موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣١ مايو / أيار ٢٠٢٤

عظة عيد الزّيارة، 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
عيد الزّيارة

عيد الزّيارة

 

﴿فَنَجعَلُ لَنَا عِندَه مُقَامًا﴾ (يوحَنّا 23:14)

 

﴿إِذَا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامِي، فَأَحَبَّه أَبي، ونَأتي إِلَيهِ، فَنَجعَلُ لَنَا عِندَه مُقَامًا﴾ (يوحَنّا 23:14). أَيُّهَا الإخوَةُ والأَخَوَاتُ جَميعًا، نَحنُ الْمُحتَفِلينَ بِعيدِ زِيَارةِ أُمِّنَا مَريمَ العَذراءِ لِقَريبَتِهَا أَلِيصَابَات. إنَّ كَلِمَاتِ يَسوعَ هَذه، تُلَخِّصُ حَياةَ البَتوُلِ مَريَم! فَحَياتُهَا كَانَتْ حِفْظًا تَامًّا لِكَلامِ الله، هيَ الّتي كَانَت: ﴿تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها﴾ (لوقا 51:2)، وعَمَلًا أَمِينًا بِمَشِيئَةِ العَليِّ، هِيَ: ﴿أَمَةُ الرَّبِّ فَلْيَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ﴾ (لوقا 38:1)، ومَحبَّةً مُطلَقَةً لَهُ تَعَالَى، إذْ في سَبيلِهِ: ﴿سَيفٌ نَفَذَ في نَفْسِهَا﴾ (لوقا 35:1).

 

لِأجلِ هَذَا كُلِّه، خَصَّهَا اللهُ وحَبَاهَا "نِعمَةَ زِيارَتِهِ لِنَفسِهَا"، يَومَ حَلَّ فِيهَا بِكَلِمَتِهِ ورُوحِه، ووُلِدَ مِنهَا، وبِهَا ومِنْ خِلالِها صَارَ اللهُ مَعَنَا! فَمَريمُ الزَّائِرَةُ قَريبَتَها أَليصَابَات، كَانَت البَابَ الّذي مِنهُ زَارَنا اللهُ وَمَكَثَ بَينَنَا. وهَا هِيَ أَليصاباتُ، تَهتِفُ باسمِنَا جَميعًا، هُتَافَ الفَرحِ والسُّرور، مُرَحِّبَةً بهذهِ الزَّيارَةِ الكَريمَة، وَمُخاطِبَةً البَتُولَ والقَديرَ السَّاكِنَ فِيهَا، قَائِلَةً: ﴿مُبَارَكَةٌ أَنتِ في النِّسَاء! وَمُبَارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِنْ أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فَمَا إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، حَتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهَاجًا في بَطْني﴾ (لوقا 42:1-44).

 

وعَليه، عِيدُ الزّيارَةِ عيدٌ يَدعُونَا لِأنْ نَفرَحَ ونُسَرَّ، كَمَا سُرَّت أَليصاباتُ وابْتَهَجَ يُوحَنَّا الْمَعمَدَان. عِيدٌ يَدعُونَا لِأنْ نُعَظِّمَ الرّبَّ ونَبتَهِجَ بِه، كَمَا عَظَّمَتْ وابْتَهَجَتْ بِهِ مَريم، لِأنَّ اللهَ مَعنَا، يَصنَعُ إلينَا ويُجري فينَا "عَظائِمَ رَحمَتِه، ودَلائِلَ مَحبَّتِه".

 

﴿إِذَا أَحَبَّني أَحَدٌ، حَفِظَ كَلامِي، فَأَحَبَّه أَبي، ونَأتي إِلَيهِ، فَنَجعَلُ لَنَا عِندَه مُقَامًا﴾. يا أَحِبَّة، إنَّ زيَارَةَ اللهِ لِأُمِّنَا مَريم، تَمَّتْ مَرَّةً بِطَريقَةٍ عَجيبَةٍ وفَريدَةٍ وحَصريَّةٍ وخَاصَّة، وذلِكَ بحَسَبِ إرادَتِهِ تَعَالَى، لِيُحَقِّقَ مِنْ خِلالِها عَمَلَ فِدَائِنَا. ولَكِنَّ اللهَ يَزورُنَا نَحنُ أيضًا، بِطُرقَ عِدَّةٍ ومُميَّزَة! يَزُورُنَا أَوّلًا بِنَاسُوتِهِ وبِلاهُوتِهِ مِنْ خِلالِ سرِّ القُربانِ الأقدَس، سِرِّ جَسدِهِ ودَمِهِ الأقدَسَين. يَزُورنَا أَيضًا بِكَلامِهِ الْمُقدَّس الّذي نَقرَأُهُ ونَتَأمَّلُ بهِ، والّذي يَدعُونَا إلى أنْ نَعمَلَ بِموجَبِهِ، عَلَى مِثَالِ أُمِّنَا مَريم، فَنَحيَا في الامتِثَالِ لِتَعَالِيمِهِ ووَصَايَاه. يَزُورنَا كَذلِك في شَخصِ الْمُستَغِيثِ طَلبًا مِنَّا لِلرَّحمَةِ والْمَعونَة، عَلَى مِثَالِ مَريمَ الّتي هَبَّتْ لِنَجدَةِ أَلِيصابَاتَ ونُصرَتِهَا، إِذْ: ﴿كُلَّمَا صَنعتُم شَيئًا مِنْ ذَلِكَ لِواحِدٍ مِنْ إِخوتي هَؤُلاءِ الصِّغار، فَلي قَدْ صَنَعتُموه﴾ (متّى 40:25).

