موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
النص الإنجيلي (لوقا 12: 13-21)
13 فقالَ لَه رجُلٌ مِنَ الجَمْع: ((يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث)). 14 فقالَ لهَ: ((يا رَجُل، مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟)) 15 ثُمّ قالَ لَهم: ((تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ)). 16 ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: ((رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه، 17 فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي. 18 ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي. 19 وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي. 20 فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟ 21 فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله)).
مقدِّمَة
يَتناوَلُ لوقا الإنجيليُّ مَثَلَ "ٱلْغَنِيِّ ٱلْغَبِيِّ" (لوقا 12: 13–21)، مُبَيِّنًا موقِفَ يسوعَ المسيحِ من خيراتِ الدنيا، بِرُؤيةٍ جديدةٍ، في عالَمٍ يَختَلِفُ فيهِ النّاسُ في مَذاهِبِهم وآرائِهم حولَ الغِنَى. ويُحَذِّرُنا يسوعُ من أخطرِ عَدُوٍّ يُمكِنُ أن يُصيبَ المؤمنَ، ألا وهوَ الطَّمَع، الّذي "يُجَفِّفُ النَّفْسَ" (يشوع بن سيراخ 14: 9)، ويُنَجِّسُها (متى 7: 23)، ويُبعِدُ الإنسانَ عن ربِّه وأخيهِ الإنسان. ومِن هُنا تَكمُنُ أَهمِّيَّةُ التأمُّلِ في وِقائِعِ هذا النَّصِّ الإنجيليِّ وتَطْبيقاتِه الرّوحِيَّةِ والراعَوِيَّة.
أولا: وَقِائِع النَّص الإنْجيلي (لوقا 12: 13-21)
13 فقالَ لَه رجُلٌ مِنَ الجَمْع: يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث
تَشِيرُ عِبَارَةُ "رَجُلٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ" إِلَى شَخْصٍ مِنَ ٱلْحَاضِرِينَ ٱلْمُسْتَمِعِينَ لِخِطَابِ يَسُوعَ، وَلَيْسَ إِلَى أَحَدِ تَلَامِيذِهِ. وَلٰكِنَّهُ كَانَ مُهْتَمًّا بِأُمُورِهِ ٱلْخَاصَّةِ، إِذْ تَقَدَّمَ بِطَلَبٍ يَكْشِفُ عَنْ نِيَّةِ طَمَعٍ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ جَوَابِ يَسُوعَ: "تَبَصَّرُوا وَٱحْذَرُوا كُلَّ طَمَعٍ، لِأَنَّ حَيَاةَ ٱلْمَرْءِ، وَإِنِ ٱغْتَنَى، لَا تَأْتِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ" (لوقا 12: 15). وَقَدْ وَجَّهَ يَسُوعُ رَدَّهُ لَا إِلَى ٱلرَّجُلِ وَحْدَهُ، بَلْ إِلَى ٱلْجُمُوعِ وَٱلتَّلَامِيذِ مَعًا، لِأَنَّ هٰذِهِ ٱلْمُشْكِلَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ تَمَسُّ ٱلْجَمِيعَ. فَهٰذَا الرَّجُلُ يُمَثِّلُنَا جَمِيعًا فِي تَسَاؤُلِهِ لِيَسُوعَ. أَمَّا عِبَارَةُ "ٱلْجَمْعُ"، فَتَشِيرُ إِلَى ٱلرُّسُلِ وَٱلْجُمُوعِ ٱلَّتِي كَانَتْ تُتَابِعُ خِطَابَ يَسُوعَ. وَأَمَّا عِبَارَةُ: "يَا مُعَلِّمُ، مُرْ أَخِي بِأَنْ يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ"، فَتُظْهِرُ أَنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ أَرَادَ ٱسْتِغْلَالَ مَكَانَةِ يَسُوعَ وَسُلْطَتِهِ ٱلأَخْلَاقِيَّةِ لِصَالِحِهِ ٱلشَّخْصِيِّ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَتَدَخَّلَ فِي خِلَافٍ أُخَوِيٍّ حَوْلَ ٱلْمِيرَاثِ. وَهٰذَا ٱلْمَطْلَبُ يُذَكِّرُنَا بِمَا فَعَلَتْ مَرْتَا حِينَ تَوَجَّهَتْ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: "يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي"((لوقا 10: 40). فَكِلَا الطَّلَبَيْنِ يَكْشِفَانِ نَفْسَ التَّوَجُّه: رَغْبَةُ ٱلْإِنْسَانِ فِي تَسْخِيرِ سُلْطَانِ يَسُوعَ لِخِدْمَةِ إِرَادَتِهِ ٱلشَّخْصِيَّةِ، بَدَلًا مِنِ ٱلْإِصْغَاءِ إِلَى كَلِمَتِهِ وَٱلِانْفِتَاحِ عَلَى مَشِيئَةِ ٱللهِ. وَبِهٰذَا يُعْلِنُ ٱلنَّصُّ أَنَّ ٱلإِيمَانَ ٱلْحَقِيقِيَّ لا يَقُومُ عَلَى فَرْضِ مَا نُرِيدُ عَلَى يَسُوعَ، بَلْ عَلَى قَبُولِ مَا يُرِيدُهُ هُوَ لَنَا. كَانَ رِجَالُ ٱلدِّينِ وَعُلَمَاءُ ٱلشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي مِثْلِ هٰذِهِ ٱلْقَضَايَا، وَكَانُوا يَحْتَكِمُونَ إِلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، إِذْ إِنَّ تَقْسِيمَ ٱلْمِيرَاثِ كَانَ يَتِمُّ بِحَسَبِهَا، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ ٱلْبَكُورِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ ٱلتَّثْنِيَةِ: "لَكِنَّهُ يَعْتَرِفُ بِٱبْنِ ٱلْبَغِيضَةِ بِكْرًا، فَيُعْطِيهِ حَقَّ ٱلْبَكُورِيَّةِ، أَيْ نَصِيبَ ٱثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ مَا يُوجَدُ عِندَهُ" (تثنية 21: 17). تَشِيرُ عِبَارَةُ "ٱلْمِيرَاثِ" إِلَى ٱلْغِنَى ٱلْمَادِّيِّ ٱلَّذِي لَمْ يَتْعَبْ فِيهِ ٱلْإِنْسَانُ، هُوَ مَا يَتَوَارَثُهُ عَنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَيَنَالُهُ بَعْدَ ٱنْتِهَاءِ حَيَاتِهِمُ ٱلْأَرْضِيَّةِ دُونَ أَدْنَى تَعَبٍ" (جَامِعَة 2: 21). أَمَّا ٱلْمِيرَاثُ فَهُوَ حَقُّ ٱلِابْنِ فِي وِرَاثَةِ مُمتَلَكَاتِ وَالِدِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ ٱلنَّبِيِّ إِيلِيَّا: "حَاشَايَ لِي مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي" (1 ملوك 21: 3). وَكَانَ ٱلْمُسْتَفِيدُ ٱلْأَكْبَرُ مِنْ هٰذَا ٱلْمِيرَاثِ هُوَ ٱلِابْنُ ٱلْبِكْرُ، إِذْ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ نَصِيبَ ٱثْنَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ٱبْنَ زَوْجَةٍ مَحْبُوبَةٍ أَمْ مَكْرُوهَةٍ (تثنية 21: 15–17). وَيُرَجَّحُ أَنَّ هٰذَا ٱلِامْتِيَازَ كَانَ مُرْتَبِطًا بِٱلْمَسْؤُولِيَّاتِ ٱلْعَائِلِيَّةِ ٱلَّتِي كَانَ يَتَوَلَّاهَا ٱلِابْنُ ٱلْأَكْبَرُ، مِنْ إِقَامَةِ ٱلْوَلَائِمِ، وَٱسْتِقْبَالِ ٱلضُّيُوفِ فِي خِيمَتِهِ، وَتَقْدِيمِ ٱلْهَدَايَا بِٱسْمِ ٱلْعَائِلَةِ، كَوْنَهُ يُمَثِّلُهَا رَسْمِيًّا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى بَنُونَ أَوْ بَنَاتٌ، يُعْطَى ٱلْمِيرَاثُ لِإِخْوَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْوَةٌ، يُنْقَلُ ٱلْمِيرَاثُ إِلَى أَقْرَبِ نَسِيبٍ لَهُ مِنْ عَشِيرَتِهِ (عدد 27: 8–11). وَكَانَ ٱلْمِيرَاثُ يَشْمَلُ، إِلَى جَانِبِ ٱلْأَرْضِ، ٱلْعَبِيدَ، وَٱلْمُمْتَلَكَاتِ، وَٱلْآبَارَ، وَسَائِرَ مَا يَمْلِكُهُ رَبُّ ٱلْبَيْتِ (تثنية 21: 16). وَمَعَ دُخُولِ ٱلتَّأْثِيرَاتِ ٱلْقَانُونِيَّةِ ٱلْيُونَانِيَّةِ وَٱلرُّومَانِيَّةِ، بَدَأَ ٱلْيَهُودُ يَتَعَامَلُونَ بِمَفَاهِيمَ جَدِيدَةٍ كَـ"ٱلْوَصِيَّةِ" وَ"ٱلْمُوصِي"، وَأَصْبَحَ هٰذَا ٱلْأَمْرُ شَائِعًا لَدَيْهِمْ، كَمَا أَشَارَ كَاتِبُ ٱلرِّسَالَةِ إِلَى ٱلْعِبْرَانِيِّينَ: "لِأَنَّ ٱلْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ إِلَّا بَعْدَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَا قُوَّةَ لَهَا مَا دَامَ ٱلْمُوصِي حَيًّا" (عبرانيين 9: 16–17).
14 فقالَ لهَ: يا رَجُل، مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟
تَشِيرُ عِبَارَةُ "يا رَجُل" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Ἄνθρωπε (مَعْنَاهَا: "يا إِنْسَان") إِلَى صِيغَةٍ قَاسِيَةٍ مِنْ مُخَاطَبَةِ يَسُوعَ لِهٰذَا الرَّجُلِ، مُوَجِّهًا لَهُ اللَّوْمَ بِسَبَبِ طَمَعِهِ؛ أَمَّا عِبَارَةُ: "مَن أَقَامَنِي عَلَيْكُم قَاضِيًا أَوْ قَسَّامًا؟" فَتُشِيرُ إِلَى سُؤَالٍ اسْتِفْهَامِيٍّ إِنْكَارِيٍّ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُقِمْهُ أَحَدٌ قَاضِيًا، لا إِنْسَانٌ وَلا اللهُ. فَلِلْوِرَاثَةِ قَانُونُهَا، وَيَجِبُ أَنْ يُلْتَجَأَ لا إِلَى وَاسِطَةٍ، بَلْ إِلَى القَانُونِ. لِذٰلِكَ رَفَضَ يَسُوعُ أَنْ يَتَوَلَّى مُهِمَّةً فِي شُؤُونِ الحَيَاةِ المَدَنِيَّةِ، إِذْ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللهُ بِمُعَالَجَةِ أُمُورِ الوِرَاثَةِ. إِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ لِيَفْضَّ الخِلَافَاتِ المُتَعَلِّقَةَ بِالمِيرَاثِ (خُرُوج 2:14)، بِالرُّغْمِ مِنْ أَنَّ يَسُوعَ أَكَّدَ أَنَّ لَهُ كُلَّ سُلْطَانٍ: "إِنِّي أُولِيتُ كُلَّ سُلطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (مَتَّى 28:18)، وَقَالَ: "الآبُ جَعَلَ الدَّيْنُونَةَ كُلَّهَا لِلابْنِ" (يُوحنَّا 5:22). إِنَّهُ مَلِكٌ، وَلٰكِنَّ مَمْلَكَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا العَالَمِ (يُوحنَّا 18:36). إِنَّهُ قَاضٍ وَدَيَّانٌ، وَلٰكِنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ لِيُقْضِيَ فِي أُمُورِ المِيرَاثِ، بَلْ لِيَحُثَّ النَّاسَ عَلَى اقْتِنَاءِ كَنْزٍ فِي السَّمَاءِ وَمِيرَاثٍ أَبَدِيٍّ. هَكَذَا يُمَيِّزُ يَسُوعُ نَفْسَهُ عَن مُوسَى النَّبِيِّ الَّذِي أَقَامَ نَفْسَهُ "رَئِيسًا وَحَاكِمًا أَوْ قَاضِيًا" (خُرُوج 2:14). إِذْ أَنَّ يَسُوعَ أَنَاطَ مَوَاضِيعَ الإرْثِ بِالنُّظُمِ وَالمَحَاكِمِ المُخْتَصَّةِ، فَالمَسِيحِيَّةُ لَمْ تُشَرِّعْ أَيَّ قَانُونٍ لِلْمِيرَاثِ. وَقَدْ تَطَرَّقَ المَجْمَعُ الفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي إِلَى مَبْدَإِ اسْتِقْلَالِيَّةِ النُّظُمِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَنِ الدِّينِيَّةِ، فَقَالَ: "لا تَرْتَبِطُ الكَنِيسَةُ بِأَيِّ نِظَامٍ سِيَاسِيٍّ" (فرح ورجاء، 43، 76). لِذٰلِكَ، لا يَجُوزُ تَسْخِيرُ الإِنْجِيلِ فِي خِدْمَةِ ضَمَانَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ أَنْ يُوَظِّفَ البَشَرُ اللهَ وَالإِنْجِيلَ وَالكَنِيسَةَ لِخِدْمَةِ رَأْيِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. فَلا يَجُوزُ أَنْ نَتَنَازَعَ مَعَ الإِخْوَةِ، بَلْ بِالحَرِيِّ نَرْحَبَ بِهِمْ، حَتَّى وَإِنْ أَرَادُوا اسْتِغْلَالَنَا، إِذْ يَقُولُ: "وَمَنِ اغْتَصَبَ مَالَكَ فَلا تُطَالِبْهُ بِهِ" (لوقا 6:30). فَالمَسِيحُ أَتَى لِيَجْعَلَنَا أن نَرِثُ السَّمَاءَ. وَمِنْ هُنَا تُولَدُ الأُخُوَّةُ الحَقِيقِيَّةُ الَّتِي لا تَكْتَفِي بِالعَدَالَةِ فِي تَقْسِيمِ الخَيْرَاتِ بِالتَّسَاوِي، كَمَا كَانَ يَأْمَلُ الرَّجُلُ الَّذِي الْتَجَأَ إِلَى يَسُوعَ، بَلِ الَّتِي تَجْعَلُ مِنَ الهِبَةِ المَجَّانِيَّةِ طَرِيقًا إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ نَصِيبِ جَمِيعِ النَّاسِ.
