موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثالث (ج)
مُقدّمة
من خلال مسيرتنا الكتابيّة فيما بين العهدين والّذي نبدأ فيه بهذا ويمكننا أن نقول، مسيرة الرّبّ يسوع الـمسيح الحقيقيّة في حياته العلنيّة. بعد إعتماده في نهر الأردن بالمقال السابق، إذ كشف الله الآب عن هويّة إبنه الإلهيّة داعيًا إياّنا للسمع له. ومن الآن فصاعدا سنصغي لكلمات يسوع، بل سنسير ورائه على ذات الطّريق الّذي يقودنا إليه، متجهين في رحلته نحو القيامة. وهكذا يصبح هذا الزمن العادي بالطقس "سرًا" له إمتيازه لتبعيّتنا كمسيحيّين للرّبّ وعلى خطاه. إنّه زمن إعتيادي بالفعل ولكن السيّر اليّومي وراء يسوع سيكون غير إعتيادي، لأنّه في كلّ خطوة يخطوها ابن الله المتجسد يتجلى سرّه الإلهي باللقاءات وبالتعليم الكريستولوجي من خلال قرائات العهد الثاني الـمُخصص له الإنجيل اللُوقاوي.
إن قراءات هذا الأسبوع، وهو الأسبوع المخصص للكلمة الإلهية والّتي لها طابع أوّلي، ففي واقع الأمر، نجد مقطعين متحدين فمن العهد الأوّل نقرأ مقطع من سفر نحميا (8: 2- 10) الّذي سيقدم لنا نص خاص حيث يمكننا أنّ نتوقف بعض الوقت للتفكير في معنى قراءة وإعلان الكتب المقدّسة بالنسبة لحياتنا كجماعة كنيسية وكمؤمنين أفراد. إن هذه النصوص تشكل في الواقع، بطريقة ما، عرضًا ذاتيًا للإنجيل بحسب لوقا، والّذي سوف يرافقنا طوال رحلة الزمن العادي. على ضوء نص نحميا سنقرأ ما يتوازى معه برنامجًا ليسوع "سّيد اليوبيل" الّذي يخرج من الناصرة لإتمام رسالة الآب يلتقي على حافة الطريق بأخوته ويعلن لهم أسرار الملكوت.
1. (نح 8: 2- 10)
بينما يروي علينا كاتب سفر نحميا (بالقرن السادس ق. م.) مرارة سبي بني إسرائيل وحالة البقيّة الباقية الّتي تبقت بأروشليم بهذا الوصف القائل: «إِنَّ البَقِيَّةَ الَّتي بَقِيَت مِنَ الجَلاءِ هُناكَ في البِلاد هي في شَقاءٍ شَديدٍ وعار، وإِنَّ سورَ أُورَشَليمَ مُتَهَدِّمٌ وأبْوابَها قد أُحرِقَت بِالنَّار» (نح 8: 1- 3). كما تعيش بعض البلاد في هذه الفترة الحاليّة بزمننا، حالات من الحروب والتشرد، الألم والنيران الّتي تلاحق بعض غابات بلادنا، في وسط هذا الشقاء البشري نجد رد فعل النبي بشري بحتّ، إلّا إنّه مُنقاد برّوح الله، فيقول: «جَلَستُ أَبْكي وأَنوحُ أَيَّاماً، وصُمتُ وصَلَّيتُ أَمامَ إِلهِ السَّمَوات. وقُلْتُ: "أَيُّها الرَّبّ، إِلهُ السَّمَوات، الإِلهُ الجَبَّارُ العَظيمُ الرَّهيب، الحافِظُ العَهدَ والرَّحمَةَ لِمُحِبِّيه وحافِظي وصاياه، لِتَكُنْ أُذُناكَ مُصغِيَتَين وعَيناكَ ناظِرَتَين [...] مُعتَرفاً بِخَطايا بَني إِسْرائيلَ الَّتي خَطِئْنا بِها إِلَيكَ، فإِنِّي أَنا وبَيتُ أَبي قد خَطِئْنا"» (نح 8: 4- 7).
