلْكَاهِنُ يُمَثِّلُ ٱلشَّرِيعَةَ، وَٱللَّاوِيُّ يُمَثِّلُ ٱلنُّبُوَّاتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لِلشَّرِيعَةِ أَوِ ٱلنُّبُوَّاتِ أَنْ تَضْمُدَ جِرَاحَاتِنَا ٱلْخَفِيَّةَ، وَتَرُدَّنَا إِلَى طَبِيعَتِنَا ٱلَّتِي خَلَقَنَا ٱللَّهُ عَلَيْهَا، لَكِنَّ "ٱلسَّامِرِيَّ"، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ يَعْنِي "ٱلْحَارِسَ"، فَإِنَّ حَارِسَ إِسْرَائِيلَ – كَمَا يُتَرَنَّمُ صَاحِبُ ٱلْمَزَامِيرِ: "هَا إِنَّ حَارِسَ إِسْرَائِيلَ لَا يَغْفُو وَلَا يَنَام" (مَزْمُور 121: 4) وَٱلَّذِي يُمَثِّلُ ٱلسَّيِّدَ ٱلْمَسِيحَ وَحْدَهُ، نَزَلَ إِلَى ٱلطَّرِيقِ، لِكَيْ يُسَاعِدَ هٰذَا ٱلرَّجُلَ ٱلْمَغْدُورَ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، مُقَدِّمًا كُلَّ شِفَاءٍ.

 

ٱبْنُ ٱللَّهِ ٱلْآبِ جَاءَ هُوَ بِنَفْسِهِ، هُوَ ٱلَّذِي لَبَّى نِدَاءَ ٱلسَّاقِطِ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ، وَعَصَبَ وَدَاوَى وَلَيَّنَ وَعَقَّمَ جِرَاحَاتِنَا بِدَمِ قَلْبِهِ وَزَيْتِ رَحْمَتِهِ، وَأَخَذَنَا إِلَى فُنْدُقِ كَنِيسَتِهِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، دَافِعًا عَنَّا دِينَارَيْنِ: سِرَّ جَسَدِهِ وَدَمِهِ ٱلْأَقْدَسَيْنِ، وَهُوَ سَيَدْفَعُ ٱلثَّمَنَ نِيَابَةً عَنَّا، وَيَدْفَعُ دَائِمًا، لِأَنَّهُ يُرِيدُنَا أَنْ نَكُونَ مُعَافَيْنَ رُوحِيًّا وَجَسَدِيًّا، وَيُوفِي بِمَجِيئِهِ ٱلثَّانِي كُلَّ مَنْ يَعْتَنِي بِنَا رُوحِيًّا أَوْ جَسَدِيًّا.

 

عَامَلَ يَسُوعُ بِٱلرَّحْمَةِ، فَصَارَ قَرِيبَنَا، وَٱقْتَرَبَ مِنَّا بِتَجَسُّدِهِ وَقُبُولِهِ ٱلْآلَامَ عَنَّا، وَسَكَبَ عَلَيْنَا زَيْتَ رَحْمَتِهِ، وَأَتَى بِنَا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى كَنِيسَتِهِ لِنَسْتَرِيحَ (ٱلْفُنْدُق)، وَتَرَكَ لَنَا رُوحَهُ ٱلْقُدُّوسَ (ٱلْمَالَ ٱلَّذِي أَعْطَاهُ ٱلسَّامِرِيُّ لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ). وَهُوَ يَدْعُونَا إِلَى أَخْذِ ٱلْمُبَادَرَةِ لِجَعْلِ ٱلْآخَرِ قَرِيبًا مِنَّا.

 

وَٱلْمَسِيحِيُّ ٱلْيَوْمَ مَدْعُوٌّ لِأَنْ يَكُونَ هُوَ ٱلسَّامِرِيَّ ٱلصَّالِحَ، ٱلَّذِي يُبَلْسِمُ جِرَاحَاتِ ٱلْعَالَمِ وَٱلْإِنْسَانِ ٱلْجَرِيحِ، عَلَى مِثَالِ رَبِّهِ وَمُعَلِّمِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. فَلَا شَرِكَةَ حَقِيقِيَّةَ مَعَ ٱللَّهِ دُونَ حُبِّ ٱلْقَرِيبِ. فَٱلْمَحَبَّةُ وَحْدَهَا تَصْنَعُ ٱلْقَرِيبَ وَٱلْأَخَ وَٱلصَّدِيقَ، وَٱلْمَحَبَّةُ وَحْدَهَا هِيَ فُرْصَةٌ جَدِيدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لِمَعْرِفَةِ يَسُوعَ ٱلطَّرِيقِ وَٱلْحَقِّ وَٱلْحَيَاةِ. وَهٰذَا ٱلْأَمْرُ لَيْسَ بِٱلسَّهْلِ. فَفِي تَجْرِبَةٍ فِي عِلْمِ ٱلنَّفْسِ ٱلْوَاقِعِيِّ، قَبْلَ عَامِ ١٩٧٣، فَشِلَ عَدَدٌ مِنْ طُلَّابِ ٱلْمَدَارِسِ ٱلدِّينِيَّةِ فِي ٱلتَّوَقُّفِ لِمُسَاعَدَةِ شَخْصٍ يَرْتَدِي مَلَابِسَ رَثَّةً عَلَى جَانِبِ ٱلطَّرِيقِ (دَارْلِي وَبَاتْسُون، 1973، ص 100–108).