 

﴿وأَقَامَت مَريمُ عِندَ أَليصاباتَ نَحوَ ثَلاثَةِ أَشهُر، ثُمَّ عادَت إِلى بَيتِها﴾ (لو 56:1). هَكذا يَختمُ لوقَا البَشيرُ مَشهَدَ الزِّيَارَة. مَريمُ وأَليصَابَاتُ امْرَأتانِ شَرقِيَّتَان. ونَحنُ مَسيحيّونَ أَصلِيّونَ مِنَ الشَّرق، نُدرِكُ جَيّدًا قِيمَةَ الزّيارَةِ في أَعْرافِنَا وتَقَاليدِنَا الاجتِمَاعِيَّة. فَكُلُّ زِيَارَةٍ مِنْ شَخْصٍ نُحبِّهُ ونُقدِّرُهُ، هي دَومًا مَصدَرُ فَرَحٍ ومَدْعَاةُ سُرورٍ لَنَا.

 

نَحنُ مَسيحيّونَ شَرقِيّون، عَلَى مِثَالِ شَخصِيَّاتِ الإنجيلِ الشَّرقِيَّة، إذَا أَردَنَا إكرَامَ شَخصٍ نَستَضيفُهُ في بُيوتِنَا، لا في مَطعَمٍ كَمَا يَفعلُ مُعظَمُ الأوربيّينَ الغَربيّين، مِثلَمَا اسْتَضافَ زَكّا الْمَسيحَ في بَيتِهِ مَسرُورًا (لوقا 19). وكَمَا دَعَاهُ سمعانُ أَحَدُ وُجَهَاءِ الفرّيسيّين للطَّعامِ عَندَهُ (لوقا 7). ونُكَلِّفُ أَنْفُسَنَا عَنَاءَ التَّحضيرِ والإعدَاد، بِمَا لَذَّ وطَاب، لإكرَامِ ضَيفِنَا أَفضَلَ إكرَام، تمامًا كَمَا صَنعَتْ مَرتَا لإكرامِ يَسوعَ في بَيتِهَا (لوقا 10).

 

فَإِذَا كُنَّا يا أَحِبَّة، نَصنَعُ كُلَّ هَذَا مَعْ بَشَرٍ هُمْ مِثلُنَا، فَكَمْ بالحَريِّ وَجَبَ عَلَينَا أَنْ نَفعَلَ أَعظَمَ وأَكثَر، عِندَمَا يَكونُ اللهُ هوَ زَائِرُنَا؟ وإِذَا كُنَّا نَفرَحُ كُلَّ هَذَا الفَرَح، بِزائِرٍ عَزيزٍ قَدِمَ إِلَينَا، فَكَمْ يَكونُ فَرحُنَا مُضَاعَفًا، عِندَمَا يَكونُ اللهُ هوَ عَائِدُنَا؟ وإِذَا كُنَّا نُفرِدُ صَدرَ الدَّارِ لِضيفِنَا إجْلالًا وتَشرِيفًا، فَكَمْ يَكونُ شَرفُنَا أَسمَى وأَرفَع، عِندَما يُشَرِّفُ اللهُ مَساكِنَ نُفوسِنَا ويُقيمُ فيهَا، لا ثَلاثَةَ أشهُرٍ، بَل العُمرَ كُلَّهُ؟! وإذَا كُنَّا نُخصِّصُ سَاعَاتٍ وأَحيانًا أَيّام، نُعِدُّ ونستَعِدُّ لِزَائِرٍ كَريم، فَكَمْ بالحَريِّ وَجَبَ عَلَينَا أَنْ نَستَعِدَّ ونَتَهَيَّأَ أفضَلَ تَهَيُّئٍ، لاستِقبالِ اللهِ، أَروَعَ وأَجمَلَ وأَطيَبَ زَائِرٍ، تَعرِفُهُ قُلوبُنَا، وتُحِبُّهُ وتَتُوقُ نُفوسُنَا دَومًا لِلُقيَاه؟!

 

فَيَا رَبّي لَو زُرتَنَا لَوَجدتَنَا نحنُ الضُّيوفُ وأَنتَ رَبُّ الْمَنزِلِ...