موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عظة الأحد الرّابع من زمن الصوم الكبير
استهِلُّ عِظَتي لهذا الأحد الرّابِع من زمن الصوم، بِكلمات المزمور الرّابع والتّسعين: "اليوم إذا سَمِعتُم صوتَه، فَلا تُقسّوا قُلوبَكم" (7:94-8). دائِمًا نُسهِبُ في الحَديثِ عن تَوبَةِ الابنِ الأصغر، وعَودةِ الابنِ الضّال أو الابن الشّاطِر، وعَن رحمةِ الأبِ وَرَأفتِه. وفي المقابِل، قليلًا ما نَتطرّقُ إلى الابنِ الأكبر! مَع أنّه عنصرٌ جَوهري، مِن عناصِرِ هذا الْمَثل.
أوّلًا، مِن قِراءَتي التَّحليليّة لِمَوقِف الابنِ الأكبَر، أَرى بِأنَّ العلاقة بَينَه وبينَ أَخيه الأصغر، لم تَكُن دومًا علاقةً جَيّدة، مُنذ البداية وَقبل رحيلِ أَخيه عن البَيت الأبوي. وَيظهر بأنَّ العلاقةَ بَينَهُما كانت علاقة تنافُسيّة سَلبيّة وحادّة. وَلو كانت غير ذلك، لَرَأينا مَوقِفًا مُغايرًا مِن الابن الأكبر، أَكثرَ ليونةً وبهجةً، عِند سماعِ خَبرِ عَودةِ أَخيه مُجدَّدًا إلى البيت!
وهذه بالمناسبة طبيعةُ العلاقة بينَ كثيرٍ من الإخوةِ والأخوات، أَثناء تَرعرُعِهم معًا في البيتِ الواحد، وبعدَ افتِراقهم أيضًا. فالتّنافُسُ يَنمو ويَكبرُ مَعهم وبينَهم، ومعه تكبر النّزاعاتُ والخصوماتُ وقسوةُ القلب، والأحقادُ والأطماع، بالرّغم مِن انتمائِهم لِصُلبٍ واحد وذُرّيةٍ واحِدة!
الأخُ الأكبر يَرى بأنَّ أخاهُ الأصغر، قَد أخذَ نَصيبَه من الْميراث، وبالتّالي لَم يَعُد لَهُ أَيّ حَقٍّ شَرعي. فَحتّى العجل الّذي ذَبَحهُ له أبوه، اِستَكثَرهُ عليه، ولو كانَ الأمرُ بِيدِه لَمنعَ أَباهُ من ذَبحِ هَذا العِجل، وَإقامةِ هذا الحفل! ولكنَّ الابنَ الأكبر، نَسِيَ أَنّ أَبَاهُ لا يزالُ ربّ البيتِ وهو صاحِب الْمُلك، وهو يُوزّعُ أموالَه كَما يشاء!
هذهِ طَبيعةُ الإنسانِ بِشَكل عام! رَفضُهُ لأيّةِ سلطة عليه، وَسَعيُهُ لِلتّمردِ عَليها، في أَيّةِ فُرصةٍ تُتاح له. أَنتُم كآباء وكأمُّهات، بِشكلٍ عام، ألا تَختَبرونَ هذا مع أبنائِكم؟! عِندَ عُمرٍ مُعين، يُصبِحُ تمرّدُهم شيئًا مَألوفًا، وتَطاولُ البَعض أيضًا يَغدو أَمرًا مُعتادًا، وطاعتُهم لكم تخبو شيئًا فَشيئًا!
الابنُ الأكبر يمثّلُ الإنسانَ القاسي يابسَ القلب، الخالي من مشاعرِ الرّحمة والرّأفة. الّذي يرفضُ مَنح الغُفران، ويَبقى مُصِرًّا على أخطاءِ الماضي، واقِفًا عندَها، دون أن يتجاوَزَها أو يَتغاضَى عَنها. مَن مِنّا لا يُخطِأ؟ كُلُّنا نُخطِئ، ولكِن كَم مِنّا يملكُ القدرةَ على مغفرةِ الإساءة، والشّجاعةَ على مُسامحةِ الْمُذنِبين؟! في هذا المثل نحنُ موزَّعون: كلُّنا الابنُ الأصغرُ الضّال في بُعدِه وتَيهانِه. وبعضُنا الأبُ في رَحمتِه وغُفرانِه. وبعضُنا الابنُ الأكبر في قساوةِ قلبِه والإصرارِ على غيظِه وحِقدِه.
في هذا المثل الأغلبيّة تَرى أنّ الابنَ الأصغر هو الضّال! ولكِن، أَمْعِنوا النَّظرَ وعَمِقوا القِراءة، تَجدوا أنّ الضّال الأكبر هو الابنُ الأكبر! الابنُ الأصغر تَاه في فترةٍ، ثمّ نَدِم وَتَابَ وعَاد إلى داخل البيتِ الأبوي. أمّا الابنُ الأكبر فَلَمْ يَنسى، بل ظلَّ حاقِدًا وغاضِبًا، رافضًا الصَّفحَ عَن أخيه، والفرحَ لأجلِ عودتِه، وأَبى حتّى أن يدخلَ البيت، بل ظلَّ خارجًا! وَلو أُتيحَت له الفُرصة، لَقَتَلَ أخاهُ قبلَ أن تخطو قَدمَاهُ عَتبةَ البيت! كُلّ هذا جرّاءَ الحسدِ والكُره، وقسوةِ القلبِ.