 

2) كَيْفَ أَكُونُ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؟

 

سَأَلَ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ: «وَمَنْ قَرِيبِي؟» (لوقا 10: 29)، وَقَصْدُهُ: "مَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَرَّبَ مِنِّي؟" فَجَاءَ جَوَابُ يَسُوعَ بِسُؤَالٍ آخَرَ: "مِمَّنْ تَتَقَرَّبُ أَنْتَ؟" بِمَعْنًى آخَرَ: مَاذَا عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ كَيْ أَكُونَ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؟  لَيْسَ ٱلْقَرِيبُ هُوَ ٱلْآخَرُ، بَلْ أَنَا. ٱلْقَرِيبُ هُوَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَقْتَرِبُ مِنَ ٱلْآخَرِينَ، مُظْهِرًا لَهُمُ ٱلْمَحَبَّةَ وَٱلْحَنَانَ، وَلَوْ كَانُوا غُرَبَاءَ.  فَٱلْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ ٱلْمُبَادَرَةِ فَوْرًا إِلَى عَمَلِ ٱلْخَيْرِ مَعَ ٱلْآخَرِ، بِغَضِّ ٱلنَّظَرِ عَنِ ٱلِٱخْتِلَافَاتِ وَٱلصِّرَاعَاتِ ٱلِٱجْتِمَاعِيَّةِ وَٱلْعِرْقِيَّةِ وَٱلدِّينِيَّةِ.

 

يَدْعُونَا مَثَلُ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ أَنْ نَنْسَى كُلَّ بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ فِي قُلُوبِنَا، أَمَامَ ٱلْحَاجَةِ وَٱلْأَلَمِ، بِلَا ٱعْتِبَارٍ لِلْجِنْسِ أَوِ ٱلدِّينِ. ٱلْقَرِيبُ هُوَ "أَنَا" عِنْدَمَا أَقْتَرِبُ مِنَ ٱلْآخَرِينَ بِمَحَبَّةٍ، أَتَقَرَّبُ مِنَ ٱلضَّعِيفِ وَٱلْمُحْتَاجِ وَٱلْغَرِيبِ، وَلَا أَنْتَظِرُ أَنْ يَأْتُوا إِلَيَّ. هُنَا تَبْدَأُ ثَوْرَةُ ٱلْإِنْجِيلِ، وَمَا قَدَّمَهُ لِلْبَشَرِيَّةِ مِنْ جَدِيدٍ. قَلَبَ يَسُوعُ مَفْهُومَ "ٱلْقَرِيبِ" رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ. فَلَا مَجَالَ لِسُؤَالِ: "مَنْ قَرِيبِي؟" بَلْ: "أَنَا قَرِيبٌ مِمَّنْ؟" كَيْفَ أَقْتَرِبُ أَنَا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ كَيْفَ أَكُونُ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ؟

 

ٱلْوَاجِبُ ٱلَّذِي حَدَّدَتْهُ ٱلشَّرِيعَةُ يَدْفَعُنِي لِأُحِبَّ "ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ ... وَقَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مُقارَنة مع لوقا 10: 27). فَمِنْ هُنَا ٱلسُّؤَالُ: "مَنْ هُوَ قَرِيبِي ٱلَّذِي يَدْفَعُنِي لِأُحِبَّهُ كَمَا أُحِبُّ نَفْسِي؟" أَوْ "كَيْفَ أَكُونُ أَنَا قَرِيبَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟"

 

