موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مُقدّمة
في هذا الأسبوع نحتفل ككنيسة بسر معمودية الرّبّ، هذا العيد مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعيد الظهور، وهو يفصل بين زمن التجسد والزمن الطقسي العادي، كنقطة ارتباط بين الاحتفال بظهور الرّبّ والوقت الّذي فيه الكنيسة مدعوة لتسير خلف المعلم عريسها. الاحتفال بمعمودية يسوع هو الحدث الذي ندرك فيه "سر العلاقة" بين حياتنا كأشخاص معمدين وحياة عبد الله من جانب وحياة يسوع من الجانب الآخر. تتجلى معمودية الرّبّ في علاقته بحياتنا اليومية ليس فقط داخل إطار الأسرّار الكنسيّة. إن معمودية يسوع في نهر الأردن هي نقطة التواصل بين حياته وحياتنا كما تعمدنا "فيه" وهو الابن (راج روم 6: 3). من خلال النصين نواصل مسيرة مقالاتنا الكتابيّة للقراءة بين العهديّن، الّذين سنتعمق فيهم من خلال رسالة عبد الرّبّ بالعهد الأوّل من نبؤة أشعيا (42: 1- 7) ثمّ مسيرة يسوع نحو المعمدان كبُشرى سّارة بحسب إنجيل متّى (3: 13- 17). كلمة الله، ببساطة، تكفينا كمؤمنين، علينا أن نطلب نعمة الشعور بأنّه لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه في علاقتنا بالرّبّ وإتباعنا له. إنّ رسالة مقالنا اليوم فريدة من نوعها بل وتكفينا لأنها تخاطبنا عن الحب اللامتناهي والمجاني لله الآب. فهو إلهنا الّذي يتكلم بالكلمات خاصة ويدعونا لقبول حبه حتى نُشبهه في طريقة حبه أثناء حضورنا بهذا العالم. نهدف في هذا المقال للتوقف للحوار مع كلمة الله والتجاوب مع مبادراته بإيجابية دون الاستمرار في التواصل مع بسلبيّة.
1. الصوت الإلهي يعلن رضاه (أش 42: 1؛ مت 3: 17)
قد نتعجب عند قرائتنا لهذا النص بنبوءة أشعيا، ونحن لا زِلّنا نعيش في زمن الميلاد! أن نتوقف اليوم أمام نص يتنبأ بمسيرة الآلام الّتي على الإبن وهو الّذي أخذ صورة العبد في بشريتنا، وستجدد في سرّ ولادته المجيدة، وعليه أنّ يُتمّمُ الرسالة الّتي دعاه إليه الله. هذا النص هو أوّل نشيد لعبد الرّبّ، من بين أربعة أناشيد بنبوءة أشعيا (42: 1-7). فنسمع صوت النبي المتحدث برسائل الله وهو يعلن رسالة جديدة كاشفًا عن الصوت الإلهي القائل: «هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي» (أش 42: 1). في هذا النص يشير النبي إلى عنصر جوهري يرتبط بقوة مع سر التجسد وهو الكشف عن الرضى الإلهي بالعهد الأوّل على رسالة العبد الّتي نجدها تتحقق في ابنه السّماوي بالعهد الثاني والّتي يشهد عنها يوحنّا المعمدان بحسب رواية متّى حين يكشف عن إنفتاح السّموات وسماع: «صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هُو ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت» (مت 3: 17). ما يجمع هاتين الآيتين بالعهدين هو الصوت الإلهي الّذي يفتخر ويمدح دور عبد الله الّذي ينال رضى الله بقبوله الألم دون سبب، بل يقبل الألم بالرغم من برارته دون رفض ولا هروب منه ولا دفاع عن ذاته. وهو الّذي يشير على أهميّة رسالة ابنه وهو لا زال يحيا بعد حياة الناصرة السريّة.
