موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤

"نّور الحبّ" بين كاتبّي سفر التثنيّة والإنجيل الثاني

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
الأحد الحادي والثلاثيّن بالزمن العادي (ب): سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 6: 2- 6؛ مر 12: 28- 34)

الأحد الحادي والثلاثيّن بالزمن العادي (ب): سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (تث 6: 2- 6؛ مر 12: 28- 34)

 

مُقدّمة

 

أعطينا عنوانًا لمقالنا بهذا الأسبوع، من سلسلتنا الكتابيّة فيما بين العهدين وهو "نّور الحبّ". في واقع الأمر كلمة الله هي بمثابة النّور الّذي يُنير ظلمات حياة كل مَن يؤمن به. ولكن حينما نتعمق بقوة نجد أنّ كلمات اليّوم ما هي إلّا تعبير عن حبّ الله الفيّاض فيتواصل معنا بالكلمة فيشع هذا النّور بحبّ الله العظيم. سواء مقطع الإنجيل بالعهد الثاني أو المقطع بالعهد الأوّل من سفر التثنيّة بمقالنا اليّوم يحملان إلينا إستنارة جديدة وهي نّور الحبّ، حتّى وإنّ كان ذلك الهدف يتضح من زوايا مختلفة. حدثنا موسى في خطابه الشهير بـ shama’!  -إسمع يا إسرائيل، بسفر التثنيّة (6: 2- 6) عن حبّ الله العمليّ والّذي لا ينهك من الإستمرار والبحث عن شعبه وعن مرافقته له، ودعوته ليعود إليه. وبناء على هذا النص بُنسب إليه كتابة أسفار الشريعة العبريّة فتصير منّارة لكل يهودي. ونجد أيضًا ماضي غني بحب الله الحقيقي لشعبه وأساسه هو حبّ الله وأمانته لوعده للأباء البطاركة. ثمّ تأتينا الريشة المرقسيّة (12: 28- 34) لتؤكد بكلمات يسوع على النّور الحقيقي الّذي آتى إلى عالمنا مشيراً إلى حبّ الله الّذي لا ينفصل عن حبّ القريب كوصية عُظمى. يهدف مقالنا هذا للبحث عن رؤية وقبول الله الّذي لازال يرعب في إنارتنا بنّور حبّه في يومنا الـمُعاصر.

 

 

1. خطر النسيّان (تث 6: 2- 6)

 

النسيّان هو التجربة الكبيرة الّتي تتعرض لها قلوبنا البشريّة، كما نعلّم من تاريخ بني إسرائيل. بل على وجه التحديد خطر النسيان. هدف كاتب سفر التثينّة إحياء العلاقة مع الله في قلّب إسرائيل. وما يسمى بالشريعة هو عطيّة علاقة من الله لشعبه، فالناموس هو رباط لا لقمعنا نحن البشر بل لخلق حلقة تواصل ولتقويّة العلاقة بين الله وبيننا نحن شعبه اليّوم حتّى لا نفترق أبدًا. لذا يشير كاتب السفر بأنّ هناك وسيلة لمحاربة هذا الخطر الّذي يهدد حياتنا وهو السمع – shama’!  نعم إنّ الفعل الأساسي في هذا النص من سفر التثنية: «اِسمَعْ يا إِسْرائيلُ ... » (تث 6: 3). هذا الفعل هو مفتاح للنص ويحمل لنا دعوة شخصيّة للإستماع "اسمع يا ...!" مما يعني تذّكر أنّ هناك مَن يرغب في أنّ يتحدث معك ويرغب أنّ يقيم علاقة معك. في سلسلة تواصل الله بنا، يريد أنّ يخبرنا بالجديد عنه وعنا، ويريد التواصل معنا. ما ندركه لاحقًا، أو لا ندركه أبدًا في الحياة، هو في الواقع ما كان في البداية، في بداية غير واعيّة، حيث بدأ الله بتقديم نّور حبّه. ويمكن لكلاً منا أنّ يقول بأنّ "نعم، أنا هنا لأنّ الله أحبنيّ ولازالت كلمته نّور". فيصير وقت السّمع بمثابة المكان الّذي يعطينا الله معنى لوجودنا، لأنّه يكشف عن ذاته بكلمات نورانيّة فيّاضة بالحبّ. تأتي أفعال هذا المقطع الجوهريّة بتسلسل«اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد. فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ وكلِّ نَفسِكَ وكلِّ قُوَّتكَ. ولتكُنْ هَذه الكَلِماتُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ» (تث 6: 4- 6). لا مجال للنسيّان لأنّ نّور حبّ الله لا يمكن تجزئته، إما أنّ تحبّ أو لا تحبّ! فالحبّ يتطلّب الكليّة. مركز الحبّ في الثقافة اليهوديّة هو القلب، وهو مركز جوهري للإنسان. القلّب هو مكان إلتقاء الأفكار والمشاعر، مكان إتخاذ القرارات. فإذا أحبّ الإنسان تتغير نفسه وقوته، عواطفه وجسده. مما يعني أنّ الحبّ يتطلّب الشموليّة. لذلك، فإن حياة الإيمان موضوعة على مستوى ملموس للغاية وهو الحبّ الّذي هو إستجابة لدعوة الله الأوليّة للخلق.