حَوَّلَ يَسُوعُ ٱلْمُعْتَقَدَ ٱلْأَسَاسِيَّ لِعَالِمِ ٱلشَّرِيعَةِ، مِنِ ٱلِٱنْحِصَارِ فِي ٱلذَّاتِ، ٱلْمُتَضَمَّنِ فِي سُؤَالِهِ: "يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لِأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ؟" إِلَى ٱلِٱهْتِمَامِ بِٱلْآخَرِينَ، فَسَأَلَهُ: “فَمَنْ كَانَ فِي رَأْيِكَ، مِنْ هَؤُلَاءِ ٱلثَّلَاثَةِ، قَرِيبَ ٱلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ أَيْدِي ٱللُّصُوصِ؟" (لوقا 10: 36). فَإِذَا ٱسْتَطَاعَ ٱلسَّامِرِيُّ أَنْ يُثْبِتَ نَفْسَهُ قَرِيبًا حَقِيقِيًّا لِلرَّجُلِ ٱلْمَجْرُوحِ، بِإِظْهَارِ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْعَطْفِ، فَكُلُّ ٱلنَّاسِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَقْرِبَاءَ. وَقَدْ غَيَّرَ هٰذَا ٱلْعَمَلُ ٱلْعَظِيمُ مَعْنَى ٱلْعَلَاقَةِ بَيْنَ ٱلْقَوْمِيَّاتِ بِأَكْمَلِهَا. وَكَمَا يَقُولُ ٱلْقِدِّيسُ إِيرُونِيمُوس: "نَحْنُ أَقْرِبَاءُ، كُلُّ ٱلْبَشَرِ أَقْرِبَاءُ لِبَعْضِهِمْ ٱلْبَعْضِ، إِذْ لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ." وَيُضِيفُ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوس: "إِنَّ ٱلْقَرَابَةَ لَا تَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ ٱلدَّمِ، وَلَا عِنْدَ ٱلْعَمَلِ، وَإِنَّمَا تَقُومُ عَلَى تَنْفِيذِ وَصِيَّةِ ٱلْمَحَبَّةِ بِأَعْمَالِ ٱلرَّحْمَةِ." أَنْتَ تَصْنَعُ قَرِيبَكَ. إِذَا أَحْبَبْتَ ٱلْآخَرَ، جَعَلْتَهُ قَرِيبًا. وَإِذَا عَامَلْتَهُ بِٱلرَّحْمَةِ، فَقَدْ أَحْبَبْتَهُ. إِذًا، أَنْتَ تَصْنَعُ ٱلْقَرِيبَ بِٱلْمَحَبَّةِ وَٱلرَّحْمَةِ، كَمَا حَدَثَ فِي حَالَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلْمَجْرُوحِ، ٱلَّذِي عَامَلَهُ ٱلسَّامِرِيُّ "بِٱلرَّحْمَةِ" (لوقا 10: 37). 

 

ٱلْمَحَبَّةُ تَفْتَرِضُ مُتَابَعَةً وَٱنْتِبَاهًا مُتَوَاصِلًا، فَٱلْمَحَبَّةُ لَيْسَتْ عَاطِفَةً عَابِرَةً، بَلْ هِيَ أَمْرٌ يَدُومُ وَيُوَاظَبُ عَلَيْهِ. ٱلَّذِي أُحِبُّهُ، أَتَحَمَّلُهُ، وَأَحْفَظُهُ فِي قَلْبِي، أُنْفِقُ مِنْ وَقْتِي وَحَيَاتِي وَمَالِي وَصِحَّتِي مِنْ أَجْلِهِ، وَبِذٰلِكَ أَكُونُ قَدِ ٱقْتَرَبْتُ مِنْهُ وَجَعَلْتُهُ قَرِيبِي. وَعِنْدَمَا أَنْقُلُ ٱللَّهَ إِلَيْهِ، مِنْ خِلَالِ عَطْفِي وَمَحَبَّتِي وَعِنَايَتِي وَٱنْتِبَاهِي، يَقْتَرِبُ هُوَ تَدْرِيجِيًّا مِنَ ٱللَّهِ، وَيَتَعَرَّفُ عَلَيْهِ. فَٱلْقَرِيبُ هُوَ ٱلَّذِي يَقْتَرِبُ مِنَ ٱلْآخَرِينَ بِمَحَبَّتِهِ وَبِأَعْمَالِ ٱلرَّحْمَةِ. وَبِهٰذِهِ ٱلطَّرِيقَةِ، تَكُونُ ٱلْمَحَبَّةُ بِلَا حُدُودٍ، وَلَا تَكُونُ شَكْلِيَّةً، بَلْ عَمَلِيَّةً، كَمَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ: "اِذْهَبْ فَٱعْمَلْ أَنْتَ أَيْضًا كَذٰلِكَ" (لوقا 10: 37).