15 ثُمّ قالَ لَهم: تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع" إِلَى القَنَاعَةِ وَتَجَنُّبِ الطَّمَعِ فِي تَطْبِيقِ مَوَاضِيعِ الإرْثِ، لأَنَّ الطَّمَعَ لَيْسَ بِنَافِعٍ، كَمَا يَقُولُ المَثَلُ العَرَبِيُّ: "الطَّمَعُ ضَرَّ وَمَا نَفَعَ"، إِذْ أَنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ لا تَقُومُ عَلَى مُمتَلَكَاتِهِ. فَإِنَّ المُشْكِلَةَ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ لَنْ تُحَلَّ بِتَقْسِيمٍ مُتَسَاوٍ لِلمِيرَاثِ، بَلْ حِينَ يَتَحَرَّرُ قَلْبَاهُمَا مِنَ الرَّغْبَةِ الدَّائِمَةِ فِي التَّمَلُّكِ، وَإِلَّا تَبْقَى عَلَاقَتُهُمَا مُهَدَّدَةً دَائِمًا بِشَهْوَةِ الطَّمَعِ الَّتِي لا يُمْكِنُ إِشْبَاعُهَا. "يُحَذِّرُنَا يَسُوعُ مِنَ ٱلطَّمَعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُشْكِلَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ، بَلْ هُوَ مَشْكِلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِٱلِٱكْتِفَاءِ ٱلذَّاتِيِّ. فَٱلِٱكْتِفَاءُ ٱلذَّاتِيُّ يَعْنِي أَنْ لَا مَكَانَ لِلَّهِ فِي حَيَاةِ مَنْ يُعْمِيهِمُ ٱلْجَشَعُ وَٱلطَّمَعُ." أَمَّا عِبَارَةُ: "تَبَصَّروا" (لوقا 12: 15)، فَتُشِيرُ إِلَى دَعْوَةٍ لِـلْإِنْسَانِ أَنْ يُفَكِّرَ بِعُمقٍ وَيَفْحَصَ نَفْسَهُ فَاحِصًا مَواقِفَهُ وَنَوَايَاهُ ٱلْبَاطِنَةَ. إِنَّهَا نَظْرَةٌ دَاخِلِيَّةٌ تُفَتِّشُ ٱلْقَلْبَ وَتَكْشِفُ مَا يُهَدِّدُهُ مِنْ شَهَوَاتٍ وَرَغَبَاتٍ غَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ. وَلٰكِنَّ هٰذَا ٱلتَّأَمُّلَ ٱلدَّاخِلِيَّ وَحْدَهُ لا يَكْفِي؛ إِذْ يُضِيفُ يَسُوعُ: "وَٱحْذَروا"، فَيَدْعُو إِلَى خُطُوَاتٍ عَمَلِيَّةٍ وَمَوَاقِفَ وَاضِحَةٍ تَضْمَنُ ٱلِابْتِعَادَ عَنِ ٱلْخَطَرِ. فَـ"تَبَصَّروا" هِيَ دَعْوَةٌ إِلَى ٱلْوَعْيِ ٱلرُّوحِيِّ ٱلدَّاخِلِيِّ، أَمَّا "وَٱحْذَروا" فَهِيَ دَعْوَةٌ إِلَى تَرْجَمَةِ هٰذَا ٱلْوَعْيِ إِلَى سُلُوكٍ حَيَاتِيٍّ وَخِيَارَاتٍ مُلْمُوسَةٍ. وَبِذٰلِكَ يُرِيدُ يَسُوعُ أَنْ يُنَبِّهَ إِلَى أَنَّ ٱلْإِيمَانَ ٱلْحَقِيقِيَّ لا يَقْتَصِرُ عَلَى ٱلْفِكْرِ وَٱلتَّأَمُّلِ، بَلْ يَظْهَرُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلْعَمَلِيَّةِ وَٱلِاخْتِيَارَاتِ ٱلْمُتَّزِنَةِ. وَٱلْخَطَرُ ٱلْمُسْتَهْدَفُ هُنَا وَاضِحٌ: ٱلطَّمَعُ، ٱلَّذِي يُقَيِّدُ ٱلْقَلْبَ وَيُغَلِّفُهُ بِوَهْمِ ٱلْغِنَى، فَيَجْعَلُ ٱلْإِنْسَانَ يَفْقِدُ بَصِيرَتَهُ وَيَنْسَى أَنَّ ٱلْحَيَاةَ لا تُقَاسُ بِمُقْتَنَيَاتِهِ بَلْ بِغِنَاهُ عِنْدَ ٱللهِ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس قَائِلًا: "لَيْسَ ٱلْغِنَى فِي كَثْرَةِ ٱلْمُمْتَلَكَاتِ، بَلْ فِي قَلْبٍ خَالٍ مِنَ ٱلطَّمَعِ. مَنْ يَمْتَلِكُ ٱللهَ يَمْتَلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَنْ يَمْتَلِكُ كُلَّ شَيْءٍ دُونَ ٱللهِ فَهُوَ فَقِيرٌ" (العظة على المزمور 62). وَيُضِيفُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ مُحَذِّرًا: "ٱلطَّمَعُ جُذُورُ كُلِّ ٱلشُّرُورِ، فَهُوَ أَسْوَأُ مِنَ ٱلْحَرِيقِ، لِأَنَّهُ إِذَا ٱمْتَدَّ لَا يُتْرِكُ شَيْئًا إِلَّا وَأَفْسَدَهُ. ٱلْمَالُ مَوْقِفُ ٱخْتِبَارٍ: فَإِمَّا أَنْ نُسَخِّرَهُ فِي ٱلْبِرِّ، أَوْ نَصِيرَ عَبِيدًا لَهُ" (العظة على إنجيل متى 77: 2). أَمَّا عِبَارَةُ "طَمَع" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ πλεονεξίας (مَعْنَاهَا: الحُصُولُ عَلَى الأَكْثَر) فَتُشِيرُ إِلَى الرَّغْبَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الخَيْرِ الزَّمَنِيِّ، بَلْ فِي فَيْضِ الخَيْرَاتِ (لوقا 9:17). فَالطَّمَعُ يَدُلُّ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنَ الآخَرِينَ، يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنَ الضَّرُورِيِّ، وَيَمْلِكُ مَا يَفِيضُ عَنْهُ. وَهُوَ الشُّعُورُ الدَّائِمُ بِعَدَمِ الاكْتِفَاءِ، بَلْ هُوَ النَّهَمُ لِلأَرْضِيَّاتِ وَالمَادِّيَّاتِ، وَالانْشِغَالُ بِالمَادِّيَّاتِ عَنِ الرُّوحِيَّاتِ، وَعَدَمُ الاهْتِمَامِ بِأَنْ يَكُونَ لِلشَّخْصِ كَنْزٌ سَمَاوِيٌّ. وَهِيَ تَعْنِي فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ: عَطَشًا فِي التَّمَلُّكِ لا يَقِفُ عِندَ حَدٍّ، دُونَ الالْتِفَاتِ إِلَى الآخَرِينَ، بَلْ أَحْيَانًا عَلَى حِسَابِهِم، وَهُوَ دَلِيلُ الرَّغْبَةِ الفَاسِدَةِ. فَالطَّمَعُ مُخَالِفٌ لِلْوَصِيَّةِ العَاشِرَةِ (خُرُوج 20:17)، وَيَصِفُهُ بُولُسُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ: "عِبَادَةُ الأَوْثَانِ" (قُولُسِّي 3:5). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس قَائِلًا: "بَاطِلٌ هُوَ تَكْرِيسُ الأَمْوَالِ إِنْ كَانَ الإِنْسَانُ لا يَعْرِفُ كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهَا". فَإِنَّ الطَّمَّاعَ يَنْسَى انْتِمَاءَهُ لِلسَّمَاءِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَيَعِيشُ لِلأَبَدِ عَلَى الأَرْضِ. لَا يَطْلُبُ مِنَّا ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ أَنْ نَبْتَعِدَ عَنِ ٱلْمَالِ فِي ذَاتِهِ، فَٱلْمَالُ هُوَ عَطِيَّةٌ مِنَ ٱللهِ وَوَسِيلَةٌ لِلْعَيْشِ وَٱلْخِدْمَةِ. وَلٰكِنَّهُ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نَتَحَرَّرَ مِنَ ٱلطَّمَعِ، أَيْ مِنْ كُلِّ تَعَلُّقٍ دَاخِلِيٍّ وَمِنْ كُلِّ عُبُودِيَّةٍ خَفِيَّةٍ لِلْأَشْيَاءِ. فَٱلْخَطَرُ لا يَكْمُنُ فِي ٱلْمُمْتَلَكَاتِ، بَلْ فِي ٱلْقَلْبِ ٱلْمُتَعَلِّقِ بِهَا، وَفِي خِدَاعِ ٱلنَّفْسِ حِينَ تَظُنُّ أَنَّ ٱلِٱمْتِلَاكَ هُوَ سِرُّ ٱلْحَيَاةِ وَغَايَتُهَا. وَيُوَضِّحُ ٱلرَّسُولُ بُولُسُ هٰذَا ٱلْبُعْدَ قَائِلًا:" إِنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ ٱلشُّرُورِ" (1 طيموتاوس 6: 10). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ: "لَيْسَ ٱلْخَطَرُ فِي أَنْ تَمْتَلِكَ ٱلْمَالَ، بَلْ فِي أَنْ يَمْتَلِكَ ٱلْمَالُ قَلْبَكَ. فَٱلْمَالُ خَادِمٌ صَالِحٌ، لٰكِنَّهُ سَيِّدٌ رَدِيءٌ". وَبِذٰلِكَ، فَٱلدَّعْوَةُ ٱلْمَسِيحِيَّةُ هِيَ التَّحَرُّرِ مِنْ وَهْمِ ٱلِٱمْتِلَاكِ وَٱلِانْفِتَاحِ عَلَى غِنَى ٱللهِ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْقَلْبَ بِٱلسَّلَامِ وَيُحَوِّلُ ٱلْمَالَ إِلَى وَسِيلَةِ مَحَبَّةٍ وَخِدْمَةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ: "لأَنَّ حَيَاةَ المَرْءِ، وَإِنِ اغْتَنَى، لا تَأْتِيهِ مِن أَمْوَالِهِ" فَتُشِيرُ إِلَى أَنَّ المَالَ لَيْسَ مَصْدَرَ الحَيَاةِ، فَلا عَلاقَةَ لِلحَيَاةِ الصَّالِحَةِ بِالمَالِ وَالثَّرْوَةِ، َالحَيَاةُ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ بِمَا يَمْلِكُهُ الإِنْسَانُ. فَالحَيَاةُ الصَّالِحَةُ تَقُومُ عَلَى عَلَاقَةٍ مَعَ اللهِ وَعَمَلِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى؛ وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير قَائِلًا: "إِنَّ الطَّمَعَ لا يَنْفَعُ شَيْئًا، لأَنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ لا تَقُومُ عَلَى مُمتَلَكَاتِهِ". فَقَدْ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَحْصُلَ بِالمَالِ عَلَى كُلِّ شَيء. وَلَكِنْ لا يَعْنِي ذٰلِكَ أَنَّهُ سَيَحْصُلُ عَلَى الحَيَاةِ). لِذٰلِكَ يَدْعُونَا يَسُوعُ تَحْدِيدًا إِلَى ٱعْتِبَارِ ٱلْمُمْتَلَكَاتِ ٱلْمَادِّيَّةِ، كَٱلْمِيرَاثِ أَوِ ٱلْمَالِ، وَسِيلَةً وَلَا غَايَةً.