كثيراً ما نقرأ النصوص الكتابيّة بالعهدين تعبير: «قال الرّبّ أو الله أو يسوع ...» يتكرر هذا التعبير كثيراً بالعهدين. مدعوين أن نتنبه لما يلي هذا التعبير فليس صوت بشري كموسى أو إبراهيم، ... إلخ بل صوت إلهي إذّ بجلالته يُحدث الإنسان. فالصوت الإلهي يعلن بأنّ ما يقوله وهو ذاته ما نقرأه كاشفًا عن الجديد الّذي يرغب الله أن يتواصل به مع البشرية. لذا في هذين النصيين، يكشف الله بالعهد الأوّل بأنّ هذا "العبد" في نظر البشر هو "الـمُختار" من الله ذاته لإتمام رسالة خلّاصية للجميع. وبناء على هذا ففي أثناء "صمت يسوع"، بالعهد الثاني، بحسب إنجيل متّى، بينما يعمده يوحنّا نسمع صوت الله الآب الّذي يكشف عن المخطط الجديد الّذي يتممه ليس في العبد، الّذي هو رمز لابنه بالطبيعة بل المسيح أي الممسوح.
تعبير "رضى الله" بصيغة المتكلم سواء عن رسالة العبد بالعهد الأوّل أمْ عن رسالة الابن بالعهد الثاني تحمل رسالة حب تجاه الإنسان خاصة والبشرية عامة. إذّ حب الله ورضاه، الّذي بدأ في دعوة العبد يتحقق في اكتمالها بمعمودية الابن الإلهي، دون خطيئة، لأجل "الإنسان". الله هو مَن دعا كليهما، وهناك مَن يقبل الدعوة كالعبد بالألم وعبوره والابن بتجسده وعبور الفصح ليُتمما خطة الله الّتي مركزها هو الإنسان. وأما الإنسان ماذا يكون ردّ فعله عن دعوة الله للعبد والابن؟
2. الصمت أمْ الطاعة؟ (أش 42: 2ب؛ مت 3: 13- 15)
صمت عبد الرّبّ، في النشيد الأوّل دليل على طاعته لله الّذي اختاره، إذ يقول الرّبّ عنه: «لا يَصيحُ ولا يَرفَعُ صَوتَه ولا يُسمِعُ صَوتَه في الشَّوارِع» (أش 42: 2ب). هذا التسليم مِن قِبل العبد هو علامة بارزة على قبوله دعوة الله وتفاعله مع رّوح الله الّتي حلّت عليه، إذ لا يعترض على الظلم، بل يحياه بملء مُدركًا إنّ الكلمة الأخيرة لله وليس للألم. أما بالنسبة للابن أمام اعتراض يوحنّا لتعميده يروي متّى الإنجيلي هذا الحوار الّذي دار بينهما: «في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إِلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه. فجَعلَ يُوحنَّا يُمانِعُه فيَقول: "أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" فأَجابَه يسوع: "دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ". فَتَركَه وما أَراد. واعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء» (مت 3: 13- 15). تفوه يسوع بكلمات بسيطة ليقنع المعمدان بقبول تعميده ولكن فيما بعد ساد الصمت حتى نهاية المقطع. حينما صَمَّتّ الابن في هذه اللحظة تكلّمت الطبيعة من خلال انفتاح السّموات وإعلان الله الآب رضاه. خضوع الابن لرضى الرّبّ وإنحناءه أمام المعمدان أتمّ كلّ برّ وأعلن بدء رسالة يسوع العلّانيّة.