 

 أَسَاسُ ٱلرَّحْمَةِ هُوَ ٱلْمَحَبَّةُ. ٱللَّهُ يُحِبُّنَا: "فَإِنَّ ٱللَّهَ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ حَتَّى إِنَّهُ جَادَ بِٱبْنِهِ ٱلْوَحِيدِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونَ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ" (يوحنا 3: 16). وَلِأَنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّنَا، فَهُوَ يَعْتَنِي بِنَا: "ٱنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ، كَيْفَ لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ، وَلَا تَخْزُنُ فِي ٱلْأَهْرَاءِ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَرْزُقُهَا. أَفَلَسْتُمْ أَنْتُمْ أَثْمَنَ مِنْهَا كَثِيرًا؟" (متى 6: 26). وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَنْ يَعْرِفَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِقْدَارَ مَحَبَّتِهِ: "لِيَعْرِفَ ٱلْعَالَمُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَنَّكَ أَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي" (يوحنا 17: 23). وَيَسُوعُ يُحِبُّنَا كَمَا يُحِبُّهُ ٱلْآبُ: "كَمَا أَحَبَّنِي ٱلْآبُ، كَذٰلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ" (يوحنا 15: 9). وَلَمْ يُعَرِّضْ يَسُوعُ حَيَاتَهُ فَقَط، بَلْ بَذَلَهَا فِعْلًا مِنْ أَجْلِنَا: "ٱبْنِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي أَحَبَّنِي، وَجَادَ بِنَفْسِهِ مِنْ أَجْلِي" (غلاطية 2: 20).  وَلِذٰلِكَ، يَتَوَجَّبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْذُلَ نُفُوسَنَا فِي سَبِيلِ غَيْرِنَا، كَمَا يُوصِينَا يُوحَنَّا ٱلرَّسُولُ: "إِنَّمَا عَرَفْنَا ٱلْمَحَبَّةَ بِأَنَّ ذَاكَ قَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِنَا. فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نَبْذُلَ نُفُوسَنَا فِي سَبِيلِ إِخْوَتِنَا" (1 يوحنا 3: 16).

 

خُلَاصَةُ مَثَلِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ تَتَمَحْوَرُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ: مَحَبَّةِ ٱللَّهِ وَمَحَبَّةِ ٱلنَّاسِ.  إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ نُتَرْجِمَ مَحَبَّتَنَا لِلَّهِ، دُونَ أَنْ نُحِبَّ ٱلنَّاسَ. فَٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلْبَشِيرُ يَقُولُ: "إِذَا قَالَ أَحَدٌ: ((إِنِّي أُحِبُّ ٱللَّهَ)) وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، كَانَ كَاذِبًا، لِأَنَّ ٱلَّذِي لَا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ ٱللَّهَ وَهُوَ لَا يَرَاهُ" (1 يوحنا 4: 20). فَٱلْمَحَبَّةُ لِلَّهِ هِيَ نَبْعٌ نَسْتَقِي مِنْهُ، كَيْ نُحِبَّ ٱلنَّاسَ.

 

نَسْتَنْتِجُ مِمَّا سَبق أَنَّ ٱلْوَجْهَ ٱلْأَبَوِيَّ ٱلَّذِي أَظْهَرَهُ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ فِي ٱسْتِقْبَالِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ لِكُلِّ شَخْصٍ، هُوَ ٱلْوَجْهُ ٱلَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْكِسَهُ، حِينَ يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ.  فَلْنَخْتِمْ تَأَمُّلَنَا بِكَلِمَاتِ صَاحِبِ سِفْرِ ٱلْأَمْثَالِ: "مَنْ أَهَانَ بِقَرِيبِهِ يَخْطَأُ، وَٱلَّذِي يَرْحَمُ ٱلْمَسَاكِينَ طُوبَى لَهُ" (أمثال 14: 21). "لَا تُفَارِقْكَ ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ، بَلِ ٱشْدُدْهُمَا فِي عُنُقِكَ، وَٱكْتُبْهُمَا عَلَى لَوْحِ قَلْبِكَ" (أمثال 3: 3). وَكَمَا يُقَالُ فِي أَحَادِيثِ إِخْوَانِنَا ٱلْمُسْلِمِينَ: “يَومَ لَا يُسْعِفُ ٱلْإِنْسَانُ أَخَاهُ ٱلْإِنْسَانَ، تَكُونُ نِهَايَةُ ٱلْعَالَمِ قَدْ دَنَتْ".