هذا الْمَثلُ يَا أحبّة، يجعلُني أَعودُ وإيّاكم إلى قِصّةٍ مُشابِهةً في سفرِ التّكوين. هي قِصّةُ الأخَوين قايين وهابيل (تَكوين 1:4-8)! فبِدافعٍ من مشاعر الحَسدِ والحقدِ والبُغض، الرابضةِ في قلبِ قايين، وَثب على أَخيه هابيل وَقَتلَهُ! لَقد كَرِه قايين فكرةَ أن يتفوّقَ أَخوه عَليه ويَتخطّاه! ألا نَشعرُ نحن أَيضًا بهذهِ المشاعِر؟ مشاعر التّنافس الْمَملوء حسدًا وغيرةً وحِقدًا ظاهِرًا ومُضمَرًا! نحن لا نحبُّ أَن يتفوّقَ أَحدٌ علينا، والبعضُ قَد يَتطوّر الأمرُ عِندَهُ، لِيُصبِحَ حالة تحتاج إلى علاج!
نعتَقِد بأنّنا الأفضل، وبأنّنا الأسمى والأذكى والأعلى والأدرى والأفهم والأجدر بكلّ شيء. وأنّ الْمنزلة الأولى خُلِقت لنا فَقط، وأن الكنيسة لنا فقط، وأنّ الرعية بمرافِقها وَأَنشطتها وفَعَاليّاتِها لنا فقط، وأن الكاهنَ لنا فقط. ولا نُطيق أن يُنافِسَنا ويُزاحِمَنا أحد، نشعر أنّه بدأ يأخُذُ دورَنا "يُقاسمنا الميراث"! ونشتعِل غضبًا إن تفوّق أحدٌ عَلينا، أو أخذَ شيئًا نراه حقًّا شرعيًّا لَنا.
هذه هي العنجَهيّة، الكِبرياء، الغُرور الْمرضي. حالة من الطّفولة وعدم النّضوج، تستمر لمراحل عُمريّة مُتقدّمة. الإنسان المتواضِع إنسان ناضِج، والإنسان المتكبّر هو طفل كبير، يَفتَقِر إلى الحكمةِ والفهمِ والقدرةِ على تقبّل المواقِف، الّتي لا يكون فيها الأوّل أو الأفضل. ويُصاب بالجنون إذا تفوّقَ عَليه أحد في أيّ مِضمارٍ كَان. هذا هو الابن الأكبر، الّذي هو مَن يستحِقُّ لَقبَ الابنِ الضّال، وليس الأخُ الأصغر!
وَكما أنّ هذا الشّعور هو الّذي دَفعَ قايين للتخلّصِ من أَخيه هابيل، الّذي لَم يرى فيه سوى عَقبةً لا بدَّ من القضاءِ عَليها، كذلك نحن مع كُلّ أسف، وفي بعضِ الأحيان وعندَ بَعضِ المواقف، نكون على أتمِّ الاستِعداد، أن نَرتكب كلَّ شيء، مِن غُشٍ في امتحان إلى سرقة واختلاس وفَساد، لكي نحظى دائمًا بِكلِّ شيء. فَقط لأنّنا متكبّرون نرجِسيّون مُصابون بداءِ الغُرور!
أيّها الأحبّة، هذا المثل لا يَتحدّث فقط عن علاقةِ الإنسانِ بالله وتوبتِه وعودتِه إليه، بِقدر ما يَتحدّثُ أيضًا عن علاقةِ الإنسانِ بأخيهِ الإنسان. كيف نُمارِس الرّحمةَ تجاه بعضنا البعض؟ كيف نعيشُ المغفرة والمصالحَة بينَ بعضِنا البَعض؟ ما القلبُ الّذي فينا: قَلبُ الأبِ الرّحيم، أَم قَلبُ الابنِ الأكبر اللئيم؟ قلوبٌ ترحمُ وتغفِر، أم قلوبٌ تَقسو وتُضمِر؟!
بَدأت عظتي بالقلب، وأُنهيها مع القلب، مع سفرِ حزقيال النّبي، حيثُ يخاطِب اللهُ شعبَه على لِسان نَبيّه حزقيال قائِلا: "وأُعطيكم قَلبًا جَديدًا، وأَنزَعُ مِن لَحمِكُم قلبَ الحَجر، وَأُعطيكُم قلبًا مِن لحم" (حزقيال 26:36). نسأل الله أن يُعطينا قلبًا نقيًّا صافيًا، قلبًا لا يعرِف الحقدَ عند الخلافاتِ إن وَقَعت، قلبًا نحبُّ فيه النّاس، ونطلب فيه الخير لِكُلِّ النّاس، ونفرح به مع أفراح الّناس، ونبكي به لأوجاعِ النّاس. قلبًا نقبل به توبةَ التّائب وندامة الخاطِئ، قلبًا نمنح به الصّفح لِمن استغفر، ونُصلّي لأجلِ من تجبّر وتكبّر.