موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثاني والثلاثيّن بالزمن العادي (ب)
مُقدّمة
نتأمل حاليًا في فصل الخريف، حيث تتجرد الأشجار في الطبيعة من أوراقها، لتتجدد الأشجار والنباتات وتعطي بسخاء فيما بعد أوراق وثمار وتُولّد نبتات جديدة تدعو للحياة. بهذه الإفتتاحيّة تدعونا الطبيعة، وهي بمثابة معلّمتنا، إلى السخاء المجاني الّذي لا يعتمد علينا بل تنمو وتتجدد بصمت وتفاجئنا بألوانها ونباتاتها الجديدة الّتي تولد بعد أنّ تفقد أوراقها. على هذا المنوال، تدعونا النصوص الكتابيّة إلى التعمق في أفعال سيدتين وهن أرملتين - أرملة صرفة وأرملة إنجيل مرقس – لنجد نموذجًين لما تبقى حقًا في تاريخنا البشري من سخاء لا يوصف. لذا سنتوقف في قلب مقالنا حول موضوع جوهري بالكتب المقدسة وهو "العطاء أم ...؟". حيث سنناقش من العهد الأوّل، نص لقاء حياتي بين أرملة صرفة والنبي إيليا (1مل 17: 10 – 16)، تلك الأرملة الّتي تخلت بارادتها عن إحتياجها الضروري. أما بالنسبة للعهد الثاني، مستمرين في تتابع النصوص بحسب الإنجيل المرقسيّ (12: 38 – 44)، ولانزال نسير وراء يسوع نحو أورشليم ليُقدم ذاته من أجلنا. يفاجئنا مرقس مراقبة يسوع من تتبعه لأرملة دخلت الهيكل وفريدة في تقدمتها السخيّة والّتي تميّزت دون عن أغنياء عصرها بصفة فريدة. هذا النص موحٍ للغايّة، حيث لمّ يتم وضعه بالصدفة من قِبل الإنجيليّ، في سياق خدمة يسوع في أورشليم قبل آلامه. ونفاجأ بيسوع الّذي يلقي بنظره ليس خارجيًا على الأرملة بل إرتكزت نظرته على قلبها الّذي بسخاء قدّمت عطيتها للرّبّ. نهدف من مقالنا هذا أنّ نتعرف على الدافع الّذي يحثنا لنشارك بتقدماتنا لـمَن هم أقل حظًا منا هل هو بسبب التفاخر والكبرياء نقوم بتقدم ما يزيد عنا؟ أم بسبب المشاركة وتقديم شئ من إحتياجاتنا الضروريّة؟
1. أرملة صرفة (1مل 17: 10 – 16)
في وقت صعب بالعهد الأوّل، بحسب كاتب سفر الملوك الأوّل (17)، حيث كانت المعاناة شديدة بسبب جفاف الأرض ونُدرة الأمطار. مما أدى إلى قلة الحصاد، وهذا الأمر ضروري في البلاد الّتي تعتمد في حياتها على الزراعة كعامل هام وضروري. نفاجأ أنّ الرّب يعطي درسًا لنا ويدعونا للثقة فيه من خلال إمرأة وبالأخص أرملة وتعول إبنها. نعلم أنّ النساء في هذا الوقت كانت قيمتهم ترتبط بالرجل الّذي تنتمي له (أب، زوج، ابن ذكر)، إلّا أنّ الرّبّ يختار هذه الأرملة بالتحديد والّتي تعيش في أرض وثنيّة، ليُتمم بواسطة النبي إيليا عمل إعجازي لها ولبلدتها ومبتدأ كاتب السفر بالتركيز على مبادرة الرّبّ لإعالتها مشيراً بقوله: «فكان إِلَى إيليا كَلامُ الرَّب قائلاً: "قُمْ واِمض إلى صَرفَة الَّتي لصَيدون، واقِمْ هُناكَ، فقَد أمرتُ هُناكَ أمراةً أرمَلةً أن تُطعِمَكَ"» (1مل 17: 8- 9). وبعد أنّ طلب منها النبيّ بعض من الماء والخبز، إعترفت بأنّ ما لديها قليل ولا يكفي بسبب الجفاف إلّا أن تأكيد النبيّ بقوله لها: «لا تَخافي! [...] أَعِدّي لي مِن ذلك أولاً قُرصًا صَغيرًا وأتيني به، ثُمَّ أَعِدِّي لَكِ ولاَبنِكِ بَعدَئِذٍ. فإِنَّه هَكذا قالَ الرَّبُّ إلهِ إسرائيل: "إِنَّ جرةَ الدَّقيقِ لا تَفرُغ وقارورةَ الزَّيتِ لا تَنقُص، إلى يَومِ يُرسِلُ الرَّبّ مَطرَاً على وَجهِ الأَرضَ"» (1مل 17: 13- 14). لا يطلب النبيّ من ذاته بل هو في مُرسل من قِبل الرّبّ برسالة للمرأة ولبلدتها ليكشف عن قدرة إله بني إسرائيل حتّى للوثنييّن. وبطاعة المرأة بإعداد الخبز نفاجأ كقراء مؤمنيّن، وشبعها هي وإبنها بل أهل بيتها أيامًا، بتشديد الكاتب مُكرراً ما أعلنه النبي مُعلنًا أنّ: «جرَةُ الدَّقيقِ لم تَفرُغ وقارورَةُ الزَّيتِ لم تَنقُص، على حَسَبِ كَلام الرَّبِّ» (1مل 17: 16). يدعونا هذا الحدث على الثقة في الرّبّ، فإذا أعطى بسخائه ومجانيته مَن لم يؤمن به، أرملة صرفة، فكم بالأحرىّ نحن أبنائه. تدعونا هذه الأرملة، بالخروج من التوقف فقط على إحتياجاتنا الّذاتيّة فقط والنظر إلى إحتياج الآخر ومشاركته ليس بما يفيض بل مما هو ضروري لنا. بالرغم من شدة إحتياجها إنها لم تتراجع في أنّ تشبع النبيّ بما هو ضروري لها ولإبنها بالرغم من جفاف النهر. فكم من الأنهار الجافة بقلوبنا وحينما نعطي بسخاء يفاجئنا الرّبّ بالنعم المضاعفة.