 

فِي هٰذِهِ ٱلسَّنَةِ ٱلْيُوبِيلِيَّةِ، نُدْعَى جَمِيعًا لِنَجْعَلَ مِنْهَا "وَقْتَ نِعْمَةٍ"، كَمَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ: "فِي ٱلْوَقْتِ ٱلْمَقْبُولِ ٱسْتَجَبْتُكَ، وَفِي يَوْمِ ٱلْخَلَاصِ أَعَنْتُكَ" (2 قورنتس 6: 2). إِنَّهُ زَمَنُ ٱلتَّوْبَةِ وَٱلرَّجَاء، وَفُرْصَةٌ لِنُجَدِّدَ ٱلْعَهْدَ مَعَ ٱلرَّبِّ، وَلِنَعِيشَ ٱلرَّحْمَةَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْيَوْمِيَّةِ، كَمَا فَعَلَ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ. وَفِي ذِكْرَى ٱلْمَجْمَعِ ٱلْمَسْكُونِيِّ ٱلْأَوَّلِ، نَسْتَمِدُّ ٱلْقُوَّةَ مِنْ شُهُودِ ٱلْإِيمَانِ ٱلْأَوَائِلِ لِنَثْبُتَ فِي ٱلْحَقِّ، وَلْنَسْعَ جَمِيعًا فِي سَبِيلِ وَحْدَةِ ٱلْكَنِيسَةِ، فَهٰذَا هُوَ شَهَادَتُنَا ٱلْحَيَّةُ فِي عَالَمٍ مُمَزَّقٍ. فَلْنَجْعَلْ مِنْ هٰذِهِ ٱلسَّنَةِ زَمَنًا لِلسَّيْرِ مَعَ ٱلْمَسِيحِ، فِي ٱلطَّرِيقِ نَفْسِهِ ٱلَّذِي سَلَكَهُ هُوَ: طَرِيقُ ٱلرَّحْمَةِ، ٱلتَّجَرُّدِ، وَٱلْخِدْمَةِ.

 

 

الخُلاصَة

 

ذَاعَ هٰذَا ٱلْمَثَلُ فِي ٱلْقُرُونِ ٱلْوُسْطَى، وَصُوِّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ "ٱلسَّامِرِيُّ ٱلرَّحِيمُ"، وَنُقِشَتْ لَهُ ٱلْأَيْقُونَاتُ فِي ٱلْكَنَائِسِ عَلَى يَدِ كِبَارِ ٱلْفَنَّانِينَ، أَمْثَالِ فِنْسِنْت فَانْ كُوخْ وَلُوسْ، كَمَا خَلَّدَهُ ٱلنَّحَّاتُونَ بَيْتْ أَبْزَرْ وَفْرَانْسْ لِيُونْ بِأَعْمَالٍ فَنِّيَّةٍ مُجَسَّدَةٍ. وَفِي ٱلْعَصْرِ ٱلْحَدِيثِ، نَقَشَتْ أُسْتُرَالْيَا عُمْلَةً تَحْمِلُ صُورَةَ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلصَّالِحِ حَامِلًا ٱلرَّجُلَ ٱلْمَجْرُوحَ عَلَى دَابَّتِهِ إِلَى ٱلْفُنْدُقِ، كَمَا طُبِعَتْ هٰذِهِ ٱلصُّورَةُ عَلَى عُمْلَةِ ٱلشِّلْنِ ٱلْأَمْرِيكِيِّ لِفَتْرَةٍ سَابِقَةٍ.

 

أمَّا ٱلرِّسَالَةُ الْإِنْجِيلِيَّةُ لمثل السَّامري الرَّحيم فهي اخراج َ يَسُوعُ، ٱلْإِنْسَانَ مِنْ ذَاتِهِ، وَتَقَوْقُعِهِ، وَٱنْكِمَاشِهِ، وَمَحْدُودِيَّتِهِ، وَأَنْ يَضَعَ أَمَامَهُ ٱلْإِنْسَانَ بِكُلِّ كِيَانِهِ، وَكَأَنَّهُ يَدْعُوهُ إِلَى تَوْسِيعِ أُطُرِ تَضَامُنِهِ ٱلْبَشَرِيِّ إِلَى أَقْصَى ٱلْحُدُودِ، دُونَ ٱعْتِبَارٍ لِصِلَةِ ٱلْقَرَابَةِ، أَوِ ٱلِانْتِمَاءِ ٱلدِّينِيِّ أَوِ ٱلْمَذْهَبِيِّ أَوِ ٱلْوَطَنِيِّ، بَلْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ، بِلَا تَمْيِيزٍ فِي ٱلْجِنْسِ أَوِ ٱللُّغَةِ أَوِ ٱللَّوْنِ. إِنَّ مَثَلَ ٱلسَّامِرِيِّ يُبَيِّنُ كَيْفَ يَكُونُ ٱلْمُؤْمِنُ قَرِيبًا مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، فَبَيْنَمَا كَانَ عَالِمُ ٱلشَّرِيعَةِ يُرِيدُ رَسْمَ ٱلْحُدُودِ لِتَحْدِيدِ مَنْ يَجِبُ أَنْ نُحِبَّهُ وَمَنْ لَا يَجِبُ، دَعَا يَسُوعُ إِلَى إِزَالَةِ ٱلْحُدُودِ، وَإِلَى أَنْ نُصْبِحَ نَحْنُ أَنْفُسُنَا "قَرِيبِينَ" لِكُلِّ مَنْ نُصَادِفُهُ عَلَى ٱلطَّرِيقِ.