بالمعمودية التي تلقاها يسوع من يوحنّا، أراد توضيح طريقًا جديداً لنا نحو الآب. وهو يقف في صف الخطأة، يعلن يسوع في معموديته وضع حياته بين يديّ الآب، في طاعة تامة. كإنسان، لا يعتمد يسوع على ذاته، وأن تجسده الحقيقي يكمن في إرادة الله. إنه يعلم أنه في الأساس ابن محبوب، وعلى هذا النحو، لمّ يأتي ليُتمم إرادته بل إرادة الّذي أرسله (راج يو 5: 30). بدأ يسوع للوهلة الأولى بكشفه لنا عن علاقة التبعيّة فهي لا تجعلنا فقط أحرارًا، بل تجعلنا ندرك حاجتنا للعلاقات وكيف يمكننا أن نعتمد على الصوت الإلهي لنُتمم إرادته في حياتنا. بمجرد أن ندرك جوهريّة العلاقة بالله وجعلها مركزية كنقطة ارتكاز. هكذا نحن ففي المعمودية الّتي نلناها، تساعدنا على فهم جمال ومحورية العلاقة مع الله في كوننا معمدين تظل تنمو هذه العلاقة بالصلاة اليومية. هذه هي الطريقة لجعل العلاقة مع الرّبّ "مركزية" وهي الحوار معه فيصير "مركز" حياتنا.
3. تفَّوُق يسوع (مت 3: 13- 17)
تضيء كلمات النشيد الأوّل، الّتي تنتمي لأربع أناشيد لعبد الله لدى أشعيا، التالية: «أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم» (اش 42: 6) صفحة الإنجيل المتاويّ. إنه عرض للعبد الذي يوضح علاقته بالله وعلاقته بالبشر. كما عرض برنامجه وأسلوبه بدون صراخ، ولا انكسار، ولا انطفاء. حقًا تمهد صفحة أشعيا هذه إلى تعمقنا في سردّ حدث معمودية يسوع، الّتي فيها يتم عرض علاقة يسوع مع الله الآب والبشر، ورسالته بأسلوبه الصامت. هذا الابن هو أخ لكلّاً منّا إذ ننال برسالته الخلاص.
"معمودية التوبة" الّتي كانت جوهر رسالة يوحنّا المعمدان كانت للتوبة فقط، وها نحن نرى يسوع وهو الّذي تجسدّ من أجلنا يقف بيننا نحن الخطأة، وهو الّذي بدون خطيئة ليمنحنا وجه جديد للعلاقة بالآب. وهو بمثابة الملك الّذي يقف، في يومنا هذا، أمام مبنى الكاريتاس أو أمام مبنى الخدمات الكنسيّة، كإخوة الرّبّ، مُنتظراً أنّ ينال حصته من المواد الغذائية. هو الّذي يسير بجوارنا نحو كرسي الاعتراف ليشجعنا على التوبة والدخول في تواصل حيّ بالله الآب. هذا التناقض الّذي يحمله لنا متّى الإنجيلي بوقوف يسوع طالبًا المعمودية من يوحنّا ليس طلبًا للتوبة بل ليكون لي ولك نموذجًا ومثلاً، كأخ أكبر، نحتذي به للتواصل بشكل جديد مع الله الّذي أرسل لنا ابنه ليقترب هو بذاته، الغير مرئي، من خلال ابنه مِن كلّاً منا.
يسوع، كما يصفه متّى في بشارته، هو الشخص الذي مُسِح بالروح القدس في المعمودية ولبس قوة من الله، وفي الكتاب المقدس يشير التكريس بالمسّحة إلى مسح كهنوتي ونبوي وملكي. في معموديته بنهر الأردن، نالّ يسوع هذه المسحة، أيّ إنّه افتتح رسالته المسيانيّة من خلال هذه المبادرة الّتي شهد بها المعمدان، كأول عمل في حياة يسوع السير مع الخطأة، أيّ نحن اليوم. يتفوق يسوع في دوره بالصمت والإنحناء على دور يوحنّا الـمُعدّ له وبتبادل الأدوار يكشف عن هويته أمام المعمدان الّذي يلتقي بالثالوث صاغيًا لصوت الآب؛ ورأى هبوط الرّوح كتدعيم لرسالة الابن الإلهي.