16 ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه،
تَشِيرُ عِبَارَةُ "مَثَل" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ παραβολή إِلَى أُسْلُوبِ التَّعْلِيمِ الَّذِي أَكْمَلَهُ المَسِيحُ وَأَعْطَاهُ وَضْعَهُ فِي الإِبْدَاعِ؛ فَالمَثَلُ هُوَ أُسْلُوبٌ وَاقِعِيٌّ، يُولَدُ عَلَى شَكْلِ قِصَّةٍ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الحَيَاةِ وَلَيْسَ غَرِيبًا عَنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الحَدَثُ قَدْ وَقَعَ بِالفِعْلِ. وَإِنَّ أَكْثَرَ الأَمْثَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَسُوعُ المَسِيحُ، مَوْجُودَةٌ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، حَيْثُ يَذْكُرُ مِنْهَا 28 مَثَلًا مِنْ أَصْلِ 34 مَثَلًا. أَمَّا عِبَارَةُ "رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ أَرْضُهُ" فَتُشِيرُ إِلَى اقْتِبَاسِ يَسُوعَ مِنْ سِفْرِ يَشُوعَ بْنِ سِيرَاخَ: "رُبَّ إِنْسَانٍ ٱغْتَنَى بِٱهْتِمَامِهِ وَٱقْتِصَادِهِ، وَهٰذِهِ هِيَ أُجْرَتُهُ: حِينَ يَقُولُ: قَدْ بَلَغْتُ ٱلرَّاحَةَ، وَسَآكُلُ ٱلآنَ مِنْ خَيْرَاتِي. وَهُوَ لا يَعْلَمُ كَمْ يَمْضِي مِنَ ٱلزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ ذٰلِكَ لِغَيْرِهِ وَيَمُوتُ" (يَشُوعُ بْنُ سِيرَاخ 11:18–19). وَلٰكِنَّ يَسُوعَ لا يَقِفُ عِنْدَ التَّوْصِيفِ، بَلْ يُقَدِّمُ الحَلَّ الإِلَهِيَّ لِمَسْأَلَةِ الغِنَى وَالخَيْرَاتِ؛ فَهُوَ يَدْعُو الإِنْسَانَ لِكَيْ يَسْتَثْمِرَ خَيْرَاتِهِ فِي كَنْزٍ سَمَاوِيٍّ، لا فِي تَخْزِينِهَا لِذَاتِهِ، حَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالأَرْضِ، بَلْ فِي أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ نَحْوَ اللهِ وَالإِخْوَةِ، وَهٰذَا مَا يُنِيرُ الطَّرِيقَ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ: "أَخْصَبَتْ أَرْضُهُ" (لوقا 12: 16)، فَتُشِيرُ إِلَى وَفْرَةٍ وَخَيْرٍ كَبِيرٍ يُفْتَرَضُ أَنْ يَدْعُوَ ٱلْإِنْسَانَ إِلَى ٱلشُّكْرِ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ دَافِعًا لِلْمُشَارَكَةِ مَعَ ٱلْآخَرِينَ. فَكُلُّ خَيْرٍ وَوَفْرٍ هُوَ عَطِيَّةٌ مِنَ ٱللهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ بِٱلِٱمْتِنَانِ وَيُثْمِرَ كَرَمًا وَمَحَبَّةً. وَلٰكِنَّ هٰذَا ٱلرَّجُلَ لَمْ يَرَ فِي ٱلْخَيْرِ ٱلَّذِي أُعْطِيَ لَهُ عَطِيَّةً إِلَهِيَّةً، بَلْ جَعَلَهُ مِحْوَرًا لِذَاتِهِ، فَٱنْغَلَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ أَسِيرًا لِأَفْكَارِهِ، يَغْرَقُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا يَرَى سِوَاهُ. وَبِذٰلِكَ فَقَدَ مَعْنَى ٱلشُّكْرِ وَرُوحَ ٱلْمُشَارَكَةِ، وَحَوَّلَ ٱلْبَرَكَةَ إِلَى لَعْنَةٍ، وَٱلْوَفْرَةَ إِلَى مَصِيدَةٍ. وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ بَاسِيلُس ٱلْكَبِيرُ عَلَى هٰذَا ٱلْبُعْدِ قَائِلًا: "إِنَّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلَّتِي لَدَيْكَ لَيْسَتْ لَكَ وَحْدَكَ. فَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي تُخْزِّنُهُ هُوَ لِلْجَائِعِ، وَٱلثَّوْبُ ٱلَّذِي تُخْفِيهِ هُوَ لِلْعَارِي، وَٱلْفِضَّةُ ٱلَّتِي تَدْفِنُهَا هِيَ لِلْمُحْتَاجِ. إِنَّكَ تَظْلِمُ كُلَّ مَنْ لَا تُعْطِيهِ مِمَّا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعِينَهُ بِهِ" (العظة على لوقا 12).
17 فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَقالَ فِي نَفسِهِ" إِلَى الأَشْخَاصِ الَّذِينَ يُعَبِّرُونَ عَنْ فِكْرِهِمْ بِكَلاَمٍ يُحَدِّثُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي أمثَالِ لُوقَا (لوقا 15:17–19؛ 16:3؛ 18:4؛ 10:13)، حَيْثُ يَكُونُ الحِوَارُ دَاخِلِيًّا وَلَكِنَّهُ يُكْشَفُ لِلقَارِئِ أَوِ السَّامِعِ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَاذَا أَعمَل؟" فَتُشِيرُ إِلَى سُؤَالِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ، الَّذِي يَتَّصِفُ بِالمَهَارَةِ وَالدَّهَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ فَقَط، دُونَ أَنْ يَرْفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ اللهِ أَوْ نَحْوَ الآخَرِينَ.
18 ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَهْرَائِي" إِلَى بَيْتٍ كَبِيرٍ ضَخْمٍ يُجْمَعُ فِيهِ القَمْحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الغِلَالِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَهْدِمُ أَهْرَائِي وَأَبْنِي أَكْبَرَ مِنْهَا، فَأَخْزُنُ فِيهَا جَمِيعَ قَمْحِي وَأَرْزَاقِي"، فَتُشِيرُ إِلَى تَخْطِيطِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ لِلتَّمَتُّعِ بِثَرْوَتِهِ لِسِنِينَ مَدِيدَةٍ قَادِمَة، طَلَبًا لِلأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ. إِنَّهُ يَقْضِي حَيَاتَهُ جَاهِدًا مِنْ أَجْلِ ضَمَانِ عَيْشٍ كَرِيمٍ، وَلٰكِنَّهُ يَسْتَنِدُ إِلَى مَا يَمْلِكُ، لا إِلَى مَنْ يَمْلِكُهُ. وَيُعَلِّقُ الأَمِيرُ السُّعُودِيُّ وَلِيد، الَّذِي يَحْتَلُّ مُنْذُ سَنَوَاتٍ الرَّقْم 4 بَيْنَ أَغْنَى 100 رَجُلٍ فِي العَالَمِ: "أَلَيْسَ هٰذَا جُنُونًا؟ فَمَاذَا يَحْتَاجُ الغَنِيُّ أَكْثَرَ مِنَ الفَقِيرِ لِيَوْمِهِ؟" سُؤَالٌ يَضْرِبُ فِي جَذْرِ مَنْطِقِ الاقْتِنَاءِ وَالهَوَسِ بِالضَّمَانِ. فَهَلْ نُحَاوِلُ أَنْ نَمْلَأَ أَهْرَاءَنَا مِنْ صَلَاةِ المَسَاكِينِ وَدُعَاءِ الفُقَرَاءِ لَنَا، فَيَكُونَ اللهُ كَنْزَنَا الأَوْحَد؟
19 وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي.
تَشِيرُ عِبَارَةُ "أَقُولُ" إِلَى الضَّمِيرِ المُفْرَدِ "يَاءِ المُتَكَلِّمِ"، مِمَّا يَرْسُمُ بِجَلَاءٍ نَوْعَ شَخْصِيَّةِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ المُتَكَلِّمِ، الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ مَرْكَزًا لِعَالَمِهِ الصَّغِيرِ، حَيْثُ فَكَّرَ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ نَسِيَ الكَثِيرَ خَارِجَ نَفْسِهِ؛ نَسِيَ مَعْنَى الحَيَاةِ، وَٱعْتَنَى بِحَيَاتِهِ المَادِّيَّةِ، وَأَغْفَلَ حَيَاتَهُ الرُّوحِيَّةَ. أَمَّا عِبَارَةُ "لِنَفْسِي" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ψυχή (وَمَعْنَاهَا "الشَّخْصُ" كَمَا فِي التَّكْوِينِ 12: 5، أَو "الذَّاتُ" كَمَا فِي أَشَعْيَا 26: 2)، فَتَشِيرُ إِلَى الإِنْسَانِ فِي كُلِّيَّتِهِ، بِٱعْتِبَارِهِ مُنْتَعِشًا بِرُوحِ الحَيَاةِ. فَالنَّفْسُ، بِٱلْمَعْنَى الدَّقِيقِ، لَا تَسْكُنُ جَسَدًا، بَلْ تُعَبِّرُ عَنْ ذَاتِهَا بِوَاسِطَةِ الجِسْمِ، الَّذِي يُعْتَبَرُ هُوَ أَيْضًا، أُسْوَةً بِالجَسَدِ، دَلِيلًا عَلَى الإِنْسَانِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ، بِسَبَبِ عِلَاقَتِهَا بِالرُّوحِ الأَسْمَى، هِيَ الدَّلِيلَ فِي الإِنْسَانِ عَلَى أَصْلِهِ الرُّوحِيِّ، فَإِنَّ هذِهِ "الرُّوحَانِيَّةَ" تَغْرِسُ جُذُورَهَا بِعُمْقٍ فِي العَالَمِ المَلْمُوسِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سِنِينَ كَثِيرَةً"، فَتَشِيرُ إِلَى ٱعْتِقَادِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ أَنَّهُ سَيَعِيشُ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً يَنْعَمُ فِيهَا بِالرَّاحَةِ وَالسَّعَادَةِ المَادِّيَّةِ، بِفَضْلِ مَالِهِ الوَافِرِ، الَّذِي شَدَّدَ قَلْبَهُ وَنَزَعَ عَنْ ذِهْنِهِ فِكْرَةَ المَوْتِ. وَهَكَذَا ٱرْتَبَطَ الرَّجُلُ الغَنِيُّ بِالأَرْضِيَّاتِ عَلَى حِسَابِ السَّمَاوِيَّاتِ، وَلَكِنَّ يَسُوعَ يُذَكِّرُهُ: "مَاذَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ لَوْ رَبِحَ العَالَمَ كُلَّهُ، وَفَقَدَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟" (لوقا 9: 25). الرَّجُلُ الغَنِيُّ يَعُدُّ خَيْرَاتِهِ وَأَرْزَاقَهُ، بَيْنَمَا الحَكِيمُ يُحْصِي أَيَّامَهُ، أَيْ إِنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّهَا مَحْدُودَةٌ، وَأَنَّ الدُّنْيَا بَاطِلَةٌ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الحَكِيمِ: "عَلِّمْنَا كَيْفَ نَعُدُّ أَيَّامَنَا فَنَنْفُذَ إِلَى قَلْبِ الحِكْمَةِ" (مزمور 90: 12). كُلُّ مَنْ يَعُدُّ خَيْرَاتِهِ وَلَيْسَ أَيَّامَهُ، هُوَ غَبِيٌّ كَالرَّجُلِ الغَنِيِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "فَٱسْتَرِيحِي، وَكُلِي، وَٱشْرَبِي، وَتَنَعَّمِي"، فَتُشِيرُ إِلَى قَرَارِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ، الَّذِي يَحْتَفِظُ لِنَفْسِهِ بِأَنَانِيَّةٍ بِكُلِّ خَيْرَاتِ أَرْضِهِ، لِيَتَمَتَّعَ وَحْدَهُ بِالرَّاحَةِ وَمَلَذَّاتِ الحَيَاةِ، وَلَمْ يُلْقِ نَظْرَةً إِلَى مَنْ يَسْكُنُ حَوْلَهُ مِنْ مُحْتَاجِينَ وَفُقَرَاءَ. وَلَمْ يُدْرِكْ كَلِمَةَ الرَّبِّ القَائِلَةَ: "أَشْبَعَ الجِيَاعَ مِنَ الخَيْرَاتِ، وَالأَغْنِيَاءُ صَرَفَهُمْ فَارِغِينَ" (لوقا 1: 53).