 

يُعلِّمُنا المَثلُ مَعْنَى ٱلْقَرِيبِ أَنَّه هُوَ كُلُّ إِنْسَانٍ مُحْتَاجٍ، مَهْمَا كَانَتْ عَقِيدَتُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ خَلْفِيَّتُهُ ٱلِاجْتِمَاعِيَّةُ. فَـ"مَحَبَّةُ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِبَنِي جِنْسِهِمْ فَقَطْ هِيَ مَحَبَّةٌ نَاقِصَةٌ، يَجِبُ أَنْ يُحِبَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْجَمِيعَ"، كَمَا قَالَ ٱللَّاهُوتِيُّ وَٱلْفَيْلَسُوفُ فْرَنْسِيسْ شِيفِرْ (1912–1984). وَقَدْ نَادَى مَارْتِنْ لُوثِرْ كِينْغْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ، وَعَلَّمَ عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْقَرِيبِ، وَكَانَ لَهُ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي إِلْغَاءِ ٱلتَّفْرِقَةِ ٱلْعُنْصُرِيَّةِ، إِذْ أَنَّ ٱلْعُنْصُرِيَّةَ تُبَاعِدُ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ، وَتُثِيرُ ٱلْحُرُوبَ، وَتُدَمِّرُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْعَامَّةَ وَٱلْخَاصَّةَ.

 

ويُعلِّمُنا المَثلُ أن فِي ٱلدَّيْنُونَةِ، يُحَاسِبُنَا ٱلرَّبُّ عَلَى مَوْقِفِنَا ٱلصَّالِحِ تُجَاهَ ٱلْقَرِيبِ، إِذْ يَقُولُ: "لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وَعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وَكُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي، وَعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي، وَمَرِيضًا فَعُدْتُمُونِي، وَسَجِينًا فَجِئْتُمْ إِلَيَّ" (مَتَّى 25: 35–36). وَأَمَّا ٱلْآخَرُونَ، فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا أَعْمَالَ ٱلرَّحْمَةِ، يُدَانُونَ. وَيَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّنَا لَا نُدَانُ فَقَطْ عَلَى مَا فَعَلْنَاهُ مِنْ شَرٍّ، بَلْ أَيْضًا عَلَى مَا لَمْ نَفْعَلْهُ مِنْ خَيْرٍ. فَإِذَا نَادَانَا إِنْسَانٌ، لَا بِلِسَانِهِ بَلْ بِحَالِهِ، أَنْ نُسْعِفَهُ وَنَعْضُدَهُ وَنُعِينَهُ، فَإِنْ لَمْ نَسْتَجِبْ، نَكُونُ قَدْ رَفَضْنَا مَلَكُوتَ ٱللَّهِ.

 

إِنَّ إِيمَانَنَا ٱلْمَسِيحِيَّ يُعَلِّمُنَا أيضا أَنَّ هُنَاكَ "سَامِرِيًّا أَعْظَمَ" مِنَ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ. إِنَّهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي لَمْ يُنْقِذْ إِنْسَانًا جَرِيحًا فَقَطْ، بَلْ أَنْقَذَ ٱلْبَشَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنَ ٱلْمَوْتِ وَٱلْهَلَاكِ ٱلْأَبَدِيِّ. لَقَدْ عَطَفَ يَسُوعُ عَلَى ٱلْبَشَرِيَّةِ ٱلْخَاطِئَةِ، وَأَنْقَذَهَا مِنْ بُؤْسِهَا ٱلرُّوحِيِّ، بِتَعَالِيمِهِ، وَمَوْتِهِ، وَقِيَامَتِهِ، وَتَدَفُّقِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهَا.