أمام الألم، ليس أمامنا إختيار سوى اللجوء إلى الله، بالدموع والبكاء، بالصوم والصلاة نرفع للرّبّ أحوالنا الّتي تجعلنا نفقد معنى الحياة الّتي خلقنا لأجلها. والأهم هو الإعتراف بخطايانا، لأنه إذا سمح الرّبّ بأي تجربة لنا، ونحن أبناءه ليس لعقابنا بقدر ما نسعى جاهدين للتوبة ولرفع ما نُعاني منه للرّبّ دون تذمر وشكوى. مهما كانت الأحوال سيئة وغير متوقعة ليس أمامنا سوى أن نتعلم الحوار مع الرّبّ، فهو إلهنا. لهذا تأتي الإجابة من العُلا بالعهد الجديد ليس برسائل إلهيّة، بل بعمل يفوق الطبيعة، إذ يرسل الله إبنه ويرافق خطواتنا.
2. قوّة الرّوح القدس (لو 4: 14)
نجد يسوع ابن الله، يسير على طّريق حياتنا، يسمع الرّبّ لصلاتنا حينما كنا نعاني وإستجابته تتم من خلال إرسال إبنه ليرافق خطواتنا الضعيفة ويرشدنا للطّريق الحقّ الّذي يعود بنا نحو الله الآب. مع لوقا سنلتقي بيسوع في الناصرة حيث لا يمكننا قراءة ما يحدث في مجمع الناصرة بمعزل عن ذكر الرّوح القدس الّذي نجده يروي في بداية المقطع قائلاً: «عادَ يسوعُ إِلى الجَليلِ بِقُوَّةِ الرُّوح، فانتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها» (لو 4: 14). يصف لوقا حدث إنطلاق يسوع في رسالته كاشفًا عن وجه الآب. لا يمكن أنّ تصبح قراءتنا للكتب المقدسة فعّالة اليوم إلّا إذا تمت بقوّة وإستنارة الرّوح القدس. بدون الرّوح، يظل الكتاب المقدس كتابًا ككتب أخرى؛ كما قال أحد أباء الكنيسة بالقرون الأوّلى "بدون الرّوح نشعر ببُعد الله، والمسيح يبقى في الماضي، ويصير الإنجيل كحروف ميتة، والكنيسة منظمة بسيطة، والسلطة سيادة، والرسالة دعاية، والعبادة استحضار بسيط مما يجعل العمل المسيحي كأخلاق العبيد". فبفضل الرّوح القدس فقط يصبح الإنجيل قوة حياة. وهكذا يبدأ الإنجيلي هذا المقطع بوضع هذا الحدث في مُقدمة رسالة يسوع بأكملها، بل وأيضًا من حياة كلّ جماعتنا وكلّ قلوبنا الـمؤمنة به. إنّ هذه الإشارة إلى الرّوح القدس مرتبطة أولاً، وقبل كلّ شيء، بحدث معمودية يسوع الّذي شكل عنصر لّاهوتي في تنصيب يسوع المسيّانيّ وبداية خدمته، ولكنها مرتبطة أيضاً بعيد العنصرة الّذي يمثل بداية حياة الكنيسة، فكلا الحدثيّن العامل الجوهري فيهما هو الرّوح القدس.
بوصف الإنجيلي إيمائات يسوع بشكل تفصيلي قائلاً: «أَتى [يسوع] النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ. فدُفِعَ إِلَيه سِفْرُ النَّبِيِّ أَشَعْيا، فَفَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه [...] ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إِلى الخادِمِ وجَلَسَ» (لو 4: 16- 20). هناك بعض الأفعال المتكررة وهي حركيّة حيث يذهب يسوع إلى المجمع كما كان يفعل كلّ سبت، كأي يهودي، ليقوم بالطقوس الطقسيّة لقراءة الكتب المقدسة العبريّة في ليتورجيّة السبت. يركز الكاتب بدقة شديدة على دقة إيماءات يسوع الـمُعتادة والـمتكررة، لا شيء خاص. ولكن بفضل هذه الإيماءات المعتادة على وجه التحديد، يساعدنا الإنجيلي أن نتلمس الجديد الّذي يتجلى في شخص يسوع.
3. يّوم الرّبّ: السبت (لو 4: 15)
الإيمائات الّتي يقوم بها يسوع في وصف الإنجيلي ترتبط إرتباطًأ وثيقًا بالعنصر الّذي ذكرناه بأعلى وهو الرّوح القدس. تلك الإيماءات المتكررة ساعدت في خلق أحداثًا غير مسبوقة. فليس هناك داعي للبحث عن الجديد من أجل الجديد. ليس هناك مكان يختبئ فيه الجديد الحقيقي. إنّ الجديد الحقيقي الّذي يدعونا إليه الإنجيلي من خلال تعبيراته وتكرراراته هو ما يجعل الرّوح يزدهر في تصرفات معتادة ومتكررة. فهناك سلوكيات منقولة من التقليد ومتجددة دائماً بفضل الرّوح وهذا يعتمد على مَن يبثها.