2. نظرة عميقة (مر 12: 38- 44)
إفتتح سخاء الرّبّ من الأرملة الّتي تفاعلت بالرغم من فقرها وجفاف نهر بلدها، هذه النص الّذي رسمته الريشة المرقسيّة الّتي تكشف عن يسوع المعلم وهو جالس أمام المكان الذي توضع فيه التقدمات بالهيكل بعد أنّ حذّر بشدة المبالغة في التظاهر والقيام بأعمال خيريّة على الملأ لنوال الثناء والمديح من الناس. ثمّ يأتينا وصف الإنجيليّ التفصيلي لمشهد خاص قبل عبور يسوع آلامه، حيث كان في موضع الجالس والـمُراقب قائلاً: «جلَسَ يسوعُ قُبالَةَ الخِزانَةِ يَنظُرُ كيفَ يُلْقي الجَمعُ في الخِزانَةِ نُقوداً مِن نُحاس. فأَلْقى كثيرٌ مِنَ الأغنِياءِ شَيئاً كثيراً. وجاءَت أَرمَلَةٌ فَقيرةٌ فأَلقَت عُشَرين، أَي فَلْسًا» (مر 12: 41- 42). حيث يراقب يسوع العديد من أغنياء عصره يذهبون ليلقون نعملات نحاسيّة هائلة، بخزانة الهيكل المصنوعة من الفخار إذّ أنّ رنين العملات يؤكد علو قيمتها. ولا يتفاعل يسوع مع هذه التقدمات المزيفة والّتي يتم تقديم الأموال بشكل يؤكد عل المبالغة في تباهي الـمُعطييّن. وفي هذا الحالة لا يقول شيئًا يسوع ولا يتفاعل مع هذه النوعية من العطاء. تكشف لنا نظرة يسوع العميقة السطحيّة الّتي قد تكون بمثابة فخ ونقع فيها دون أنّ ندري أثناء تقديم عطيتنا بكنائسنا!
3. السخاء المجانيّ (مر 12: 43- 44)
بعد أن راقب يسوع الأغنياء الّذين ألقوا بحاجتهم، فجأة يشير مرقس عند نقطة معينة من السرد حيث، يتوقف يسوع مع تلاميدة ليعلم بدون كلام لافتًا نظر تلاميذه إلى حدث مُعاش. من خلال توقفهم أمام مشهد خاص مَسًّه بطريقة فريدة. يتلخص هذا المشهد في دخول أرملة فقيرة سارت نحو الخزانة الفخاريّة بالهيكل وقامت بالقاء "فلسين فقط"، لا يتركوا أثراً ولا رنين قوي مقارنة بأموال الأغنياء الرنانة. فقد كانت قيمة فلس واحد من المال يمكنها أنّ تشتري به مئة جرام من الدقيق لتشبع. إلّأ أنّ هذا المشهد صار درسًا تعليميًا حيث إستوحى يسوع، من هذا المشهد الحياتيّ تفسيراً لتقدمة حياته الّتي ستتم لاحقًا ولتلاميذه. نعم أمام هذا المشهد فقط نسمع كلمات يسوع وهو تعليم لنا اليّوم: «فدَعا تَلاميذَه وقالَ لَهم: "الحَقَّ أَقولُ لَكُم إِنَّ هذِهِ الأَرملَةَ الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة، لأَنَّهم كُلَّهم أَلْقَوا مِنَ الفاضِلِ عن حاجاتِهم، وأَمَّا هي فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها"» (مر 12: 43-44). نحن اليّوم، تقدماتنا هي من الفيض أم من حاجتنا؟ تعلّيم يسوع لنا اليّوم، نحن تلاميذه، يكشف لنا بالرغم من أزمتنا الإقتصاديّة سواء العالميّة أم العائليّة، أمام ضيق الحال وقلة المصادر الماليّة، ... إلّا إنّه في هذا الوقت بالتحديد مدعويّن للعطاء وبسخاء أكثر من الأوقات الّتي نعيش في فيض وأمان ماديّ. نوهنا بمقالاتنا السابقة بحسب إنجيل مرقس، وفي سياق خدمة يسوع في أورشليم، تظهر جميع الشخصيات الأكثر أهمية في السلطة السياسية والدينية في ذلك الوقت من رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ (11: 27)؛ الفريسييّن والهيرودييّن (12: 13)؛ الصدوقييّن ( 12: 18)؛ الكتبة (12: 28). وفي نهاية هذا الموكب من رجال الّدين الّذين يمثلونا، كرجال وكنساء عصرنا المتدينينّ، تظهر هذه الشخصية الثانوية، أرملة فقيرة تصبح، على نحو متناقض، نموذجًا لنا نحن الّذين نعتقد ذاواتنا مؤمنيّن حقيقييّن، فتعكس الأرملة الثانويّة، صورة حقيقيّة لله في محبته بمجانيّة وحريّة فائقتين.
4. درس الأرملة (مر 12: 38- 44)
بحسب اللّاهوت والمنهجيّة المرقسيّة، يختتم الإنجيليّ جدالات يسوع بأورشليم، بتقديم نموذج الأرملة الفقيرة الّتي تلقي بكلّ ما تملكه لتعيش بخزانة الهيكل. هنا يكمن سرُّ الحياة بحسب يسوع وسرّ العلاقة الحقيقية مع الله. نعلم أنّ إلهنا ليس الإله الّذي يُسر بالتقدمات، بل إلهنا الّذي يُسر بالحياة التي تُعاش في الحقيقة كنعمة. كان رجال الدين في ذلك الوقت يحبون التجول بثياب طويلة، والظهور في المقدمة، والتظاهر بتلاوة صلوات طويلة، ... إلخ، كلّ الأشياء الّتي تعمد على المظهر. الأرملة الفقيرة لم تتكلم بل فعلت شيئًا واحدًا، لكنها في فعلها أعطت نفسها بالكامل، وأصبحا الفلسيّن سرّ الحياة الّتي تعيشها بجديّة وتسرفها بحبّ للآخر وببذل ذاتها. تعيش هذه الأرملة المسكينة في بساطتها ما سيعيشه يسوع نفسه عندما يلقي بحياته في الموت على الصليب ويلقيها كلّها، كتعبير حبه لنا. يكمن العطاء الحقيقي في سخاء قلب الـمُعطي. وضع يسوع فعل الأرملة نموذجًا للتديّن الأصيّل، حيث يقول لنا إنها إنجيل لحياة كلّا منا. يؤكد مرقس بأنّ الّذين لديهم قليل ماديًا يمكنهم أنّ يتبعوا يسوع على طّريق بذل كامل للذات وهو طّريق الحياة الحقّة.
الخلّاصة
مهّدّت قراتئتنا الإنجيليّة، بمقالنا اليّوم، قرأتنا لنص سفر الملوك الأوّل (17: 10–16) حيث تابعنا لقاء النبي إيليا بأرملة صرفة. عاشت هذه الأرملة، في عصر إيليا النبي حيث أعطت من حاجتها وحاجة إبنها وقت الجفاف. تُشابه هذه الأرملة، أرملة أخرى ذكرها مرقس في الإنجيل (مر 12: 38- 44)، وهي الّتي لمّ تعطي الزائد عن حاجتها، بل أعطت كلّ ما لديها لتعيش به. مما يساعدنا على التعمق بتركيز على عمل المسيح الفدائي، حينما قام بتقديم حياته مرة واحدة وإلى الأبد. كلّا النصيّن يساعدنا على خلق توازي بين تقدمة الأرملتين وتقدمة يسوع لذاته. أمام هذين المشهدين الّذين يقدمان بطلتيّن أرملتيّن، بهذين المشهدين لكلا العهدين. ناقشنا اليّوم أغميّة السخاء النابع من القلب، فليس كلّ عطاء هو عطاء حقيقي. السخاء في تاريخنا بالحاضر لا يختلف كثيراً عن تاريخ البشريّة بالماضي حيث ما يتبقى هو الأعمال النابعة عن الحبّ المجانيّ الّتي لا نعطي فيها ما لا لزوم له، ولكن كلّ ما هو ضروري لنعيش به. دُمنا في التمتع بعطاء سخي ومجانيّ.