 

إِنَّهُ ٱلسَّامِرِيُّ ٱلْأَعْظَمُ، صَاحِبُ ٱلْمَحَبَّةِ ٱللَّامَحْدُودَةِ، إِنَّهُ ٱلطَّبِيبُ ٱلْوَحِيدُ، ٱلَّذِي سَكَبَ عَلَى جِرَاحِ نُفُوسِنَا نَبِيذَ دَمِهِ وَزَيْتَ شَفَقَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَلِذٰلِكَ، فَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَبْحَثَ عَنِ ٱللَّهِ فِي ٱلسَّمَاءِ أَوْ وَرَاءَ ٱلْبِحَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ قَرِيبًا مِنَّا، كَمَا يَقُولُ ٱلْإِنْجِيلُ: "وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ بَشَرًا فَسَكَنَ بَيْنَنَا" (يُوحَنَّا 1: 14). لقد لخَّصَ ٱلْعَلَّامَةُ أُورِيجَانُوسُ ٱلْمَعْنَى ٱلرَّمْزِيَّ لِمَثَلِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ بِقَوْلِهِ: "ٱلْإِنْسَانُ ٱلنَّازِلُ يُمَثِّلُ آدَمَ، وَأُورَشَلِيمُ تُـمَثِّلُ ٱلْفِرْدَوْسَ، وَأَرِيحَا هِيَ ٱلْعَالَمُ، وَٱللُّصُوصُ هُمُ ٱلْقُوَّةُ ٱلْعُدْوَانِيَّةُ، وَٱلْكَاهِنُ هُوَ ٱلنَّامُوسُ، وَٱللَّاوِيُّ هُوَ ٱلْأَنْبِيَاءُ، وَٱلسَّامِرِيُّ هُوَ ٱلْمَسِيحُ، وَٱلْجِرَاحَاتُ هِيَ ٱلْعِصْيَانُ، وَٱلدَّابَّةُ هِيَ جَسَدُ ٱلْمَسِيحِ، وَٱلْفُنْدُقُ ٱلْمَفْتُوحُ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ ٱلدُّخُولَ فِيهِ هُوَ ٱلْكَنِيسَةُ، وَٱلدِّينَارَانِ يُـمَثِّلَانِ ٱلْآبَ وَٱلِٱبْنَ، وَصَاحِبُ ٱلْفُنْدُقِ هُوَ رَئِيسُ ٱلْكَنِيسَةِ ٱلَّذِي يُدَبِّرُهَا، وَوَعْدُ ٱلسَّامِرِيِّ بِٱلرُّجُوعِ هُوَ تَصَوُّرٌ لِـمَجِيءِ ٱلْمَسِيحِ ٱلثَّانِي." (أُورِيجَانُوس، عِظَة ٣٤، فَقْرَة ٣).

 

وأخيرًا، يدعو يسوع من خلال هذا المثل الى دَعْوَةٌ لِلْعَمَلِ.  إِنَّ مَثَلَ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ لَيْسَ مُجَرَّدَ قِصَّةٍ جَمِيلَةٍ نُعْجَبُ بِهَا، بَلْ هُوَ دَعْوَةٌ شَخْصِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ مُوَجَّهَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا. إِنَّهُ نِدَاءُ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ ذَوَاتِنَا، وَمِنْ ٱنْشِغَالَاتِنَا، وَأَنْ نَفْتَحَ أَعْيُنَنَا وَقُلُوبَنَا عَلَى ٱلْإِنْسَانِ ٱلْجَرِيحِ عَلَى قَارِعَةِ ٱلطَّرِيقِ: ذَٰلِكَ ٱلَّذِي قَدْ يَكُونُ جَارَنَا، زَمِيلَنَا، أَوْ حَتَّى شَخْصًا غَرِيبًا لَا نَعْرِفُهُ، وَرُبَّمَا مِنْ طَائِفَةٍ أَوْ ثَقَافَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. إِنَّ ٱلْعَالَمَ ٱلْيَوْمَ جَرِيحٌ: فِي ٱلْعَلَاقَاتِ، فِي ٱلْبُيُوتِ، فِي ٱلشَّوَارِعِ، فِي ٱلنُّفُوسِ. وَٱلْكَنِيسَةُ – أَيْ نَحْنُ – مَدْعُوَّةٌ أَنْ تَكُونَ "فُنْدُقَ ٱلرَّحْمَةِ" ٱلَّذِي يَسْتَقْبِلُ ٱلْمَجْرُوحِينَ، وَيَضُمِّدُ جِرَاحَهُمْ بِزَيْتِ ٱلشَّفَقَةِ، وَبَلَسَمِ ٱلْكَلِمَةِ، وَدِفْءِ ٱلْمَحَبَّةِ. فَلْنُصْغِ ٱلْيَوْمَ لِصَوْتِ يَسُوعَ ٱلْقَائِلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا: "ٱذْهَبْ فَٱعْمَلْ أَنْتَ أَيْضًا كَذَٰلِكَ" (لُوقَا 10: 37).