20 قالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟
تَشِيرُ عِبَارَةُ "غَبِيّ" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: Ἄφρων (مَعْنَاهَا: "بِلَا رَأْسٍ"، أَيْ: "أَحْمَق"، "لَا مُبَالٍ")، إِلَى الجَهْلِ وَنُقْصَانِ الحِكْمَةِ، إِذْ إِنَّ الجَاهِلَ، بِمَعْنَاهُ الرُّوحِيِّ، هُوَ مَنْ يَنْكُرُ وُجُودَ اللهِ، كَمَا يُؤَكِّدُ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "قالَ الجاهِلُ في قَلبِه: لَيْسَ إِله" (مزمور 14: 1). إِنَّهُ يُنْكِرُ اللهَ عَمَلِيًّا، وَيَجْعَلُ ٱتِّكَالَهُ عَلَى المَالِ، لَا عَلَى اللهِ، وَلَمْ يُمَيِّزِ الخَيْرَاتِ الحَقِيقِيَّةَ، بَلْ حَكَمَ عَلَى الأُمُورِ حَسَبَ ظَاهِرِهَا؛ وَلَمْ يُدْرِكْ أَنَّ المَالَ، مَهْمَا كَانَ وَافِرًا، لَا يُشَفِّعُ فِيهِ وَلَا يُنْقِذُهُ مِنَ المَوْتِ، الَّذِي يَأْتِيهِ فِي سَاعَةٍ لَا يَتَوَقَّعُهَا. وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللهُ بِأَنَّهُ إِنْسَانٌ غَبِيٌّ، دُونَ حِكْمَةٍ، إِذْ قَالَ: "لأَنَّ حَيَاةَ المَرْءِ، وَإِنِ ٱغْتَنَى، لَا تَأْتِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِ" (لوقا 12: 15). يُحَذِّرُ يَسُوعُ الغَنِيَّ، كَيْ لَا يَضِلَّ الطَّرِيقَ فَيَخْسَرَ حَيَاتَهُ، لِأَنَّ مَا يُرْوِي العَطَشَ لَيْسَ المَالَ، إِنَّمَا مَحَبَّةُ اللهِ. فَمَنْ لَهُ مَالٌ، وَلَا يَفْطُنُ لِلْمُعْوِزِينَ وَالجِيَاعِ، هُوَ أَحْمَق. وَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُسَاعِدَ، وَلَا يُسَاعِدُ، هُوَ غَبِيٌّ. أَمَّا عِبَارَةُ "فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ تُسْتَرَدُّ نَفْسُكَ مِنْكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى مُنَادَاةِ اللهِ لِلرَّجُلِ الغَنِيِّ الغَبِيِّ، حَيْثُ يَطْلُبُ رُوحَهُ لِيُعْطِيَ حِسَابًا عَنْ نَفْسِهِ، وَيُعَلِّقُ الأَبُ غْرِيغُورْيُوس الكَبِير: "تُطْلَبُ النَّفْسُ بِاللَّيْلِ، هذِهِ الَّتِي سَلَكَتْ فِي ظُلْمَةِ قَلْبِهَا، إِذْ لَمْ تُرِدْ أَنْ تَسْلُكَ فِي نُورِ التَّأَمُّلِ". أَمَّا عِبَارَةُ "تُسْتَرَدُّ"، فَتُشِيرُ إِلَى العَادَةِ التَّقْوِيَةِ فِي العَالَمِ اليَهُودِيِّ، الَّتِي تَقْضِي بِتَجَنُّبِ ذِكْرِ ٱسْمِ اللهِ صَرَاحَةً؛ وَالمَعْنَى أَنَّ اللهَ هُوَ مَنْ يَسْتَرِدُّ نَفْسَ الغَنِيِّ، لأَنَّهُ سَيِّدُ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ (1 صموئيل 2: 6). فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ، وَلَكِنْ دُونَ أَنْ نَنْسَى أَنَّنَا هُنَا غُرَبَاءُ، قَدْ نُفَارِقُ العَالَمَ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "نَفْسُكَ"، فَتُشِيرُ إِلَى حَيَاةِ الفَرْدِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ: "فَلِمَنْ يَكُونُ مَا أَعْدَدْتَهُ؟" (لوقا 12: 20)، فَتُشِيرُ إِلَى تَدَخُّلِ ٱللهِ وَٱخْتِرَاقِهِ لِحِوَارِ ٱلرَّجُلِ ٱلْغَنِيِّ ٱلدَّاخِلِيِّ ٱلْمُنْغَلِقِ، مُخَاطِبًا إِيَّاهُ بِسُؤَالٍ حَكِيمٍ، صَادِمٍ وَسَاخِرٍ فِي ٱلْوَقْتِ ذَاتِهِ، يُعَبِّرُ عَنْ غَبَاءِ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَى جَمْعِ ٱلْخَيْرَاتِ وَٱلثَّرَوَاتِ لِتَأْمِينِ مُسْتَقْبَلِهِ ٱلْأَرْضِيِّ، وَلَا يُفَكِّرُ أَنَّهُ سَيَتْرُكُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَاءَهُ بَعْدَ ٱلْمَوْتِ. فَقَدْ قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ: "فَمَاذَا يَنْفَعُ ٱلْإِنْسَانَ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (مرقس 8: 36). وَيُعَلِّقُ ٱلْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ٱلذَّهَبِيُّ ٱلْفَمِ قَائِلًا: "إِنَّكَ تَتْرُكُ كُلَّ ٱلْأَشْيَاءِ هُنَا، وَتَخْرُجُ صِفْرَ ٱلْيَدَيْنِ". وَفِي هٰذَا ٱلسِّيَاقِ، يُؤَكِّدُ كِتَابُ ٱلْجَامِعَةِ: " إِنْسَانٌ رَزَقَهُ ٱللهُ غِنًى وَأَمْوَالًا وَمَجْدًا، فَلَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ عَوَزٌ مِنْ كُلِّ مَا يَشْتَهِي، لَكِنَّ ٱللهَ لَمْ يَدَعْهُ يَأْكُلُ مِنْ ذٰلِكَ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ غَرِيبٌ. هذَا بَاطِلٌ وَدَاءٌ خَبِيثٌ" (الجامعة 6: 2). إِنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّعُهُ ٱلْإِنْسَانُ وَيَضَعُ ثِقَتَهُ فِيهِ هُوَ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَعِدُ بِهِ؛ فَإِنَّهَا كُلُّهَا أَبَاطِيلُ لَا تَثْبُتُ، مِثْلُ ٱلدُّخَانِ أَوِ ٱلْبُخَارِ. وَهٰكَذَا أَبْرَزَ يَسُوعُ مَفْهُومَ ٱلْمَقُولَةِ ٱلَّتِي وَرَدَتْ فِي كِتَابِ ٱلْجَامِعَةِ: "بَاطِلُ ٱلْأَبَاطِيلِ، ٱلْكُلُّ بَاطِلٌ" (الجامعة 1: 1). إِنَّ مَا يُؤْلِمُ قَلْبَ ٱللهِ فِي هٰذَا ٱلْمَثَلِ، هُوَ أَنَّ ٱلرَّجُلَ ٱلْغَنِيَّ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ كُلِّ ٱلْخَيْرِ ٱلَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، بَلْ حَوَّلَهُ إِلَى غَايَةٍ فِي ذَاتِهِ، فَخَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ مَعَ ٱلْأَبَدِيَّةِ.
21 فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله)).
تَشِيرُ عِبَارَةُ: "مَصِيرُ مَنْ يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ" (لوقا 12: 21)، إِلَى أُسْلُوبٍ غَبِيٍّ فِي صَرْفِ ٱلْمَالِ دُونَ حِكْمَةٍ، إِذْ يَسْتَعْمِلُهُ ٱلْإِنْسَانُ بِأَنَانِيَّةٍ لِذَاتِهِ، فَيُصْبِحُ عَبْدًا لِلْمَالِ، بَيْنَمَا ٱلْمَالُ نَفْسُهُ لَا يَصْمُدُ فِي وَجْهِ ٱلْمَوْتِ، وَلَا يُرَافِقُ صَاحِبَهُ فِي رَحِيلِهِ، وَلَا يَهَبُهُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ. فَمَنْ يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ يَفْقِدُ كُلَّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ عَلَى عَكْسِ العَاقِلِ الحَكِيمِ، الَّذِي يُسَخِّرُ مَالَهُ لِلهِ، فَيَكُونُ كَنْزُهُ فِي السَّمَاءِ، مُتَّبِعًا إِرْشَادَاتِ يَسُوعَ المَسِيحِ:"بِيعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَٱجْعَلُوا لَكُمْ أَكْيَاسًا لَا تَبْلَى، وَكَنْزًا فِي السَّمَاوَاتِ لَا يَنْفَدُ، حَيْثُ لَا سَارِقٌ يَدْنُو وَلَا سُوسٌ يُفْسِدُ" (لوقا 12: 33). أَمَّا عِبَارَةُ "لَا يَغْتَنِي عِندَ اللهِ"، فَتُشِيرُ إِلَى ذَاكَ المَرْءِ الَّذِي يَكُونُ غِنَاهُ مُوَجَّهًا لِرَاحَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَيْسَ لِمَجْدِ اللهِ. أَيْ إِنَّهُ كَانَ غَنِيًّا بِمَالِ الأَرْضِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا بِأَعْمَالِ البِرِّ وَالإِحْسَانِ الَّتِي تُؤَمِّنُ لَهُ السَّعَادَةَ الأَبَدِيَّةَ. أَمَّا عِبَارَةُ "عِندَ اللهِ"، فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: εἰς θεόν، وَمَعْنَاهَا: "حَرَكَةُ ٱنْتِقَالٍ نَحْوَ اللهِ"، تُشِيرُ إِلَى ٱتِّجَاهِ اللهِ، وَلَيْسَ "مِنْ أَجْلِ اللهِ" فَقَط؛ وَبِذَلِكَ تُوحِي بِفِكْرَةٍ هَامَّةٍ: لَا يُقَدِّمُ الإِنْسَانُ خَيْرَاتٍ وَتَقْدِمَاتٍ لِلهِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُرْضِيهِ، بَلْ يَسْتَعْمِلُهَا فِي ٱتِّجَاهِهِ، أَيْ لِلْفُقَرَاءِ وَالمُعْوِزِينَ، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الإِسْكَنْدَرِيُّ: "حَقًّا، إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ لَا تَقُومُ عَلَى مُمْتَلَكَاتِهِ وَفَيْضِهِ، بَلْ يُحْسَبُ مَطُوْبًا وَذَا رَجَاءٍ مَجِيدٍ مَنْ كَانَ غَنِيًّا بِاللهِ". غِنَى الإِنْسَانِ الحَقِيقِيُّ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لِمَجْدِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، "أَوْ فِي نَظَرِ اللهِ"، وَلَيْسَ لِرَاحَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ. فَإِنَّ الغَبَاءَ يَقُومُ فِي الاِكْتِنَازِ لِلذَّاتِ، لَا فِي الٱغْتِنَاءِ بِاللهِ. يُعَلِّمُ يَسُوعُ كَيْفَ يَدْخُلُ الإِنْسَانُ فِي المَنْطِقِ الجَدِيدِ لِلمَلَكُوتِ: "لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ... بَلِ ٱكْنِزُوا لَكُمْ كَنْزًا فِي السَّمَاءِ" (راجع متى 6: 19–20). إِنَّ حَلَّ شَرِّ ٱلطَّمَعِ لَدَى ٱلْمُؤْمِنِ لَيْسَ بِٱلْكَرَمِ وَٱلسَّخَاءِ فَقَط، بَلْ بِإِفْسَاحِ ٱلْمَجَالِ لِلَّهِ فِي حَيَاتِهِ، لِمَلَكُوتِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ بِهِ يَسُوعُ. وَمِنْ هُنَا يَأْتِي ٱلِٱهْتِمَامُ بِإِخْوَتِنَا. فَالطَّرِيقُ نَحْوَ السَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ يَكْمُنُ فِي العَطَاءِ، وَالإِحْسَانِ، وَالمَحَبَّةِ، وَفِي ٱسْتِعْمَالِ المَالِ كَأَدَاةٍ لِلتَّقْدِيسِ وَخِدْمَةِ المَلَكُوتِ. فَإِنَّ شِفَاءَ ٱلْعَلَاقَاتِ ٱلْأُخَوِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ تَوْزِيعٍ عَادِلٍ لِلإِرْثِ أَوِ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْمَادِّيَّةِ، بَلْ بِٱنْفِتَاحِ ٱلْقَلْبِ عَلَى ٱلْغِنَى ٱلْحَقِيقِيِّ، أَيْ ٱلْغِنَى ٱلْأُخَوِيِّ ٱلْمُؤَسَّسِ عَلَى ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلشَّرِكَةِ. فَٱلْمَالُ قَادِرٌ أَنْ يُوَلِّدَ نِزَاعَاتٍ وَخُصُومَاتٍ، أَمَّا ٱلْمَحَبَّةُ فَتُؤَسِّسُ وَتَثْبُتُ إِلَى ٱلْأَبَدِ (1 قورنتس 13: 8). وَهٰكَذَا يُعَلِّمُنَا ٱلسَّيِّدُ ٱلْمَسِيحُ أَنَّ ٱلْغِنَى ٱلْحَقِيقِيَّ هُوَ ٱلْأَخُوَّةُ فِي ٱللهِ، لَا ٱلْمِيرَاثُ ٱلْمَادِّيُّ ٱلَّذِي يَزُولُ.