 

 

2. البدء بالـسّمع (مر 12: 28)

 

يفتتح مرقس «ودَنا إِلَيه [يسوعأَحدُ الكَتَبَة، وكانَ قد سَمِعَهم يُجادِلونَه، ورأَى أَنَّه أَحسَنَ الرَّدَّ علَيهم فسأله: "ما الوَصِيَّةُ الأُولى في الوَصايا كُلِّها؟"» (مر 12: 28). فئة الكتبة هي الفئة الّتي لها علاقة بدراسة الشريعة بحسب التقاليد اليهوديّة. يأتي مرقس مفتتحًا هذا المقطع بحب إستطلاع أحد الكتبة بعد أنّ سمع جدالات آخرين مع يسوع وكيف قدم إجابات أساسها الشريعة وحب الله يدنو تدريجيًا ليقدم هو أيضًا سؤاله. هناك أسئلة صعبة وخطر الإيمان هو إنّه يصبح أحيانًا دينًا بلا روحانية، مبدأ بلا علاقة. ربما يكون هذا الكاتب الّذي يسأل يسوع في هذا المقطع هو تساؤل شخص أدرك خطورة الضياع في الوصايا، وفي الأشياء الّتي يقوم بها. وإغفاله العلاقة الشخصية مع الله ربما تكون هذه محاولة لإحراج يسوع، حيث إنّه يُطلب منه أنّ يُجيب على أسئلة صعبة ومستحيلة. كانت وصايا الشريعة الّتي أضافها معلمي الشريعة بخلاف وصايا الشريعة، ست مائة وثلاثة عشر.

 

فتأتي إجابة يسوع على تساءل الكاتب، بحسب اللّاهوت المرقسيّ، قائلاً: «الوَصِيَّةُ الأُولى هيَ: اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد.  فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ". والثَّانِيَةُ هي: "أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ". ولا وَصِيَّةَ أُخرى أَكبرُ مِن هاتَيْن» (مر 12: 29- 32). لذلك فإن إختيار الوصيّة الأوّلى من بين هذه الوصايّا العديدة قد يبدو وكأنّه مهمة شاقة. وهنا يوجه يسوع الكاتب بالبدء بالسمع!حيث يتناول يسوع في إجابته مشيراً إلى ما ذكرناه بنص العهد الأوّل بسفر التثنية بل يوسعها. مدعوين بالبدء بالسّمع الحقيقي. السّمع هو أوّل خطوة يجعلنا ندرك أنّ الحياة الّتي نعيشها هي نعمة، وتأتي كلمة يسوع كنّور حيث يفكر فينا ويحبنا، داعيًا إيانّا إلى الدعوة للسمع الّتي تحمل إشارة لإدراك أنك لست الأوّل، ولست وحدك أيضًا. الله هو الّذي يرافقك في رحلتك منذ البداية. يسمع إليك، هذا يعني أنك تشعر بالحبّ وأنك محبوب وها هو يوجه إليك كلمة حبّ ليزيل تركيزنا بالنّور على ذواتنا وتركيزه على الرّبّ. تتضح علامة الحبّ الناتج من السّمع حينما نبدأ في نحيا مِن أجل الرّبّ، الّذي أحبنا ولازال يحبنا. يكمن وجه الحبّ في الطريقة التي أدخلها يسوع في هذا الجزء الثاني من الوصيّة. مؤكداً علينا اليّوم بأنّه لكي نحب علينا أنّ نتصالح مع أنفسنا، هناك العديد من العلاقات المشوهة والّتي لها جذورها في هذا النقص في حبّ الّذات. إذا لمّ نشعر بالحبّ، إذا لمّ نتعرف على ذاواتنا  كأشخاص محبوبيّن، وإذا نظرنا إلى ذاوتنا بمستوى أقل شأنًا، فإنّ ما ينبع في علاقتنا مع الآخرين (القريب) سيكون ثمرة الأفعال السيئة من هذا التصور المشوه للّذات. لذلك من الضروري العودة إلى الأصلّ، ومن الضروري إعادة اكتشاف الوعيّ بأنّنا محبوبيّن من الرّبّ الّذي بذل حياته من أجلنا، ويأتي اليّوم ليتحاور معنا وكلمته تحمل هذا الحبّ النورانيّ والّذي لا يتراجع عن كلمته. مدعوين للتوقف اليّوم وللسمع لإعطاء إجابة حقيقية هل هناك وعيّ بداخلنا بأننا محبوبيّن من الرّبّ؟ ثمّ لنفحص قلوبنا للتعرف على حقيقة ثمار علاقتنا بالحبّ مع الله والّتي لابد وأنّ تتجسد في علاقة حبّ حقيقيّة بـمَن حولنا.