 

 

دُعاء

 

اللَّهُمَّ،
أَهِّلْنَا، يَا رَبُّ، لِنَقْتَدِيَ بِالسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ،
مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُسَاعَدَةِ قَرِيبِنَا وَإِسْعَافِهِ وَٱلْعِنَايَةِ بِهِ،
لِنَسْتَحِقَّ أَنْ نَنَالَ ٱلطُّوبَى ٱلَّتِي أَعْطَيْتَهَا يَا رَبُّ،

"طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُرْحَمُونَ" (متى 5: 7). آمين.

 

 

قِصَّةٌ وَاقِعِيَّةٌ مِنْ وَحْيِ مَثَلِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ

 

فِي ٱلْقَرْنِ ٱلثَّامِنِ عَشَرَ، وَبَيْنَمَا كَانَ ٱلْوَاعِظُ ٱلْأَلْمَانِيُّ ٱلشَّهِيرُ فْرِيدْرِيك أُولْبِرْتِين عَائِدًا مِنْ إِحْدَى ٱلْقُرَى إِلَى مَنْزِلِهِ، وَاجَهَتْهُ عَاصِفَةٌ ثَلْجِيَّةٌ شَدِيدَةٌ. لَمْ يَجِدْ وَسِيلَةَ نَقْلٍ، وَكَانَ ٱلْوَقْتُ مُتَأَخِّرًا، فَقَرَّرَ أَنْ يُتَابِعَ سَيْرًا عَلَى ٱلْأَقْدَامِ. وَمَعَ ٱشْتِدَادِ ٱلْعَاصِفَةِ، ضَلَّ طَرِيقَهُ، وَشَعَرَ بِإِعْيَاءٍ شَدِيدٍ، وَوَهْنٍ أَقْعَدَهُ عَلَى جَانِبِ ٱلطَّرِيقِ، حَتَّى خَشِيَ أَنْ يُصَابَ بِٱلتَّجَمُّدِ. وَبَعْدَ سَاعَاتٍ مِنَ ٱلِٱنْتِظَارِ، ظَهَرَتْ عَرَبَةٌ تَجُرُّهَا ٱلْخُيُولُ. وَلَمَّا شَاهَدَ ٱلسَّائِقُ شَخْصًا جَالِسًا عَلَى قَارِعَةِ ٱلطَّرِيقِ، تَوَقَّفَ وَتَرَجَّلَ مِنْ عَرَبَتِهِ، وَحَمَلَ ٱلْوَاعِظَ بِرِفْقٍ، وَأَرْكَبَهُ ٱلْعَرَبَةَ، ثُمَّ أَوْصَلَهُ إِلَى أَقْرَبِ مَرْكَزٍ لِلْعِلَاجِ، وَطَلَبَ مِنَ ٱلْعَامِلِينَ فِيهِ أَنْ يَعْتَنُوا بِهِ. وَقَبْلَ أَنْ يُغَادِرَ، نَادَى ٱلْوَاعِظُ ٱلرَّجُلَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ وَقَالَ لَهُ: ــ سَيِّدِي، مَا ٱسْمُكَ؟ أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَكَ فِي صَلَاتِي أَمَامَ ٱللَّهِ. فَٱبْتَسَمَ ٱلرَّجُلُ، وَقَالَ: ــ سَيِّدِي، أَنْتَ وَاعِظٌ... أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ سُؤَالًا: مَا ٱسْمُ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلصَّالِحِ ٱلْحَقِيقِيُّ؟ فَأَجَابَ ٱلْوَاعِظُ مُتَأَمِّلًا: ــ لَا أَعْلَمْ... لَمْ يَذْكُرِ ٱلْكِتَابُ ٱلْمُقَدَّسُ ٱسْمَهُ. فَقَالَ لَهُ ٱلرَّجُلُ: ــ إِذَنْ، سَامِحْنِي إِنْ أَخْفَيْتُ ٱسْمِي عَنْكَ، حَتَّى تُخْبِرَنِي أَنْتَ بِٱسْمِ ٱلسَّامِرِيِّ ٱلرَّحِيمِ.