ثانِيًا: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 12: 13–21)
ٱنْطِلَاقًا مِنَ المُلاحَظَاتِ الوَجِيزَةِ حَوْلَ وَقَائِعِ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لوقا 12: 13–21)، نَسْتَنْتِجُ أَنَّهُ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ الطَّمَعِ فِي المَالِ وَمَوْقِفِ يَسُوعَ مِنْهُ. وَهُنَا نَطْرَحُ ثَلَاثَةَ أَسْئِلَةٍ أَسَاسِيَّةٍ: ما مَدَى خُطُورَةِ الطَّمَعِ فِي المَالِ؟ ما مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنَ الطَّمَعِ؟ ما العِبْرَةُ الَّتِي نَتَّخِذُهَا مِنْ هَذَا المَثَلِ؟
1. ما مَدَى خُطُورَةِ الطَّمَعِ فِي المَالِ؟
أ) الطَّمَعُ يُنْسِي اللهَ
تَكْمُنُ خُطُورَةُ الطَّمَعِ فِي المَالِ فِي أَنَّهُ يُنْسِي الإِنْسَانَ حَقَائِقَ الحَيَاةِ الأَسَاسِيَّةَ: اللهَ وَالنَّاسَ وَالأَبَدِيَّةَ. وَصَفَ اللهُ الغَنِيَّ فِي المَثَلِ بِأَنَّهُ غَبِيّ، وَ"الغَبِيُّ" فِي لُغَةِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ هُوَ "الجَاهِلُ"، وَ"الجَاهِلُ" هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ اللهَ، كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "قالَ الجاهِلُ في قَلبِه: لَيسَ إِله" (مزمور 14: 1). الجَاهِلُ، إِذًا، هُوَ مَنْ يَجْهَلُ اللهَ فِي حَيَاتِهِ، وَلَا يَحْسِبُ لَهُ حِسَابًا، وَعَكْسُهُ "العَاقِلُ"، الَّذِي يَلْتَمِسُ اللهَ وَيَطْلُبُ وَجْهَهُ، كَمَا يُصَرِّحُ المَزْمُورُ: "أَطَلَّ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى بَنِي آدَمَ، لِيَرَى هَلْ مِنْ عَاقِلٍ يَلْتَمِسُ اللهَ" (مزمور 53: 3).
يَظُنُّ الإِنْسَانُ الجَاهِلُ أَنَّ خَيْرَاتِهِ تُغْنِيهِ عَنِ اللهِ، جَاعِلًا نَفْسَهُ مَرْكَزًا لِعَالَمِهِ الصَّغِيرِ، كَمَا هُوَ حَالُ الغَنِيِّ فِي مَثَلِ يَسُوعَ. عُنِيَ الغَنِيُّ بِحَيَاتِهِ المَادِّيَّةِ، وَأَغْفَلَ حَيَاتَهُ الرُّوحِيَّةَ، وَٱسْتَغْنَى عَنِ اللهِ. فَكَّرَ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ، إِذْ قَالَ: "أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي" (لوقا 12: 17). لَكِنَّهُ نَسِيَ مَا هُوَ خَارِجُ نَفْسِهِ، نَسِيَ اللهَ. فَكَّرَ فِي حَيَاةِ الجَسَدِ، وَنَسِي حَيَاةَ الرُّوحِ، فَقَالَ: "يا نَفْسي، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي" (لوقا 12: 19). وَضَعَ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالجَسَدَ فِي المَرْتَبَةِ الأُولَى، عَلَى حِسَابِ الرُّوحِ.
وَالأَخْطَرُ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ نَسَبَ الغِنَى لِنَفْسِهِ، لَا لِلَّهِ، وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ فِي تَكْرَارِهِ لِضَمَائِرِ المُتَكَلِّمِ: "غِلَالِي، أَهْرَائِي، قَمْحِي، أَرْزَاقِي" (لوقا 12: 17). لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الغَنِيُّ أَنَّ اللهَ هُوَ سِرُّ حَيَاةِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ مَنْ يَقْتَنِيهِ فِي دَاخِلِهِ يَقْتَنِي الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ حَيَاتَهُ تُقَيَّمُ بِمِقْدَارِ غِنَاهُ، فَقَدْ عَلَّقَ القِدِّيسُ إِقْلِيمَنْضُسُ الإِسْكَنْدَرِيّ قَائِلًا: "لَا تَقُومُ حَيَاةُ الإِنْسَانِ عَلَى فَيْضِ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الأَشْيَاءِ". فَلَمْ يَعُدِ الغَنِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الهِبَةِ وَالوَاهِبِ؛ تَعَلَّقَ نَفْسُهُ بِالهِبَةِ، وَتَرَكَ الوَاهِبَ. وَهَكَذَا دَخَلَتْ حَيَاتُهُ فِي لَيْلٍ مُظْلِمٍ، لأَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُودَ اللهِ، وَٱعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَلَيْسَ الإِنْسَانُ بِمَا لَدَيْهِ، بَلْ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ.
ب) الطَّمَعُ يُنْسِي سِيَادَةَ اللهِ وَيُفْسِدُ القَلْبَ
وَصَفَ يَسُوعُ ذَاكَ الغَنِيَّ بِأَنَّهُ طَمَّاعٌ، إِذْ قَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَغْتَنِ عِندَ اللهِ" (لوقا 12: 21)، لأَنَّهُ ٱسْتَسْلَمَ لِلأَنَانِيَّةِ المُفْرِطَةِ، وَٱحْتَفَظَ لِنَفْسِهِ بِكُلِّ خَيْرَاتِ أَرْضِهِ، لِيَتَمَتَّعَ وَحْدَهُ بِالرَّاحَةِ وَمَلَذَّاتِ الحَيَاةِ، وَنَسِيَ اللهَ، حَيْثُ ٱنْتَصَبَ المَالُ سَيِّدًا عَلَيْهِ، بِلَا رَحْمَةٍ، وَأَنْسَاهُ الأَمْرَ الجَوْهَرِيَّ: سِيَادَةَ اللهِ عَلَيْهِ (لوقا 12: 15–21). وَفِي هَذَا السِّيَاقِ يُوَجِّهُ يَسُوعُ كَلِمَاتِهِ إِلَى الفِرِّيسِيِّينَ، وَهُمْ مُحِبُّونَ لِلمَالِ: "إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ أَحَدَهُمَا وَيُحِبَّ الآخَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ أَحَدَهُمَا وَيَزْدَرِيَ الآخَرَ. فَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَعْمَلُوا لِلهِ وَلِلمَالِ" (لوقا 16: 13–15).
المَالُ، فِي نَظَرِ يَسُوعَ، قَابِلٌ لِأَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَهًا كَاذِبًا، وَهُنَا يَصْدُقُ المَثَلُ القَائِلُ: "حُبُّ المَالِ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ" (1 طيموتاوس 6: 10). فِي عُمْقِهِ، يَبْلُغُ حُبُّ المَالِ حَدَّ الفَاجِعَةِ، حِينَ يَخْتَارُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ إِلَهًا كَاذِبًا، فَيَنْفَصِلُ عَنِ الإِلَهِ الوَاحِدِ الحَقِيقِيِّ، وَيَتَعَرَّضُ لِمَصِيرِ الهَلَاكِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "أَمَّا الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الغِنَى، فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي التَّجْرِبَةِ وَالفَخِّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ العَمْيَاءِ المَشْؤُومَةِ، الَّتِي تُغْرِقُ النَّاسَ فِي الدَّمَارِ وَالهَلَاكِ" (١ طيموتاوس 6: 9). وَذَلِكَ مَا جَرَى مَعَ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ، الطَّمَّاعِ الغَادِرِ، الَّذِي وَصَفَهُ الإِنْجِيلُ: "كَانَ سَارِقًا" (يوحنا 12: 6)، وَدَعَاهُ يَسُوعُ: "ٱبْنَ الهَلَاكِ" (يوحنا 17: 12). فَيَسُوعُ يَسْأَلُنَا: "فَمَاذَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ لَوْ رَبِحَ العَالَمَ كُلَّهُ، وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟" (مرقس 8: 36).
ج) الطَّمَعُ فِي المَالِ يُنْسِي الآخَرِينَ
يَنْسِبُ الغَنِيُّ الخَيْرَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ الكَثِيرَ لِيُعْطِي مِمَّا لَدَيْهِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُمْ. لَقَدْ نَسِيَ وُجُودَ الآخَرِينَ، كَمَا قَالَ فِي نَفْسِهِ: "فَأَخْزُنُ فِيهَا جَمِيعَ قَمْحِي وَأَرْزَاقِي" (لوقا 12: 17). لَقَدْ أَحْسَنَ جَمْعَ خَيْرَاتِهِ وَتَخْزِينَهَا لِسِنِينَ مَدِيدَةٍ، لَكِنَّهُ أَسَاءَ طَرِيقَةَ ٱسْتِخْدَامِهَا. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس قَائِلًا: "ٱتَّخَذَ الغَنِيُّ المَالَ غَايَةً بِنَفْسِهَا، فَوَضَعَهُ صَنَمًا يَعْبُدُهُ، مُتَجَاهِلًا حَقَائِقَ أُخْرَى مِنْهَا: الإِنْسَان، القَرِيب، الَّذِي نَحْنُ مَسْؤُولُونَ عَلَيْهِ. فَمَحَبَّةُ القَرِيبِ هِيَ الَّتِي سَتُوصِلُنَا إِلَى اللهِ، لأَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَأْخُذُ مَعَهُ شَيْئًا إِلَّا مَا أَعْطَاهُ لِقَرِيبِهِ" (عظة 3 آب 2013). فَالمُشْكِلَةُ لَيْسَتْ فِي المَالِ أَوِ الخَيْرَاتِ، بَلْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِهَا. فَالمَالُ وَالخَيْرَاتُ وُجِدَتْ لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ وَخِدْمَةِ حَيَاةِ القَرِيبِ، وَهذَا مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الغَنِيُّ.
الطَّمَعُ يُغَذِّي الأَنَانِيَّةَ وَيُنْكِرُ الأُخُوَّةَ. ظَنَّ الغَنِيُّ أَنَّ عَطَايَا اللهِ تَخُصُّهُ وَحْدَهُ، وَهذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَمَّاعٌ وَجَشِعٌ، لأَنَّ الطَّمَّاعَ هُوَ مَنْ يَحْتَكِرُ ثَرْوَتَهُ لِمَنْفَعَتِهِ الخَاصَّةِ، وَبِذَلِكَ يُنْكِرُ الأُخُوَّةَ، خُصُوصًا نَحْوَ الفُقَرَاءِ وَالمَرْضَى وَالعَجَزَةِ وَالبُؤَسَاءِ وَالمَكْرُوبِينَ. إِنَّهُ نَسِيَ وَصَايَا الشَّرِيعَةِ فِي الرِّفْقِ بِالضُّعَفَاءِ (خُرُوج 22: 21–27)، وَنَسِيَ أَنْ لَا يَتَعَالَى عَلَى إِخْوَتِهِ (تثنية الاشتراع 7: 17)، وَغَفِلَ عَنْ صَرْخَةِ المِزْمُور: "إِنَّ المِسْكِينَ لَا يُنْسَى عَلَى الدَّوَامِ، وَرَجَاءَ البَائِسِينَ لَا يَنْقَطِعُ إِلَى الأَبَدِ" (مزمور 9). وَلَمْ يَأْخُذْ بِعَيْنِ الِٱعْتِبَارِ وَصَايَا الحِكْمَةِ: "لَا تَمْنَعِ الإِحْسَانَ عَنْ أَهْلِهِ إِذَا كَانَ فِي يَدِكَ أَنْ تَصْنَعَهُ" (أمثال 3: 27)، "لَا تُفَارِقْكَ الرَّحْمَةُ وَالحَقُّ، بَلِ اشْدُدْهُمَا عَلَى عُنُقِكَ، وَاكْتُبْهُمَا عَلَى لَوْحِ قَلْبِكَ" (أمثال 3: 3).