4. عبد الله والابن (أش 42: 1أ؛ مت 3: 16)
يوجد في المقطع الإنجيلي علامتان ترافقان افتتاح رسالة العبد والابن يسوع، الأوّلى هي "الرّوح" «قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم» (أش 42: اأ). يهبط الرّوح على الابن على شكل حمامة «فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه» (مت 3: 16). لهذا السبب يمكننا تسمية المعمودية بالماء "التكريس". لأنّ المسحة تتم بقوة الرّوح المُعطاة في الكتاب المقدس لمهمة معينة. في المعمودية، يظهر يسوع نفسه "مسيح الرّبّ". والعلامة الثانية هي "الصوت الإلهي" حيث أعلن الله رضاه على عبده. وهكذا لدى متّى يجلجل صوت الآب عن يسوع كـ "ابن" ويشهد بسروره به. أي يظهر الآب أنه يعترف في الابن الحبيب تلك البشرية التي رغب فيها وحلم بها منذ خلق العالم. هاتين العلامتين نتمتع بهما نحن أيضًا. معموديتنا هي مصدر حياتنا وهويتنا المسيحية، فنحن مشاركين في مسّحة يسوع ذاتها وفي رسالته. جميعنا نلنا الرّوح القدس، بسريّ المعمودية والتثبيت، نشترك في نفس رسالة يسوع فنصير ممسوحين في الابن. بمعموديتنا نتحد مع الابن، تجعلنا معموديتنا صورة حية لكلّا العبد والابن اللذان سارا في شوارع إسرائيل بالجليل وباليهودية لخيرنا. إذن دعوتنا في معموديتنا، هي أن نحفظ كرجال وكنساء ذكرى عبد الله وهو رمز للابن المسّيا الذي سار في شوارعنا يومًا ليظهر وجه البشرية التي يرضى الله بها والتي تتوافق مع مشروعه.
الخلّاصة
اكتشفنا في مقالنا هذا الامتداد بين رسالتي عبد الرّبّ من خلال النشيد الأوّل بحسب نبوءة أشعيا (42: 1- 7) والّذي كشف عن تحققها في رسالة الابن عند طلبه للمعمودية، على يد المعمدان، سائراً وسط الخطأة من معاصريه بحسب بشارة مار متّى (3: 13- 17). من خلال العناصر الأساسيّة الّتي تتبعناها هي النقاط المشتركة بين العبد والابن من حيث اختيار الله الّذي نال الرضى الإلهي، وأيضًا تطابق سمات الصمت والطاعة بينهم في الأمر الإلهي. هذا بالإضافة إلى التوقف أمام تفوق يسوع المُكمل لرسالة العبد الّذي كشف برسالته عن جوهريّة العلاقة بالله الآب الّذي يمنحنا اليوم رسالة قوية الّتي تتضح في قوله لكلّاً منا: «هذا هُو ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت» (مت 3: 17). مما يكشف لنا أنّ الاحتفال بمعمودية الرّبّ، هذا العام، تعني انغماسنا في سّره الإلهي من خلال التمتع برضى الله الآب عن الابن وعنا إذ بمعموديتنا نلنا رّوح البنوة من خلال يسوع الممسوح بالروّح. وها نحن كمؤمنين نُلنا سِّري المعمودية والميرون وأيضًا الإفخارستيا مما يجعل انفتاحنا على سِّر الله الّذي ظهر في الابن المُتضامن معنا في كل شيء في بشريتنا عدا الخطيئة. إذن، أيّ علاقة تتعمق وتجد ملئها مع الله الآب ستبدأ في المسيح الابن الممسوح من الآب والروّح لأجلنا. فلنتمتع بهاتين الرسالتين للعبد وليسوع من خلال "رضى إلهي" نابع بصوته الممجد الّذي يتكرر في كِلّا النصين: «هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي» (أش 42: 1)؛ ولدى متّى «هذا هُو ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت» (مت 3: 17). دُمتم أيها القراء الأفاضل تحت رعاية الرّوح وفي تجديد مستمر للأسرار الإلهية الّتي توطد علاقتنا بالله الآب.