موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد الثامن عشر بالزمن العادي (ب)
مُقدّمة
في هذا الأسبوع يدعونا كاتبيّ سفر الخروج (16: 2-15) بالعهد الأوّل، والإنجيل الرابع (يو 6: 24 -35) بالعهد الثاني إلى التوقف موضوع كتابيّ أعطيناه عنوان الـ نعمة أم الـمُنعم؟ يفسر لنا هذا المضمون اللّاهوتيّ لنتفهم حقيقة جوهريّة الخبز النازل من السماء، ويقودنا لنتخذ خطوات للتقدم في اللقاء مع كلمة الله بالإضافة إلى جسد إبنه. ففي كلّ إفخارستيا، يجب إنّ يكون بمثابة مرحلة تقدم في حياتنا الروحيّة. هكذا كما إنّ كل لقاء وكل إصغاء حقيقي في حياتنا البشريّة لا ينبغي أنّ يتركنا كما كنا مِن قبل أو غير مبالين. كذلك يجب إنّ يكون الأمر كذلك بالنسبة للإصغاء إلى الكلمة واللقاء مع الرّبّ القائم من بين الأموات في كلّ إحتفال الإفخارستيّ، في كلّ يّوم نُحيي فيه ذكرى قيامة الرّبّ من بين الأموات، فيصير يّوم الأحد بمثابة الفصح الإسبوعي. الكلمات الّتي سنتعمق فيها بمثالنا هذا تُريد أنّ تحثنا بشكل خاص لنختبر بعض الخطوات الأساسية في مسيرة إيماننا تجاه جسد ودمُّ الرّبّ، الّذي نتناوله بنهاية كلّ ذبيحة إفخارستيّة لنتقدس ولنقترب بحياتنا نحو الملكوت من خلاله.
1. ستأتي النعمة! (خر 16: 2-15)
بادئ ذي بدء، نحن مدعوون للإنتقال من التعمق في مانح النعمة وليس في النعمة الّتي ننالها فقط. ففي قراءتنا للمقطع الأوّل بسفر الخروج (16: 2-15)، نكتشف الفرق الشاسع الّذي يتقدم الله ليكشف عن ذاته لنا وعن ردّ فعل الشعب الّذي يستمر في الإنغلاق على ذاته وعلى إحتياجاته فقط. أمام تذمر الشعب بحسب وصف كاتب سفر الخروج القائل: «فتَذَمَّرَت جَماعةُ بَني إِسْرائيل كُلُّها على موسى وهارونَ في البَرِّيَّة. وقالَ لَهما بَنو إِسْرائيل :” لَيتَنا مُتْنا بِيَدِ الرَّبِّ في أَرضِ مِصرَ، حَيثُ كُنَّا نَجلِسُ عِندَ قِدْرِ اللَّحمِ ونأَكُلُ مِنَ الطَّعامِ شِبعَنا، في حينِ أَنَّكما أَخرَجُتمانا إِلى هذه البَرِّيَّةِ لِتُميتا هذا الجُمهورَ كُلَّه بِالجوع“» (خر 16: 2-3). تعوّد الشعب على الطعام الفاخر أثناء عبوديته، فقد فاق إستياق الشعب للآكل وللأطعمة أكثر من إشتياقهم للتنفس بروح الحريّة. هذا وقد نسيّ الشعب أفعال الرّبّ لأجله، ولم يثق به إذ أخرجهم ولم يطعهم. أي إنّه حررهم وقادهم للخروج مما هو أصعب وهي العبوديّة ليتركهم يموتن بالجوع! إلّا أنّ سخاء إله بني إسرائيل إستمر في العطاء دون توقف بمجانيّة إذ يفاجأ موسى والشعب معًا بقوله: «هاءَنذا مُمطِرٌ لَكم خُبزاً مِنَ السَّماء. فيَخرُجُ الشَّعبُ وَيلتَقِطُه طَعامَ كُلِّ يَومٍ في يَومِه، لِكَي أَمتَحِنَهم، أَيَسلُكونَ على شَريعَتي أَم لا!» (خر 16: 4). هذه الأعمال الإعجازيّة الّتي يستمر الرّبّ بالمباردة بها ليكشف عن حقيقته كإله قدير وفي ذات الوقت عن حبه لشعبه.
