موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مقدّمة
نتابع قراءة نصيين متوازيين بين عهديّ الكتاب المقدس في هذه السلسلة الكتابيّة. في مقالنا هذا سنتعرف معًا على مفهوم كتابي جديد وهو "تصَّلُبُ الوَجُهُ" وهو يشير للعزم والتصميم البشري أمام القرار الإلهي. حينما يعقد الإنسان العزم لتنفيذ هذا القرار بالرغم من صعوبته أو التحدي الّذي يحتويه. هذا التعبير في حد ذاته يتميز اللّاهوت اللُوقاوي حينما يشير إلى يسوع الـمُتوجه نحو أورشليم فيقول أنّ "وَجِهِهِ مُتصلِّبْ" مُشيراً لإتمام رسالته الفدائية لأجل البشرية (لو 9: 51-62). من خلال نص العهد الأوّل من سفر الملوك الأول (19: 16-21) سنحلل عمليًا الحدث الّذي يروي دعوة أليشاع وهو تلميذ إيليا، أوّل نبي، وكيفية صموده أمام القرار الإلهي الّذي جعله بوجه الـمُتصلب يُغير مصيره ويصبح نبي لاحق لإيليا منذ مطلع الرسالة النبويّة بمملكة الشمال. بينما يخبرنا نصّ لوقا بالعهد الجديد، بتقديم وصف تفصيلي لحزم يسوع ذو "الوجه الـمُتصلب"، الإله والإنسان، لإتمام مسيرته الخلاصيّة مُتوجًا نحو أورشليم كمكان موته وقيامته لاحقًا. وبالتالي بين هذين النصين يوجد توازي بين تصَّلُبُ وَجُهُ يسوع أمام قرار الله الآب من جانب وتصَّلُبُ وَجُهُ النبي الشاب باستجابته لدعوة إيليا معلمه من جانب آخر. هدفنا هو التوقف أمام تصَّلُبُ الوَجُهُ الإلهي والدعوة للتعرف على أهمية الحزم وتصَّلُبُ الوَجُهُ الشخصي أمام القرارات الإلهية الّتي تتم في حياتنا البشرية.
1. بدء تصَّلُبُ وَجُهُ أليشاع (1مل 19: 16- 21)
بعد إنّ التقى إيليا بالله وشعر بحضوره الحيّ في النسيم العذب (راج 1مل 19: 9- 14) أثناء وحدته وهروبه من وجه، إيزابل زوجة الملك آخاب، بمملكة الشمال إسرائيل (عاصمتها السامرة)، قالَ لَه الرَّبّ: «إِمضِ فأًرجَعْ في طَريقِكَ نَحوَ بَرِّيَّةِ دِمَشق. [...] وآمسَحْ أَليشاعَ بنَ شافاطَ مِن آبَلَ مَحولَةَ نَبِيًّا مَكانكَ [...] فمَضى مِن هُناكَ فلَقِيَ أَليشاعَ بنَ شافاط، وهو يَحرُثُ وأمامَه اثنا عَشَرَ فَدان بَقَر، وهو مع الثَّاني عَشَر. فمَرَّ إِيليَّا نَحوَه ورَمى اليه بِرِدائِه فتَرَكَ البَقَرَ ورَكَضَ وَراءَ إِيليَّا وقالَ لَه: "دَعْني اقبِّلُ أبي وامِّي، ثُمَّ أَسيرُ وَراءَكَ". فقالَ لَه: "اذْهَبْ راجِعَا، ماذا صَنعَتُ بِكَ؟" فرَجعَ مِن خَلفِه وأخَذَ زَوجَين مِنَ البَقَر وذَبَحَهما وطبخَ لَحمَهما على أَداةِ البَقَر وقَدَّمِ لِلشًّعبِ فأَكل. ثُمَّ قامَ ومَضى مع إِيليَّا، وكان يَخدُمُه» (1مل 19: 15- 16، 19- 21). يصف النصّ غنى أليشاع من خلال امتلاكه للأفدنة من البقر الّذي كان يرعاه. إلّا إنّ كاتب سفر الملوك يؤكد على إنه حينما أدرك معنى "القاء الرداء عليه" من قِبل إيليا ليكرسه نبي لله مثله، بدأ " يتَصَّلُبُ وَجُهُ" ويتجه بشكل مختلف، بدأ أليشاع مسيرة جديدة بترك والديه ليتبع إيليا النبي ويصير تلميذاً له في المدرسة النبويّة. علاقتهما ستنمو وتصل إلى علاقة الأب الروحي بابنه.