 

 

3. نّور الحبّ (تث 6: 2- 6؛ مر 12: 28- 34)

 

يكشفا كلمات موسى بسفر التثنيّة وكلمات يسوع عن نوع فريد من نّور الحبّ الّذي لا ينتهي أبداً. لكن الحبّ لا يمكن أنّ يبقى مغلقًا ضمن حدود العلاقة. الحبّ فائض دائمًا، الحبّ يخرج مِن ذاته، بل يُعطي ذاته وبلا حدود. ولهذا السبب فإن علاقة الحبّ بين الله والإنسان تنفتح بالضرورة على الآخرين. في الواقع، إن الحبّ هو الـمُولّد هو علامة علاقتنا الحقيقيّة مع الله. لا يمكننا أنّ نكون بيروقراطييّن أو مديريّن للمقدسات، وربما نختبئ وراء تطبيق عقيم للشرائع الدينيّة. إذا لمّ تتميز أفعالنا بهذا الحبّ، فمِن المحتمل إننا قد نكون تمّ قطع التواصل مع الله. كلّا النصييّن يقودانا إلى التعمق في التعرف على أساس الحبّ.

 

 

الخلّاصة

 

أتتّ على مسامعنا بهذا المقال، كلمات موسى، والّتي نعرفها عن ظهر قلب، بسفر التثنيّة (ثت 6: 2- 6) وهي تشير إلى أهميّة السّمع لما هو جوهريّ ويمنحنا حياة حقيقية. السّمع هو الوصيّة الأوّلى بحسب الشريعة وهو أوّل كلمة ووصيّة تحمل نّور حقيقي أساسه حبّ الله لنا. وحينما تناول يسوع، بحسب مرقس (12: 28- 34)، موضوع الوصايا لم يكتفي بما إعلنه موسى من وحيّ إلهي بل إشار إلى الجديد وكشف عن وجه حقيقي لهذه الوصيّة من خلال وصيّة ثانيّة لا تقل قيمتها عن الأوّلى. وهي تساعدنا على المشاركة لما نلناه من حبّ نورانيّ مع القريب الّذي هو وجه حقيقي لمعايشة الحبّ بحياتنا. إذن، السمع يُدخلنا في علاقة حقيقية لقبول الحبّ النوراني، وفي مرحلة أخرى هناك وجه حقيقي للحبّ  ينعكس في العلاقات بمَن حولنا. صار يسوع القريب الّذي يعكس نّور الحبّ الأبويّ لله وشاركه لنا. اليّوم، كما تعودنا في علاقتنا بالرّبّ، بحريّة ودون إجبار يمكننا أنّ نسمع لنقبل نّور الحبّ الإلهي ونشاركه لـمَن حولنا بمجانيّة حبّ بيننا. دُمنا في قبول لنّور الحبّ الإلهيّ وبمثابة قنوات يصل للقريب من خلالنا. فنسمع صوت يسوع قائلاً ليّ ولك: «لَستَ بَعيداً مِن مَلَكوتِ الله» (مر 12: 34).