يُعرّف الله نفسه كعطيّة المنّ في الصحراء. هذا العطيّة تتضح للوهلة الأوّلى، بأنّها نِقمة متخذة شكل إختبار للشعب الغير واثق في إلهه. مدعوين للسمو ولإعتلاء بنظرنا للسماء، فكل نعمة تأتي بعد إختبار إيماني بالرّبّ الّذي يسمح به لنا ليعرف ما بقوبنا تجاهه. فهل كمؤمنين سنتوقف أمام النعمة فقط؟ أم سنتمكن من النظر للمُنعم والإمتنان له؟ هكذا عطيّة الرّبّ لشعبه، المنّ في الصحراء هو إختبار لإسرائيل الّذي سيتعين عليه إنّ يتعلم الإستمرار بالعبور والإنتقال بدلاً من التوقف عند العطيّة إذ يعلو بنظره إلى العاطيّ شاكراً وليس متذمراً.
ثمّ قال الرّبّ لموسى: «إِنِّي قد سَمِعتُ تَذَمُّر بَني إِسْرائيل، فكَلِّمْهم قائلاً: بَينَ الغُروبَينِ تأَكُلونَ لَحماً وفي الصَّباحِ تَشبَعونَ خُبزاً، وتَعلَمونَ أَنِّي أَنا الرَّبُّ إِلهُكم» (خر 16: 13). مما يؤكد الرّبّ بأنّه لازال الصانع للعجائب الّتي يتمتع بها الشعب زما على الشعب سوى الإعتراف بأنّ الله هو الرّبّ، وليس آخر.
حتى هذا اليّوم، قد نقع كمسيحيين في الشكوى والتذمر ونُطالب الرّبّ بالتدخل السريع، ونتناسى بأنّ الرّبّ هو إلهنا وما علينا سوى أن نسلك بثقة الأبناء في أبيهم فهو سيفاجئنا بنعم تغمر إحتياجاتنا بل وتفوقها.
2. الآب: مصدر النِعِمْ (يو 6 :32 -33)
بناء على ما تعمقنا فيه بسفر الخروج (16: 2-15)، سنقرأ ما يدعونا يسوع إليه أيضًا في هذا المقطع الإنجيليّ مع الشعب. إذ يضع أمامنا جوهريّة الإله المانح عطاياه دون أنّ يطلب الشعب المعاصر ليسوع (يو 6: 24-35). حيث قال يسوع مؤكداً على مصدر النعم: «الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ لأَنَّ خُبزَ اللهِ هُوَ الَّذي يَنزِلُ مِنَ السَّماء ويَهَبُ الحَياةَ لِلعالَم» (يو 6: 32-33). يشير الإنجيليّ إلى أنّ الله الآب هو مصدر كل عطيّة "الخبز النازل من السماء". هذه هي النعمة الّتي يفتحنا يسوع المانح ذاته، عليها وهي قادرة على الإشباع حقًا. هذا المقطع الإنجيليّ لا يمكن إنّ نعيشه بدون إيمان. نعم، إنّ عمل الله، بحسب قول يسوع يصير مصدر ليحث وينمي إيماننا البشريّ، هذا من الجهة الأوّلى.
3. الخبز الأبدي (يو 6: 26-27)
مدعوين مع التلاميذ أن نرتقي حيث ينبغي علينا للإنتقال من الحاجة إلى الرغبة بحسب السرد اليوحنّاوي: «أَجابَهم يسوع: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم. لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الآبُ اللهُ نَفْسُه» (يو 6: 26-27). فقد رأينا نهج الجمع كنهج الشعب في زمن يسوع، يبحث عنه ليشبع من جوعه بعد إتمامه بالعمل الإعجازي تكثير الخبز والسمك. تتكرر التجربة ولا يتعرف الشعب على الرّبّ ولّاهوته بقدر عطياه لهم، كما رأينا بنص سفر الخروج بالعهد الأوّل، إنّ الشعب في الصحراء كان يتعذر على حالة العبودية في مصر حيث هناك، بالصحراء، حيث تمّ تلبيّة إحتياجاتهم الأساسية. والآن فإنّ حالة الصحراء والفراغ والجوع الّتي في حقيقتها تخيفنا لدرجة إنّنا بشكل متناقض، نرغب في العودة إلى أيام العبوديّة، وبدون وعي، ما يهم فقط الآكل الجسدي. بحث الشعب، في واقع الأمر، فقط عن إجابة لإحتياجاتهم الخاصة. لكن الله ليس كفرعون، الملك البشريّ، الّذي يسعى ليملأ بطن مستعبديه مُطالبًا إياهم بالعمل فيما بعد. وهنا تظهر حقيقة الله الّذي يُفاجئنا بنعمه الّتي يمنحها للشعب، أيّ نحن في الوقت المناسب. فهو بالتأكيد يجيب على أسئلتنا وأيضًا على احتياجاتنا، لكنه ينشط الرغبة فينا. يدعونا إلى الإنتقال من الإحتياجات إلى الرغبة؛ من الملء إلى الفراغ؛ من كوننا عبيدًا للماضي، إلى الإنفتاح على مستقبل مفاجئ يسوده الرّبّ بعطاياه. وأيضًا في هذا المقطع الإنجيليّ، يريدنا يسوع إنّ نختبر أن تعلو نظرتنا لإله مُعطي بمجانيّة وحب دون أن نكون محاوريه الباحثين عن الخبز الماديّ والمؤقت بل نسمو بالبحث عن الخبز الّذي يُشبع بشكل فائض، هذا من الجهة الثّانية.