2. نهاية تصَّلُبُ وَجُهُ التلميذ (2مل 2: 2- 15)
أراد إيليا، النبي المعلم، ان لا يرى أليشاع تلميذه انتقاله من الحياة الأرضية. وفي هذا الوقت يواجه أليشاع الموقف بوجه مُتصلب للقرار الذي اتخذه عندما أبدى إيليا تنقلاته من مكان لآخر (أريحا، الأردن) وهو يجيب بنفس رّوح التبعية التي بدأ بها مع معلمه: «حَيّ الرَّبُّ وحيَةٌ نَفسُكَ! إِنِّي لا أفارِقُكَ» (2مل 2: 1-7). وأيضًا عزمه الواضح أمام تساؤلات شخصيات يطلق عليهم كاتب سفر الملوك بنو الأنبياء مجيبًا على تساؤلاتهم المتكررة لثلاث مرات بنفس الإجابة: «نَعَم، قد عَلِمتُ أنا أَيضًا، فأسكُتوا» (2مل 2: 3-7).
وفي آخر حوار بين إيليا وأليشاع، بينما عبرا مياه الأردن على اليبس وقبل رفعه مباشرة: «قالَ إيليا لأليشاع: "سَلْني ماذا أَصنَعُ لَكَ، قَبلَ أَن أوخَذَ عنكَ" فقالَ أليشاع: "لِيَكُنْ لي نَصيبُ آثنَين مِن روحِكَ علَيَّ"» (2مل 2: 9). طلب أليشاع هذا يأتي بناء على ما كُتب قبلاً بشريعة موسى الّتي تقر بأنّه يحق للابن البكر: «سَهْمَينِ مِن كُلِّ ما يوجَدُ لَه، فإِنَّه أَوَّلُ رُجُولَتِه، ولَه حَقَّ البِكْرِية» (تث 21: 17). يطالب أليشاع ميراثه كابن بكر روحيًا لإيليا والّذي يحق له ضعف الميراث. فهو يطلب أن يكون الابن البكر في النبوة لإيليا بأبوته النبوية روحيًا (البكر الوارث).
نصل إلى نهاية تصَّلب وجه التلميذ أليشاع إذ عند ارتفاع إيليا ومناداة أليشاع له يا أبي، دليل على أبوته الروحية، واتخاذ طريق عودته إلى حيث آتي، بنفس الوجه الـمُتصلب يصف كاتب سفر الملوك قول شهود هذا الحدث: «ورآه بَنو الأنبِياءَ الَّذينَ في أَريحا تُجاهَه، فقالوا: "قد حَلَّت روحُ إيليا على أليشاع"» (2مل 2: 15). روح النبوة هي الميراث الذي تركه إيليا لأليشاع، فحمل أليشاع سالته النبوية بوجهه الـمُتصلب كقناة لاستكمال الرسالة النبوية التي بدأها إيليا.