هنا يمكننا أن نقرأ على ضوء الأفعال المتكررة في هذا الحدث الإيماءات الـمُتكررة لطقوسنا الدينيّة، وصفحات الكتاب المقدس الّتي يتكرر قرأتها مرات عديدة بالسنة الطقسيّة، حتى تصير مكانًا يحمل الجديد لحياتنا وتصرفاتنا. ليس الجديد الّذي يخدم فقط لـمكافحة الـملل، بل الجديد الّذي يصبح ذو مغزى لحياتنا اليّوم. عندما نملّ من شيء ما ليس لأنّه بغير جديد، فالـمشكلة لا تكمن في الإيماءة المتكررة والكلمات الّتي نسمعها مرات عديدة، بل تكمن المشكلة فينا وفي إفتقارنا إلى الانفتاح على الرّوح القادر على جعل كلّ شيء ذو مذاق جديد.
كل شيء يحدث في سياق مهم بشكل خاص لفهم يسوع. في الواقع، كل شيء يحدث في يوم السبت في المجمع، حيث يجتمع شعب الله للاستماع إلى الكتب المقدسة وبالتالي تجديد عهدهم مع الرّبّ، الّذي إختارنا وأحبنا. وكما أنّ الكشف الإلهيّ بحسب سفر الرؤيا يتمّ في يّوم الرّبّ (راج رؤ 1: 10)، فكذلك هذا الكشف يحدث في يّوم السبت، اليّوم الـمُكرس للرب (راج خر 20) - والّذي في الكتب المقدسة يشير إلى يّوم القيامة ويّوم إكتمال الخلق ويوم التحرير من العبوديّة.
لا يحدث أي شيء كتجربة فردية، بل هو جزء من تاريخ طويل، ونطلق عليه تقليد. وهذا أيضًا عنصر مهم في قراءتنا الكنسيّة والشخصيّة للكتاب المقدس. مدعوين لتكون قراءتنا مرتكزة دائمًا في إطار التاريخ ومرتبطة بحياة الشعب. خارج هذا التاريخ وحياة الشعب، يظل الكتاب المقدس أوراقًا مختومة فقط. إننا بحاجة إلى أنّ ندخل في تاريخنا هذا – تاريخ إسرائيل وتاريخ الكنيسة – وأنّ نتعلم كيف نعرفه، وكيف تقبله بل ونحبه. مدعوين لنشعر بأننا جزء منه، وأنّ نكون مدينّين لأولئك الّذين سبقونا ولأولئك الّذين يتقاسمون معنا، اليّوم، ذات الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح "إله إبراهيم، إله الأنبياء، إله يسوع".
4. سّيد اليوبيل يفتتح سَنَةَ الرِضى (لو 4: 16-19)
يروي لوقا (4: 16- 19) بأنّ يسوع وجد صفحة من الكتاب المقدس العبري حيث يصف، جوهر هذا اليوبيّل الّذي نحتفل به في هذا العام 2025 حيث إنّ يسوع بقوّة الرّوح، فَتَحَ السِّفْرَ فوَجدَ الـمَكانَ المكتوبَ فيه رسالته:
رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء
وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم
وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين
وأُعلِنَ سَنَةَ رِضا عِندَ الرَّبّ.
هذا هو مخطط الله الآب وبرنامج يسوع الخلّاصي الّذي سيتكللّ في صلبه وقيامته بآخر الإنجيل. هذه نقطة الإنطلاق التبشير والأرسال والإفراج وإعلان سنة نعمة من قبل الله الآب. كلّ رسالة يسوع العلانيّة في آخر ثلاث سنوات من حياته يعبرها برّوح الـمُرسل من الآب وهو الّذي سيفتتح سنة الخلاص والرضا الأبوي في ذاته ليصالحنا نحن إخوته بالله الآب. مدعوين لقبول رّوح اليوبيل وأنّ نترك ذاواتنا نُبشر ونقبل هذه السنة كسنة رضا وفرح حيث يرسل الله الآب إبنه لنبدأ مسيرة توبة نفرح فيها بلقاء الآب ونُفرح قلوبنا ببنوتنا له على خُطى وكلمات وتعليم يسوع الابن البكر.