4. يسوع: الخبز الحيّ (يو 6: 30-35)
أخيراً في المرحلة الثّالثة وهي مرحلة أساسية للعبريّ التقيّ، حيث يمكننا إنّ نطلق عليها مرحلة الإنتقال من الأعمال إلى تطبيق الإيمان في أفعاله. حيث تعلن حقيقتنا البشريّة، بأنّ ليست لأعمالنا أي قيمة ضرورية حتى القيام بعملية شراء الخبز، الخبز الإلهيّ الّذي نتغذى به ليس بشكل مؤقت بل بشكل أبدي ودائم وهذا هو الجوهر. نعم إنّه في واقع الأمر، ليس خبزًا نربحه بناء على أعمالنا، بل هو نعمة وعطيّة مجانيّة تُمنح لنا من اليّد الإلهيّة ومدعوين لقبولها فقط من خلال الإيمان. ففي الواقع، كما نوهنا بالمقال السابق، عمل يسوع الّذي يكشفه لنا هو إيمانه العلنيّ بالله الآب الّذي أرسله لنا.
التجربة الّتي إختبر بها يسوع التلاميذ وأرادوا أنّ يتعرفوا على نوعيّة الآية أي المعجزة بحسب يوحنّا قائلين: «فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟ آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة. كما وَرَدَ في الكِتاب: "أَعْطاهم خُبزاً مِنَ السَّماءِ لِيأكُلوا)) [...] فقالوا له: "يا رَبّ، أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبداً". قالَ لَهُم يسوع: ((أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً» (يو 6: 30-35). الخبز الإفخارستي، هو ضمان أبدي.
الخلّاصة
كما رافق الله بالعهد الأوّل شعبه في تجربة الشك فيه (خر 16: 2-15)، هكذا رافق يسوع ضعف إيمان الجمع وتلاميذه (يو 6: 24- 35) معلمًا إياهم وكاشفًا لهم عطية الآب في تجسده فهو الخبز الحيّ الّذي سلّمه في العشاء الأخير قبل عبوره في سر الموت والقيامة. سرّ الإفخارسيتا هو سرّ حب الله للبشريّة إذ أعطانا ابنه كطعام أبدي دائم وليس بشري ومؤقت. فما علينا إلّا بالإيمان بثقة وتناول هذا الجسد المانح الحياة ولا نتوقف على الطعام الجسديّ فهو الّذي حذرنا بألّا نعمل للخبز الجسدي بل للطعام الباقي وهو الحياة الأبدية. يمكننا أن نقرأ مقطعيّ هذا المقال بجعلها خاصة بنا من خلال الإستماع إلى الكلمة الّتي يخاطبنا بها الرّبّ اليّوم في هذه القربان المقدس، بالتناول من الخبز والكأس حيث نختار إرتفاع نظرنا بالدخول إلى حياة الرّبّ يسوع الّذي عرف دائمًا في وجوده الأرضي كيف إنتقل كابن إلهي من النعمة إلى الـمُنعم علينا بالنعمة، دون إنّ يعتبر مساواته مع الله كنزًا غيورًا؛ لقد إنّتقل من الحاجة إلى الرغبة، لإنّ طعامه هو أنّ يفعل مشيئة الآب. لقد إنتقل من خلال أقواله إلى تجسدها في أفعال لأنّه لمّ يُناقض أبدًا علاقته كإبن مع الله الآب. تلك العلاقة الّتي نحن كمؤمنين مدعوين للدخول فيها بشكل أعمق من خلال إيماننا بالآب الّذي أرسل إبنه ليكون لنا بشكل أبدي "الخبز النازل من السماء". دُمتم في إيمان بخبز الله النازل من السماء وهو يسوع إبنه.