الغَنِيُّ مَسْؤُولٌ عَنِ الفَقِيرِ، لأَنَّ مَنْ يَخْدِمُ اللهَ يُعْطِي مَالَهُ لِلْفُقَرَاءِ، أَمَّا الَّذِي يَعْبُدُ المَالَ، فَيَحْتَفِظُ بِهِ لِيَتَّكِلَ عَلَيْهِ. وَالغَنِيُّ الطَّمَّاعُ يُضَحِّي بِالآخَرِينَ فِي سَبِيلِ ذَاتِهِ، وَيَلْجَأُ إِلَى العُنْفِ إِنِ ٱقْتَضَى الأَمْرُ: "تَشْتَهُونَ وَلَا تَنَالُونَ، تَقْتُلُونَ" (يعقوب 4: 2)، وَأَيْضًا: "هَا إِنَّ الأُجْرَةَ الَّتِي حَرَمْتُمُوهَا العَمَلَةَ... قَدْ ارْتَفَعَ صِيَاحُهَا، وَإِنَّ صُرَاخَ الحَصَّادِينَ قَدْ بَلَغَ أُذُنَي رَبِّ القُوَّاتِ" (يعقوب 5: 4).
العَطَاءُ يَسْتَمْطِرُ رَحْمَةَ اللهِ. فَالغِنَى الحَقِيقِيُّ لَا يَقُومُ فِيمَا يَمْلِكُهُ الإِنْسَانُ، بَلْ فِيمَا يُعْطِيهِ. لأَنَّ العَطَاءَ يَفْتَحُ سَمَاءَ سَخَاءِ اللهِ: "السَّعَادَةُ فِي العَطَاءِ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الأَخْذِ" (أعمال 20: 35). فَالطَّمَعُ فِي الأَخْذِ هُوَ شَهْوَةٌ جَائِرَةٌ تَسْعَى لِلمَالِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَتُؤَدِّي إِلَى الهَلَاكِ. كَمَا قِيلَ: "مَنْ يَشْتَهِي المَالَ كَمَنْ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ البَحْرِ الأُجَاجِ، كُلَّمَا غَبَّ مِنْهُ ازْدَادَ عَطَشًا، وَلَا يَفْتَأُ عَنِ الشُّرْبِ حَتَّى يَهْلَكَ". العَطَاءُ هُوَ دَعْوَتُنَا. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ بَاسِيلْيُوس الكَبِير قَائِلًا: "ٱعْتَرِفْ، أَيُّهَا الإِنْسَانُ، بِالَّذِي أَعْطَاكَ تِلْكَ الوَفْرَةَ. فَكِّرْ بِنَفْسِكَ قَلِيلًا: مَنْ أَنْتَ؟ إِنَّكَ خَادِمُ اللهِ الطَّيِّبِ؛ مِنْ وَاجِبِكَ خِدْمَةُ رِفَاقِكَ..." وَيُجِيبُ عَنْ سُؤَالِ الغَنِيِّ: "مَاذَا أَعْمَلُ؟: " سَأُشْبِعُ الجَائِعِينَ، وَأَدْعُو الفُقَرَاءَ... تَعَالَوْا أَيُّهَا الجِيَاعُ وَالعِطَاشُ، هَلُمُّوا وَٱنْهَلُوا مِنَ العَطَايَا المَمْنُوحَةِ مِنَ اللهِ، وَالَّتِي تَتَدَفَّقُ كَالنَّبْعِ الجَارِي". وَبِهٰذا نَكونُ قَدِ ٱستَكمَلْنا ٱلأَبعادَ ٱلثَّلاثَةَ لِتَطبيِقِ ٱلمَثَلِ: ٱلطَّمَعُ يُنسِي ٱللهَ، وَٱلطَّمَعُ يُنسِي ٱلإِنسانَ ٱلآخَرَ، وَٱلطَّمَعُ يُنسِي ٱلأبَدِيَّةَ وَيَقودُ إِلَى ٱلهَلاكِ."
د) الطَّمَعُ فِي المَالِ يُنْسِي الأَبَدِيَّةَ
لَمْ يَنْسَ الغَنِيُّ الغَبِيُّ اللهَ وَالآخَرِينَ فَقَط، بَلْ نَسِيَ الزَّمَنَ أَيْضًا. نَسِيَ أَنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ، وَحَسِبَ أَنَّ أَمَامَهُ: "سِنِينَ كَثِيرَةً" (لوقا 12: 19)، نَسِيَ أَنَّ الحَيَاةَ عَلَى الأَرْضِ فَتْرَةٌ ٱنْتِقَالِيَّةٌ، وَأَنَّ الثَّرْوَةَ زَائِلَةٌ، وَكَانَ يُفَكِّرُ فِي الحَاضِرِ، وَكَأَنَّهُ يَعِيشُ إِلَى الأَبَدِ، وَلَمْ يُفَكِّرْ أَنَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ سَتُؤْخَذُ نَفْسُهُ: "فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ تُسْتَرَدُّ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَلِمَن يَكُونُ مَا أَعْدَدْتَهُ؟" (لوقا 12: 20). إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالخَيْرَاتِ وَالثَّرْوَاتِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جَوْهَرَ الحَيَاةِ وَمَعْنَاهَا يَقُومَانِ فِي اِكْتِنَازِ الخَيْرَاتِ، وَجَعْلِهَا مَرْكَزَ الأَمَانِ وَالمَعْنَى، وَهَذَا وَهْمٌ مُهْلِكٌ.
لا سَعادَةَ حَقِيقِيَّةَ عَلَى الأَرْضِ بِلَا رُؤْيَةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنَّ السَّعَادَةَ المُؤَسَّسَةَ عَلَى خَيْرَاتِ الأَرْضِ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يَجْعَلَهَا الإِنْسَانُ هَدَفَ حَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ، كَمَا يُؤَكِّدُ صَاحِبُ المَزَامِيرِ: "اِغْتَنَى الإِنْسَانُ وَٱزْدَادَ بَيْتُهُ مَجْدًا، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا، وَلَا يَنْزِلُ مَجْدُهُ وَرَاءَهُ (مزمور 49: 17–18). فَحَيَاةُ الإِنْسَانِ وَدِيعَةٌ مِنَ اللهِ يَسْتَرِدُّهَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي يَشَاءُ (راجع يشوع بن سيراخ 11: 18–20). وَالغَبِيُّ هُوَ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَى غِنَاهُ لِيُؤَمِّنَ لِنَفْسِهِ سَعَادَتَهُ الأَبَدِيَّةَ، وَيَتَصَرَّفُ كَمَا يَفْعَلُ الْوَثَنِيُّونَ: "فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا يَسْعَى إِلَيْهَا أُمَمُ العَالَمِ" (لوقا 12: 30). إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ بِمَا يَمْلِكُ (لوقا 12: 15)، وَكُلُّ خَيْرَاتِ الأَرْضِ هِيَ فِي خِدْمَةِ الحَيَاةِ، وَلَكِنَّ الحَيَاةَ تَتَجَاوَزُهَا، لأَنَّهَا فِي عَلَاقَةٍ مَعَ اللهِ، الَّذِي يَعْرِفُ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ (لوقا 12: 30–31).
لذلك جَاءَتْ كَلِمَاتُ يَسُوعَ صَارِمَةً وَحَاسِمَةً: "لَا تَكْنِزُوا لأَنْفُسِكُمْ كُنُوزًا فِي الأَرْضِ، حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَيَنْقُبُ السَّارِقُونَ فَيَسْرِقُونَ. بَلِ ٱكْنِزُوا لأَنْفُسِكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ..." (متى 6: 19–20). فَالطَّمَعُ يُغْرِي الغَنِيَّ بِنَسْيَانِ نَفْسِهِ، وَفِي سَاعَةِ مَوْتِهِ، سَاعَةِ العُبُورِ نَحْوَ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، تَنْقَلِبُ الأَوْضَاعُ عَلَيْهِ: "تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَنَالَ لَعَازَرُ البَلَايَا. أَمَّا اليَوْمَ فَهُوَ هَهُنَا يُعَزَّى، وَأَنْتَ تُعَذَّبُ" (لوقا 16: 25). فَالغَنِيُّ الَّذِي كَانَ لَهُ "خَيْرَاتُهُ" (لوقا 16: 25)، وَعَزَاؤُهُ (لوقا 6: 24) فِي هذَا العَالَمِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ المَلَكُوتَ: "فَلِأَنْ يَدْخُلَ الجَمَلُ فِي ثَقْبِ الإِبْرَةِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ الغَنِيُّ مَلَكُوتَ اللهِ" (لوقا 18: 25). لأَنَّ المَالَ أَنْسَاهُ، وَنَزَعَ عَنْ ذِهْنِهِ فِكْرَةَ المَوْتِ، وَلَمْ يُنْقِذْهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي لَمْ يَتَوَقَّعْهَا. فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَنَعَّمَ بِخَيْرَاتِهِ، كَمَا خَطَّطَ. فَقَدْ ظَنَّ أَنَّ الغِنَى سَيَكُونُ لَهُ يَنْبُوعَ سَعَادَةٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ السَّعَادَةَ أَفْلَتَتْ مِنْهُ فَجْأَةً. إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ لَا تَقُومُ عَلَى أَمْوَالِهِ، وَلَا تُضْمَنُ بِهَا، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: "لَيْسَتِ الحَيَاةُ لِأَحَدٍ بِفَيْضِ أَمْوَالِهِ" (لوقا 12: 15).
ه) الطَّمَعُ َيُفْقِدُ الخَلاص
يُؤَدِّي الطَّمَعُ إِلَى الهَلَاكِ، لأَنَّهُ يَخْنُقُ كَلِمَةَ اللهِ فِي القَلْبِ، كَمَا جَاءَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى: "يَكُونُ لَهُ مِنْ هَمِّ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِتْنَةِ الغِنَى مَا يَخْنُقُ الكَلِمَةَ، فَلَا تُخْرِجُ ثَمَرًا" (متى 13: 22). الطَّمَعُ يُعَطِّلُ سَيْرَ الإِنْسَانِ فِي طَرِيقِ الكَمَالِ، وَيُفْسِدُ أَحْسَنَ القُلُوبِ اسْتِعْدَادًا، كَمَا حَدَثَ مَعَ الشَّابِّ الغَنِيِّ الَّذِي دَعَاهُ يَسُوعُ لِٱتِّبَاعِهِ، فَٱنْصَرَفَ حَزِينًا: "لأَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ" (متى 19: 21–22). وَلِذَلِكَ، يَجْعَلُ الطَّمَعُ أَصْحَابَهُ فِي عِدَادِ الوَثَنِيِّينَ، لأَنَّهُ يُبَدِّلُ مَكَانَ اللهِ فِي القَلْبِ، فَيَصِيرُ المَالُ إِلَهًا كَاذِبًا، وَيَقَعُ الإِنْسَانُ فِي بَرَاثِنِ الشَّهْوَاتِ وَالفَسَادِ، كَمَا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ: "أَسْلَمَهُمُ اللهُ بِشَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الدَّعَارَةِ، يُشِينُونَ بِهَا أَجْسَادَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ" (رومة 1: 24)، وَأَضَافَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "أَمِيتُوا إِذًا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي فِي الأَرْضِ، بِمَا فِيهَا مِنْ زِنًى، وَفَحْشَاءَ، وَهَوًى، وَشَهْوَةٍ فَاسِدَةٍ، وَطَمَعٍ، وَهُوَ عِبَادَةُ أَوْثَانٍ" (كولسي 3: 5). فَيُصْبِحُ الطَّمَعُ خَطِيئَةً مُمِيتَةً تَحْرِمُ الإِنْسَانَ مِنْ مِيرَاثِ المَلَكُوتِ، كَمَا أَكَّدَ الرَّسُولُ: "فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّانِي، وَلَا لِمُرْتَكِبِ الفَحْشَاءِ، وَلَا لِلْجَشِعِ (الَّذِي هُوَ عَابِدُ أَوْثَانٍ)، مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ المَسِيحِ وَاللهِ" (أفسس 5: 5).