3. تصَّلُبُ وَجُهُ يسوع (لو 9: 51- 53)
ينقسم النص اللُوقاويّ إلى جزئين، الأول يتعلق بطريق يسوع (9: 51-56)، والثاني بطريق التلاميذ (9: 57-62). السير على الطريق هو وقت إنتقالي في الإنجيل اللُوقاويّ ويمثل محور إنجيله خاصة بالجزء الثاني. من الآن فصاعدًا، يصف الإنجيلي يسوع دائمًا وهو في رحلة سير مستمرة طريقه ووجهه مُتصلب أي متجه نحو أورشليم. بالنسبة لطريق يسوع لدينا تعبير في اللغة العربية يقول «لَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ [مُتصلب الوجه] إِلى أُورَشَليم» (لو 9: 51). إلا أن الترجمة اليونانية تحمل تعبير «تَصَّلّبَ وَجِهُهُ». بهذا التعبير يؤكد الإنجيلي على حزم يسوع في إتخاذ قراره نحو عبور الموت بإرادته. بعد ذلك مباشرة يقدم لنا لوقا حوار يسوع مع موسى وإيليا بشأن "رحيله" الذي كان سيتمّ بأورشليم في حدث التجلي.
فضلنا اليوم أن نعطي لكم الترجمة الأصلية، كما هي موجودة في العديد من المخطوطات. بهذا التعبير «لَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ [مُتصلب الوجه] إِلى أُورَشَليم» (لو 9: 51). يبدأ الإنجيل ليتطرق إلى موضوع الجزء الثاني من إنجيله. إذا تم تقديم يسوع في الجزء الأول من الإنجيل (3: 1- 9: 50) كطبيب يشفي بالكلمة ومحوره الأساسي هو الإصغاء. أما بالنسبة للموضوع الثاني وهو تصلب الوجه النابع من نظرات الوجه الحازمة. الوجه لدى لوقا له أهميته لأنه يعطي هوية الشخص. وجه يسوع "الـمُتَصَّلّبَ" وهو سائر نحو أورشليم. ماذا سيفعل يسوع في اورشليم؟ سوف يُشتم ويُحتقر ويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم مرة أخرى. هذا هو "وجه" يسوع الإنسان والإله الـمُحتقر والـمقتول، وجه من يحمل شر العالم على عاتقه. إنه وجه مَن يُسلم ذاته بين يدي الجميع الله الآب والبشريين. تعبير "يسوع صَلّب وَجُهُ" إنه أجمل تعبير عن يسوع الإنسان وربما أجمل تعبير عن الله. يسوع الإنسان والإله ليس الّذي يسود ويسيطر بسلطانه على كل البشرية، بل مّن يُسلم لأيدي الجميع. يسوع يفاجئنا بإرادته الحرة، فهو يُسلم ذاته لأبيه السماوي وللبشر ليخلصهم.
الخلّاصة
بين شخصيتي اليوم ذوي الوجه الـمُتصلّب أليشاع بالعهد الأوّل ويسوع بالعهد الثاني، أرادنا أنّ نتوقف أمام أهميّة القرار الذي تمّ اتخاذه من كلاً منهما في حضور الرّبّ وبحسب إلهاماته. بالمقارنة بين هاتين اللوحتين الّذي اقترحها كاتب سفر الملوك وكاتب الإنجيل الثالث، كلاً منهما مُخصصة لرسالة إلهية عُظمى تناسب الحقبة والزمن وتحمل الحب الإلهي. وجه أليشاع الـمُتصلب حمل استكمال الرسالة النبويّة الّتي في مطلعها وجدت استجابة واستمرت مع أليشاع بعد أن بدأت مع إيليا. أما وجه يسوع الـمـصلب الّذي لم يحيده عن قرارة الألم، موت الصليب، ... والّذي حمل بهذا التصميم خلاص أبدي. واليوم علينا أن نتساءل عن مدى عمق الرابط بين طريق يسوع وطريقنا كتلاميذ مؤمنين بمعلمهم. كل تلميذ مدعو للسير في نفس الطريق نحو أورشليم وبشكل يومي... فهل يمكننا أن نسير بوجه مُتصَلِّب في طريق الحياة لنتبع المسيح؟