5. اليّوم (لو 4: 20- 21)
يضع لوقا أمامنا في لّاهوته لفظ اليّوم، الّذي هو لفظ أساسي في إنجيله, حيث يجد يسوع أمامه مخطط الآب له ولا يبحث عنه. يلتقي بالكلمة الّتي تستطيع أنّ تفسر حياته ورسالته، تلك الكلمة الّتي سيعلنها لنا اليّوم، هي كلمة تأتي إليه من كتاب القراءات في طقوس المجمع. لا يبحث يسوع عن الكلمة الّتي يقرأها لوصف حياته ورسالته. لكن الصفحة الّتي يقرأها يسوع لم يختارها هو فحسب، بل إنّها لم تصل إليه صدفة. لم يفتح يسوع الكتب المقدسة بشكل عفوي ليجد صفحة اشعيا (62: 1- 5). إنّها كلمة يتم بثّها بشكل موضوعي من قبل جماعة مؤمنة ومصليّة، ويمكننا أن نقول عنها كلمة الله الّتي يتحاور بها بها معنا اليّوم وليس أمس وليس الغد. هذا ما يحدث في كل مرة يجتمع فيها الجماعة الكنسيّة وفي كل مرة نقترب من الكتاب المقدس في القراءة الإلهية. لا يمكن أن يكون نصًا اخترناه نحن لكنه دائمًا نص مقبول بطريقة ما. لا يمكن إلّا للنص المرغوب فيه أن يصبح سرًا لإله "آخر"، لا يتوافق مع توقعاتنا، بل يفوقها ويزينها بالجديد. هذه الكلمة فقط، ليست المختارة بل المقبولة، يمكنها أنّ تتوافق بطريقة مدهشة مع يومنا هذا. هذا هو هدف كل قراءة جماعية أو شخصية للكتاب المقدس: "أنّ نقول أيضًا: اليّوم وهو الّذي يجعلنا ندخل في الزمن الإلهي ويحررنا من الزمن البشري.
بحسب وصف لوقا الّذي يختتم النص قائلاً: «ثُمَ طَوَى السِّفرَ فَأَعادَه إِلى الخادِمِ وجَلَسَ. وكانَت عُيونُ أَهلِ الـمَجمَعِ كُلِّهِم شاخِصَةً إِلَيه. فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: "اليّوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم"» (لو 4: 20- 21). فنحن أمام يسوع الـمُكمل والـمُتمم لمخطط الآب. النص الكتابي الّذي قرأه يسوع ويحمل إشارة تحقيق للكتاب المقدس تتمّ بمشهد وبمسمع الحاضرين فأصابتهم بالإندهاش. هذه هي القراءة المسيحية للكتب المقدسة حيث كلّ شيء يُعاد قراءته من خلاله! إنّ هذه القراءة هي الّتي يمكن أنّ تقودنا إلى دموع التوبة (راج نح 8: 9)، إلى فرحة الإعلان الإلهي (راج لو 24: 33).
الخلّاصة
توقفنا في مقالنا هذا على شخصية نحميا (8: 2-10) الّذي بصلاته وبدموعه حمل بني إسرائيل المتألم للرّبّ. وأمام هذه الصّلاة تجاوب الرّبّ بقلب أبّ وأرسل إبنه. على هذا النوال رأينا كيف يقدم لوقا الإنجيلي (4: 14-21) دخول ابن الله للعالم من خلال سنة الرضا الّتي يغفر فيها الآب لنا نحن أبنائه خطايانا ويفرحنا بسنة تحرير ورضا وفرح من خلال إرساله سّيد اليوبيل يسوع الّذي يفتتح في رسالته العلانيّة هذا اليوبيل المقدس 2025 لدخوله عالمنا وتاريخنا البشري. وبالتالي فإننا نجد في هذا هدف أساسي لقراءة الكتب المقدسة كرسالة تحرير وإعلان سنة الرّبّ ليّ ولك. أنّ نأتي لننطق بـ اليّوم، أو بالأحرى أن نأتي لنستمع إلى كلمة اليّوم الّتي نطق بها لنا يسوع نفسه، والّتي تُفتح أعيننا على فهم جديد. الهدف إذن ليس الوصول إلى استنباط مفاهيم لاهوتية أو معايير أخلاقية، بل ترك يسوع سّيد اليوبيل بأنّ يدخل حياتنا اليوم ويحررها مما يعرقلها ولتغمر قلوبنا الدهشة حتى نبقى بأعيننا ثابتة دائمًا على شخص يسوع سيّد اليوبيل.