2. ما مَوْقِفُ يَسُوعَ مِنَ الطَّمَعِ؟
بِمَا أَنَّ الرَّجُلَ الغَنِيَّ نَسِيَ اللهَ وَالآخَرِينَ وَالأَبَدِيَّةَ بِسَبَبِ غِنَاهُ، أَصْدَرَ يَسُوعُ الحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنْسَانٌ غَبِيٌّ، فَصَارَ حُكْمُهُ مَثَلًا فِي التَّارِيخِ: "يا غَبِيّ!" (لوقا 12: 20). إِنَّهُ غَبِيٌّ، ذُو قَلْبٍ فَاقِدِ الحِسِّ (مزمور 119: 70)، غَبِيٌّ لِأَنَّهُ جَهِلَ مَوْقِفَهُ مِنْ مَالِهِ وَمِنْ غَدِهِ.
أَوَّلًا: جَهِلَ الغَنِيُّ مَوْقِفَهُ مِنَ المَالِ
إِنَّ المَالَ لَيْسَ شَرًّا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ تَبَادُلِ السِّلَعِ بَيْنَ النَّاسِ. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "مَا زِلْنَا نُعَانِدُ أَنْفُسَنَا إِلَى اليَوْمِ وَنَقُولُ: بِالمَالِ نَسْتَطِيعُ فِعْلَ كُلِّ شَيْءٍ. نَعَمِ، المَالُ وَسِيلَةٌ، وَلَكِنْ مَتَى صَارَ إِلَهًا قَتَلْتَ إِنْسَانِيَّتَكَ وَإِنْسَانِيَّةَ الآخَرِينَ" (عِظَةُ البَابَا، 3 آب 2013). فَإِذَا ٱسْتُخْدِمَ فِي العَطَاءِ، كَانَ خَيْرًا، وَإِذَا حَمَلَ طَمَعًا، صَارَ شَرًّا. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، يَقُولُ الكَاتِبُ الفَرَنْسِي أَلِكْسَنْدِر دُومَا: "لَا تُقَدِّرِ المَالَ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ؛ فَهُوَ خَادِمٌ جَيِّدٌ، وَلَكِنَّهُ سَيِّدٌ فَاسِدٌ." إِنَّ الشَّرَّ هُوَ فِي التَّذَرُّعِ بِطَمَعِ المَالِ وَتَكْدِيسِ الثَّرْوَةِ. فَكَمَا يَقُولُ بولس الرسول: "حُبُّ المَالِ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ" (1 طيموتاوس 6: 10).
الطَّمَعُ فِي المَالِ: فِي مَفْهُومِ لُوقَا الإِنْجِيلِيّ، يَقُومُ الطَّمَعُ عَلَى: الرَّغْبَةِ فِي الٱسْتِزَادَةِ دَائِمًا مِمَّا هُوَ فِي حَوْزَةِ الإِنْسَانِ؛ وَلَوْ عَلَى حِسَابِ الآخَرِينَ، كَمَا فِي مَثَلِ الرَّجُلِ الَّذِي طَلَبَ مِنْ يَسُوعَ أَنْ يَحْكُمَ فِي نِزَاعِ المِيرَاثِ: "مُرْ أَخِي بِأَنْ يُقَاسِمَنِي المِيرَاثَ" (لوقا 12: 13). وَالطَّمَعُ أَيْضًا هُوَ فِي التَّعَلُّقِ بِالخَيْرَاتِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا كَأَمَانٍ وَهَدَفٍ.
يَسُوعُ يَرْفُضُ هَذَا المَوْقِفَ. رَفَضَ الرَّبُّ يَسُوعُ مِثْلَ هَذَا المَوْقِفِ المُنْغَلِقِ، وَشَجَبَ فَائِضَ الخَيْرَاتِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ: الجَشَعُ، الطَّمَعُ، الصَّلَفُ، البُخْلُ، وَالمَجْدُ البَاطِلُ. وَيُعَلِّقُ البَابَا فِرَنسِيس: "إِنَّ المَالَ وَالغِنَى أُعْطِيَا لَنَا لِيَكُونَا وَسِيلَةً نُسْعِدُ بِهَا حَيَاتَنَا وَحَيَاةَ الفُقَرَاءِ وَالتُّعَسَاءِ مِنْ حَوْلِنَا" (عظة 3 آب 2013).
مَنْ يَمْلِكُ المَالَ؟ أَمِ المَالُ يَمْلِكُهُ؟ ظَنَّ الغَنِيُّ أَنَّهُ يَمْلِكُ المَالَ، لَكِنَّ المَالَ هُوَ الَّذِي ٱمْتَلَكَهُ. لِأَنَّهُ طَمِعَ بِهِ، فَصَارَ عَبْدًا لَهُ. وَكَذَا الطَّمَعُ فِي المَالِ يُصِيرُ شَهْوَةً لِلمَزِيدِ دُونَ حَاجَةٍ، وَيَجْعَلُ الإِنْسَانَ شَرِيرًا، جَفَّتْ نَفْسُهُ (سيراخ 14: 8–9). وَمِنْ هُنَا، أَصْدَرَ يَسُوعُ تَحْذِيرًا قَوِيًّا: "تَبَصَّرُوا وَٱحْذَرُوا كُلَّ طَمَعٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَتِ الحَيَاةُ لِأَحَدٍ بِفَيْضِ أَمْوَالِهِ" (لوقا 12: 15).
الغَبَاءُ أَنْ تَجْعَلَ الخَيْرَاتِ مَرْكَزَ الحَيَاةِ. إِنَّ الغَبَاءَ فِي إِنْجِيلِ اليَوْمِ، يَكْمُنُ فِي أَنْ يَعْتَبِرَ الإِنْسَانُ أَنَّ جَوْهَرَ الحَيَاةِ وَمَعْنَاهَا يَقُومَانِ فِي ٱكْتِنَازِ الخَيْرَاتِ لِذَاتِهِ، وَجَعْلِهَا مَرْكَزَ الأَمَانِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوس النِّيصِيّ: "هُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ الغِنَى: وَاحِدٌ مَمْدُوحٌ، وَآخَرُ مَكْرُوهٌ. فَالغِنَى بِالفَضِيلَةِ مَمْدُوحٌ، وَأَمَّا الغِنَى المَادِّيّ وَالأَرْضِيّ فَهُوَ مَرْذُولٌ. أَحَدُهُمَا اقْتِنَاءٌ لِلرُّوحِ، وَالآخَرُ تَجْرِبَةٌ سَهْلَةٌ لِلحَوَاسِّ. لِهَذَا، يَمْنَعُنَا الرَّبُّ مِنِ ٱقْتِنَاءِ وَتَخْزِينِ الخَيْرَاتِ الأَرْضِيَّةِ، لأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِلفَسَادِ وَنَهْبِ السَّارِقِينَ، وَيَطْلُبُ مِنَّا البَحْثَ عَنِ الغِنَى الَّذِي لَا يَتَفَكَّكُ وَلَا يَفْسُدُ." (الطُّوبَاوِيَّات التِّسْع، فِي الطُّوبَاوِيَّةِ الأُولَى).
ثانِيًا: جَهِلَ الغَنِيُّ مَوْقِفَهُ مِنْ غَدِهِ
لَمْ يَكُنِ الغَنِيُّ غَبِيًّا لِجَهْلِهِ مَوْقِفَهُ تُجَاهَ مَالِهِ فَحَسْب، إِنَّمَا أَيْضًا لِجَهْلِهِ مَوْقِفَهُ مِنْ غَدِهِ. ظَنَّ الرَّجُلُ الغَنِيُّ أَنَّ مُسْتَقْبَلَهُ أَصْبَحَ مَضْمُونًا وَآمِنًا، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ عَلَى غَبَاوَتِهِ عِنْدَمَا طَلَبَ اللهُ نَفْسَهُ: "في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ" (لوقا 12: 20) فَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الحَاسِمَةِ، رَأَى الغَنِيُّ أَنَّ: مَالَهُ بَاقٍ فِي الأَهْرَاءِ الَّتِي بَنَاهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْنِ لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا عِنْدَ اللهِ.
فَمَا أذَّخره مِنْ مَالٍ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي دَفْعِ الشِّدَّةِ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَمَاتِهِ، مَاتَ غَنِيًّا بِمَا لِدُنْيَاه، فَقِيرًا إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ. فَغَبَاوَتُهُ تَكْمُنُ فِي أَنَّهُ: عَبَدَ مَالَهُ إِذْ "كَنَزَ لِنَفْسِهِ" مِنْ دُونِ رَبِّهِ، وَلَمْ "يَغْتَنِ عِندَ اللهِ " (لوقا 12: 21)، عَمِلَ لِدُنْيَاهُ وَنَسِيَ آخِرَتَهُ. وَلِذَلِكَ، يُنَبِّهُ يَسُوعُ النَّاسَ أَنَّ وَفْرَةَ الخَيْرَاتِ المَادِّيَّةِ لَا تَكْفِي لِتُؤَمِّنَ الحَيَاةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ الحَقِيقِيَّةَ. فَسَلَامُ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيُّ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى الغِنَى وَخَيْرَاتِ الأَرْض، بَلْ إِلَى عَلَاقَتِهِ بِرَبِّهِ وَبِإِخْوَتِهِ.
الرَّبُّ يَسُوعُ يُحَذِّرُنَا بِحَزْمٍ حَتَّى لَا نُضَيِّعَ حَيَاتَنَا فِي ٱلرَّكْضِ وَرَاءَ الأَرْضِيَّاتِ الفَانِيَةِ، وَنَنْسَى فِي بَحْثِنَا عَنِ اللهِ، فَنَخْسَرَ عَلَاقَتَنَا الأَبَدِيَّةَ مَعَهُ. فَالمَالُ، فِي مَفْهُومِ السَّيِّدِ المَسِيحِ، هُوَ عَدُوٌّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْدِمَ اللهَ وَيَغْتَنِيَ بِهِ، لأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ يَخْدِمُهُ خَائِنًا، كَمَا فِي مَثَلِ الوَكِيلِ الخَائِنِ (لوقا 16: 9). وَيُصَرِّحُ يَسُوعُ بِوُضُوحٍ: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا، فَاذْهَبْ، وَبِيعْ أَمْوَالَكَ، وَأَعْطِهَا لِلْفُقَرَاءِ... ثُمَّ تَعَالَ وَٱتْبَعْنِي" (متى 19: 21). وَيَضَعُ شَرْطًا قَاطِعًا لِلتِّلْمَذَةِ: "وَهَكَذَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يَتَخَلَّى عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا" (لوقا 14: 33).
3. ما العِبْرَةُ الَّتِي نَتَّخِذُهَا مِنْ هَذَا المَثَلِ؟
يَدْعُونَا يَسُوعُ، مِنْ خِلَالِ مَثَلِ الغَنِيِّ الغَبِيِّ، أَلَّا نَنْسَى: اللهَ، الآخَرِينَ، وَالحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ، فِي تَصَرُّفِنَا بِأَمْوَالِنَا، لِكَيْ نَدَّخِرَ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، وَنَكُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِلدُّخُولِ فِي دَيْنُونَةِ اللهِ عِنْدَ مَوْتِنَا. "بِيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها، واجعَلوا لَكُم أَكْياساً لا تَبْلى، وكَنزاً في السَّمواتِ لا يَنفَد، حَيثُ لا سارِقٌ يَدنو ولا سوسٌ يُفسِد"(لوقا 12: 33). يَسُوعُ يُعَلِّمُ الأَخَوَيْنِ: أَنَّ الحَيَاةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، فَطَمَعُهُمَا قَسَمَهُم، ِذْ قَالَ لَهُم: "تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أَموالِه" (لوقا 12: 15). يَسُوعُ لَا يُدِينُ الغِنَى بَلِ الطَّمَعَ: الطَّمَعُ هُوَ: نَهَمٌ لِلأَرْضِيَّاتِ وَالمَادِّيَّات، وإِنْشِغَالٌ بِالدُّنْيَا عَلَى حِسَابِ الرُّوحِيَّات، وعَدَمُ الاكْتِفَاءِ وَنَسْيُ السَّمَاءِ. وَقَدْ سَمَّاهُ بُولُسُ الرَّسُولُ: "عِبَادَةُ أَوْثَانٍ"(كولسي 3: 5). لأَنَّ الطَّمَّاعَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُخَلَّدٌ عَلَى الأَرْضِ وَيَنْسَى السَّمَاء.
يَدْعُونَا يَسُوعُ أَيْضًا إِلَى: طَلَبِ مَلَكُوتِ اللهِ، وَهُوَ يُوَفِّرُ البَاقِي: "اطلُبوا مَلَكوتَه، تُزادوا ذلك"(لوقا 12: 31). اِسْتِعْمَالِ المَالِ فِي خِدْمَةِ الآخَرِينَ، فَإِنَّهُ يُصْبِحُ كَنْزًا سَمَاوِيًّا إِذَا سُخِّرَ لِلصَّدَقَةِ وَالمُسَاعَدَةِ (لوقا 12: 33-34). وَلكِنَّ المَالَ يُصْبِحُ خَطَرًا إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الإِنْسَانُ وَسَعَى وَرَاءَهُ، لِمُنْفَعَةٍ أَرْضِيَّة، كَمَا فَعَلَ الغَنِيُّ الجَاهِل (لوقا 12: 16–21)، أَوْ كَمَا فَعَلَ الفَرِّيسِيُّون (لوقا 16: 14)، أَوْ الغَنِيُّ الَّذِي أَهْمَلَ لَعَازَر (لوقا 16: 19–31)."سَيَأْتِي يَوْمٌ تَنْقَلِبُ فِيهِ الأَوْضَاعُ: فَيَتَعَزَّى الفَقِيرُ وَيَتَعَذَّبُ الغَنِيُّ" (لوقا ١٦: ٢٥).
خُصُوصًا، يَدْعُونَا يَسُوعُ إِلَى أَنْ نَكُونَ أَغْنِيَاءَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ لَيْسَتْ فِي أَمْوَالِهِ. فَقَدْ قَالَ القِدِّيس أُوغُسْطِينُوس: "إِنَّ نَفْسِي تَبْقَى مُضْطَرِبَةً إِلَى أَنْ تَسْتَرِيحَ فِيكَ، يَا الله. لَقَدْ خَلَقْتَنَا يَا اللهُ لِنَفْسِكَ، وَلَسَوْفَ تَبْقَى قُلُوبُنَا قَلِقَةً حَتَّى تَجِدَ رَاحَتَهَا فِيكَ". وَيُؤَكِّدُ النَّبِيُّ إِرْمِيَا: "لَا سَلامَ لأَحَدٍ مِنَ البَشَر" (إرميا 12: 12) إِذَا اسْتَقَلَّ عَنِ الله. غِنَى الإِنْسَانِ لَا يُقَاسُ بِمَا يَمْلِكُ، بَلْ بِمَا يُقَدِّمُ.
نَحْنُ فِي فَتْرَةٍ مُؤَقَّتَةٍ عَلَى الأَرْضِ فَلَا نَكُنْ أغبياء فِي أَذْهَانِنَا، وَلَا نَكْنِزْ لِهَذَا العَالَمِ، كَأَنَّنَا مُخَلَّدُونَ عَلَى الأَرْضِ، بَلْ لِنَغْتَنِ عِندَ اللهِ كَمَا أَوْصَى السَّيِّدُ المَسِيحُ:"لا تَطلُبوا أَنتُم ما تَأكُلُونَ أَو ما تَشرَبونَ ولا تكونوا في قَلَق، فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه وَثَنِيُّو هذا العالم، وأَمَّا أَنتُم فأَبوكُم يَعلَمُ أَنَّكم تَحتاجونَ إِلَيه.بَلِ اطلُبوا مَلَكوتَه تُزادوا ذلك" (لوقا 12: 30–31).
لَا نَضَعِ الأَمْوَالَ فِي المَكَانِ الأَوَّلِ فِي اهْتِمَامَاتِنَا، بَلْ لِنَشْتَغِلْ أَوَّلًا مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ، أَي لِمَجْدِ اللهِ وَخَلَاصِ النَّفْسِ. فَإِنَّ الغَبَاوَةَ فِي "الاِكْتِنَازِ لِلنَّفْسِ، لَا الاِغْتِنَاءِ بِاللهِ" كَمَا يُعَلِّقُ القِدِّيس بَاسِيلْيُوس الكَبِير:"سَوْفَ تَتْرُكُ هُنَا المَالَ وَلَوْ مُرْغَمًا، وَسَتَحْمِلُ مَعَكَ إِلَى اللهِ المَجْدَ الَّذِي اسْتَحْقَقْتَهُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ".
الخُلاصَةُ
يُبْرِزُ مَثَلُ الغَنِيِّ الجَاهِلِ (لوقا 12: 16–21) مَا هُوَ الغِنَى الحَقِيقِيّ، وَيُظْهِرُ المَوْقِفَ السَّلِيمَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَهُ الإِنْسَانُ تِجَاهَ خَيْرَاتِ هذَا العَالَمِ. فَـيَسُوعُ رَفَضَ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ فِي نِزَاعٍ عَلَى المِيرَاثِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ فِي الحَيَاةِ الزَّمَنِيَّةِ يُنْسِي الإِنْسَانَ الحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ، فَكَأَنَّ حَيَاةَ المَرْءِ تَقُومُ عَلَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّنَعُّمِ!
فَالرَّجُلُ الغَنِيُّ، فِي قِصَّةِ المَثَلِ، أَصْبَحَ يُكَلِّمُ نَفْسَهُ فَقَط، وَتَوَقَّفَ الزَّمَنُ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَعُدْ يَسْتَثْمِرُ فِي شَيْءٍ، وَانْسَحَبَ إِلَى ذَاتِهِ حَتَّى الْهَلَاكِ. لاَ يَضْمَنُ المَالُ، مَهْمَا كَثُرَ، لاَ الحَيَاةَ الطَّوِيلَةَ وَلاَ السَّعَادَةَ الحَقِيقِيَّةَ. فَمِنَ الغَبَاوَةِ أَنْ يَظُنَّ الإِنْسَانُ أَنَّ الثَّرْوَةَ تُوَفِّرُ لَهُ الأَمَانَ وَالرَّاحَةَ، فَـالمَوْتُ آتٍ حَتْمًا، وَبَعْدَ المَوْتِ تَأْتِي الدَّيْنُونَةُ. إِنَّهُ خَيْرٌ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ: "غَنِيًّا فِي عَيْنَيِ اللهِ" بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا بِأَمْوَالِ الأَرْضِ، وَمُنْغَلِقًا عَلَى أَنَانِيَّتِهِ.
الغِنَى لَيْسَ شَرًّا فِي ذَاتِهِ، وَلاَ خَيْرًا بِالضَّرُورَةِ، بَلْ وَسِيلَةٌ. فَإِنْ استُخْدِمَ فِي العَطَاءِ، صَارَ خَيْرًا؛ وَإِنْ حَمَلَ طَمَعًا، صَارَ شَرًّا. وَقَدْ قَالَ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "الغِنَى لَيْسَ شَرًّا، بَلْ هُوَ نَافِعٌ إِنْ أُحْسِنَ اسْتِخْدَامُهُ." النِّدَاءُ الإِنْجِيلِيُّ وَاضِحٌ: لْنَكُنْ أَغْنِيَاءَ فِي اللهِ، لأَنَّهُ: "مَهْمَا كَانَ لأَحَدٍ مِنْ ثَرْوَةٍ، فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ"(لوقا 12: 15). نَحْنُ مَخْلُوقُونَ لِلسَّمَاءِ: نَقْضِي فَتْرَةً مُؤَقَّتَةً عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى مَوْطِنِنَا الأَصْلِيِّ. فَـلَا نَكُنْ أَغْبِيَاءَ فِي أَذْهَانِنَا، وَلَا نَعْمَلْ لِحِسَابِ هذَا العَالَمِ، كَأَنَّنَا مُخَلَّدُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَنَسْتَبْعِدُ أَنْ نَكُونَ أَغْنِيَاءَ لِلَّهِ.
حَانَ الوَقْتُ لِنُوَقِفَ الصِّرَاعَ: بَيْنَ الارْتِبَاكِ فِي تَرْتِيبِ الاِحْتِيَاجَاتِ الزَّمَنِيَّةِ، وَبَيْنَ الطَّمَعِ وَالطُّمُوحِ الزَّائِدِ، وَبَيْنَ السَّعْيِ لِغِذَاءِ أَرْوَاحِنَا. فَلْنَسْعَ أَوَّلًا: إِلَى إِشْبَاعِ الرُّوحِ: بِحِفْظِ كَلِمَةِ اللهِ، وَبِالصَّلاَةِ، وَمُرَاسَمَةِ وَسَائِطِ النِّعْمَةِ، وَعَمَلِ المَحَبَّةِ بَيْنَ النَّاسِ. "فَكُلُّ هذِهِ الزَّمَنِيَّاتِ تُزَادُ لَكُم" (لوقا 12: 31). فَلَا نَقْلَق، لأَنَّ أَبَانَا يَعْلَمُ احْتِيَاجَنَا، وَيُسَرُّ أَنْ يُعْطِيَنَا المَلَكُوتَ. في النِّهَايَةِ: يُوَجِّهُ يَسُوعُ أَنْظَارَ المُؤْمِنِينَ إِلَى: الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَلَيْسَ إِلَى رَفَاهِيَةِ الحَيَاةِ الزَّمَنِيَّةِ. فَـمَنْ قَبِلَ الإِيمَانَ بِهِ، وَسَلَّمَ نَفْسَهُ لِقِيَادَةِ الرَّبِّ، سَيَجِدُ الرَّاحَةَ، وَيَكُونُ غَنِيًّا فِي اللهِ.
دُعاء
أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيُّ، نَسْأَلُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱبْنِكَ ٱلْوَحِيدِ، أَنْ تَمْنَحَنَا ٱلْحِكْمَةَ، فَلَا نَضَعَ ٱتِّكَالَنَا عَلَى خَيْرَاتِ ٱلْأَرْضِ وَحْدَهَا، مَهْمَا كَانَتْ وَافِرَةً، بَلْ نَضَعَ ٱتِّكَالَنَا عَلَيْكَ أَنْتَ، لِنَعْمَلَ عَلَى تَمْجِيدِ ٱسْمِكَ ٱلْقُدُّوسِ، وَبُلُوغِ ٱلسَّعَادَةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ ٱلْحَقَّةِ ٱلَّتِي خُلِقْنَا لِأَجْلِهَا. وَنُرَدِّدُ مَعَ ٱلْقِدِّيسِ أَغْنَاطِيُوس دِي لِيُولا: "خُذْ، يَا رَبُّ، وَاقْبَلْ حُرِّيَّتِي كُلَّهَا، ذَاكِرَتِي وَعَقْلِي وَإِرَادَتِي كُلَّهَا، كُلَّ مَا هُوَ لِي وَكُلَّ مَا هُوَ عِنْدِي. أَنْتَ أَعْطَيْتَنِي ذٰلِكَ، فَإِلَيْكَ أُعِيدُهُ، يَا رَبُّ. كُلُّ شَيْءٍ لَكَ، فَتَصَرَّفْ فِيهِ بِكَامِلِ مَشِيئَتِكَ. هَبْ لِي أَنْ أُحِبَّكَ، هَبْ لِي هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةَ، فَهٰذَا يَكْفِينِي." آمــين.
قصة: عُملةٌ غَيرُ مُتداوَلَةٍ في السَّماء
يُروى أنَّ رَجُلاً غَنِيًّا دَخَلَ الفِردَوسَ بَعدَ مَماتِه. وَبينما كانَ يَتَجَوَّلُ في أَسوَاقِها، تَعَجَّبَ مِن أَنَّ البَضائِعَ فِي السَّماءِ رَخِيصَةٌ جِدًّا. فَوَقَفَ عِندَ أَحَدِ المَحَلّاتِ التِّجارِيَّةِ، وَأَرادَ أَن يَشتَرِيَ أَشْياءً كَثِيرَةً. فأَخرَجَ نُقودَهُ وَهَمَّ بِالتَّسَوُّقِ، فَقاطَعَهُ أَحَدُ المَلائِكَةِ قَائِلاً: "هٰذِهِ العُملَةُ غَيرُ مُتَداوَلَةٍ في السَّماءِ". فَسَأَلَهُ الغَنِيُّ مُستَغرِبًا: "وَمَا هِيَ العُملَةُ المُتَداوَلَةُ هُنا؟". فأَجابَهُ المَلَكُ بِسُكُونٍ وَوَقارٍ: "العُملَةُ المُتَداوَلَةُ فِي السَّماءِ هِيَ الأَموالُ الَّتِي أَنفَقتَها عَلَى الفُقَراءِ فِي الأَرضِ".
هٰكَذَا يُذكِّرُنا الرَّبُّ يسوعُ: "ٱبْتاعوا لَكُم أَكياسًا لا تَفنى، وكَنزًا لا يَنفَدُ في السَّماءِ، حَيثُ لا يَدنُو السَّارِقُ ولا يُفسِدُ سُوسٌ. فَإِنَّهُ حَيثُ يَكونُ كَنزُكُم، هُناكَ يَكونُ قَلبُكُم أَيضًا" (لوقا 12: 33–34). فَلنَضَعْ كَنزَنا في الأَبدِيَّةِ بِالعَطاءِ، وَنَستَثمِرْ أَموالَنا فِي مَحبَّةِ الإخوة، لِنَمتَلِكَ العُملَةَ الحَقِيقِيَّةَ الَّتِي تُفتَحُ لَنا بِها أَبوابُ السَّماءِ.